صدرت للشاعر العراقي وسام العاني مجموعته الشعرية (ما لم تقله الأرض) عام 2021م عن الجمعية العُمانية للكتاب والأدباء ودار نثر في (85) صفحة، جمعت (28) نصًا شعريًا متنوعًا في الشكل والمضمون، أظهر فيها وسام العاني اشتغاله اللغوي في كتابة نصوصه الشعرية.

تحيلنا دلالات النصوص الشعرية في المجموعة على الحنين والغربة المتشكلة من الانعكاس النفسي القائم على البُعد المكاني؛ فالعراق حاضرة في المجموعة بشكل كبير، يستعيد ذاكرتها وذكرياتها متحسرًا على سنوات البُعد والحرب.

نجد في هذه المجموعة معادلات الحنين والشوق من جهة والغربة والقلق من جهة أخرى، إذ ترد مفردات المجموعة دالة على الوجع والانكسار، فتأتي الدلالات اللغوية معينة على الصورة التي يصنعها الشاعر، فتمنح التراكيب حزنًا نابعًا من الغربة ذاتها والبُعد عن الوطن/ العراق.

كل تلك الدلالات نجد لها ارتباطًا عميقًا بالعودة إلى الطفولة/ الماضي البعيد؛ نجد هذا الملمح ظاهرًا في المجموعة؛ إذ تحضر لفظة الطفولة/ الطفل في (17) نصًا شعريًا من أصل (28) نصًا شعريًا. إنّ لهذا الحضور المكثف لعالم الطفولة في المجموعة إحالة على العودة إلى ذلك الزمن واستدعائه من الذاكرة إلى الحاضر، ومنه إلى عالم الكتابة، فالذاكرة لم تتخلّ عن عالمها البكر، والطفولة تتمدّد في ذاكرة الشاعر وتُحدثُ تقاطعًا مع الزمن الحالي بعملية الاسترجاع هذه. كما لا يجب أن ننسى أنّ للطفولة ارتباطًا بالأمومة، فهما متداخلتان في علاقتهما، ومرتبطتان في مفاهيمهما، والأم في ذاتها رمز مقترن بالأرض، إذ إنّ كليهما أمٌّ تحنُّ لأبنائها، والأرض معادل لفظي للوطن وهنا تكمن حقيقة الغربة والحنين اللذين قصدهما الشاعر من عامل الارتباط بين الطفولة والحنين والغربة؛ لذا صدّر عتبة مجموعته الشعرية بلفظة الأرض التي تعيده إلى الوراء زمنيًا وتقدم انعكاسًا للمتغيرات النفسية لحظة الكتابة.

في نص (مَن سواه يرى)، وهو من النصوص البديعة اشتغالًا في المجموعة من حيث الصور وحضور اللغة، نجد الطفولة حاضرة في عمليتي الاشتغال والاسترجاع، كما نجد الفعل الزمني واضحًا بين زمني الطفولة والكبر، يضم النص في امتداده الزمني هذا صورًا متعددة ومشاهد نحتها الزمن في الذاكرة، هذا الامتداد الزمني قدّم للقصيدة اشتغالًا لغويًا جيدًا يخدم النص، وصورًا نُحتت بإتقان مستخدمًا الأفعال الماضية لتشكيل المعنى، نقرأ افتتاحية النص إذ يقول:

طفل القصائد يا مولاي قد كبرا وظل سهوا بكف الغيم فانهمـرا

بعيدة في رؤى الصحراء وجهته فصار قافلة واستتبع الأثرا

توسل الريح دربا نحو قريته فوزعته بريف المتعبين قرى

وصادق النهر حتى صار يشبهه يمشي وينبت من أحزانه الشعرا

وحين ضاق بهم، شظى شواطئه وراح يسكبها في أعين الفقرا

وضاق معنى فشق الطين منتفضًا فقل لحراسك الغافين: صار يرى

إنّ العودة إلى الطفولة هنا يعادلها العودة إلى الماضي، وإلى الأرض، وإلى الوطن؛ لذا أكثر الشاعر من استخدام الأفعال الماضية في نصه تعبيرًا عن هذه العودة، لنجده يستخدم (39) فعلًا ماضيًا من أصل (20) بيتًا شعريًا تولد منها دلالات الغربة والحنين المتقاطعة مع البعد والفرق:

