معادلة الحدود.. كيف تقرأ إسرائيل مصادر التهديد وتنتقي خصومها؟
تاريخ النشر: 3rd, December 2025 GMT
منذ تأسيس وترسيخ المشروع الاستيطاني في الأراضي الفلسطينية، بدأت دولة الاحتلال الإسرائيلي بتشييد قوة ردع استراتيجية تستهدف لمنع جيرانها العرب الأربعة المتاخمين لحدودها المصطنعة من المطالبة بأي جزء من الحقوق الفلسطينية المسلوبة، ورافقت هذه المرحلة المبكرة موجة دعم غربي واسع، شملت المال والسلاح والتقنيات العسكرية، لضمان تفوق إسرائيل العسكري ومن ثم السياسي في الإقليم.
وتواصل إسرائيل، خلال العقود التالية، تعزيز هذه القوة عبر حروب شكلت محطات مفصلية في تشكيل عقيدتها الأمنية، بدءاً من حرب النكبة، مرورا بالعدوان الثلاثي على مصر، ثم حرب النكسة، وحرب الاستنزاف، وحرب أكتوبر، وصولا إلى الاجتياحات المتكررة للبنان، وتشكّل هذه الجولات الحربية سلسلة متصلة رسمت حدود الردع الإسرائيلية، وفرضت معادلات جديدة على جيرانها العرب.
وتسير هذه الحروب جنباً إلى جنب مع مسار طويل من التهدئات الممتدة التي تحولت لاحقا إلى تفاهمات سياسية وعلاقات اقتصادية، خصوصاً في ملفات الطاقة كما هو الحال مع مصر، إضافة إلى موجة التطبيع التي توجت بأطروحة “اتفاقيات أبراهام”.
وخلال كل تلك الحقب، عملت دولة الاحتلال على إعادة ترتيب أولوياتها العدوانية، عبر تصنيف الخصوم وفق مستوى التهديد، وانتقاء “الأعداء العاجلين” الذين يجب مواجهتهم أو تحجيم قوتهم، مقابل اختيار “حلفاء ظرفيين” توظفهم لخدمة استراتيجيتها الإقليمية، سواء في احتواء جبهات معينة أو فتح قنوات تعاون تضمن استمرار تفوقها العسكري والسياسي.
من الشمال.. حزب الله أبرز الخصوم
في هذا السياق، يبرز حزب الله الذراع الإيراني كالخصم الأبرز في معادلة الحدود الشمالية، حيث يصنف كتهديد وجودي مباشر بسبب ترسانته الصاروخية البالغة مئات الآلاف من الصواريخ الدقيقة القادرة على إغراق الأراضي المحتلة بضربات يومية، وفق تقديرات سابقة لجيش الاحتلال الإسرائيلي.
من جانبه، قال اللواء غادي أيزنكوت، رئيس القيادة الشمالية السابق، في تصريحات نقلتها شبكة "بي بي سي": "حزب الله يمثل قاعدة عسكرية مدنية، وإيذاء السكان المدنيين هو الوسيلة الوحيدة لكبح جماحه"، مشيرا إلى عقيدة "القوة غير المتناسبة" ضد البنى المدنية المرتبطة بالحزب.
وكثّف جيش الاحتلال، منذ أواخر عام 2024، عملياته ضد حزب الله رغم وجود اتفاقية الهدنة، فشنّ غارات جوية على مصانع السلاح في البقاع وضواحي بيروت، ونفّذ عمليات برية محددة في جنوب لبنان.
ويتمثل الهدف المعلن لهذه العمليات في منع الحزب من إعادة تأهيل قدراته وفرض ترتيب أمني جديد في لبنان يشمل نزع سلاحه عبر اتفاق دولي، وأخيرا، عرض جيش الاحتلال الإسرائيلي خطة هجومية واسعة ضد مواقع حزب الله في بيروت استعدادا لاحتمال التصعيد، وفق ما نقلته صحيفة "يديعوت أحرونوت".
الجنوب.. حدود مصرية آمنة وعلاقة مستقرة
ترى دولة الاحتلال حدودها مع مصر الأكثر استقرارا في المنطقة بفضل معاهدة السلام الموقعة عام 1979، والتي صمدت رغم التغيرات السياسية وتحشد الجيش المصري بين الحين والآخر وتهريب الأسلحة بالطائرات المسيرة خلال أوقات متفاوتة، ويضمن الاتفاق آلية اتصال مستمرة بين الجانبين، ما يجعل احتمالات التصعيد العسكري شبه معدومة.
