جهنمية حين تتحول الزنزانة إلى مسرح للمقاومة
تاريخ النشر: 12th, October 2025 GMT
في الأيام الأخيرة قبيل سقوط نظام عمر البشير، وجدت شابة سودانية تُدعى شامة نفسها في مواجهة غير متوقعة مع آلة القمع، كانت متجهة إلى مظاهرة حين اعتقلتها قوات الأمن، فأُلقيت في زنزانة ضيقة ومعتمة، إلى جانب 4 نساء أنهكتهن شهور طويلة من الاعتقال.
داخل هذا الفضاء المغلق، حيث تغيب الشمس ويُحرم الجسد من الهواء النقي، تنبثق حكايات 6 نساء، كأصوات مكتومة تبحث عن متنفس، وتزداد العتمة ثقلاً مع دخول فتاة صبية جديدة، مذهولة وصامتة، تحمل على وجهها آثار صدمة عميقة.
ورغم ضيق المكان، يبدأ عالمهن الداخلي في الاتساع، تتوالى المخاوف والأحزان والأحلام، وأحيانًا عزاء مباغت يأتي عبر رؤى شامة الصبية لحبيبها، في قلب الظلمة، لم تستسلم النساء لليأس، بل نسجن من تفاصيل يومية بسيطة وسائل مقاومة تعيد إليهن بعضًا من الثقة والكرامة، إنها مواجهة صامتة بين إرادتهن وقسوة السجن، مواجهة تتعالى مع أنفاس الثورة في الخارج، حتى لحظة الانفجار الكبير وسقوط النظام، لكن الحرية لم تكن خاتمة الحكاية، بل بداية لاختبار جديد.
السجن بعدسة سينمائيةلا يكتفي فيلم"جهنمية" بسرد قصة شخصية، بل يجعل من تجربة الاعتقال السياسي للنساء في السودان مادة للتأمل، يقول المخرج إن دافعه الأول كان الدور الاستثنائي الذي لعبته المرأة السودانية في الحياة العامة، وبلغ ذروته في ثورة ديسمبر/كانون الأول 2018.
وللاقتراب أكثر من التجربة، أجرى فريق العمل في الفيلم مقابلات معمّقة مع معتقلات سابقات، فجاءت شهاداتهن غنية بالأبعاد الإنسانية، الألم النفسي والجسدي، لحظات الانكسار والصمود، والقدرة المدهشة على خلق مساحات أمل حتى في أقسى الظروف.
بالنسبة للنساء، تصبح تجربة الاعتقال أكثر من مجرد معاناة شخصية، إنها نقطة تقاطع بين السياسة والجندر، حين يتضاعف وقع القمع على الأجساد والنفوس، نسعى إلى إظهار القوة والإصرار الذي تمتلكه هؤلاء النساء، ونرى فهما أعمق لنضالاتهن وقدرتهن على الصمود على الرغم من العقبات التي يواجهنها.
إعلانومن خلال رواياتهم، نأمل أن نلهم الآخرين ونمكنهم، ونسلط الضوء على القصص غير المروية للأفراد الشجعان.
ما بعد القيد"جهنمية" لا يروي حكاية القهر فقط، بل يفتح نافذة على المقاومة، فالزنزانة ليست مجرد رمز للظلام، بل فضاء يعيد صياغة علاقة النساء بأنفسهن وبالعالم، تجربة خانقة، لكنها أيضا تجربة كاشفة تولّد وعيًا جديدًا يتجاوز حدود السجن.
إنه فيلم عن النساء، عن الثورة، وعن اللحظة التي يتحول فيها الألم إلى طاقة حياة.
حوار مع مخرج "جهنمية"الجزيرة نت التقت مخرج الفيلم ياسر فائز، الذي أضاء جوانب عن بداياته "بدأتُ مشواري في عالم الصحافة عبر الأقسام الثقافية للصحف السودانية عام 2007، تنقّلتُ خلال 6 أعوام بين عدة صحف محلية حتى عام 2013، قبل أن أنضم إلى مجلة الحداثة وأواصل الكتابة في منصات أخرى.
يضيف "تأخرت خطواتي العملية في دخول صناعة السينما بعض الشيء، حتى أخرجتُ فيلما وثائقيا تجريبيا عام 2011 بتمويل من معهد جوته و"سودان فيلم فاكتوري"، لكنني لم أتخذ السينما مسارا مهنيا إلا لاحقًا".
يرى فائز أنّ نقطة التحوّل الأبرز في مساره كانت تركه لمهنة الصحافة بعد فصله من الصحيفة، وهو قرار جاء في ظروف دراماتيكية تزامنت مع انتفاضة سبتمبر/أيلول 2013، وحينها شعر بخيبة أمل عظيمة.