معتق نايه الفضي في يده نشيجه غيمة والأغنيات ثرى

ندوبه فوق جلد الماء نابتة وحلمه أخضر لما يزل نضرا

كأي طفل مشى في الضوء مُنتَشيا كان الظلام بظهر الباب منتظرا

تعودت مُدن النسيان خطوته وكان يربح فيها كلما خسرا

أضاع في حسبة الأوقات ألف يد وبعدما أُمة من وهمه ادَّكرا

أن الحياة إلى لا شيء مُفضية إلا إليه ولكن من سواه يرى؟

في غربة الطين لا شُباك يُؤنسه وليس إلاه درب نحوه عبرا

إنّ ارتباط الطفولة بالغربة ملمح مهم في نصوص المجموعة، نجد ذلك في غير نص لدى الشاعر، ففي قصيدة (حروف) يظهر هذا المعنى واضحًا، حين يعبّر الشاعر عن الطفولة المتشكلة في الذاكرة:

طفلٌ يجرُّ على البياض حروفا والحبر ليلٌ ما يزال مُخيفا

طفلٌ وشيبُ الأمنيات برأسه رسمته فرشاةُ الغياب كثيفا

من غيمة الكلمات يستجدي نشيد جروحه ومن المداد نزيفا

سرعان ما يتحول استخدام ضمير الغائب إلى ضمير المتكلم، فيصبح الطفل صورة أخرى متشكّلة عن الذات، ينطلق منها الشاعر في رسم ذاكرة طفولية تنتهي إلى واقع محطّم، وكأنّ الطفولة المنكسرة لا تنتهي إلا إلى انكسار الواقع ونهايته المنغلقة:

والعابرون على موانئ دمعتي لم يحفلوا، مروا هناك ضيوفا

أشجار عمري حين أزهر ضوؤها الليل ألقى فوقهن خريفا

ونُفيتُ في سقف المدائن غيمة تهمي ويشبعها الرحيل حتوفا

وَهُم عتيق صادَقَتْهُ معاركي أنَّ النوايا قد تكون سيوفا

حتى استويت على الهزيمة شاعرًا عبثاً يجر على البياض حروفا

نص شعري آخر يتناول الطفولة موضوعا له، عنوانه (طفولة حرب)، نص يستعيد الألم من الذاكرة، متذكراً مشاهد من حياة الطفولة، إذ يفتتح الشاعر نصه بسنوات من الحروب التي بدأت معها غربته وآلامه واتسع الحنين إلى الذاكرة القديمة:

في العام الخامس من هذا التيه

انفتحت نافذة الحرب

على أنهار مدينته

فتساقط جلد الماء على يَدِهِ

وتخشب شريان الوقت

انفتحت ذاكرة الحرب على ذاكرة الطفولة، فنبش الشاعر الألم، واستعاد الطفولة الممزقة أمام عينيه: (انسلَّ وراء أخيه إلى المدرسة، يُصغي لنشيد العلم المرفوع، يحلم بالكتب المملوءة بالألوان، ورائحة الممحاة، والطبشور الزيتي)، ثم لقد توسعت الدلالات الشعرية في استيعاب الطفولة/ الذاكرة:

كان صغيراً

حين ابتسمتْ

بنتُ الجيران لقفشته

فتطاير سرب حمام

بفناء البيت.

