انهيار «الردع» الأمريكي..كيف أسقط الابتكار اليمني أوهام الهيمنة التكنولوجية؟
تاريخ النشر: 6th, November 2025 GMT
الثورة / يحيى الربيعي
منذ اندلاع المواجهة في البحر الأحمر، اتضح أن الكيان الإسرائيلي وداعمته الأساسية الولايات المتحدة الأمريكية، لا يواجهان فقط قوة عسكرية على الأرض، بل يواجهان منظومة متكاملة من الثبات والتحصين الفكري، تنطلق من الثقافة القرآنية؛ إذ أن الردع الأمريكي، الذي طالما رُوّج له بالتهويل والموازنات المهولة، قد انهار فعلياً، مما كشف عن الفشل الذريع في القدرة على تحقيق الهيمنة، الأمر الذي يسرّع من تآكل نظام القطب الأحادي عالمياً.
وفي هذا السياق، لم يعد الإخفاق الأمريكي يقتصر على تكبد الخسائر المادية، التي تجلت في استنزاف صواريخ الملايين أمام المُسيَّرات اليمنية زهيدة الكلفة، بل امتد ليصبح هزيمة استراتيجية سمحت لقوى مثل الصين وروسيا باستغلال الفراغ الجيوسياسي الذي خلقته واشنطن بقرارها المنفلت بدعم العدوان على غزة. ومن هنا، يدرك اليمن أن المعركة لا تُحسم بالتفوق التكنولوجي الباهظ وحده، بل بـالإرادة القوية والابتكار المتجدد الذي أكد قائد الثورة السيد عبدالملك بدرالدين الحوثي أنه مستمر لتجاوز كل التعقيدات والتقنيات التي يمتلكها العدو.
ولمواجهة الحرب النفسية والإعلامية التي تسعى لتفكيك المجتمع المقاوم، فإن الاستراتيجية المعتمَدة ترتكز على تثبيت مركزية القضية الفلسطينية كواجب وجودي وإيماني لا يقبل المساومة، ومن ثم لا ترى المقاومة في عملياتها مغامرة عسكرية، بل تجسيداً لـ «وَأَعِدُّوا لَهُم مَّا اسْتَطَعْتُم مِّن قُوَّةٍ»، وهذا الربط العقائدي يعزز الوعي النقدي لدى الجمهور، الذي بات قادراً على تفكيك زيف الرواية الغربية وفقاً لمبدأ التبيّن القرآني، مما يجعله محصّناً ضد محاولات ضرب الثقة أو تجريد العمل المقاوم من دوافعه الأخلاقية.
وهذا التحصين الداخلي يمنح المقاومة القوة المعنوية اللازمة لتحويل أي تهديد خارجي إلى عامل ثبات؛ إذ أن اليقين الإيماني لدى المقاومين يؤكد أن الهيمنة الأمريكية، رغم ضخامتها، ليست أبدية وهي مجرد «قشة» أمام الإرادة المستمدة من الحق، خاصة وأن العدوان الغربي لم يضف لنفسه شيئاً سوى السقوط في الدونيّة باستمراره في استهداف المدنيين ودعمه لحرب الإبادة في غزة.
اعتراف أمريكي صامت.. «كوبرا بول» وثيقة الإقرار بالفشل
لم تكن «استراتيجيات الردع» الأمريكية مجرد تكتيك عسكري، بل كانت منهجية للتهويل والتضخيم ترمي إلى تحقيق الهيمنة قبل الدخول في عمل عسكري مباشر. وقد اعتمدت واشنطن في ذلك على استعراض متناوب، يكشف أحياناً عن أسلحة تزعم أنها استثنائية وخارقة، ويعلن أحياناً أخرى عن تخصيص موازنة مهولة للجانب العسكري، بغرض إرهاب أي دولة تطمح لرفع رأسها أو تحدي الهيمنة. ولكن، شاء من سحرتهم هذه البهرجة الزائفة أم أبوا، فإن جولة استعراض القوة واختبارها خلال العامين الماضيين، وبشكل خاص في المواجهة مع اليمن، قد كشفت حقيقة هذه المنهجية، وأثبتت أن النظريات والدعايات وحدها لا تكفي للصمود أمام الإرادة المبتكرة.
