لجريدة عمان:
2025-10-29@20:45:17 GMT

«زانا» الذي رأى كل شيء

تاريخ النشر: 29th, October 2025 GMT

عندما أزور بغداد، فأينما أولّي وجهي، أجد نفسي منقادا بشكل تلقائي لنهر دجلة، فكأن مياهه تجري في جداول الذاكرة والوجدان أكثر من جريانها فوق وجه الأرض، فتجرف معها الكثير من التفاصيل التي ظلّت عالقة منذ سنوات الطفولة، وزوارق الورق، النشيد المدرسي الذي كنّا نردّده:

أيّها النهر لا تسرْ وانتظرني لأتبعك

أنا أخبرت والدي إنني ذاهب معك

أنا أحضرت مركبي هو يا نهر من ورق

أدنُ يا نهر إنني لستُ أخشى من الغرق

ومع عدم خشيتنا من الغرق، سارت خطانا بعيدا، دون أن نشعر، حتى غرقت في زحام المدن، وصار النهر بعيدا.

وحين نعود إليه اليوم، يهيمن علينا يقين أنّ هذا الشريان المتدفّق بالجمال والحياة هو الذي جعل بغداد «جنّة الأرض» حسب وصف الشاعر العبّاسي عمارة بن عقيل (الموُلود عام 182هـ)، وقد كان يقيم في البصرة في قصيدة مطلعها:

أعاينت في طول من الأرض أو عرض

كبغداد داراً إنها جنّة الأرض

وحتّى ماؤها الذي ينبع من جبال طوروس، وهضبة أرمينيا وبحيرة هزار في تركيا يجري عذبا، وقد تغنّى أبو العلاء المعري(973-1057م) بماء دجلة، وعدّه «خير ماء»، مثلما عدّ نخلها «أشرف النخيل» بقوله:

كلفنا بالعراق ونحن شرخٌ

فلم نلمم به إلّا كهولا

وردنا ماء دجلة خير ماء

وزرنا أشرف الشجر النخيلا

ولو لم ألق غيرك في اغترابي

لكان لقاؤك الحظّ الجزيلا

فإذا انتقلنا إلى العصر الحديث لا يمكننا تخطّي الجواهري ورائعته (يا دجلة الخير) التي كتبها عندما كان في مغتربه بتشيكوسلوفاكيا عام 1962 م ووصفها بـ«أم بغداد»:

يا أمّ بغداد، من ظُرفٍ، ومن غنجٍ

مشى التبغدد حتى في الدهاقين

يا أمّ تلك التي من «ألف ليلتها»

للآن يعبق عطرٌ في التلاحينِ

يا مستجم «النواسيّ» الذي لبست

به الحضارة ثوبا وشي «هارون»

وللنهرِ غضباته التي تتجسّد من خلال الفيضانات، وأخطرها الفيضان الذي وقع عام 1954 ببغداد، وقد حدث بعد أن ارتفع منسوب المياه، إلى حدّ إغراق العاصمة، فأحدث أضرارا بالمباني والمزروعات، والمنشآت، إلى جانب فقدان الكثيرين رغم التحوّطات الأمنية التي اتّخذتها الحكومة، وتمّ خلالها إخلاء بعض سكان المناطق المهدّدة بالغرق، وانتهى الفيضان بطوفان الغضب الشعبي الذي أسقط الحكومة للتقصير في اتّخاذ التدابير، وبعد مرور سنوات زال خطر الفيضانات بعد إنشاء السدود،

ومع ذلك وقعت فيضانات بشكل محدود، من بينها؛ قرب وقوع فيضان عام 1988 م في الموصل، وكنت مقيما بها، فاضطرّ المدنيّون والجنود، والأهالي، للحدّ من خطره من خلال اتخاذ تدابير من بينها: ملء الأكياس الكبيرة بالتراب ووضعها على ضفّة النهر لمنع تسرّب المياه للمناطق المحيطة، وكنت من بين حرّاس النهر، وفي تلك الليالي المظلمة، كنت أتساءل: هل تخيّلت في يوم من الأيّام أن يأتي وقتٌ يتحوّل به «دجلة الخير» من ملهم للشعراء والعشّاق إلى خطر داهم؟ وليلة بعد أخرى تراجع منسوب المياه، وزال الخطر، وعادت مياه النهر تجري بهدوء، وعذوبة ورقّة، وبعيدا عن الفيضانات، شهد النهر وقوع حوادث مؤسفة منها: غرق عبّارة الموصل في 21 مارس 2019م وكانت محمّلة بالمحتفلين بيوم المرأة، وقد ذهبوا في رحلة سياحية في طريقهم إلى جزيرة أم الربيعين، وقبل أيّام وقفت على المكان الذي وقع به الحادث،

