هكذا فعل الغماري وهكذا رحل!
تاريخ النشر: 19th, October 2025 GMT
لم يكن الشهيد الغماري مجرد قيادي في رئاسة هيئة الأركان، بل كان شعلة من العمل الدؤوب والجهود الجبارة للبناء والتطوير على مدى سنوات من دون استراحة محارب، فكان سيف الرهان في يد القائد يضرب به أعداء اليمن وفلسطين والإنسانية، وكان نبض اليمنيين يترجم طموحهم على أفضل ما يمكن ووفقاً للمتاح والممكن، وأحياناً بخيارات تفوق تصورات اليمنيين والأعداء معاً، لقد أدى المسؤولة وكان رجلها على أرقى مستوى.
من مقاعد الدراسة، إلى زنازين الثائرين "المكبرين" مروراً بمتاريس الجهاد ومقاعد القتال، وصولاً إلى قيادة رئاسة هيئة الأركان، تميز الفريق الركن محمد عبد الكريم الغماري بذكاء خارق وعقلية استراتيجية.
تلمس من عايشه طباعاً متميزاً وفريداً في شخصية القائد الجهادي الكبير الشهيد محمد الغماري إذ كان هادئاً، ليّناً، حسن الطبع خفيف الدم، بشوش الوجه كثير الابتسامة مع رفاقه وفي أوقات السلم، وسرعان ما يتحوّل ذلك الشاب الأربعيني الهادئ إلى أسد هصور وإعصار مدمّر على الأعداء في أوقات الشدائد والحروب من عدوان السنوات العشر إلى "طوفان الأقصى". تولى رئاسة هيئة الأركان على مدى 14 عاماً شهد فيها اليمن أصعب وأخطر المراحل والتحديات العسكرية وأهم التحوّلات ربما في تاريخ البلاد المعاصر، وكان فيها رجل مسؤولية لا يهدأ له بال في البناء والتخطيط والتطوير والمواجهة.
من هو الغماري؟
ينحدر القائد الجهادي الشهيد الغماري من منطقة غُمار من مديرية المدان التابعة إدارياً لمحافظة عمران، نشأ وترعرع في صنعاء وتميز بين أقرانه بالذكاء والفطنة والالتزام وحسن الخلق في مقاعد الدراسة حتى تخرج من الثانوية العامة بتقدير "امتياز"، والتحق بقسم الصيدلة في كلية الطب بجامعة صنعاء.
في مطلع الألفية الثالثة، تم اعتقاله من قبل السلطة في عهد الرئيس الأسبق علي عبد الله صالح على خلفية تأييده وتبنّيه مشروع السيد حسين بدر الدين الحوثي النهضوي التحرري المناهض للهيمنة الأميركية والإسرائيلية، وأنشطة من بينها استقبال الشباب الذين كانوا ينتقلون من صعدة وغيرها من المحافظات لترديد شعار أنصار الله المعروف في الجامع الكبير بالعاصمة صنعاء (الله أكبر ... الموت لأميركا .. الموت لإسرائيل اللعنة على اليهود ... النصر للإسلام).
ظل في السجن على خلفية تلك القضية، رغم عدم مخالفتها للقانون والدستور اليمني، قرابة ثلاث سنوات تزيد ولا تنقص، تحت ظروف قاسية من التعذيب والحرمان.
وبينما كان الغماري يرزح مع المئات من رفاقه خلف القضبان على ذمة القضية، شنت السلطة الظالمة في حينها ثلاث جولات من الحروب من عام 2004م (بعد عودة الرئيس اليمني من لقاء الرئيس الأميركي الأسبق جورج بوش في واشنطن) إلى عام 2006م، وفي عام 2007م تحرر الغماري والمئات من رفاقه لتكون وجهتهم إلى فيافي وقفار محافظة صعدة حيث المئات من حملة المشروع مشردين ومطاردين ومحاربين من قبل النظام آنذاك.
خلال ذلك العام، أوكل إلى الشاب محمد مهمة جهادية كما بقية أفراده، وبات اسمه الجهادي "هاشم" ومن موقعه في المسؤولية الملقاة على عاتقه شارك "هاشم" في جولات عدة من الحروب (الرابعة والخامسة والسادسة ما بين عام 2007 – 2010م) وقد شكلت الحرب السادسة نقطة تحوّل في مسيرة أنصار الله بأن كانت أول حرب يخوضونها في مواجهة دولتين وجيشين هما الجيش اليمني والجيش السعودي، ورغم ذلك حقق أنصار الله انتصارات مهمة رغم قلة العدد والإمكانات وضيق المساحة الجغرافية حيث يوجدون في محافظة صعدة وفي حرف سفيان (إحدى مديريات محافظة عمران).