في تحول دراماتيكي يُعد دليلاً دامغاً على عجز استراتيجيتها السابقة، أقدمت واشنطن مؤخراً على نشر طائرات استطلاع وتجسس متطورة من طراز «RC-135S»كوبرا بول” في منطقة الخليج العربي. وهي طائرات، حسب التعريف الأمريكي، تعمل بأنظمة استشعار عالية الدقة لرصد وتتبع المقذوفات الباليستية وتحليل بياناتها لحظة الإطلاق، وتُستخدم عادة في مهام الإنذار المبكر ومراقبة التجارب الصاروخية.
لقد حملت هذه الخطوة الأمريكية، ومن حيث لا تدري، مدلول الإقرار بأن نظام عملها السابق في مواجهة القوات اليمنية كان فاشلاً وعاجزاً عن تحقيق الردع. كما تعكس هذه الخطوة تنامي المخاوف من القدرات الصاروخية اليمنية، خاصة بعدما ظهر منها خلال عمليات الدعم والإسناد لغزة من قدرة على تسجيل نقاط وانتزاع شهادات من عُقر الدار الأمريكي، تؤكد أن ضخامة الرقم “الدولاري” لقيمة السلاح لا تعني امتلاك الورقة الرابحة لحسم المعركة.
معركة الابتكار المتجدد
في سياق التصعيد المستمر ضد اليمن، تُثبت أمريكا تفاقم حالة السذاجة المزمنة التي تعيشها، إذ تتصور أن هذا التحرك – الذي رافقه تسويق إعلامي لافت من قبل التائهين في الفَلَك الأمريكي- يمكن أن يرهب اليمنيين فيدفعهم لرفع راية الاستسلام. بيد أن الواقع الميداني يُجيب بتحدٍ، فاليمن، انطلاقاً من المبدأ القرآني “وَأَعِدُّوا لَهُم مَّا اسْتَطَعْتُم مِّن قُوَّةٍ وَمِن رِّبَاطِ الْخَيْل”، ووعياً منه بحاجة مواجهة غطرسة الأعداء، ذهب منذ العام 2015م للإعداد لحروب حديثة.
وقد ترجمت هذه القناعة عملياً بصواريخ متطورة وطائرات مُسيَّرة لم تفلح التقنية الأمريكية -بتاريخها الطويل- في رصدها واعتراضها، سواء وهي تضرب سفن سلطات الاحتلال والمتعاونين معها والأساطيل الأمريكية الغازية، أو تستهدف المواقع الحيوية في عمق الكيان الإسرائيلي. وفي هذا الصدد، يؤكد قائد الثورة السيد عبدالملك الحوثي أن مسار المواجهة مع الأعداء “حوّل التحديات إلى فرص، وكان مساراً قائماً على الابتكار”، مشدداً على أن جزءاً من المعركة هو “معركة الابتكار المتجدد في تجاوز ما بحوزتهم من تقنيات وإمكانات”.
ووفق هذا المنطق، فإن استقدام واشنطن لأي من أسلحتها الصدئة لن يغير من الأمر شيئاً، بل قد يزيد من سقوط أوراق التوت عن قدراتها. فرغم امتلاكها لأنواع من الأسلحة المتطورة جداً، ظهرت هذه الأسلحة في المعركة مع اليمن عبئاً ثقيلاً، لارتفاع ثمنها وفشلها في اعتراض السلاح اليمني. فالتصنيع العسكري اليمني نجح -بشكل ملحوظ أقرّ به كل العالم- في إيقاف مسيَّرات الأسطورة الأمريكية في التجسس عن استباحة الأجواء، والأسطورة البحرية حاملات الطائرات عن استباحة المياه العربية والهيمنة على البحر الأحمر.
براعة الابتكار وشواهد تراجع الاستكبار
لقد أظهرت المواجهة المباشرة في اليمن أن القدرات التجسسية والهجومية الأمريكية، التي كانت تُعد أساطير لا تُقهر، ليست سوى أوهام هشة أمام الإرادة والإبداع، لاسيما حيث تتضافر المؤشرات لتؤكد أن الدولة المارقة أمريكا تعيش حالة من التراجع في سياقات متعددة، لاسيما الجانب العسكري. وقد كشفت اعترافات قيادات عسكرية أمريكية سابقة وحالية الاهتراء الذي أصاب كثيراً من أسلحة البنتاجون، ناهيك عن فشلها الذريع في الابتكار، بدليل عجزها -حتى اليوم- عن صناعة الصاروخ الفرط صوتي.