وقرأت مع د.هناء أحمد جبر، والشاعرة جمانة الطراونة الفاتحة على أرواح ضحايا الحادث الذي أسفر عن مصرع أكثر من 103 أشخاص غالبيتهم من الأطفال، والنساء، إلى جانب حوادث الغرق التي يقع معظمها في موسم الصيف، وجهود الشرطة النهرية مستمرة في عمليات الإنقاذ، أو انتشال جثث الغرقى، ولكن ما قاله الغوّاص (زانا الكردي) الذي نزل إلى أعماق النهر بحثا عن جثّة الشاب حسين الجيّاشي السماوي المفقود، لحدّ هذه الساعة من كتابة المقال، رغم أن المنقذين خلال بحثهم عنه عثروا على أكثر من خمس جثث غريقة! إذ شكّل صدمة قاسية للشعراء الذين أحبّوا النهر، وكتبوا عنه أجمل قصائدهم، حين قال: «دخلتُ إلى (دجلة) ولكن ما وجدته داخله هو الآتي: أن الماء ملوّث بشكل كبير جداً يحجب الرؤية، وتوجد بالقاع أحواض، وأقفاص أسماك غارقة، ومتروكة، ويوجد حديد، وأشجار كبيرة بقاع النهر».

ولو تجاوزنا الحديث عن التلوّث البيئي، الذي نتركه لأصحاب الاختصاص، فاللافت للنظر هو أن الأعماق تؤكد أنّ الأمور ليست كما نرى ونظنّ، خلال قراءتي لكتاب (قصّة الإيمان) علقت جملة في رأسي فحواها أنك تجد الأمان عند ساحل بحر العلم وتفقد هذا الشعور كلّما ذهبت للأبعد، وتوغّلت، فلكي نحافظ على صورة الأشياء الجميلة، هل ينبغي علينا، دائما أن نغضّ النظر عن الأعماق؟ كيف يمكننا فصل الباطن عن الظاهر، ونحن في عالم كلّ شيء فيه مكشوف للعيان؟ وفي زيارتي القادمة لنهر دجلة هل أستطيع أن أنظر إليه نظرتي الأولى، ضاربا عرض الحائط ما قاله الغوّاص (زانا الكردي) الذي رأى كل شيء !؟

المصدر: لجريدة عمان

إقرأ أيضاً:

ثالث حالة خلال ساعات.. انتحار شاب بسبب خلاف عائلي شرقي بغداد

ثالث حالة خلال ساعات.. انتحار شاب بسبب خلاف عائلي شرقي بغداد

مقالات مشابهة

  • ثالث حالة خلال ساعات.. انتحار شاب بسبب خلاف عائلي شرقي بغداد
  • الثانية خلال ساعات.. محاولة انتحار بالنفط الأبيض في بغداد
  • الدقم.. المدينة التي تُصنع لتُعاش
  • البيئة: جمع 390 كيلوجرامًا مخلفات بمحمية وادى دجلة خلال فعالية لنشر ثقافة الاستدامة
  • نائب يطالب باستقطاع ديون حكومة المركز التي بذمة الاقليم
  • زاهي حواس: فخور بمصر رغم الهجوم الذي تعرضت له في 2011
  • في عيد ميلادها الـ 54.. قصة انتصار إليسا على السرطان وحلم الأمومة الذي لم يتحقق
  • من هو أمجد الشوا الذي يطرح اسمه لتولي رئاسة اللجنة الإدارية في غزة؟
  • غرفة تجارة بغداد:الفساد المالي والإداري وراء الركود الاقتصادي الذي يضرب البلاد