التعاون الأمني
ويشكّل التنسيق الأمني في سيناء عاملا حاسما في طمأنة إسرائيل، إذ يتعاون الطرفان في ملاحقة الجماعات الجهادية وضبط الحدود ومنع تهريب السلاح، وعزز هذا التعاون المنهجي الثقة بين الطرفين وخلق مصالح أمنية مشتركة يصعب التفريط بها.
غياب التهديد المباشر
ومنذ اتفاق السلام، غير الجيش المصري عقيدته القتالية ولم يعد يعتبر إسرائيل خصما مباشرا، ما قلل التوتر على الحدود الجنوبية، وعلى عكس حزب الله، لا تمتلك مصر خطابا عدائيا أو نشاطا عسكريا موجها ضد إسرائيل.
غياب النفوذ الإيراني
تعتبر إسرائيل أن مصر دولة مستقلة في قرارها السياسي، على النقيض مما يحدث في لبنان وسابقا في سوريا قبل سقوط نظام المخلوع بشار، وتعتبر مصر بعيدة عن المحاور الإقليمية التي تناصب إسرائيل العداء، وتتعامل إسرائيل مع القاهرة كطرف دولي يمكن التفاهم معه عبر الدبلوماسية والقنوات الرسمية.
المصالح الاقتصادية
ويعزز التعاون الاقتصادي شعور إسرائيل بالأمان تجاه مصر، إذ تربط الجانبين اتفاقات تجارية ومشاريع غاز كبرى عبر منتدى غاز شرق المتوسط، وتخلق هذه الشراكات مصالح متبادلة تجعل الاستقرار الحدودي ضرورة للحفاظ على تدفّق الطاقة والاستثمارات.
سوريا اليوم.. ماذا تعني لإسرائيل؟
في المقابل، تتعامل دولة الاحتلال مع الرئيس السوري أحمد الشرع بتجاهل حذر، معتبرة حكومته تهديدا تكتيكيا محدودا لا يستدعي مواجهة شاملة أو تصعيدا كبيرا.
ويفتقر الجهاديون في سوريا، بما فيهم أولئك ذوي الماضي الجهادي مثل الشرع نفسه الذي أسس جبهة النصرة، إلى الترسانة الصاروخية بعيدة المدى والدعم الإقليمي المنظم كالذي يمتلكه حزب الله، مما يجعلهم "مشروعا محليا مضبوطا" داخل الجغرافيا السورية، منشغلين بالصراع الداخلي مع بقايا النظام والفصائل الأخرى.
التحول الذي يعطي إشارة طمئنة لإسرائيل
وقاد الشرع تحولا جذريا من زعيم تنظيم جهادي توسعي عابر للحدود إلى سلطة سياسية محلية منفتحة على العالم، حيث أعلن في كانون الأول/ديسمبر 2024 حل هيئة تحرير الشام ودمجها في هيكل دولة انتقالية، معتبرا أن "إدارة الدولة بعقلية الفصائل لا تخدم الاستقرار"، كما جاء في مقابلة صحفية حينها.
وبرز الشرع في واحداة من أبرز تحولاته حين انضم إلى التحالف الدولي ضد تنظيم "الدولة"، متخليا عن خطابه الجهادي العابر للحدود، ومتجها نحو حكومة إنتقالية ليخوض فيها المحافل الدولية.
وترافق هذا التحول مع تركيز متزايد على المصالحة الوطنية وحماية الأقليات، وهي رسائل برزت بوضوح خلال مشاركته في "مؤتمر النصر" بدمشق، بما يعكس انتقاله من قيادة تنظيم مقاتل إلى لعب دور سياسي داخل المشهد السوري، إلى جانب توقيعه اتفاقا "ورقيا" مع قوات سوريا الديمقراطية لدمج مؤسساتها داخل الدولة.
رغم ذلك، يلتزم الشرع بطلب الهدنة والاتفاقات الإقليمية، حتى مع إسرائيل، رغم شنها آلاف الغارات على سوريا منذ 2024 "أكثر من 1000 غارة"، تركزت على مدن الجنوب السورية بذريعة حماية الدروز.
هذا الالتزام يوضح انسلاخه من الأفكار الجهادية التوسعية السابقة، حيث أعرب عن نيته تسهيل عودة اللاجئين وصياغة دستور جامع، وتلقى تهاني من قادة عرب مثل ملوك السعودية وقطر والأردن والإمارات ومصر، مما يجعله "رئيسا انتقاليا" مقبولاً إقليميا.
