القول ما قاله المبعوث الأمريكي بولس

أحمد عثمان جبريل

منذ أن تسربت أنباء اللقاءات غير المباشرة بين وفدي الجيش والدعم السريع في واشنطن، عاد السؤال الكبير إلى الواجهة: ماذا يريد البرهان، وماذا يخشى؟.. وها نحن اليوم أمام مشهد جديد يفيض بالإشارات، حيث كشف المبعوث الأمريكي مسعد بولس أن الهدنة الطويلة دخلت مرحلة التفاصيل، تلك التي قال عنها بذكاءٍ بالغ: «هناك، في التفاصيل، يكمن الشيطان» وكأنّ صوت المبعوث الأمريكي جاء ليقول ما لم يقله أحد من قبل: أن الهدنة الطويلة لم تعد احتمالًا، بل واقعًا في طور الاكتمال.

يقول الفيلسوف أبو حيان التوحيدي:

«القول نصف الفعل، فمن أحسن قوله قرّب وقوعه».

1

ليس في حديث بولس ما يُدهش سوى صراحته غير المعتادة في دبلوماسيةٍ طالما احترفت التلميح.. قال الرجل بوضوح: «لقد اكتملت الموافقة المبدئية، وما تبقى هو النظر في التفاصيل، حيث يسكن الشيطان»..وهنا، في هذه الجملة البسيطة، تختبئ حقيقة ما يجري في واشنطن؛ أن الاتفاق لم يعد فكرة مطروحة، بل أصبح مسودة تنتظر التوقيع بعد أن جرى تمحيص تفاصيلها بندا بندا.

2

ولأن الشيطان، كما يقال، يسكن التفاصيل، فإن كثيرين في الخرطوم يخشون أن تتكشف في تلك التفاصيل التزامات لا يريدون مواجهتها، أو تنازلاتٍ لا يقوون على تبريرها.. ولذلك نسمع الإنكار في العلن والقبول في السر، ونرى الرفض في الخطاب والقبول في الفعل.. لعبة لغوية محنكة تدار من داخل أروقة الدولة العميقة التي لا تزال تمسك بخيوط السرد، حتى وإن تظاهر اللاعبون بأنهم في صراع مكشوف.

3

من القاهرة إلى واشنطن، ومن مقار الرباعية إلى غرف الفنادق المغلقة، يسير المسار التفاوضي بخطى ثابتة، محروسا بإرادة دولية لا تخطئ هدفها.. وما كل ما يقال في الإعلام سوى ضبابٍ متعمّد لتأخير إعلان الحقيقة الكبرى:” أن الأطراف، طوعا أو اضطرارا (قبلت هدنة طويلة المدى) تشكل بداية لتفاهم أوسع سيغير موازين الصراع.

4

الذين يهاجمون الوساطة الأمريكية اليوم هم أنفسهم الذين ينسقون معها ليلا عبر قنوات مغلقة، يرسلون الوفود ويدفعون المذكرات ويستقبلون المسودات، ثم يخرجون في الصباح ليهتفوا ضد “الإملاءات الخارجية”.. تلك الازدواجية لم تعد تخفى على أحد. فحديث بولس لم يكن كشفا لموقف أمريكي جديد، بل “تعريّة لموقف سوداني مزدوج”.

5

إنّ كل الأراجيف التي تنثر في الفضاء الإعلامي حول “عدم وجود مفاوضات” ما هي إلا محاولةٌ لإبقاء الشارع في حالة شكٍّ وريبة، بينما الحقيقة أن “المفاوضات قطعت شوطها الأكبر” وأنّ ما يجري الآن هو ضبط الإيقاع الأخير قبل الإعلان الرسمي.. وما يقال عن “إجراءات فنية” ليس إلا الاسم الدبلوماسي للاتفاق نفسه.

6

المسهّلون – أولئك الذين يقفون عند تخوم كل اتفاق – يدركون أن لحظة السلام قد تفتح ملفات الحرب القديمة، لذلك تراهم يسعون بكل دهاءٍ لإغلاق كل المنافذ التي يمكن أن يدخل منها “شيطان الفتنة”حتى لا تتسرب إلى الاتفاق روح المحاسبة أو شبح العدالة.. فهم لا يخافون الهدنة بحد ذاتها، بل يخافون ما بعدها.

7

وفي قلب هذا المشهد، يقف البرهان أمام مفترق حاسم: :فإما أن يعلن بوضوح أنه وافق على الهدنة الطويلة ويمضي بإجراءات تتناسب مع حجم القرار، أو يترك الآخرين يتحدثون باسمه في لغة غامضة تستهلك الزمن والدم.. إن القيادة في هذه اللحظة ليست في حمل السلاح، بل في امتلاك الشجاعة للاعتراف بأن الحرب بلغت مداها.

