الرغائبيون والتقليديون في السياسة
تاريخ النشر: 17th, September 2023 GMT
الرغائبيون والتقليديون في السياسة
زين العابدين صالح عبد الرحمن
إن إشكالية السياسة في السودان سادت فيه الرغائبية، وهي فلسفة الحلم وهي تؤسس ليس على معطيات الواقع ولكن على خيال صاحبها، والنخب الرغائبية هي التي تحاول أن تكيف الواقع وأحداثه وفقاً لأحلام لا تتحقق، لأنها لا تقوم على الحقائق في الواقع، وهي إشكالية لأنها تحاول خداع النفس قبل الآخرين.
ورغم أن الخيال مطلوب في السياسة لكن ليس بهدف تشييد بناءات دون ملامسة للواقع، بل كيف تستطيع توظيف ما هو موجود في الواقع في البناءات التي تريد.
وأيضاً الرغائبية تجعل صاحبها لا ينظر للواقع بالصورة التي تجعله من خلال الواقع يحدد أهدافه، بل تجعل لديه فكرة واحدة لا يستطيع التفكير بغيرها، وهي التي تشكل عنده هذه الرغائبية. الفكرة الواحدة تتمحور حول المصلحة الضيقة. والأحداث مهما صغرت لابد أنها تؤثر في الأجندة المطروحة وتحدث تغييراً في تسلسلها، لكنها لا تؤثر عند الرغائبي لأنه لم يتعود أن يحدث تغييراً في سلم أولوياته يتماشى مع المتغيرات، هذا هو المنهج السائد في السياسة السودانية، مهما حدث من تغييرات ونزاعات وحروب لا تؤثر في طريقة التفكير السائد، ليس عند العامة بل عند النخب السياسية وتطال حتى المثقفين.
الأحزاب التقليدية، يمثلها التقليديون. وفي الصالات الأكاديمية يطلق عليهم “المحافظون” هؤلاء الأكثر اعتراضاً وتحدياً لعملية التغيير في المجتمع. والمحافظون دائماً يميلون لحماية مصالحهم، ولذلك لا يرغبون في التغيير. لكن لا يشمل القاعدة الاجتماعية العريضة، فالتغييرات التي تحدث في التعليم وتوسعه في المجتمع، وأيضاً التطور الاقتصادي، وتوسيع مواعين الديمقراطية، واتساع رقعة الحرية لتنهض فيه الصحافة والإعلام، وتعدد منظمات المجتمع المدني كلها تدفع القاعدة أن تتمسك بالتغيير، لأنه يحقق أمالها ومصالحها. إلا أن الرغائبية والتقليدية عندما تكون سمات داخل التنظيم السياسي الواحد تقعد به، وتعطل كل أدواته الديمقراطية، وتقلص مساحة الحرية وتصبح هناك فئة ضيقة جداً في التنظيم هي التي متاح لها عملية التفكير بما يرضي تلك القيادات القابضة على مفاصل المؤسسة الحزبية، ولذلك لا تستطيع المؤسسات الحزبية أن تستفيد من التجارب لمحدودية مساحة الحرية التي يوفرها هؤلاء الرغائبيون والتقليديون، وأي تفكير خارج الصندوق يعني الخروج من التنظيم.
