التفكير العلمي. . المُنجَز الحقيقي للتجربة البشرية
تاريخ النشر: 20th, May 2025 GMT
أ. د. حيدر أحمد اللواتي **
من أهم الإنجازات التي حققتها البشرية عبر مسيرتها الطويلة هو ما يُعرف بالتفكير العلمي، ذلك الأسلوب الفريد في التفكير الذي لا يقتصر على المتخصصين وحدهم؛ بل هو أداة مشتركة يستخدمها العلماء من مختلف التخصصات لتفسير نتائج تجاربهم وفهم الظواهر التي يدرسونها.
التفكير العلمي هو ذلك النسيج المشترك الذي يربط العلوم ببعضها، وهو القوة التي تمكن الإنسان من التفاعل مع عالمٍ مليء بالمعلومات المتنوعة والمعقدة، ليتمكن من اتخاذ قراراته اليومية بناءً على معايير واضحة ومنهجية سليمة.
ليس التفكير العلمي ظاهرة حديثة نشأت مع التطور العلمي، لكنه أصبح ضرورة مُلحّة في عصرنا الحالي؛ حيث غدت المعرفة أشبه ببحرٍ هائج من المعلومات التي تتدفق بسرعة غير مسبوقة. هذه الوفرة في العلوم والتقنيات زادت من حاجة الإنسان إلى أدوات تساعده على التمييز بين الصحيح والمضلل، بين المعرفة الحقيقية والآراء المتحيزة أو المغلوطة. هذا التحدي اليوم لا يواجه فقط العلماء أو المختصين؛ بل يطال كلّ شخص يسعى لفهم ما حوله بشكل موضوعي وواقعي.
خذ مثلًا قصة غاليليو غاليليّ، الذي تحدى في القرن السابع عشر العقائد السائدة حينما قال إن الأرض تدور حول الشمس، ليست مركز الكون كما كان يعتقد الجميع. لم يكن غاليليو مجرد ناقل رأي؛ بل اعتمد على ملاحظات دقيقة وأدوات متطورة آنذاك، واستطاع أن يدعم فكرته بأدلة تجريبية. رغم معارضة الكنيسة وصراعاته الشخصية، ظل منتميًا لمنهجية التفكير العلمي، مما مهد الطريق لفهمنا الحالي للكون. هذه القصة تُبرز أهمية التفكير العلمي كأداة للتحرر من الأفكار الجاهزة والدخول في عالم الحقيقة المدعومة بالأدلة.
في ظل تعقيد العلوم وتداخل تخصصاتها، يصبح من المستحيل لأي فرد أن يُلمّ بكل تفاصيلها أو يتقنها جميعًا. لكن هناك مهارة أساسية يمكن لأي إنسان امتلاكها: القدرة على التحقق من صحة طريقة التفكير نفسها. هذه القدرة تمنحه القوة ليكون ناقدًا واعيًا، قادرًا على رفض المعلومات والنظريات التي لا تستند إلى منهجية سليمة، حتى وإن جاءت من مصادر علمية أو متخصصة ذات مكانة مرموقة، فليس كلّ ما يُقال أو يُكتبُ يستحقّ القبول، خصوصًا إذا كان الأساس الفكري الذي بُني عليه ضعيفًا أو مليئًا بالثغرات.
تخيل مثلًا أنك قرأت دراسة تدّعي أن تناول نوعٍ معين من الأعشاب يمكن أن يعالج مرضًا خطيرًا. قد تبدو الفكرة جذّابة، لكن التفكير العلمي يدفعك لأن تسأل: كم عدد المشاركين في هذه الدراسة؟ هل كانت الدراسة مزدوجة التعمية؟ هل هناك تجارب أخرى تدعم هذه النتيجة؟ هل تم نشر نتائج الدراسة في مجلة علمية محكّمة؟ بهذه الأسئلة، تحمي نفسك من الوقوع في فخ الادعاءات غير المدعومة بأدلة قوية.
التفكير العلمي – إذن – ليس مجرد أداة لفهم الأفكار؛ بل هو درع يحمي العقل من الانزلاق خلف الخداع أو التحيز. إنه يسمح للإنسان بأن يُقيِّم الأفكار المطروحة ويجعلها تمر عبر مصفاة دقيقة من النقد والتمحيص. ولا يعني هذا التشكيك أو الرفض الأعمى؛ بل يعني البحث الجاد عن المنهجية التي استُخدمت، والتحقق من سلامة خطوات التفكير، وفضح أي خلل قد يؤدي إلى استنتاجات مغلوطة.
