لم يكن خروج السودانيين إلى الشوارع، داخل الوطن وخارجه، حدثًا عاديا بل عبر عن فعلًا سياسيًا مكتمل الأركان والدلالات، أعاد رسم الشرعية وحدد بوضوح معالم السلام الذي يريده السودانيون. ففي لحظة تداخلت فيها الضغوط الإقليمية و الدولية، وتكاثرت المبادرات التي حاولت القفز فوق جوهر الأزمة، خرج الشارع ليعلن موقفه بلا مواربة: لا تفاوض مع المليشيا، لا وصاية على القرار الوطني، ولا سلام خارج إطار الدولة.

هذا المشهد الشعبي الكاسح لا يمكن فصله عن خارطة الطريق التي أعلنها القائد العام للقوات المسلحة، رئيس مجلس السيادة الفريق أول ركن عبد الفتاح البرهان، حين وضع السلام في سياقه الصحيح: سلامٌ مشروط بتفكيك المليشيا، وتنفيذ اتفاق جدة الموقع في 11 مايو 2023، باعتباره المرجعية الوحيدة للترتيبات الأمنية والإنسانية. اتفاقٌ نصّ صراحة على خروج المليشيا من المدن، وتسليم سلاحها، وتجميع قواتها في معسكرات مخصصة للنظر في أمرها وفق منطق الدولة لا منطق فرض الأمر الواقع.

ورغم وضوح هذا الموقف، ظلّت أصواتٌ داخلية وخارجية تحاول المزايدة على الجيش، وتقديمه بوصفه مؤسسة «مختطفة» أو معزولة عن المجتمع، في محاولة لانتزاع الشرعية الأخلاقية والسياسية من موقفه. غير أن ما جرى في 13 ديسمبر أسقط هذه السرديات دفعة واحدة، وأثبت أن ما عبّر عنه قائد الجيش لم يكن رؤية قيادة منفصلة، بل ترجمة دقيقة لإرادة شعبية عريضة لا ترغب في رؤية المليشيا في اليوم التالي للحرب، لا شريكًا، ولا قوة أمر واقع، ولا مكوّنًا سياسيًا بأي مسمى او تحت اي عنوان .

لقد خرج السودانيون ليجددوا التفويض، لا للقتال من أجل القتال، بل لحسم معركة الكرامة بوصفها معركة وجود. خرجوا ليؤكدوا أن الجيش لا يقاتل منفردًا، بل يستند إلى خزان اجتماعي واسع يمتد من المدن إلى القرى، ومن المركز إلى الهامش، ومن الداخل إلى المهجر. هنا يتحول شعار «جيش واحد.. شعب واحد» من خطاب تعبوي إلى معادلة سياسية واقعية، تُعيد تعريف ميزان القوى ومعنى الشرعية في زمن الحرب و الخزلان.

في هذا السياق، لم يكن المطلب الشعبي بتصنيف مليشيا الدعم السريع منظمةً إرهابية نزوة خطابية أو انفعالًا عاطفيًا، بل نتيجة منطقية لانتهاكات واسعة وجرائم ممنهجة طالت المدنيين في الخرطوم والجزيرة ودارفور وكردفان ، من قتل ونهب وتهجير وترويع، ونسفت أي ادعاء بإمكانية إدماج هذه القوة في مستقبل الدولة. إن الشارع، وهو يرفع هذا المطلب، إنما يضع حدًا فاصلاً بين منطق الدولة ومنطق الفوضى، وبين السلام بوصفه تسوية سياسية هشة، والسلام بوصفه استعادة كاملة لسلطة القانون.