ويشهد على هذا التدهور استمرار تساقط الطائرات التابعة للأسطول الأمريكي. إذ تناقلت المصادر الإعلامية مؤخراً حادثتي سقوط لطائرتين تابعتين لحاملة الطائرات الأمريكية “نيميتز” في بحر الصين الجنوبي، بفاصل زمني لا يتجاوز 30 دقيقة. وقبل ذلك، وفي مايو الماضي، تسببت الهجمات اليمنية في البحر الأحمر في إرباك حاملة الطائرات “هاري ترومان” التي فقدت بوْصلة حركتها، فتسببت بسقوط طائرتين من طراز F/A-18 تبلغ قيمة الواحدة منها 60 مليون دولار، في حادثتين منفصلتين خلال أسبوع. هذه الحوادث المُحرجة تزيد من القناعة بحاجة أمريكا لأن تغادر لعب دور العسكري المتعجرف.
تُعد الميزانية العسكرية الأمريكية الأضخم عالمياً، ويُوجّه جزء كبير منها نحو محاولات الابتكار لنوعيات جديدة من الأسلحة. ومع ذلك، تشير المؤشرات إلى أن هذا الاستثمار الضخم لم يُنتج قفزات نوعية حقيقية قادرة على حسم المعارك غير المتكافئة.
أبرز مثال على فشل الابتكار هو استخدام صواريخ (إس إم-2، و6) – وهي صواريخ دفاعية متطورة تبلغ قيمتها ملايين الدولارات – في مواجهة سرب من الطائرات المُسيَّرة اليمنية رخيصة الكلفة. هذا التبادل غير المتكافئ ليس دليلاً على الكفاءة، بل على العجز التكتيكي والتقني، حيث يتم استنزاف المخزون الأمريكي الباهظ الثمن بفاعلية منخفضة التكلفة، وهو ما يُثبت أن السلاح الأمريكي قد تحول إلى عبء ثقيل على صاحبه.
وفي هذا الصدد، أشار موقع “ذا استراتيجيست” التابع لـ “المعهد الأسترالي للسياسة الاستراتيجية” إلى أنه من المكلف للغاية نشر هذه الصواريخ الاعتراضية ضد سرب من طائرات الجيش اليمني المُسيَّرة رخيصة الكلفة والمُنتَجة بكميات كبيرة. وأفاد الموقع بأن البحرية الأمريكية قد أطلقت بالفعل أكثر من 100 صاروخ من هذا النوع في البحر الأحمر، مؤكداً أن طلبات ميزانية البنتاغون لإعادة ملء هذه المخزونات تُظهر ضغوطاً مالية هائلة، مما يؤكد أن المنطق الاقتصادي للمعركة يخدم المقاومة بامتياز.
وفي الوقت الذي يصر فيه الأمريكي على لعب دور المقاتل بالوكالة نيابة عن كيان الاحتلال، يستمر تأثير الإجراءات اليمنية ضده. وقد خلق الحصار البحري حالة من الفوضى والعجز داخل الأروقة المالية والسياسية في الكيان الإسرائيلي لإنهاء الوضع القائم. وخلال جلسة عقدتها لجنة المالية في “الكنيست الإسرائيلية” لمناقشة وضع ميناء أم الرشراش “إيلات” المغلق، عبّر رئيس بلدية “إيلات” صراحة عن مخاوفه قائلاً: “عندما أسمع عن مسار النقاش، يبدو وكأننا سنُكرّس صورة إغلاق الميناء من قِبل الحوثيين.. ويجب ألا نُكرّس هذا الوضع. هذا غير منطقي… يدين الميناء حاليًا بأكثر من 10 ملايين شيكل…”.
قوة تتجاوز السذاجة المزمنة
إن الفشل الذريع للولايات المتحدة في مواجهة العمليات اليمنية غير المتكافئة في البحر الأحمر لا يُعد مجرد إخفاق عملياتي، بل هو نقطة تحول دراماتيكية تعصف بأسس الهيمنة الأمريكية وتُسرّع من وتيرة التحول نحو نظام عالمي متعدد الأقطاب. فعلى مدى عقود، حاولت أمريكا – بدعمها المطلق لكيان الاحتلال في حرب الإبادة على غزة – إرسال رسالة ردع واضحة إلى قوى كبرى مثل الصين وروسيا مفادها أنها لا تزال تمسك بخيوط العالم وتتحكم بمساراته. ولكن ما سعت له واشنطن من هذا التحدي والدعم المنفلت انتهى إلى حصاد مُخزٍ لا يحمل ما يمكن أن يؤثر في حسابات بكين وموسكو، بل يزيد من قناعتهما بـ “تآكل القدرة الأمريكية” على الردع والحسم.
