قصيدة بوشكين عن الحب غير المتبادل
تاريخ النشر: 26th, October 2025 GMT
أفْديهِ إِنْ حَفِظَ الهَوى أَو ضَيَّعا / مَلَكَ الفُؤادَ فَمَا عَسَى أنْ أصْنَعا
مَنْ لَمْ يَذُقْ ظُلْمَ الحَبيبِ كَظَلْمِهِ/ حُلْواً فَقَدْ جَهِلَ الْمَحَبَّةَ وَادَّعى
(ابن النبيه المصرى، ت. 1222)
ليست قصيدة «لقد أحببتك» لشاعر روسيا العظيم، ألكسندر بوشكين (1799— 1837 ) مجرد اعتراف عابر بحب انطفأ، بل هى إعلان شجاع عن حب يختار الكرامة بدلا من العتاب، ويستبدل لوعة الفقد بسكينة المسامحة.
يقول بوشكين: نعم، أحببتكِ، وربما لا يزال بين أضلعى شيء من ذلك اللهيب القديم، لكنه أضحى جمرة خجولا لا تحرق، بل تُدفئ القلب بصمت. حب رجل لا يطالب، لا يتوسّل، ولا يُعلّق سعادته على عشوائية عاطفتك؛ يكفيه أن هذا الحب عاش فى داخله طاهرًا، لا يشوبه غضب أو لوم أوتحسّر.
ثم يمضى بوشكين موضحا لحبيبته أن هذا الحب يمشى على أطراف الروح كى لا يوقظ الوجع، يعرف الخجل حين يراها، والغيرة حين تغيب. ومع ذلك، لا يتحوّل إلى تملّك أو حنق، بل يتطهّر حتى يصير دعاءً: ليمنحكِ الله حبًّا من غيرى، مثل الذى أحببتك به، بل أهدأ، وأرق، وأقلّ ألمًا. هنا تبلغ القصيدة مقامها الأخلاقى الأسمى؛ فأن يتمنى العاشق لحبيبته أن تجد قلبًا آخر يحتضنها بصدق، لا لأنّه لم يعد يحبّها، بل لأنّ حبّه أسمى من أن يقيّدها به — ذلك هو النبل الذى لا يبلغه إلا قلب أدرك أن الحب ليس امتلاكًا بل عطاء خالص وإيثار بلا حدود.
ما يثير إعجابى بأبيات بوشكين هذه ليس تصويره لمرارة الافتراق، بل فى تحويلها إلى جمال أخلاقى. المتكلّم يدرك أنّ الحب لا يكتمل إلا إذا منح الحرية لمن يحب، ولو كان الثمن أن يعيش وحيدا فى صمت الخاسر. لا يريد أن يكون «سمًّا يفسد فرحتها»، ولا أن يظل حبّه قيدًا فى معصمها.
فى هذا الصفاء، يتحوّل الألم إلى نوع من الصلاة. ويقول: اذهبى، وكونى سعيدة، ولو بين يدى رجل آخر. إنّها شجاعة لا يتقنها إلا من عرف أن الحب الحقّ لا يتسول، ولا ينتقم، بل يبارك ويرحل بصمت.
والصمت هنا ليس هزيمة، بل لغة من لا يريد أن يجرح من أحبّ. وهكذا يشبه الحب عند بوشكين شمعة أتمّت رسالتها، تُطفأ بهدوء يليق بما كان جميلاً. يستعمل هنا الكلمة الروسية «угасла» (أوغاسلا) التى تحمل معنى انطفاء النور وانطفاء الروح فى آنٍ واحد، ما يجعل ترجمتها إلى العربية مثل «انطفأت» أو «خمدت» تحدّياً فى الحفاظ على هذا البعد المزدوج الحسى والروحى.
وفى السطر الأخير، حيث يسأل الله أن يُقدّر لمن يفارقها أن تكون محبوبَة من رجل آخر، تتحوّل القصيدة من بوح شخصى إلى قيمة إنسانية كبرى؛ فالحب الذى يقدر أن يبارك فقدانه هو أرقى وأسمى أشكال العاطفة الانسانية. إنه انتصار خفيّ للقلب على أنانيته، وللروح على رغبتها فى التملك.
المصدر: بوابة الوفد
كلمات دلالية: بوشكين
إقرأ أيضاً:
بين جدران المدارس
في زيارة جديدة لأحد مدارسنا الثانوية للحوار مع الطلاب حول قضية الوعي والهوية كان لي ملاحظة قد تكون ذات معنى وقيمة في مستقبل أيامنا وأجيالنا القادمة، فعلى ما يبدو أننا بالفعل مازلنا مقصرين كثيرًا في الحوار مع هذا الجيل الذى يحمل في عقله كثيرًا من التناقضات بل والأفكار المغلوطة التي لم يجد من يصححها له بشكل سليم حتى اليوم، ومع الاعتراف بأن جزءًا كبيرًا من هذا الجيل بدأ يفقد بالتدريج بعض معاني الهوية والانتماء والثقة بأنفسهم وبعظمة هذا الوطن الذى يعيشون فيه حتى سقط بعضهم في فخ جديد شديد الخطورة حين ضلت بوصلة عقله فلم يعد يميز بين الغث والثمين حين يختار قدوته ومن يسير على خطاهم، إنهم يقيمون الأمور اليوم بمقدار الثروة فقط وبمظاهر الإنفاق والبذخ التي يعرضها بعض رموز الفن والميديا والرياضة على صفحاتهم بمواقع التواصل فيبهرون بها هؤلاء ويجعلونهم يحلمون أن يكونوا مثلهم بغض النظر عن قيمة مانه أو جدواه للناس وللوطن.
لم أجد كثيرًا من هؤلاء الصغار يتحدث عن رمز وطني أو شاب ذي تجربة ناجحة يقتدون به، ولكنهم يتحدثون كثيرا عن ثراء فلان وسياراته الفارهة ورواج اسمه في المجتمع الذى أصبح يقدر هؤلاء ويفسح لهم في المجالس أكثر من أهل الفكر والعلم والعطاء.
مع الوقت لن نجد طفلًا يحلم بأن يصبح طبيبا أو مهندسا أو ضابطا في جيش بلاده أو معلما للأجيال الصاعدة مثلما كان الصغار يحلمون قديمًا، ولكنهم يحلمون اليوم فقط بالشهرة والثراء الذى لا يجدون له بابا أسرع من باب نشر مقاطع التيك توك وغناء المهرجانات ولعب كرة القدم، كيف وصلنا بهؤلاء الشباب إلى هذه المنطقة الداكنة من التفكير.. أعتقد أن علينا جميعا أن نجيب عن هذا التساؤل إن كنا حقا نعشق الوطن ونهتم بمستقبل أجياله الناشئة.. حفظ الله عقول شبابنا من العبث والضحالة.. حفظ الله الوطن الغالي.