يضيف فائز أنّ ضعف المؤسسات الصحفية وغياب التطوّر المهني كانا من أبرز الأسباب التي دفعته إلى مغادرة مهنة الصحافة نهائيا، والبحث عن أفق جديد في صناعة السينما.
هل أخرجت أفلاما قبل جهنمية؟
"قبل جهنمية أخرجتُ فيلمًا وثائقيًا في العام 2011 واعتبرته تجربة تعليمية، أيضا شاركتُ كمخرجٍ منفِّذٍ ومنتجٍ مشاركٍ في الفيلم الروائي القصير "حاحاي الكلاب"، من إخراج صدام صديق، الذي حاز جائزة الفيل الأسود في مهرجان السودان للسينما المستقلة عام 2020.
كما شاركتُ كاتبًا مشاركًا في الفيلم الوثائقي القصير رحلة إلى كينيا، من إخراج إبراهيم سنوبي، وقد نال جائزة لجنة التحكيم الخاصة في الدورة نفسها من المهرجان".
يستطرد فائز "اخترتُ أن أُخرج فيلمًا عن تجربة اعتقال النساء، وقمتُ بعد الثورة بإجراء 8 مقابلات مع معتقلات سابقات أثناء ثورة ديسمبر/كانون الأول 2018، ومن خلال حكيهنّ وردود أفعالهنّ على الأسئلة التي طرحتُها استوحيتُ فكرة السيناريو وكتبته".
بدأ تصوير "جهنمية" عقب "انقلاب أكتوبر 2021″، وهو ما أعاد ترتيب حساباتنا الإنتاجية، إذ اضطررنا إلى بناء زنزانة كموقع للتصوير بدلا من التصوير في سجن النساء كما كان مخطّطا.
وبينما كنّا ننهي اللمسات الأخيرة للفيلم، اندلعت الحرب في السودان في 15 أبريل/نيسان 2023، ما أدّى إلى فقدان مواد الفيلم، واضطرني ذلك إلى السفر إلى القاهرة لاستكمال العمل على الفيلم.
فيما يخص اختيار الممثلات، قمنا في فريق العمل بإجراء تجربة أداء اخترنا من خلالها ممثلات، كان معظمهنّ في تجربتهنّ التمثيلية الأولى أو السينمائية الأولى باستثناء النجمة إسلام مبارك.
تكوّن فريق التمثيل من 7 ممثلات إلى جانب إسلام مبارك، وهنّ: ليندا عمر، سوهندا أبو بكر، ليا، لوران النّو، شمس مبارك، ميسون مساعد ومنى أسامة.
موقع التصوير.. ميزانية الفيلم والتمويلقمنا ببناء نموذج لزنزانة داخل مستودع تخزين ليكون موقعًا للتصوير، كان المستودع مهجورًا، فقمنا بتوصيل الكهرباء اللازمة واعتمدنا الإجراءات الصحية، واجهتنا صعوبات، إذ كنا نضطر إلى إيقاف المكيّفات أثناء التصوير وسط درجات حرارة عالية، ولتعويض انقطاعات الكهرباء استخدمنا مولّدًا كهربائيًا، وبنينا له مجسّمًا لعزل الصوت حتى لا يؤثر على تسجيل الفيلم، كما اتخذنا إجراءات لتأمين الموقع وتنظيم عملية النقل.
إعلانمن المهم أن نؤكد أولًا أننا حصلنا على دعم كبير من أعضاء الفريق بقبولهم العمل دون أجر، وقد اعتمدنا في التمويل على شركتنا الخاصة "إن ديب فيشن"، إلى جانب دعم معنوي من القطاع الخاص، كان من المفترض أن نحصل على مساهمة أكبر من هذا القطاع، لكن بعض الجهات تراجعت بسبب أجواء 25 أكتوبر/تشرين الأول 2021، كما حصلنا على بعض الدعم والمساعدة من سودان فيلم فاكتوري، كنا نطمح أيضًا إلى مشاركة المجتمع المدني، لكن معظم الجهات التي تواصلنا معها لم تستجب، في حين تراجعت جهات أخرى من دون تقديم أسباب.
أما ميزانية الفيلم فكانت كبيرة نسبيا قياسا بفيلم قصير، غير أن الضرورات الإنتاجية فرضت ذلك، دفعنا حوالي 20 ألف دولار، إضافة إلى نحو 20 ألف دولار أخرى مقابل أجور فريق العمل الذي تجاوز الـ30 شخصا من غير الممثلين.
فيلم جهنمية للمخرج ياسر فائز سيعرض في الدورة الـ6 من مهرجان مينا السينمائي من 25 إلى 30 يناير/كانون الثاني بكندا حيث ينافس في مسابقة الأفلام القصيرة، ويُعرض ضمن برنامج "ريفليوشن" يوم الأربعاء 29 يناير/كانون الثاني الساعة 6:45 مساء بسينما VIFF Centre.