لقد عملت الحرب على هدم ذاكرة طفولة، وتغييب ألوانها المشرقة، فتداخلت ذاكرة الحرب مع ذاكرة الطفولة في بناء أجزاء النص الشعري، فها هو:

يلوذ بحضن الجدة مرعوباً

من صوت الغارة

حين اشتد القصفُ

وشقَّ جدار الصوت

كان يظن بأنّ سكاكين الحرب

ستخجل من لحم الأطفال

ستتركهم يمشون طويلا

فوق دروب العمر

بلا موت.

إن هذا الامتداد الزمني الذي يتلاعب به الشاعر في الشعر تولّد عن ذاكرة قديمة، سطّرها في نص شعري أشبه بالحكائي، يحاول من خلاله تقديم فترات زمنية متقاطعة مع الألم والغربة. لقد انتهت الحرب ولكنّ الغربة لا تزال تهيمن على الذاكرة، فهي متوغلة فيها لم تغادره بعد:

كان صغيرًا

حين انتهت الحرب الكبرى

نام قليلا

واستيقظ مع بعض الشيب

مفزوعا

والحرب الأخرى

هذي المرة وسط البيت.

المصدر: لجريدة عمان

كلمات دلالية: فی المجموعة العودة إلى ا شعری ا

إقرأ أيضاً:

بعد 52 خمسين عاما.. أفلام أكتوبر ما زالت تحفظ ذاكرة الانتصار (فيديو)

أكدت الدكتورة نسرين عبد العزيز، الناقدة الفنية، أن الدراما والسينما تعدان من أهم أدوات التوثيق التاريخي للشعوب، إذ تساهمان في نقل الأحداث الكبرى إلى الأجيال الجديدة التي لم تعايشها.

أصغر جاسوس فى التاريخ وأبرز أبطال حرب أكتوبر وكيل الأزهر: حرب أكتوبر ملحمة تاريخية أعادت للأمة كرامتها السينما المصرية لعبت دورًا بارزًا في توثيق حرب أكتوبر

وأضافت نسرين عبد العزيز خلال لقائها مع نهاد سمير في برنامج «صباح البلد» المذاع على قناة صدى البلد، أن السينما المصرية لعبت دورًا بارزًا في توثيق حرب أكتوبر وانتصاراتها، موضحة أن الإنتاج السينمائي بدأ فعليًا بعد عام 1973، عقب انتهاء الحرب وتحقيق النصر.

وأشارت الناقدة الفنية إلى أن الأعمال السينمائية في تلك الفترة ركزت على إظهار بطولات الجنود المصريين، وتوثيق مشاهد العبور وتحطيم خط بارليف، رغم محدودية الإمكانيات التقنية والإنتاجية حينها.

الرصاصة لا تزال في جيبي

ولفتت إلى أن بعض الأفلام تناولت الحرب بشكل مباشر مثل «الرصاصة لا تزال في جيبي» و«أغنية على الممر»، بينما اختارت أعمال أخرى تناول الحرب في إطار اجتماعي أو رومانسي، يظهر خلفه محور وطني يعكس روح النصر والمقاومة لدى الشعب المصري.


 

مقالات مشابهة

  • علماء يابانيون يكتشفون سر الذاكرة الطويلة
  • الادعاء الفرنسي يطالب بالسجن للرئيس السابق لشركة كازينو بتهم فساد
  • الشواربة يتفقد مشروع المئوية ويؤكد: ذاكرة وطن تُبنى بحجر ومعنى
  • المرأة العُمانية..ذاكرة الوطن ونبض الهوية الثقافية
  • مجموعة A3+ تدعو لاستعادة الأصول الليبية ووقف التدخلات الأجنبية
  • السيسي يستقبل رئيس مجلس إدارة مجموعة أيه بي موللر ميرسك
  • بعد 52 خمسين عاما.. أفلام أكتوبر ما زالت تحفظ ذاكرة الانتصار (فيديو)
  • قاضية أمريكية تمنع شركة إسرائيلية من تثبيت برامج تجسس على "واتساب"
  • قاضية أميركية تمنع تثبيت برامج تجسس إسرائيلية على واتساب