الصراع السياسي ليس قاصراً على السلطة فقط، هناك مساحات كبيرة يمكن الاستفادة منها لكي يحدث التغيير، مادامت هناك رغبة واسعة في المجتمع للتغيير. لكن عندما يسجن المثقفون أنفسهم في دائرة انتماءات ضيقة، ولا يريدون التفكير خارجها لا يستطيعون أن يفكروا برؤى جديدة، بل يعيدون ذات التفكير الذي قاد إلى الأزمات السابقة، ومثل هذا التفكير لا يحدث تغييراً لا في الوعي، ولا في الأدوات الصدئة التي يجب إعادة النظر فيها، عندما انفجرت ثورة ديسمبر 2018م، من خارج أسوار الأحزاب كان الأمل أن هذه الثورة تخلق قيادات جديدة تكون قد درست كل التجارب السابقة، ولا تكون مخيلتها مركزة على السلطة، بل على كيفية العمل من أجل بناء دولة على أسس جديدة، وتفجر الثورة خارج دائرة الأحزاب؛ كان يتطلب على القيادات السياسية أن تخضع تجربتها للنقد، لماذا فشلت هي في تعبئة الجماهير طوال هذه السنين، وما هي العوامل التي جعلت الشباب يواصلون التظاهرات قرابة الستة شهور رغم قمع السلطة،؟ وهل هذه الظاهرة سوف تؤثر على مستقبل الأحزاب سلباً أو إيجاباً؟، ولكنها لم تفعل بل فكرت في شيء واحد كيف تسطو على الثورة وتقبض على مفاصلها دون أن يكون لها برنامج واضح يمكن أن تحاسب عليه. كان لابد أن تنزلق الثورة للفشل. هناك من يقول: إن العسكريين والكيزان سبب الفشل. وهل الأحزاب لم تتحسب للتحديات التي سوف تواجهها؟ ألا تعلم هذه القيادات أن حكم ثلاثة عقود جعل هناك كتلة كبيرة ارتبطت مصالحها بالنظام السابق سوف تشكل لها تحديات؟ ومعلوم بعد أي ثورة؛ أن العملية السياسية لا تسير على خط مستقيم، بل تواجهها العديد من العوائق والتحديات، ومن المفروض أن تزيدها قوة وصلابة، وتجعلها تغير تكتيكاتها بصورة مستمرة حسب الحاجة لكي تصل لأهدافها، والسياسة لا تقبل الصلابة التي تكسرها بل تحاج أيضاً للمرونة دون الانحراف عن الأهداف. لكن ذلك لم يحدث….!
انزلقت البلاد للحرب، وشهدت البلاد أكبر مأساة في تاريخها المعاصر، وظلت العقول كما هي كأن شيئاً لم يكن، لم يحدث أي تغيير في طريقة التفكير، لا تجد هناك فارقاً بين العامة ونخبته التي من المفترض أن تقوده لأهداف الثورة فالكل يحاول أن يبحث عن تبرير ولا يواجه المشكل من خلال نقد التجربة لكي تتبين الأسباب الرئيس للفشل.
إن الرغائبية في السياسة تهزم الأهداف العظيمة، والتقليديون سيظلوا يشكلون أكبر عائقاً للتطور والديمقراطية لأنهم لا يستطيعون النظر أبعد من موطيء أقدامهم، فالحرب سوف تفرض واقعاً جديداً يجب التعامل معه بجدية وبممارسة النقد، إن الأجيال الجديدة مطالبة أن تفكر بعيداً عن طريقة التفكير التقليدية، فالجماهير عندما وقفت بإرادتها مع قواتها المسلحة كانت واعية لموقفها، وغداً ستكون أكثر وعياً عندما تصبح القضية المطروحة التحول الديمقراطي هي تعرف ترتيب أولوياتها تماماً. نسأل الله حسن البصيرة.
zainsalih@hotmail.com
الوسومالأحزاب التقليديون الرغائبيون السلطة السودان الطيب زين العابدين الكيزان ثورة ديسمبر زين العابدين صالح عبد الرحمنالمصدر: صحيفة التغيير السودانية
كلمات دلالية: الأحزاب السلطة السودان الكيزان ثورة ديسمبر فی السیاسة
إقرأ أيضاً:
عندما تذوب الأوهام في بحر المصالح
زكريا الحسني
لا توجد في السياسة أخلاقيات أو مشاعر أو ضمائر؛ ففي ساحة السياسة يُعَدُّ النظر إلى المصالح هو المبدأ الأساسي الذي يتصدر كل الاعتبارات، ومن هنا تنبثق رواية الدول وعلاقاتها ببعضها البعض، إذ تُظهر دراسة التاريخ بتأنٍ وتدبُّر كيف تُبنى ثقافتنا في التعامل مع الدول والشعوب.