حصل الفيلم على جائزة ما بعد الإنتاج من مبادرة الفيلم والإعلام العالمية (GFMI)، مُنحت من قبل استوديوهات شيفت.
وتم اختياره رسميا في برنامج أبواب مفتوحة "Open Doors" لكن خارج المسابقة الرسمية، وترشح لمهرجانات مالمو عرب فيلم وتورنتو عرب فيلم ومهرجان عمان للسينما العربية ومهرجان لوكارنو الدولي في سويسرا والعديد من المهرجانات الأخرى.
المصدر: الجزيرة
كلمات دلالية: غوث حريات دراسات فیلم ا
إقرأ أيضاً:
مسلسل كارثة طبيعية.. عندما تتحول الأبوة إلى معركة من أجل البقاء
ينضم مسلسل "كارثة طبيعية" إلى خريطة الدراما المصرية المعاصرة باعتباره خطوة نوعية للفنان محمد سلام، الذي يخوض أولى بطولاته المطلقة على الشاشة الصغيرة، بعد مسيرة ارتبطت أكثر بالشخصيات الكوميدية المساعدة، هذه النقلة منحت العمل خصوصية، وسمحت لسلام بتقديم جانب أكثر اتزانا وعمقا في أدائه، خاصة بعد غيابه عامين عن الشاشة وافتقاد الجمهور له.
يأتي المسلسل بوصفه عملا دراميا يحمل بصمة مختلفة داخل المشهد التلفزيوني، إذ يقترب بذكاء من مأزق الإنسان المعاصر الذي يستيقظ كل يوم على تحدٍّ جديد يهدد استقراره، لا يحاول العمل أن يبهرنا بمواقف خارقة للعادة، بل يستقي مادته من الروتين المألوف، ليحول تفاصيل الحياة البسيطة إلى ساحة اختبار قاسية.
اقرأ أيضا list of 2 itemslist 1 of 2"البرنامج الصباحي".. دراما تكشف خبايا الإعلام في زمن السلطة والفضائحlist 2 of 2عودة الكبار ورهان على التنوّع.. خريطة المسلسلات الكويتية موسم 2026end of listرؤية أكثر واقعيةنشأت شهرة المسلسل في بدايات عرضه من كونه يضع أمامنا بطلا يواجه مفاجآت الحياة المربكة، ولعل العنوان "كارثة طبيعية" يحمل دلالة مزدوجة: من جهة الكارثة التي تفتعلها الطبيعة أو القدر، ومن جهة أخرى الكارثة اليومية التي تهدد استقرار حياة الأسرة في مجتمع سريع التحول.
تعد هذه الخلفية السياقية بكاملها مفتاحا لفهم المناخ العام للعمل، إذ تتوغل الحكاية في قلب الطبقة المتوسطة المصرية، التي أصبحت في مواجهة مباشرة مع أزمات اقتصادية واجتماعية تعصف بطموحاتها.
محمد قابل أغرب وألطف دكتور في حياته، متوصّي بيه في البلالين ????
اتفرج على الحلقة الثالثة والرابعة من مسلسل #كارثة_طبيعية من #إنتاجات_WATCHIT_الأصلية من هنا https://t.co/b5gQTGC6fm
يُعرض الآن حصريًا حلقتين كل أربعاء
اشترك الآن بباقات تبدأ من ١٩.٩٩ج في الشهر ١٩٩.٩٩ج في السنة! pic.twitter.com/ryOc8GVGb6
— WATCH IT (@WatchiTMENA) November 10, 2025
تتركز الحكاية حول محمد شعبان (محمد سلام)، شاب متزوج حديثا ويعمل في إحدى شركات الاتصالات، يقرر تأجيل الأبوة إلى حين تتحسن الظروف المعيشية وهو ما يبدو أملا بعيد المنال بسبب طوفان المسؤوليات. بيد أن زوجته شروق (جهاد حسام الدين) تتشبث بحلم الأمومة لتأتي المفاجأة الصادمة بإنجاب سبعة أطفال دفعة واحدة، فتغرق الأسرة في دوامة مالية ونفسية لا تنتهي.
من شحال ماضحكت من القلب، شوف أجل أي حاجة عندك، أي حاجة، و بدا هاد المسلسل ????
مسلسل "كارثة طبيعية"
موظف اتصالات مقاتل مع الزمان تا غاتحمل ليه المرا ب 5 على غفلة ???????????? pic.twitter.com/lZBqXbMND9
— جيپ غامبرديلا (@Hamsofsky) November 5, 2025
ما بعد "بالطو""كارثة طبيعية" كتبه أحمد عاطف فياض، مؤلف مسلسل "بالطو" الذي أسند إلى الممثل عصام عمر في أول بطولة له، وحقق نجاحا هائلا -وقت عرضه- فاق التوقعات ليصبح أحد أهم الأعمال الدرامية القصيرة القريبة لقلب الجمهور المحب للكوميديا.