8

إن ما قاله بولس ليس خبرا عابرا، بل إشارة صريحة إلى أن المجتمع الدولي تجاوز مرحلة الإقناع إلى مرحلة التنفيذ.. فالاتفاق قادم لا محالة، وسيُعلن في لحظة قد تباغت الجميع، حين يكتمل نصه ويرفع القلم عن التفاصيل.. وما بين اليوم وتلك اللحظة، ستستمر الدولة العميقة في بث الشكوك، لكنها لن تغير مسار الأحداث.

9

القول ما قاله بولس، لأنه قال ما لم يقله غيره: أن الهدنة ليست احتمالا، بل اتفاق ينتظر ساعته.

وأن على كل من في قلبه مثقال ذرة من شك أن يدرك أن الزمن لم يعد حليف الوهم، وأن السودان، رغم كل العتمة، يسير بخطى مترددة نحو ضوء قد يطول انتظاره، لكنه قادم.

فالكلمة التي تقال في لحظة صدق، قد تكون أقوى من ألف معركة، وقد قالها بولس بوضوح فهل يسمع من بيده القرار؟. ما يعني أن ما يجري الآن ليس عبثًا ولا خديعة؛ بل إعادة تشكيلٍ عميقة لملامح الدولة السودانية، وأن الصراع الحقيقي لم يعد بين جيش ومليشيا، بل بين وطنٍ يريد أن ينجو، ودولة عميقة لا تريد أن تموت.. إنا لله ياخ.. الله غالب.

الوسومأبو حيان التوحيدي أحمد عثمان جبريل الجيش الدعم السريع السودان القاهرة المجتمع الدولي الهدنة كبير مستشاري الولايات المتحدة لشؤون أفريقيا مسعد بولس واشنطن

المصدر: صحيفة التغيير السودانية

كلمات دلالية: أبو حيان التوحيدي الجيش الدعم السريع السودان القاهرة المجتمع الدولي الهدنة واشنطن المبعوث الأمریکی ما قاله

إقرأ أيضاً:

تقرير: واشنطن تعتقد أن "الهدنة" بغزة صامدة طالما أن ضحاياها فلسطينيون فقط

غزة - ترجمة صفا

منذ دخول وقف إطلاق النار في غزة حيز التنفيذ في 10 أكتوبر/تشرين الأول 2025، برهنت "إسرائيل" مجددًا على أن إفلاتها من العقاب لا حدود له.

وبحسب تقرير موقع "كاونتر بنش" التحليلي؛ ففي أقل من عشرين يومًا منذ توقيع وقف إطلاق النار، قتلت "إسرائيل" 226 فلسطينيًا، وجرحت 594، وتواصل هدم المنازل كما يحلو لها.

وفي الفترة نفسها، انتهكت "إسرائيل" وقف إطلاق النار أكثر من 125 مرة؛ كان آخرها في 28 أكتوبر/تشرين الأول، عندما قصفت طائرات حربية إسرائيلية مدينتي غزة وخان يونس، ما أسفر عن استشهاد 109 أشخاص، بينهم 46 طفلاً و20 امرأة.

وبرر الرئيس دونالد ترامب قتل الأطفال الفلسطينيين قائلاً: "يجب على إسرائيل الرد".

وفي أحد الأهداف، سُوّيت مبانٍ سكنية بأكملها بالأرض في وسط غزة، ما أسفر عن استشهاد 18 فردًا من عائلة واحدة، مع ذلك، وصف نائب الرئيس الأمريكي، جيه دي فانس، الهجمات الإسرائيلية بأنها "مناوشات صغيرة "، مؤكدًا أن وقف إطلاق النار "صامد".

ووصف متحدث أمريكي استشهاد أكثر من 100 فلسطيني بأنه "محدود ومُستهدف".

بالنسبة لواشنطن، فإن الهدنة "صامدة" طالما أن الضحايا فلسطينيون، وأن المقاومة لا ترد.

وجاء في التقرير: لم يختلف الوسطاء الآخرون - مصر وقطر وتركيا - كثيرًا. بل ذهب رئيس وزراء قطر إلى حد التباهي بالتزام الطرفين بوقف إطلاق النار. وكأن التظاهر بالالتزام أهم من قتل 226 فلسطينيًا في ثلاثة أسابيع.

والأسوأ من ذلك، أنه بعد ساعات من إعلانه استئناف وقف إطلاق النار، قصفت إسرائيل بيت لاهيا شمال غزة، مما أسفر عن استشهاد اثنين على الأقل. وشنت "إسرائيل" المزيد من الهجمات منذ ذلك الحين.

ومنذ اليوم الأول، تجاهلت "إسرائيل" التزاماتها في الأحكام الرئيسية للاتفاقية. فعلى سبيل المثال، نص البند 7 على "إرسال مساعدات كاملة على الفور إلى قطاع غزة بمستويات تطابق 19 يناير 2025 - أي ما يقرب من 600 شاحنة يوميًا".

ووفقًا لمنظمات حقوق الإنسان الدولية، رفضت "إسرائيل" 99 طلبًا لتوصيل المساعدات إلى غزة في الأسبوعين الأولين بعد وقف إطلاق النار.