في حياتنا اليومية، نواجه مواقف كثيرة تستدعي منا استخدام التفكير العلمي، عندما نقرأ تقارير عن أطعمة "سحرية" تحرق الدهون أو تساعد في إنقاص الوزن بسرعة، أو عندما نشاهد إعلانًا يُروّج لمنتج معين بوصفه "معجزة" في حل مشكلة صحية أو تقنية، أو نستمع لمحاضر يقدم تفسيرًا معقدًا لظاهرة اجتماعية دون أن يذكر كيف توصّل إلى هذه النتائج، هنا يظهر التفكير العلمي كأداة تمكننا من التمييز بين المعلومات الموثوقة وتلك التي تستند إلى انطباعات شخصية أو بيانات ضعيفة.
في هذا السياق، يصبح الإنسان قادرًا على اكتشاف أخطاء منهجية قد لا يلحظها البعض، حتى من أصحاب الاختصاص، بمجرد أن يبذل قليلًا من الجهد والتأمل. هذه الأخطاء ليست بالضرورة مقصودة، لكنها تظهر نتيجة لقصور في تطبيق قواعد التفكير العلمي أو انزلاق نحو الأحكام المسبقة أو التفسيرات السطحية، ومن خلال التعرّف على هذه الأخطاء، يمكننا تعزيز قدرتنا على التمييز بين ما هو علمي ومنهجي، وما هو عشوائي أو غير موثوق.
على سبيل المثال، في إحدى الدراسات الاجتماعية التي تناولت أسباب ارتفاع معدلات الطلاق في مجتمعٍ معين، قد يميل الباحث إلى الاعتماد على عدد قليل جدًا من الحالات دون تمثيل عادل لأصناف المجتمع المختلفة، مما يؤدي إلى نتائج غير دقيقة ومضللة. التفكير العلمي يدعونا هنا أن نبحث عن حجم العينة، تنوعها، وطبيعة الأسئلة المطروحة، لنقرر مدى صحة الاستنتاجات.
إنَّ مهارة التفكير العلمي ليست حكرًا على العلماء أو الأكاديميين؛ بل هي حق لكل إنسان يسعى إلى معرفة حقيقة الأشياء وفهم العالم من حوله، فالتفكير العلمي يمنحنا القدرة على مواجهة التعقيدات والتحديات التي فرضها عصر المعرفة، لنعيش حياة أكثر وعيًا ونجاحًا، ونُسهم في بناء مجتمع يرتكز على العلم والمنطق، لا على الأوهام والانطباعات الخاطئة.
** كلية العلوم، جامعة السلطان قابوس
رابط مختصرالمصدر: جريدة الرؤية العمانية
إقرأ أيضاً:
لاعب الزمالك السابق عن أزمة الإعلان: المعنى الحقيقي للكوميديا السوداء
انتقد أيمن يونس لاعب الزمالك السابق، إعلان إحدى شركات خطوط الاتصال والذي تضمن الإساءة لنادي الزمالك، على حد تعبيره.
وقال يونس من خلال حسابه الشخصي تويتر: "شيء مثير للسخرية والتعجب.. يصنعون كل ما يؤدي إلى التعصب والتطرف الرياضي ثم يطالبون الجماهير بإختلاف ميولها بالتحلي بالأخلاق والروح الرياضية.. هذا هو المعني الحقيقي للكوميديا السوداء..".
وتقدم نادي الزمالك ببلاغ إلى النائب العام ضد إحدى شركات الاتصالات بسبب بث الشركة إعلانا اعتبره نادي الزمالك مسيئا له ولجماهيره.
يأتي هذا بسبب إعلان الشركة المسيء لنادي الزمالك وجماهيره والذي تم بثه مؤخراً على مواقع التواصل الاجتماعي .
على جانب آخر قرر مجلس إدارة نادي الزمالك، برئاسة الكابتن حسين لبيب، مقاطعة الاجتماع المقرر لرابطة الأندية المصرية المحترفة، الأحد، لمناقشة ووضع تصورات لشكل مسابقة الدوري الممتاز الموسم المقبل.