أنصار الله من الحرب إلى الثورة
بعد انتهاء الحرب السادسة في مطلع عام 2010، لم يلبث اليمن أن دخل في مرحلة تحوّل جديدة عام 2011م فكان من بين الدول العربية التي خرجت فيها الشعوب ثائرة على الأنظمة من مصر إلى تونس واليمن فيما سمّي حينها بـ "ثورات الربيع العربي".
في تلك المرحلة، انتقلت مسيرة أنصار الله من الحروب إلى الثورة وكانت في طليعة الثائرين، إلى أن جرت بعض المحاولات الداخلية والخارجية لمحاولة احتواء الموج الثوري بانقسام النظام على نفسه ودخول أميركا والسعودية على الخط من بوابة المبادرة الخليجية التي أعادت قسمة الكعكة والسلطة على قطبي النظام القديم مع منح بعض الأحزاب حقائب وزارية محدودة. كانت أبرز منطلقات تلك المبادرة إبقاء اليمن تحت الوصاية، وإبقاء أصحاب النفوذ من ذوي الارتباطات الخارجية في صدارة المشهد السياسي والعسكري وكأنك يا أبو زيد ما غزيت!
وهذا ما تنبه له "أنصار الله وحلفاؤهم" واعتبروا تلك المبادرة مؤامرة لإعادة فرض الوصاية الأميركية والسعودية على اليمن، من أجل ذلك واصل أنصار الله وحلفاؤهم مسيرة الثورة إلى عام 2024 حين تم إسقاط الوصاية وحكومتها.
لم تكن الثورة وفي طليعتها أنصار الله في وارد الثأر والانتقام من خصومها الذين قاتلوها وقتلوا قائدها وحاربوها وشوّهوها لعقود وأقصوا منتسبيها من كل الوظائف العامة، واتضح ذلك من خلال دعوتهم كل الأحزاب والقوى السياسية إلى الحوار والشراكة وذهبوا لتوقيع اتفاق السلم والشراكة مع القوى السياسية وبرعاية الأمم المتحدة.
وسرعان ما انقلبت معظم تلك القوى والأحزاب السياسية على الاتفاق تحت تأثير الضغوط الخارجية، وتحديداً السعودية والأميركية، وأرادوا إدخال البلد في حالة فراغ دستوري بعد إعلان استقالة الرئيس (غير المنتخب) وحكومة خالد محفوظ بحاح، حاول أنصار الله وحلفاؤهم إقناع تلك الأطراف بالعدول عن الاستقالة ولكن من دون جدوى، ما اضطرهم إلى سدّ ذلك الفراغ والانتقال من حالة الثورة إلى الدولة للحفاظ على مؤسسات الدولة.
الأطراف الأخرى وصفت تلك الحالة بـ "الانقلاب على الشرعية" بتوجيهات من السفارات التي غادرت صنعاء لفرض عزلة سياسية على صنعاء، والترتيب لحرب عسكرية بعد أن فشلت كل الأوراق لإسقاط الثورة وعزل الثوار وتهميشهم وإعادة الوصاية.
الغماري من "الظل" إلى الواجهة
في الـ 26 من مارس/آذار، أعلن السفير السعودي عادل الجبير آنذاك العدوان على اليمن من العاصمة الأميركية واشنطن بمشاركة أكثر من 17 دولة بشكل مباشر ومشاركة أميركية وبريطانية وإسرائيلية بشكل غير معلن، وكل ذلك تحت شعارات من قبيل "حماية الأمن القومي العربي" و "الحفاظ على هوية اليمن العربية" و "دعم إعادة الشرعية".
بعد عام من العدوان الشرس والمتوحش على بلد ذي سيادة هو اليمن، وما تخلله من جرائم وتدمير للبنية التحتية، خرج محمد عبد الكريم الغماري من الظل إلى العلن، وتم تكليفه بقيادة رئاسة هيئة الأركان العامة ليقودها مع رفاقه بكل جدارة واقتدار ضمن مسارات دفاعية وهجومية في قرابة 50 جبهة داخل اليمن، مع تدرج في العمليات الاستراتيجية بالصواريخ الباليستية والمجنحة والطائرات المسيرة إلى العمق السعودي والإماراتي باستهداف المطارات والقواعد العسكرية ومنابع ومصافي النفط، وكانت الضربات اليمنية التي لا تزال عالقة في الأذهان ضربة معسكر إماراتي في مأرب أطاح بالمئات بين قتيل وجريح، وضربة "شعب الجن" في محيط باب المندب التي اختلط فيها الدم السعودي والإماراتي بالدم الإسرائيلي، وضرب مطارات الرياض وأبها وخميس مشيط، واستهداف مطاري دبي وأبو ظبي، وضربة بقيق وخريص التاريخية في أواخر عام 2019م، واستمرت المواجهة والتصدي بقيادة اللواء الركن محمد عبد الكريم الغماري لتتوج بعمليات برية كبرى أبرزها: "نصر من الله" و"البنيان المرصوص" وعملية "فأمكن منهم" واستمر مسار التحرير دفاعاً وهجوماً إلى أن أعلن اتفاق الهدنة في أبريل من عام 2022م.