تكتسب هذه اللحظة أهميتها السياسية لأنها تتجاوز الداخل إلى الإقليم والعالم. فالرسالة التي بعث بها ملايين السودانيين بالأمس كانت واضحة: نحن مع جيشنا، وندعم خارطة الطريق التي أعلنها من أجل السلام، ونرفض أي مسار يتجاوز اتفاق جدة أو يفرغه من مضمونه. وهي رسالة تُربك حسابات من راهنوا على إنهاك الجبهة الداخلية، أو على تسويق المليشيا كأمر واقع لا بد من التعايش معه، أو عبوره لليوم التالي للحرب.

إقليميًا، يعيد هذا الاصطفاف الشعبي ضبط معادلات دول الجوار، ويؤكد أن السودان ليس دولة تنتظر الوصاية، بل دولة تقاتل لاستعادة تماسكها . ودوليًا، يمنح هذا الزخم الدولة السودانية ورقة ضغط سياسية وأخلاقية تعزز سرديتها بأن ما يجري حرب تُدار بالوكالة وتستهدف الموارد والسيادة، كما أقر بذلك مفوض الأمم المتحدة السامي لحقوق الإنسان فولكر تورك حين قال:” حرب السودان تخاض بالوكالة طمعا في الموارد الطبيعية” ، في اعتراف يضيق هامش التزييف ويغلق أبواب الحياد البائس.

في المحصلة، يصبح 13 ديسمبر محطة مفصلية في الوعي الجمعي السوداني، بوصفه، لحظة تأسيس جديدة يُعاد فيها تعريف السلام، والوطنية، ومعنى الاصطفاف. سلامٌ لا يقوم على المساومات، بل على تفكيك أسباب الحرب. ووطنيةٌ لا تُقاس بالشعارات، بل بالاستعداد لتحمل كلفة الدولة. واصطفافٌ لا يعرف الرمادية ، لأن اللحظة لا تحتملها.

هكذا وبحسب #وجه_الحقيقية ، حين تكلم الشارع، لم يرفع الحرج عن الجيش فحسب، بل أعاد تثبيت المعادلة : لا مليشيا في اليوم التالي للحرب، ولا دولة دون جيشها، ولا سلام خارج إرادة شعب قرر أن يكتب مستقبله بالفعل، لا بالانتظار. ذلك الوعي وحده الذي يعيد صياغة معادلة السلام.
إبراهيم شقلاوي
دمتم بخير وعافية.
الأحد 14 نوفمبر 2025م [email protected]

إنضم لقناة النيلين على واتساب

Promotion Content

أعشاب ونباتات           رجيم وأنظمة غذائية            لحوم وأسماك

2025/12/15 فيسبوك ‫X لينكدإن واتساب تيلقرام مشاركة عبر البريد طباعة مقالات ذات صلة المخابرات في الموعد2025/12/14 إسحق أحمد فضل الله يكتب: (جلباب…)2025/12/14 “أن تكون مع بوتين أفضل من الحرب”2025/12/13 هجليج والمسيرية: التصفية والخطر الخارجي2025/12/12 الصحافة الصفراء2025/12/12 أرض تنتزع بالتصفيات … والبقارة في مرمى الصفقة الكبرى ل آل دقلو2025/12/12شاهد أيضاً إغلاق رأي ومقالات الوزيرة الجنجويدية… هل يُفتح أخيراً ملف المتعاونين الذين عادوا إلى مؤسسات الدولة 2025/12/12

الحقوق محفوظة النيلين 2025بنود الاستخدامسياسة الخصوصيةروابطة مهمة فيسبوك ‫X ماسنجر ماسنجر واتساب إغلاق البحث عن: فيسبوك إغلاق بحث عن

المصدر: موقع النيلين

إقرأ أيضاً:

زيلينسكي: موقفنا التفاوضي قوي.. وهدفنا سلام عادل لأوكرانيا

أكد الرئيس الأوكراني فولوديمير زيلينسكي مشاركته في محادثات تعقد في برلين بشأن إنهاء الحرب الروسية على بلاده.

وقال زيلينسكي في رسالة مصورة من كييف: "نحن حاليا نستعد لاجتماعات مع الجانب الأميركي وأصدقائنا الأوروبيين في الأيام القادمة. ستكون هناك العديد من الفعاليات في برلين".

