بعد عام كامل على سقوط النظام في سوريا، يعود ملف المعتقلين ليحتل واجهة المشهد من جديد، وهذه المرة عبر ما عرف بـ"ملفات دمشق"؛ وهي كمية ضخمة من الوثائق والصور والتقارير الرسمية التي خرجت من أرشيف أجهزة الأمن، حاملة معها ما يكفي لفتح واحد من أعمق جروح السوريين وأكثرها إيلاما.

ومع التدفق الهائل لهذه الوثائق، تصاعدت وتيرة التغطية الإعلامية، وتسابق كثيرون نحو نشر ما يصلهم، حتى بدا الأمر أحيانا وكأنه سباق لإحراز سبق صحفي أكثر منه تعامل مع ملف وطني وإنساني على درجة عالية من الحساسية.



وهنا يبرز السؤال الحقيقي: هل تُقرأ ملفات دمشق بوصفها سبقا إعلاميا؟ أم بوصفها استحقاقا وطنيا يتعلق بذاكرة دولة ومستقبل شعب؟

هذا السؤال لا يتعلق بالإعلام وحده، بل يمسّ جوهر المرحلة السورية بعد السقوط، ويضع الحقيقة في موقعها الطبيعي: ركيزة لإعادة بناء ما تهدم، لا مادة للتنافس أو الاستعراض.

ملفات دمشق.. بين جاذبية الكشف ومغريات السبق
المطلوب ليس إبطاء الإعلام ولا تسريع العدالة، بل تنظيم العلاقة بينهما: إعلام مسؤول لا يضرّ بالقضية، وعدالة تستفيد من قوة الإعلام في كشف الحقيقة وتثبيتها
لا يمكن إنكار أن ما ظهر من وثائق يملك جاذبية إعلامية كبيرة: صور صادمة، ملفات رسمية، قوائم بأسماء مفقودين، محاضر تحقيق، تقارير وفاة. هذه عناصر كافية لإحداث تأثير واسع، ولتحريك اهتمام الرأي العام داخليا وخارجيا.

لكن القيمة الحقيقية لهذه الوثائق ليست في ندرتها، بل في دلالتها: إنها شهادة مباشرة على سنوات طويلة من القمع والإخفاء القسري، وعلى منظومة أمنية جرّدت الإنسان من اسمه وحياته ووجوده.وبالتالي، فإن التعامل معها بمنطق السبق الصحفي وحده يختزل القضية، ويحوّل الألم السوري إلى مادة خبرية عابرة.

استحقاق وطني.. لأن الحقيقة ليست ملكا لأحد

ملفات دمشق ليست ملكا لوسيلة إعلامية، ولا حتى لجهة سياسية، إنها ملكٌ للضحايا وأهاليهم، وللسوريين الذين دفعوا ثمن الصمت والإنكار لعقود. القيمة الوطنية لهذه الوثائق تكمن في قدرتها على:

• كشف مصائر المفقودين والمختفين.

• دعم مسار العدالة الانتقالية بأدلة يصعب الطعن فيها.

• منع تكرار الانتهاكات عبر بناء ذاكرة وطنية موثقة.

• إعادة الاعتبار لأصحاب الحقوق وللحقيقة نفسها.

تحويل ملف المعتقلين إلى ساحة تنافس إعلامي ليس فقط تجاهلا للمأساة، بل إعادة إنتاج لجانب من الظلم الذي عاشه السوريون.

بين سرعة الإعلام وبطء العدالة.. أين تقع المصلحة العامة؟

من طبيعة العمل الإعلامي السرعة، والبحث عن النشر الأول، ومن طبيعة العدالة التريث، والتثبت من الأدلة، وحماية الشهود والمعلومات. هذا الاختلاف في الوتيرة قد يخلق تضاربا خطيرا:

• نشر الوثائق دون تدقيق قد يعرض أشخاصا أو عائلات للخطر.

• أو يضيّع تسلسل الأدلة الضروري لأي تحقيق قضائي.

• أو يقدم سردية غير مكتملة يستخدمها البعض لاحقا للتشكيك في الملف كله.

ولهذا فإن المطلوب ليس إبطاء الإعلام ولا تسريع العدالة، بل تنظيم العلاقة بينهما: إعلام مسؤول لا يضرّ بالقضية، وعدالة تستفيد من قوة الإعلام في كشف الحقيقة وتثبيتها.

كيف يجب التعامل مع الوثائق.. وما دور المؤسسات المعنية؟

إن التعامل مع ملفات دمشق اليوم لا يمكن أن يبقى في حدود التفاعل الإعلامي أو الجهد الفردي، بل يحتاج إلى مسار مؤسسي منظم تشترك فيه جهات محلية ودولية متعددة. وفي مقدمة هذه الجهات تأتي الهيئة الوطنية للمفقودين والمؤسسة المستقلة المعنية بالمفقودين في الجمهورية العربية السورية، اللتان تقع على عاتقهما مسؤولية تحويل الكمّ الهائل من الوثائق المسرّبة إلى قاعدة بيانات موثوقة، عبر الفرز والتحقق وحماية المعلومات الحساسة، ثم التواصل مع عائلات الضحايا ضمن قنوات آمنة.