وفي هذا السياق، تتحول السياسة إلى رقصة معقدة تتداخل فيها خطوات الحكمة والدهاء مع مصالح لا تُقاس إلا بالدقة والقراءة العميقة لمعالم الزمن؛ فكل حركة تُرسَم على لوحة التاريخ تُذكّرنا بأن القوة لا تكمن في العنف أو الهيمنة فحسب؛ بل في قدرة القادة على قراءة معاني الماضي واستشراف مستقبل يستند إلى قيم تضيء دروب الشعوب.
وهنا يبقى السؤال قائمًا: هل ستظل الإنسانية أسيرة لمصالحها المادية، أم ستنهض لترسم مسارًا جديدًا يُعيد للعدل والإخاء مكانتهما في عالمٍ تسيطر فيه الحكمة على الأنانية؟
وعلى الجانب الآخر، ظهر فشل زيلينسكي السياسي جليًّا، إذ وضع بلاده في فوهة المدفع دون بصيرة.. وكما أنشد الشافعي يومًا: (وَاعْجَبْ لِعُصْفُورٍ يُزَاحِمُ بَاشِقًا // إِلَّا لِطَيْشَتِهِ وَخِفَّةِ عَقْلِهِ).
وكأنّه يُعيد مشهد أبي عبد الله الصغير، آخر ملوك الأندلس، حين سلَّم غرناطة للملك فرناندو والملكة إيزابيلا، ليُسدل الستار على سبعة قرون من الوجود الإسلامي؛ ذلك الفردوس الذي لا تزال الحضارات تتغنّى بمعالمه. في ذلك الزمان، وبّخته أمه قائلة: (نعم، ابكِ كالنساءِ ملكًا لم تُدافع عنه كالرجال).
واليوم، يخرج ترامب بتصريحاته الهوليوودية ليعلن: “نحن نريد المعادن النادرة الباقية، وما بحوزة الروس فهو لهم. (فهنيئًا لك يا زيلينسكي)؛ لقد ذهبت حميتك لتصنع منك بطلًا قوميًا، لكنك صرت بطلًا في مسرحية عبثية؛ حيث تحولت ثروات بلدك إلى غنائم تتقاسمها الذئاب، بينما أصبحت أنت نكرة في تقرير مصيرك ومصير أمتك.
لو أنك واصلت مسيرتك في التمثيل، لكان ذلك أولى لك من كل هذا الدمار والخراب الذي تركته خلفك. يبدو أنك لا تفقه في السياسة ولا تستوعب الأبعاد الاستراتيجية، وربما لم تقرأ التاريخ يومًا. وأما أمريكا، فيبدو أنها باعت أوروبا قاطبةً ببخس دراهم... [إنها حقًّا لعبة الأمم].
لقد كرّرت روسيا مرارًا وتكرارًا نصيحتها لأوكرانيا: "كوني على الحياد، لا تكوني معنا، فلا ضير في ذلك، ولكن إياكِ والانضمام إلى معسكر الغرب، فإن الغرب يلعب في الماء العكر". ومع ذلك، أصرّ زيلينسكي على موقفه، رافضًا كل دعوات التفاهم ومقطوعًا عن كل سبل الحوار. حينها قالت روسيا: "إذا لم تتركي لنا مجالًا للتفاهم، فماذا جنيتِ يا زيلينسكي سوى العداء والدمار؟".
وهكذا... انقلبت الأحلام إلى كوابيس، وتحولت الطموحات إلى رماد. في لعبة الأمم، لا مكان للطيش ولا للعواطف؛ فالتاريخ لا يرحم، والسياسة لا تعرف صديقًا دائمًا أو عدوًّا أبديًّا. قد يكون زيلينسكي أراد المجد، لكنه وجد نفسه في متاهة الأوهام، وأضاع بلاده بين أنياب القوى الكبرى.
وفي مشهد النهاية، تتبدد الأوهام وتتكشّف الحقائق؛ تسقط الأقنعة، ويظهر أن القوة ليست في العنتريات؛ بل في الحكمة والدهاء. التاريخ لا يُكتب بأحلام الطامحين؛ بل بأفعال الحكماء الذين يدركون أن "الرياح لا تجري بما تشتهي السفن".
ليبقى السؤال حاضرًا: هل كان الثمن يستحق كل هذا الخراب؟ أم أن العناد أعمى البصيرة وأضاع البلاد؟