في مرحلة "خفض التصعيد"، وبينما كان معسكر الأعداء ينتظر ضعف اليمن بعد قرابة 10 سنوات من العدوان والحصار وجرائم الإبادة، خرج اليمن أقوى مما كان، وفاجأ الصديق والعدو بكشف بعض الأوراق والأسلحة العسكرية الاستراتيجية، برية وجوية وبحرية، من خلال عروض عسكرية عدة، ليؤكد اليمن في فترة قيادة الغماري رئاسة هيئة الأركان أن البناء لا يتوقف في سنوات العدوان، وأن التحديات والحروب لا تضعف اليمن بل تزيده قوة وتطوراً وخبرة، وتقوده نحو تحوّل وانتقال كبير من قوة محلية إلى قوة إقليمية يَحسب لها الأعداء ألف حساب.
"سيدي هاشم": الكابوس الذي أزعج الصهاينة
ولأن فلسطين قضية مركزية ومتجذرة في الفكر والإيمان اليمني، وتحتل الصدارة في أولويات القيادة والشعب، انخرط اليمن في جبهات الإسناد للشعب الفلسطيني ومقاومته، فما إن أعلن السيد القائد عبد الملك بدر الحوثي الموقف بعد تجاوز معسكر الأعداء الخطوط الحمراء في غزة، حتى ترجمت وزارة الدفاع وفي القلب منها رئاسة هيئة الأركان بقيادة اللواء الركن محمد عبد الكريم الغماري مع رفاقه في مختلف التشكيلات العسكرية البرية والجوية والبحرية، ذلك الموقف وحوّلته إلى معادلات استراتيجية قاسية فرضت على كيان العدو حصاراً بحرياً في البحر الأحمر وباب المندب وخليج عدن والبحر العربي، وصولاً إلى أعالي البحار في المحيط الهندي لأول مرة في تاريخ اليمن وتاريخ الكيان، وأوصلت الصواريخ والمسيرات إلى عمق فلسطين المحتلة من أم الرشراش إلى يافا وحيفا وعسقلان والنقب وبير السبع ...الخ، ضمن مسار عسكري متصاعد سجل 758 عملية عسكرية نفذت بـ 1835 ما بين صواريخ باليستية ومجنحة وفرط صوتية وطائرات مسيرة وزوارق بحرية خلال عامين من الإسناد المتواصل.
لقد شكّل "سيدي هاشم" _ كما كان يناديه رفاقه _ كابوساً مزعجاً للعدو ومصدر قلق للكيان برمّته، ولهذا جاءت محاولاتهم المستمرة لاغتياله مع علمهم أن اغتياله واستشهاده لا يلغى إرثه الكبير.
وفي هذا السياق، تعترف أوساط العدو بأن الشهيد الغماري "خلَّف إرثاً لا ينتهي باغتياله"، وأنه "انشغل خلال السنوات الأخيرة بتطوير الصواريخ اليمنية" الاستراتيجية وصولاً إلى امتلاك اليمن صواريخ فرط صوتية وحوّل اليمن إلى قوة إقليمية فرضت معادلاتها على المسار البحري.
هنيئاً لك يا هاشم فقد سجل في عهدك أول حصار بحري يمني على كيان العدو الإسرائيلي وأصبح ميناء أم الرشراش خاوياً، وقُهر أصحاب العروش، وأقوى قواتهم البحرية والجوية، وسُجلت نهاية زمن حاملات الطائرات، فيكفيك شرفاً وعزاً ومنزلة عند الله والشعب وفلسطين وأهلها ومحبيها ذلك العطاء العظيم في زمن الخذلان العربي والإسلامي، وأن تتوّج كل عطاءاتك الكبرى كما وصفها السيد القائد بالاستشهاد على طريق القدس، فنم قرير العين بعد عقود من الجهود والجهاد ورفاقك على العهد يؤمنون بالوعد ويمضون على طريق التحرير والقدس وما بدلوا تبديلاً، وعلى العدو ألا يفرح باستشهادك ففي شهادتك حياة، ومن الدم يولد العزم وتشتد العزائم ويصنع الانتصار.