إعلانوفي تجربته الثانية، يؤكد فياض موهبته بمجال التأليف وقدرته على توجيه قلمه نحو مناطق مهملة في دراما الطبقة المتوسطة، ورغم أن العمل يصنف كوميديا، فإنه لم يبن على الاستسهال بالكتابة أو يلجأ إلى الإيفيهات السريعة المعلبة، وإنما حظِي ببناء درامي تصاعدي.
حيث البداية الهادئة نسبيا، لكنها سرعان ما تشهد تقلبا، هذا التسلسل ليس عشوائيا، بقدر ما تعمّد السيناريو ربَط مشهدا بآخر عبر فكرة أن ثمة كارثة انفجرت بفعل قرار أو حدث صغير، وأن الانفجار ليس نتيجة ظاهرة خارقة، بل تراكم ظروف حياتية عادية.
بشكل عام، نجح السيناريو بأن يستمد السخرية من ثقل الواقع، لكن في المقابل، هناك بعض القفزات النوعية السريعة التي لم تحظ بما يكفي من المبررات مما قلل من قدر التشويق وفرص التماسك الدرامي، كذلك اعتمدت الكتابة على مفاجآت كبيرة كمفتاح للحركة عوضا عن التطورات النابعة من الشخصيات.
أداء متوازنعلى صعيد الأداء، يعود محمد سلام إلى الشاشة بشخصية ذات أبعاد إنسانية معقدة، تمكن من خلالها من التعبير عن مشاعر متباينة من الدهشة والتوتر واليأس، محافظا على توازن دقيق بين الكوميديا والدراما، دون أن يحتكر المشاهد المضحكة أو يتحول إليها بالكامل.
أما جهاد حسام الدين فقدمت شخصية الزوجة بأداء متزن وواقعي، بعيد عن المبالغة أو التصنع، في حين أضفى كمال أبو رية حضورا هادئا ومرحا في آن، مجسدا دورا داعما دون مبالغة. ومع ذلك، يبقى حمزة العيلي المفاجأة الأبرز في العمل، إذ برز رغم محدودية مساحة دوره، مقدّما طاقة كوميدية طبيعية تستحق استثمارا أوسع في أعمال مقبلة.
تجربة أولى مبشرةيذكر أن "كارثة طبيعية" هو العمل الأول للمخرج حسام حامد الذي نجح بالمزج بين الكوميديا السوداء والدراما الاجتماعية، مستخدما إيقاعا متسارعا بما يناسب عدد الحلقات ويخدم فكرة توالي الكارثة. وقد تنوع استخدام الكاميرا بين الزوايا المقربة لنقل ما يشعر به البطل من ضيق أو توتر، ولقطات البانوراما لإبراز حجم المعضلة.
في حين اتسم العمل بالمونتاج ذي الإيقاع السريع، وهو وإن كان مناسبا للحفاظ على تفاعل المشاهد، إلا أن سرعة الانتقال في بعض الأحيان حالت دون الاستمرار في لحظة شعورية معينة مثل تأثر البطل بمعلومة صادمة، وكان من الأفضل لو أتيحت مساحة كافية لتمديد المشاعر أو التصدي للحدث قبل الانتقال.
وفي المجمل يمكن وصف العمل بالمتماسك بصريا حيث اختيار الألوان الدافئة في مشاهد الحياة المنزلية المعتادة، مما يعكس أجواء الطبقة التي ينتمي إليها الأبطال، والملابس العملية المناسبة للشخصيات والتي لا تدل على أي رفاهية، بجانب الديكور الذي صمم بحيث يصبح مألوفا للمشاهد المصري لتعزيز الارتباط.
أما عن نقاط الضعف، يمكن حصر ما تبقى في كون الشخصيات الثانوية محدودة الأبعاد مما أفقدها نصيبها من التأثير، وخلو العمل من بصمة بصرية أو صوتية تنشئ له هوية خاصة.
"كارثة طبيعية" مسلسل قصير من 10 حلقات ويعرض حاليا عبر منصة "واتش إت"، لم يكتف العمل بطرح قصة عائلية تحت الضغط بغرض الترفيه، بل تعامل مع حالة جيل كامل يعيش بين ارتفاع كلفة الحلم وانسداد الأفق. ورغم أن بعض العناصر الفنية كانت تحتاج إلى مزيد من التعمق، فإن المسلسل ينجح بالتقاط نبض الواقع المصري الراهن بذكاء وحرفية.
إعلانالمسلسل من تأليف أحمد عاطف فياض، وإخراج حسام حامد وبطولة محمد سلام، جهاد حسام الدين، حمزة العيلي، كمال أبو رية، وكارولين خليل.