وبالتالي، فإن الإصرار الأمريكي على إرهاب اليمنيين بنشر سلاح ما هنا أو هناك، كما حدث مع طائرات “كوبرا بول” التجسسية، لا يمثل سوى سذاجة مزمنة، فهو يتجاهل حقيقة أن اليمن، كما أكد قائد الثورة، يتبنى “مساراً قائماً على الابتكار” القادر على تجاوز التعقيدات وتحويل التحديات إلى فرص.
ما تحتاجه أمريكا اليوم ليس المحاولات العبثية في الإرهاب، التي لا تضيف لها إلا مستوى أعمق من السقوط في الدونيّة نظراً لتعمدها استهداف التجمعات السكانية والمنشآت المدنية دون أي وازع أخلاقي، وإنما البحث في واقع حالها الذي يتأكد فيه أنها لم تعد تملك إلا السُمعة في نفوس من خارت قواهم.
لقد أكدت هذه الجولة أن الرهان على التكنولوجيا المُنَمّقة وحدها قد خسر أمام الإرادة القوية والابتكار المتجدد الذي ينبع من إيمان بقضية عادلة. هذا الانهيار في التفوق التكنولوجي يمثل هزيمة لا تقل خطورة عن أي خسارة ميدانية، لكونه يقوض الأساس الذي بنت عليه واشنطن هيمنتها العالمية لعقود.
إن أمريكا معنية بالامتثال لمقتضيات السلام إن كانت تريد الحفاظ على ما بقي لها من سمعة، أما اليمن، فمنطلقاته ثوابت لا يمكنه التنازل عنها، وهذه الثوابت تدفعه لأن يكون في مستوى القدرة على حمايتها بلا أدنى اعتبار لمن يقف في المواجهة، فالكل أمام الإيمان والإرادة مجرد “قش”.
ثغرة بحرية تستغلها القوى المنافسة
لقد كشفت أزمة البحر الأحمر عنصرين حيويين للقوى المنافسة (روسيا والصين) تستغلهما ببراعة لتقويض النفوذ الأمريكي. لطالما اعتمدت نظرية الردع الأمريكية على حسابات الحرب الباردة، وبات واضحاً أنها عديمة الفائدة تماماً في ردع الهجمات التي تشنها قوى غير نووية أو قوى فاعلة هنا او هناك، كما أكدت مجلة “فورين أفيرز” الأمريكية. إن اضطرار واشنطن إلى “ربط النزاع بدلاً من الإخضاع” – كما وصفه بعض المحللين – أو القبول بشروط المقاومة (وقف الهجمات على السفن الأمريكية مقابل استمرار استهداف السفن المرتبطة بـ سلطات الاحتلال)، قد نقل اليمن من مجرد ساحة صراع داخلي إلى شريك قسري له شروطه، وهو ما يمثل تراجعاً مهيناً لقوة كانت تدّعي السيطرة المطلقة على الممرات الحيوية.
وأدى العجز الغربي عن تطوير استجابة متماسكة لسيطرة المقاومة على ممرات الشحن إلى خلق فراغ استراتيجي سارعت الصين وروسيا إلى استغلاله لتعزيز مشروع التعددية القطبية، دون الحاجة إلى هياكل تحالف رسمية، وفقاً لما ورد في تحليل نشره “يمن مونيتور”. إذ أدركت هذه القوى أن الارتباك وغياب التماسك في صنع السياسات الأمريكية، والتركيز على التهديدات الدعائية، يخلق بيئة مواتية لتعزيز مصالحها الاقتصادية والأمنية دون الحاجة للرضوخ لضغوط الغرب.
بكين وموسكو.. دروس مجانية
شاهدت القوى العالمية الكبرى بأعينها كيف تحولت القدرات الأمريكية، التي كان يُروج لها بأنها عصية على الاختراق، إلى عبء ثقيل يُستنزَف مالياً وينهزم أمام الابتكار اليمني المتجدد ورخص ثمن وسائله.