وفي مقابلة سابقا مع "سي بي إس نيوز"، أكد الشرع أن "سوريا اليوم دولة حلت فيها كل الفصائل، ولا مكان لعقلية الجهاد العابر للحدود".
كما يفسر محللون في "الغارديان" هذا التجاهل بأن إسرائيل ترى في الشرع "مشروعا انتقاليا مفيدا للاستقرار السوري المحدود، يحجز الإيرانيين دون تكلفة عسكرية إسرائيلية إضافية".
الشرق.. حاجز أردني والتزام بالاتفاقيات
يعتبر الأردن جارا استراتيجيا أساسيا لإسرائيل ضمن معادلة الحدود، حيث تجمعهما معاهدة وادي عربة التي ساهمت في تعزيز التعاون الأمني والاقتصادي بين البلدين، رغم وجود توتر شعبي واسع في الأردن ضد التطبيع.
تُشكّل الحدود الأردنية الإسرائيلية المصطنعة أطول حدود إسرائيل الشرقية (307 كم)، وتُعتبر خط دفاع جغرافي استراتيجي ضد أي تهديدات من العراق أو سوريا، كما أكد الملك عبدالله الثاني التزام الأردن بالاتفاقيات، معتبرا إياها ضمانة للأمن الوطني.
ويعمل الأردن بشكل مشترك معها على مكافحة التهديدات، خاصة منع تسلل الجهاديين من سوريا إلى الداخل الإسرائيلي، وقد أوقفت قواته آلاف محاولات التهريب بحسب تقارير إعلامية .
وخلال حرب الـ 12 يوما بين إيران ودولة الاحتلال، اعترض الأردن بنجاح مجموعة من الصواريخ الإيرانية الموجهة إلى الأراضي المحتلة، ما شكل أول تدخل أردني مباشر في مواجهة تهديد إيراني مباشر على جاره الغربي، وقد ورد في تقرير لوكالة رويترز أن الاعتراض الأردني جاء في سياق تنسيق استخباراتي وأمني مع تل أبيب، معززا دور الأردن كحارس أمني هام للحدود وحامي الاستقرار الإقليمي.
ويبين هذا الانتقاء عقيدة الردع الإسرائيلية التي تتضمن استنزاف الخصم الاستراتيجي المباشر "حزب الله" مع احتواء التهديدات التكتيكية "الجهاديون المنتقلون إلى الإدارة السياسية مثل الشرع"، مستفيدة من تحولاته نحو البراغماتية والانفتاح الإقليمي، رغم ماضيه الجهادي، للحفاظ على توازن حدودها الشمالية دون حروب متعددة الجبهات.
المصدر: عربي21
كلمات دلالية: سياسة اقتصاد رياضة مقالات صحافة أفكار عالم الفن تكنولوجيا صحة تفاعلي سياسة اقتصاد رياضة مقالات صحافة أفكار عالم الفن تكنولوجيا صحة تفاعلي سياسة سياسة عربية مقابلات حقوق وحريات سياسة دولية الإسرائيلي مصر سوريا سوريا مصر الاردن إسرائيل أخبار المزيد في سياسة سياسة سياسة سياسة سياسة سياسة سياسة سياسة سياسة سياسة سياسة سياسة سياسة سياسة سياسة سياسة سياسة اقتصاد رياضة صحافة قضايا وآراء أفكار عالم الفن تكنولوجيا صحة دولة الاحتلال حزب الله
إقرأ أيضاً:
عاجل. ترامب يشيد بالشرع ويحذّر إسرائيل.. ما خلف رسالته غير المألوفة إلى تل أبيب بشأن سوريا؟
دعا الرئيس الأمريكي دونالد ترامب إسرائيل إلى الحفاظ على قنوات تواصل مفتوحة مع سوريا، عقب العملية العسكرية التي نُفّذت قبل أيام في بلدة بيت جن بريف دمشق وأدّت إلى تصاعد التوتر بين الجانبين، محذرًا من أي خطوة قد تُزعزع استقرار سوريا.
وقال ترامب في منشور عبر وسائل التواصل الاجتماعي يوم الاثنين: "من المهم جدًا أن تحافظ إسرائيل على حوار قوي وحقيقي مع سوريا، وألّا يحدث أي أمر يعيق تطور سوريا إلى دولة مزدهرة".
وأشار كذلك إلى أنّ "الرئيس السوري الجديد، أحمد الشرع، يعمل بجد لضمان تحقيق نتائج إيجابية، ولضمان أن تحظى سوريا وإسرائيل بعلاقة طويلة ومزدهرة معًا. هذه فرصة تاريخية، وتضيف إلى النجاح الذي تحقق بالفعل، من أجل السلام في الشرق الأوسط".