ومن المتوقع أن يحضر زيلينسكي اجتماعا اقتصاديا أوكرانيا مع المستشار الألماني فريدريش ميرتس بحلول يوم الإثنين على أقصى تقدير.

ومع ذلك، لا يزال من غير الواضح ما إذا كان زيلينسكي سيصل إلى برلين هذا الأحد ويلتقي بالمبعوث الأميركي ستيف ويتكوف.

وأوضح زيلينسكي أن خبراء أوكرانيين يعملون حاليا على تفاصيل الضمانات الأمنية التي تطالب بها كييف من أجل السلام مع روسيا، مؤكدا أن الهدف هو "سلام عادل لأوكرانيا مع ضمان عدم عودة روسيا بشن غزو آخر للبلاد".

وأضاف: "موقفنا التفاوضي الأوكراني قوي لأننا نحافظ على مواقعنا في الجبهات وفي صناعتنا العسكرية واستقرارنا الداخلي".

كذلك فإن هناك محادثات مخطط لها في برلين بين المسؤولين الأوكرانيين وممثلي الولايات المتحدة والدول الأوروبية حول إعادة إعمار البلاد المتضررة من الحرب.

وشدد زيلينسكي على أن: "الأهم هي اجتماعاتي مع ممثلي الرئيس (دونالد) ترامب، بالإضافة إلى اجتماعاتي مع شركائنا الأوروبيين والعديد من كبار السياسيين حول تأسيس السلام، أي اتفاق سياسي لإنهاء الحرب".

وانتقد الرئيس الأوكراني خطة ترامب الأولية المؤلفة من 28 نقطة، لاحتوائها على العديد من المطالب الروسية.

وناقش رئيس الوزراء البريطاني كير ستارمر ورئيسة المفوضية الأوروبية أورسولا فون دير لاين السبت العمل على مقترحات السلام التي تقودها الولايات المتحدة بشأن أوكرانيا والإجراءات لاستخدام الأصول السيادية الروسية المجمدة للمساعدة في توفير التمويل لكييف.

وأفاد متحدث باسم داوننغ ستريت بأن ستارمر وفون دير لاين "اتفقا على أن هذه لحظة محورية لمستقبل أوكرانيا، وأن أوروبا ستقف معهم (الأوكرانيون) مهما طال الأمد لتحقيق سلام عادل ودائم".

وكانت المتحدثة باسم البيت الأبيض كارولاين ليفيت قد قالت الخميس إن الرئيس الأميركي دونالد ترامب تعب من الاجتماعات المتواصلة بشأن أوكرانيا التي لا تفضي إلى نتائج، مؤكدة أن الرئيس "لا يريد المزيد من الكلام، بل يريد أفعالا تنهي الحرب".

مقالات مشابهة

  • عبد السلام فاروق يكتب: ارتقاء وسط العواصف
  • كريم وزيري يكتب: صُنع في السماء السابعة
  • زيلينسكي: موقفنا التفاوضي قوي.. وهدفنا سلام عادل لأوكرانيا
  • أردوغان متفائل بشأن اتفاق سلام في أوكرانيا
  • عاجل | الملكة رانيا تشارك صورة عائلية وتوجه رسالة سلام وأمل
  • شاهد بالفيديو.. آخر ظهور لفنان “الدعامة” إبراهيم إدريس يظهر وهو يحتفل وسط جنود المليشيا قبل أيام قليلة من إغتياله
  • نحن نعمل للسلام ولكن مستعدون للحرب.. عمرو أديب: الطائرات المسيرة تغيّر معادلة الردع
  • من الإطار إلى طاولة الشراكة: العراق نحو صياغة معادلة السلطة
  • ترامب: نحضر لمرحلة جديدة في غزة.. والسلام بالشرق الأوسط أقوى من أي وقت