المصدر: ٢٦ سبتمبر نت
كلمات دلالية: محمد عبد الکریم الغماری رئاسة هیئة الأرکان أنصار الله
إقرأ أيضاً:
"أنصار الله" تفرج عن موظفين أمميين وتواصل احتجاز 20 أجنبيا ومحليا
صنعاء (الجمهورية اليمنية)- أفرجت جماعة "أنصار الله" اليمنية، الأحد 19 اكتوبر 2025، عن موظفين تابعين للأمم المتحدة غداة اقتحامها سكنا خاصا بالمنظمة في صنعاء (وسط اليمن)، على خلفية اتهام الجماعة لعاملين أمميين بالتجسس لصالح إسرائيل.
وقال مصدر في الأمم المتحدة بأن "أنصار الله" أفرجت عن 11 موظفا محليا بعد استجوابهم وتوقيعهم على التزام بعدم مغادرة صنعاء إلا بإذن مسبق منها، وفق وكالة سبوتنيك الروسية.
وأضاف أن "أنصار الله" ما تزال تحقق مع 20 موظفاً أممياً؛ 15 منهم أجنبياً يتولون مناصب قيادية و5 محليين، بعد مصادرة حواسيبهم وهواتفهم لفحصها والتأكد من عدم الارتباط بمتهمين بالتجسس لصالح إسرائيل.
وذكر المصدر أنه من المتوقع إفراج سلطات "أنصار الله" عن دفعة جديدة من الموظفين الأمميين خلال الساعات المقبلة.
يأتي ذلك غداة اقتحام قوة أمنية من "أنصار الله" سكنا تابعا للأمم المتحدة في منطقة حدة جنوبي صنعاء، بعد ساعات من إعلان الأمين العام للأمم المتحدة أنطونيو غوتيريش، رفض اتهامات جماعة "أنصار الله"، لموظفين أمميين في صنعاء، بالتجسس لحساب إسرائيل والتورط في اغتيال رئيس حكومة الجماعة وعدد من وزرائه بغارات جوية على صنعاء، أواخر آب/أغسطس الماضي.
سبق ذلك كشف وزارة الدفاع في حكومة "أنصار الله"، عن مقتل رئيس هيئة الأركان في قوات الجماعة اللواء الركن محمد عبد الكريم الغماري مع بعض مرافقيه ونجله إثر غارات جوية إسرائيلية، دون أن تورد تفاصيل إضافية.
وفي 7 تشرين الأول/أكتوبر الجاري، أعلنت الأمم المتحدة، اعتقال "أنصار الله"، 9 موظفين أمميين إضافيين ليرتفع إجمالي موظفيها المحتجزين لدى الجماعة منذ 2021 إلى 53 موظفاً، معتبرة أن ذلك يعيق قدرتها على العمل في اليمن وتقديم المساعدات الأساسية.
وجاءت اعتقالات "أنصار الله" للموظفين الأمميين، بعد يوم واحد من إعلان الجماعة رسمياً، في 30 آب/أغسطس الماضي، مقتل رئيس حكومتها أحمد غالب الرهوي و9 من وزرائها وإصابة آخرين، بقصف جوي إسرائيلي على صنعاء رداً على هجمات مستمرة للجماعة على إسرائيل منذ تشرين الثاني/نوفمبر 2023، رداً على الحرب الإسرائيلية في قطاع غزة.
ويشهد اليمن تهدئة هشة منذ إعلان الأمم المتحدة، في الثاني من تشرين الأول/أكتوبر 2022، عدم توصل الحكومة اليمنية وجماعة "أنصار الله" إلى اتفاق لتمديد وتوسيع الهدنة التي استمرت 6 أشهر.
ويعاني البلد العربي للعام العاشر تواليًا، صراعا مستمرا على السلطة بين الحكومة المعترف بها دوليًا وجماعة "أنصار الله"، انعكست تداعياته على مختلف النواحي، إذ تسبب في أزمة إنسانية تصفها الأمم المتحدة بأنها واحدة من أسوأ الأزمات الإنسانية على مستوى العالم.
وتسيطر جماعة "أنصار الله" منذ أيلول/سبتمبر 2014، على غالبية المحافظات وسط وشمال اليمن، بينها العاصمة صنعاء، فيما أطلق تحالف عربي بقيادة السعودية، في 26 آذار/مارس 2015، عمليات عسكرية دعماً للجيش اليمني لاستعادة تلك المناطق من قبضة الجماعة.