إن حصيلة الدعم الأمريكي المنفلت لـ الكيان الإسرائيلي لم تقتصر على نفاد مخزونها من الصواريخ الاعتراضية، بل أدت إلى تراجع تأثير قدراتها على الردع والحسم. وهذا السلوك المنحرف في التعامل مع القضايا الدولية، بات يقلق السلم العالمي ويُرسل رسائل سلبية:
للصين: أظهرت الأزمة أن الولايات المتحدة غير قادرة على تأمين الملاحة الدولية في ممر حيوي، مما يضع علامات استفهام كبيرة حول قدرة واشنطن على الدفاع عن حلفائها في بحر الصين الجنوبي أو منع أي تحرك صيني في المنطقة. تدرك بكين أن هذا الفشل يُعزز من احتمالية اعتماد الدول الإقليمية على خيارات أمنية بديلة، وقد وجدت في هذه التطورات فرصة استراتيجية لـ تقويض النفوذ الأمريكي.
ولروسيا: يُشكل انهيار “الردع” الأمريكي أمام المقاومة نموذجاً حياً يؤكد الضعف النسبي للهيمنة الأمريكية، ويدعم جهود موسكو لإنشاء نظام إقليمي متعدد الأقطاب بمشاركة قوى مثل الصين والهند، وفقاً لتحليلات نشرتها “ويبانقاه”. هذا الفشل يُسهم في تعزيز وجهات النظر العالمية المتعددة الأطراف ويدعم السيادة الوطنية للدول.
البنتاجون والقلق المزمن
يُعزز هذا الانهيار الجيوسياسي من القلق المزمن الذي يعيشه البنتاجون حول واقع قدراته العسكرية. إن استمرار تساقط الطائرات التابعة لحاملات الطائرات الأمريكية، مثل حادثتي سقوط طائرات “نيميتز” و”هاري ترومان” المربكة، يُعد مؤشراً إضافياً على الوضعية المتردية للآليات العسكرية الأمريكية، وهو ما يضيف إلى سجل فشلها في الابتكار.
لقد دفعت واشنطن المليارات وحصدت هزيمة استراتيجية سمحت للقوى المنافسة بتحقيق توافق استراتيجي يستغل الفراغ الذي خلقه الأمريكيون بأنفسهم. هذا التحول ليس مجرد تغير في موازين القوة المادية، بل هو تآكل للهيبة المعنوية التي كانت واشنطن تتمتع بها في السابق، وهو ما يُحفز المزيد من دول العالم على البحث عن مصالحها المتجددة باللجوء إلى تحالفات وتبادل منافع مع القوى الصاعدة.
المصدر: الثورة نت
كلمات دلالية: الکیان الإسرائیلی فی البحر الأحمر أمام الإرادة وهو ما ی
إقرأ أيضاً:
غزة واللعب تحت جغرافيا المصالح: الهيمنة التركية بين لعنة التاريخ وإغراء الجغرافيا
في الشرق الأوسط، لا تنتهي الحكاية عند هدير المدافع أو صمت البنادق، فثمة حرب أخرى تُدار بصمتٍ أشدّ ضجيجًا من الرصاص: حرب النفوذ. ومن بين كل خرائط النار الممتدة من جبال قنديل إلى صحراء سيناء، تظلّ غزة مساحة رمزية تختزل كل تناقضات المنطقة، ومرآةً يرى فيها كل لاعبٍ إقليمي انعكاس طموحه القديم.
اليوم، بينما العالم يتفرّج على مشهد إنساني غارق في الدمار، تُعيد أنقرة ترتيب أوراقها على رقعة الجغرافيا الفلسطينية، وكأنّها تستدعي ظلّ الإمبراطورية المفقودة لتمنح نفسها دورًا جديدًا تحت لافتة إنسانية، وهي في جوهرها سياسية محضة. فالرئيس التركي يدرك أن طريقه نحو النفوذ في المشرق لا يمرّ عبر الحرب فقط، بل عبر غزة، حيث تتقاطع المشاعر الإسلامية مع الحلم العثماني القديم، في لحظة تلتبس فيها المأساة بالفرصة.
لكنّ الجغرافيا لا تمنح مجدًا مجانيًا، فغزة التي كانت عبر التاريخ بوابة الأنبياء والمقاتلين والتجّار، تتحوّل اليوم إلى بوابة للمساومات الإقليمية. فمن خلف شعارات الدعم الإنساني، تنسج أنقرة خيوطًا دقيقة تربطها بملفات أكبر: شرق المتوسط، الطاقة، والحدود البحرية. وما يبدو تضامنًا إنسانيًا هو في الحقيقة استثمار سياسي في رمزية الدم الفلسطيني.