كما يبرز دور الآلية الدولية المحايدة والمستقلة (IIIM) التابعة للأمم المتحدة، ولجنة التحقيق الدولية الخاصة بسوريا (COI)، إضافة إلى اللجنة الدولية للصليب الأحمر ودوائر الطب الشرعي الدولي، وهي جهات تملك الخبرة في التعامل مع الأدلة وفق معايير العدالة الدولية.

وتتطلب المرحلة الحالية إنشاء غرفة تنسيق مشتركة تجمع هذه الأطراف مع منظمات حقوقية سورية مستقلة وخبراء أرشفة رقمية، بهدف ضمان معالجة الوثائق بشكل مهني يحفظ قيمتها القانونية. وتشمل الخطوات العملية: توحيد منهجيات التوثيق، وتحديد مستويات السرية، وحماية بيانات الناجين والشهود، وضمان أن تنتقل الوثائق ذات القيمة القضائية إلى جهات التحقيق المختصة في الداخل والخارج.

وفي المقابل، ينبغي على المؤسسات الإعلامية الالتزام بمبادئ النشر المسؤول، وتجنب تعريض العائلات أو الشهود للخطر عبر نشر معلومات حساسة، مع التنسيق الوثيق مع الجهات الحقوقية لضمان أن يسهم كل نشر مهما كان توقيته في خدمة الحقيقة والعدالة لا في إرباكهما.

إن هذا التكامل بين المؤسسات المحلية والدولية والإعلام يضمن أن تتحول ملفات دمشق من وثائق صادمة إلى مسار منظم لاستعادة الحق والاعتراف والعدالة.

دور الإعلام في سورية الجديدة: من ناقل للخبر إلى شريك في الوعي
لحظة مواجهة مع واحدة من أثقل صفحات التاريخ السوري، والتعامل معها بجدية ومسؤولية هو استحقاق وطني قبل أن يكون خيارا مهنيا
في المرحلة الجديدة، لا يمكن للصحافة أن تكتفي بدور الناقل، بل عليها أن تتحول إلى شريك في إعادة بناء الوعي الوطني، عبر:

1. احترام كرامة الضحايا في كل ما تنشره.

2. وضع الوثائق في سياقها القانوني والوطني.

3. التدقيق الصارم قبل النشر.

4. تجنب الإثارة لصالح الحقيقة.

5. المساهمة في حفظ الوثائق لا تبعثرها.

الإعلام هنا جزء من عملية منع تكرار المأساة، لا مجرد راصد لها.

خاتمة: الحقيقة أساس بناء الوطن الجديد

ما تكشفه ملفات دمشق ليس حدثا إعلاميا، وليس انتصارا لأي جهة، بل لحظة مواجهة مع واحدة من أثقل صفحات التاريخ السوري، والتعامل معها بجدية ومسؤولية هو استحقاق وطني قبل أن يكون خيارا مهنيا.

السبق الصحفي ينتهي.. أما الحقيقة فتبقى، وتشكل أساس بناء سورية جديدة لا تشبه ما قبلها. وفي النهاية، لن يهم السوريين من نشر أولا، بل كيف حفظوا هذه الحقيقة، وكيف استخدموها كي لا يُعاد إنتاج المأساة من جديد.

الحقيقة هنا ليست خبرا.. الحقيقة هنا وطنٌ جديد يُعاد بناؤه.

المصدر: عربي21

كلمات دلالية: سياسة اقتصاد رياضة مقالات صحافة أفكار عالم الفن تكنولوجيا صحة تفاعلي سياسة اقتصاد رياضة مقالات صحافة أفكار عالم الفن تكنولوجيا صحة تفاعلي مقالات قضايا وآراء كاريكاتير بورتريه قضايا وآراء سوريا المعتقلين مفقودين العدالة سوريا اعلام مفقودين معتقلين عدالة قضايا وآراء قضايا وآراء قضايا وآراء قضايا وآراء قضايا وآراء قضايا وآراء مقالات مقالات مقالات سياسة سياسة سياسة سياسة سياسة سياسة سياسة سياسة رياضة سياسة سياسة اقتصاد رياضة صحافة قضايا وآراء أفكار عالم الفن تكنولوجيا صحة ملفات دمشق التعامل مع

إقرأ أيضاً:

التعليم: حظر شعارات المدارس على الشهادات.. وكشف "تضخم الدرجات" إلكترونياً-عاجل

أقرت وزارة التعليم عدد من الضوابط الجديدة في دليل الاختبارات للعام الدراسي 1447 هـ، تضمنت منع المدارس الأهلية والعالمية من وضع شعاراتها الخاصة على الشهادات والاكتفاء بشعار الوزارة لتوحيد الهوية الرسمية.
وأكدت على مع استبعاد المواد الإضافية غير المعتمدة في الخطة الدراسية من رصد الدرجات في الوثائق الرسمية، وتشديد الرقابة التقنية على تضخم النتائج لضمان عدالة التقييم.
أخبار متعلقة برئاسة وزير التعليم ومشاركة الطلاب.. أول اجتماع للمجلس التعليمي للطفولة”التقويم“ و”اختبارات التعثر“.. آلية جديدة لتقييم الطلاب المنقطعين عن المدارس-عاجل"البلديات".. تحديث شروط المسالخ الأهلية و12 شهرًا مهلة لتصحيح الأوضاع القائمةوأوضحت الوزارة في تعليماتها أن المواد الدراسية التي تدرس في بعض مدارس التعليم الخاص وتخرج عن إطار الخطة المعتمدة وزارياً لن يكون لها أي وزن في الوثائق الرسمية، حيث لن ترصد درجاتها ضمن المعدل أو السجل الأكاديمي للطالب.
وثائق دراسية بالعربية
وألزمت الوزارة كافة المدارس بإصدار الوثائق الدراسية وكشوف الدرجات باللغة العربية مع وجود ترجمة مرادفة باللغة الإنجليزية في ذات الوثيقة، وذلك لتسهيل التعامل مع الشهادات محلياً ودولياً دون الحاجة لإجراءات ترجمة إضافية.
وجاء في التوجيهات الجديدة إلغاء ذكر عبارة «الدور الأول» أو «الدور الثاني» في وثيقة التخرج، والاكتفاء بتدوين تاريخ صدور الوثيقة مع الإشارة الواضحة للنظام الدراسي المتبع، سواء كان برنامجاً محدداً أو مساراً تعليمياً.
وحسمت الوزارة الجدل حول ازدواجية الشعارات، مانعة بشكل قاطع وضع شعارات مدارس التعليم الخاص سواء كانت برامج «وطنية أو عالمية» على الشهادات الدراسية، مشددة على أن يكون شعار وزارة التعليم هو الرمز الوحيد المعتمد لإضفاء الصبغة الرسمية.
تعليمات حول السلوك
وفيما يخص السلوك، أوقفت الوزارة إصدار شهادات مستقلة لحسن السيرة والسلوك، معتمدة الاكتفاء بالدرجة المرصودة في كشف الدرجات الموحد الذي يمنح للطالب كمعيار وحيد لتقييم انضباطه.
ومنحت التعليمات الطالب الذي تعرض لحسم في درجات السلوك الحق في الحصول على إفادة رسمية توضح نوع المخالفة وسبب الخصم إذا رغب في ذلك، لضمان الشفافية ومراعاة قواعد السلوك والمواظبة المعتمدة.
إجراء صارم ضد التزوير
وفي إجراء ردعي صارم ضد التزوير، قررت الوزارة حذف نتيجة الطالب في أي صف دراسي حالياً إذا ثبت حصوله على شهادة الصف السابق بطريقة غير نظامية أو مزورة، مع رفع النتيجة المحذوفة لجهات الاختصاص لاعتمادها فوراً.
واستحدثت الوزارة نظاماً إلكترونياً ذكياً لكشف «تضخم الدرجات»، حيث يظهر للمعلم تنبيه أولي عند رصد درجات لا تتناسب مع المنحنى الطبيعي للأداء، ما يستوجب المراجعة والتدقيق قبل الاعتماد النهائي.
ووضعت الوزارة مديري المدارس أمام مسؤولياتهم المباشرة، حيث سيظهر تنبيه لدى مدير المدرسة في حال اعتماد المعلم للدرجات المتضخمة دون معالجة، مما يلزمه بالتدخل الفوري وفحص الشواهد المثبتة لعدالة التقييم.

مقالات مشابهة

  • متحدث وزارة الرياضة: هناك مسار للتحقيق في وفاة يوسف محمد.. وأطمأن والده ووالدته أن «حقه هيرجع»
  • وفد أوروبي يسلّم الإعلام الوطني تقريره حول الانتخابات اللبنانية
  • قادرون باختلاف: بناء مصر بلا حواجز وتمكين ذوي الإعاقة هدفنا الوطني
  • رئيس الوطني الفلسطيني: التصويت لصالح القرار الأممي يعكس إرادة دولية واضحة لدعم العدالة
  • ترامب: قررت إلغاء قرارات العفو التي أصدرها بايدن باستخدام التوقيع الآلي
  • مساعد الرئيس الروسي: اجتماع بوتين وويتكوف بشأن التسوية الأوكرانية كان بناءً وهادفًا
  • التعليم: حظر شعارات المدارس على الشهادات.. وكشف "تضخم الدرجات" إلكترونياً
  • التعليم: حظر شعارات المدارس على الشهادات.. وكشف "تضخم الدرجات" إلكترونياً-عاجل
  • أين الحقيقة؟