وحتى 1 نوفمبر، سمحت "إسرائيل" في المتوسط، بدخول 145 شاحنة فقط يوميًا إلى القطاع، أو 24٪ فقط من "المساعدات الكاملة" بموجب اتفاق وقف إطلاق النار، علاوة على ذلك، منعت "إسرائيل" الأونروا من توفير المأوى والإمدادات الغذائية لـ 1.3 مليون إنسان، وهذا يتعارض مع حكم محكمة العدل الدولية الذي يأمر "إسرائيل" على وجه التحديد بالسماح للأونروا بالعمل بحرية.

وتُعدّ الانتهاكات الإسرائيلية للاتفاقيات نمطًا إسرائيليًا مألوفًا. ففي جنوب لبنان، طالب اتفاق وقف إطلاق النار إسرائيل بالانسحاب من الأراضي اللبنانية بحلول 26 يناير/كانون الثاني 2025. وبعد عشرة أشهر، لا تزال "إسرائيل" تحتل مواقع داخل لبنان وتشنّ هجمات يومية على أهداف في جميع أنحاء لبنان.

وكما هو الحال في غزة، يبدو أن الولايات المتحدة وفرنسا، اللتين توسطتا في ذلك الاتفاق، غير مكترثتين بالانتهاكات الإسرائيلية. ومن المفارقات أن هاتين الدولتين ستُبديان، كما هو متوقع، "الغضب والإدانة" إذا ردّت المقاومة اللبنانية على "إسرائيل".

فبالنسبة للكيان، الاتفاقيات تُعقد حسب الطلب، تأخذ ما يناسبها، بينما ترفض الوفاء بالتزاماتها. كل ما أرادته إسرائيل من اتفاق وقف إطلاق النار هو عودة أسراها. بمجرد تأمين ذلك، حصلت على حرية التصرف في غزة كما تشاء.

وقال التقرير إن وقف إطلاق النار ليس سوى واجهة تسمح لإسرائيل بإدارة "نظام غذائي جوع" لأكثر من مليوني إنسان.

وبتقليل أهمية الانتهاكات الإسرائيلية لوقف إطلاق النار، حوّلت الولايات المتحدة وشركاؤها العرب ما كان ينبغي أن يكون التزامًا متبادلًا إلى رخصة حرب من طرف واحد.

وعندما لا تُواجَه الخروقات الإسرائيلية، تُحوّل إدارة ترامب والوسطاء العرب تلك الانتهاكات إلى سياسة مقبولة.

وقال إن استراتيجية "إسرائيل" هي خلق "وضع طبيعي جديد"، والاختباء وراء وقف إطلاق النار للحفاظ على الوضع الراهن، وترسيخ احتلال دائم، و"مناطق أمنية"، وجعل قتل الفلسطينيين أمرًا روتينيًا.

وأكد أن هذا هو الوضع الطبيعي الجديد، حيث تُنفذ "إسرائيل" توغلات منتظمة في سوريا وتهاجم لبنان، والآن غزة، دون أي اعتراض. في هذا الإطار، تُصبح وقف إطلاق النار تكتيكات خادعة لترسيخ الاحتلال وتطبيع العدوان.

واختتم التقرير بالقول إنه ما دامت واشنطن ودكتاتوريوها العرب التابعون لها يُبرئون الانتهاكات الإسرائيلية ويصفونها بـ"المناوشات"، وما دامت أرواح الفلسطينيين قابلة للتضحية بها في ظل نظامٍ تُعلن فيه "وقفات إطلاق النار" في البيانات الصحفية فقط لتباهي بأنا ترامب النرجسية، وحيث يمكن لأحد الطرفين انتهاك الاتفاقيات دون عواقب، فإن "وقفات إطلاق النار" تُشرعن حربًا أحادية الجانب دائمة. وهكذا، يُكشف "سلام" ترامب كأداةٍ تفاوضية تُعيد لإسرائيل نفوذها في التجويع وارتكاب الفظائع الجماعية دون عقاب.

مقالات مشابهة

  • لا بد أن مسعد بولس وقع في حيرة عظيمة
  • وزير الدفاع السوداني: الجيش سيواصل القتال رغم مقترح الهدنة الأمريكي
  • مجلس الأمن والدفاع السوداني يبحث مقترح هدنة أميركي لإنهاء النزاع الدامي
  • حكومة البرهان تدرس مقترحا أميركيا لوقف الحرب في السودان
  • بولس يتحدث عن موافقة مبدئية على الهدنة و يحذر من السناريو الليبي
  • أبو الغيط يبحث مع المبعوث الأمريكي لأفريقيا تطورات الوضع في السودان
  • لماذا يجب وقف أي نقاش مع مسعد بولس حول الهدنة ولو على سبيل المناورة السياسية؟!
  • الحكومة السودانية: لا تفاوض مع الدعم السريع بشأن الهدنة
  • تقرير: واشنطن تعتقد أن "الهدنة" بغزة صامدة طالما أن ضحاياها فلسطينيون فقط