إنّ اللعب التركي تحت جغرافيا المصالح لا يختلف كثيرًا عن محاولات القوى الأخرى — من طهران إلى الدوحة إلى تل أبيب — في توظيف المأساة لصالح حسابات القوة. لكنّ الفارق أنّ أنقرة تمتلك خطابًا مزدوجًا يجمع بين الدين والسياسة، بين البكاء على أنقاض غزة والجلوس على طاولة تفاوض في الناتو، حيث تُصاغ توازنات القوة بلغة المصالح لا المبادئ.
في هذا المشهد الملتبس، يتقدّم الدور التركي وكأنه عودةٌ إلى التاريخ. لكنّ التاريخ لا يعود، بل يتكرّر بأقنعة جديدة. فبينما تُرفع الشعارات عن "تحرير القدس" و"نصرة فلسطين"، تتحرك في الخلفية مصالح اقتصادية مع إسرائيل نفسها، من الغاز إلى التجارة، في مفارقةٍ تفضح جوهر اللعبة: جغرافيا بلا قداسة، ومقدسات تُدار كملفّاتٍ سياسية.
ولأنّ الشرق الأوسط لا يحتمل فراغًا، تسعى القاهرة لتثبيت توازن جديد في وجه هذا التمدد.فمصر، التي تعرف جغرافيا غزة بقدر ما تعرف دماءها، لا يمكنها أن تترك البوابة الجنوبية في يد قوى تحركها الأيديولوجيا أكثر من الواقعية. ومن هنا، تتحول ساحة غزة إلى مساحة تنافس ناعم بين القاهرة وأنقرة، بين منطق الدولة العريقة ومنطق الزعامة العاطفية.
إنّ لعنة الجغرافيا في هذه المنطقة أنها لا تسمح بالحياد.فكل من يقترب من غزة، ينجذب إلى مغناطيسها التاريخي، ويغرق في طينها السياسي. ومع كل حربٍ أو هدنة، يتجدّد السؤال: من يملك الحق في التحدث باسمها؟ من يملك مفاتيح معابرها؟ ومن يدير دماءها كورقة تفاوض على طاولات القوى الكبرى؟
في النهاية، لا يمكن قراءة الدور التركي في غزة إلا في ضوء معادلة أوسع: من يملك بوابة الشرق يملك روايته.
وأنقرة، في سعيها لاستعادة المجد، تمارس السياسة كما لو كانت كتابةً جديدة على جدار التاريخ، لكنها تنسى أن الحروف هناك محفورة بدماءٍ لا تُمحى.
إنّ غزة ليست ميدانًا للهيمنة، بل مرآةً تكشف هشاشة الطموح حين يختلط بالدم، وتعيد تذكير الجميع أن الجغرافيا ليست لعنة في ذاتها، بل فيمن يظنّ أنه قادر على امتلاكها.
من غزة إلى بيروت: اتساع الطموح التركيمن غزة إلى بيروت ودمشق، يتكرّر المشهد ذاته، وإن اختلفت الأسماء والرايات. فتركيا، التي تسعى لترسيخ موطئ قدم على البحر المتوسط، تدرك أن طريقها لا ينتهي عند حدود فلسطين.
الملف اللبناني يفتح لها نافذة على شرق المتوسط الغني بالغاز، فيما تمنحها الساحة السورية رئةً استراتيجية تمتد حتى الحدود العراقية.
هكذا تتشكل خريطة النفوذ التركي الجديدة — من شمال حلب إلى سواحل غزة، ومن إدلب إلى الجنوب اللبناني — في محاولةٍ لبناء قوس جغرافي من النفوذ الرمزي والسياسي، يربط بين حنين التاريخ ومصالح الطاقة الحديثة.
لكنّ هذه الجغرافيا، مهما بدت مغرية، تظلّ محكومة بعاملٍ واحد: أنّ من يمدّ يده على خرائط الآخرين، لا يكتب مستقبلًا بل يُعيد تدوير ماضيه!!
اقرأ أيضاًواشنطن تُخطئ قراءة الجغرافيا السياسية لغزة.. ومصر تتحرك لترميم البيت الفلسطيني
الجغرافيا المقدّسة بين أطماع إسرائيل ومكانة السعودية