ولفت ترامب إلى أن الولايات المتحدة "راضية جدًا عن النتائج التي تحققت في سوريا بفضل العمل الجاد والعزيمة"، لافتًا إلى أن واشنطن "تبذل كل ما في وسعها لضمان استمرار الحكومة السورية في أداء ما هو مقصود منها، وهو أمر أساسي لبناء دولة حقيقية ومزدهرة".
وأضاف أن من بين الخطوات التي ساعدت سوريا "رفع العقوبات القاسية والمؤلمة للغاية"، معتبرًا أن "سوريا وقيادتها وشعبها قدّروا ذلك حقًا".
ورغم أن ترامب لم يوجّه انتقادًا مباشرًا للعملية الإسرائيلية، فإن تعليقه الذي يدعو فيها إسرائيل إلى توخي الحذر في المنطقة بدا غير مألوف.
Related تصعيد إسرائيلي في سوريا مع استمرار العمليات في الضفة الغربية وغزةمن عملية بيت جن إلى سؤال المرحلة: ماذا تريد إسرائيل من سوريا؟سوريا: هدوء حذر بعد مواجهات أعقبت تظاهرات للعلويين في حمص ومناطق الساحلوعقب تحذير ترامب لإسرائيل، أعلن مكتب رئيس الوزراء أن ترامب دعا بنيامين نتنياهو لزيارة البيت الأبيض "في المستقبل القريب".
ويأتي ذلك في وقت يواصل فيه نتنياهو السعي للحصول على عفو في قضية الفساد المرفوعة ضده منذ سنوات، وهو مطلب سبق أن حظي بتأييد من ترامب.
تحركات إسرائيلية متواصلةشهدت بلدة بيت جن، فجر الجمعة 28 نوفمبر، عملية عسكرية جديدة تخلّلها اقتحام إسرائيلي. وبعد ساعات، نفّذ الجيش الإسرائيلي ضربة جوية على البلدة، ما أسفر عن وقوع قتلى وجرحى واعتقالات، في امتداد لأشهر من التحركات العسكرية المتصاعدة، ومئات الضربات التي نفّذتها الدولة العبرية في سوريا.
هذا وشهد ريف محافظة القنيطرة جنوب غربي سوريا، اليوم الإثنين، تحركات عسكرية جديدة للجيش الإسرائيلي، في توغل وصفته الوكالة السورية للأنباء (سانا) بأنه "انتهاك جديد للسيادة السورية".
ومنذ سقوط نظام بشار الأسد، رسّخت إسرائيل وجودها في عدة مواقع بجنوب غرب سوريا، مبرّرة ذلك بأنه انتشار مؤقت لحماية مواطنيها من جماعات تصفها بأنها "متطرفة".
كان الرئيس السوري الانتقالي أحمد الشرع قد كشف، في مقابلة مع صحيفة "واشنطن بوست"، أن حكومته تخوض مفاوضات مباشرة مع إسرائيل، مشيرًا إلى تحقيق "تقدم كبير"، لكنه شدّد على أن الوصول إلى اتفاق نهائي يظل مرتبطًا بانسحاب إسرائيل إلى حدود ما قبل 8 ديسمبر/كانون الأول، أي قبل سقوط الأسد.
كما أنّ لقاءً جمع الشرع بالرئيس ترامب في البيت الأبيض، في إطار التواصل السياسي القائم بين الجانبين. وأعلنت وزارة الخزانة الأمريكية آنذاك تعليق العقوبات المفروضة على سوريا بموجب قانون قيصر، في خطوة تهدف إلى دعم التعافي الاقتصادي.
ومثّل هذا اللقاء محطة إضافية في مسار الشرع، الذي انتقل من قيادة مجموعة مسلّحة إلى الرئاسة الانتقالية، فيما بدأت دمشق تعيد توجيه تحالفاتها بعيدًا عن إيران ومتجهة نحو تعزيز علاقاتها مع تركيا ودول الخليج والولايات المتحدة.
وكان ترامب قد التقى الشرع للمرة الأولى في السعودية في مايو الماضي، واصفًا إياه بأنه "رجل قوي". وتتولى واشنطن في الوقت نفسه الوساطة في المحادثات الأمنية بين سوريا وإسرائيل، مع بحث خيارات لإقامة وجود عسكري أمريكي في قاعدة جوية بدمشق، وفق وكالة رويترز.
انتقل إلى اختصارات الوصول شارك محادثة