للبُيُوتِ حُظُوظٍ مِثل البشر، سَيِّئةُ الطالع منها، صَيِّرتها الحرب خراباً، بالقنابلِ والقذائفِ والحَريقِ. والتي إحتفظتَ بِكاملِ هيئتهِا وقَوَامُها المُتَمَاسِك، تَمَّ تَجْرِيدُها من كلِ مَنْقُول ومُتَحَرِّك مَحْمُول.
ثُمَّ البيوتٌ التي تَمَّ الاسْتِيلاَءُ عَلَيها غزواً وقَهْراً لسَاكِنِيهَا الذين قَعَدُوا على حَافَةِ الموتِ فيها.
مَهْمَا الخَيَالُ تَطَرَّفَ في تَشَاؤمِه، فلن يُدرِك إلا القليل من السُّوءِ الذي آلتَ إليه جُملة آثَار الحرب، ومَهْمَا شَطَحَ في تَخَيُّلِهِ، فلن يَصل لِمَدَى الضُّرّ والأَذِيَّة التي حَاقَتَ بِبيوتِ النَّاسِ في مُدْنِ الحربِ.
تَوَافَقَتْ البَشَرِيَّةُ مُنذُ الأَزَلِ، أَن البيتُ هو المكان الذي يَخُصّ الإِنْسَانِ. إن كان في شَجَرِ الغَابِ أو نَاطِحاتِ السَّحَابِ، في كَهْوفِ الجبالِ، أو بظُهرِ المَرْاكَبِ الراسِياتِ فوق المياه. أينما كان مَوْقِعُه وكيفما كان شَّكْلُه، فكُلُّ البيوتِ جَوْهَرها واحد، وهو ذاك المُجَسَّمِ ذو الأبعاد المحددة، في المكانِ المُعَيِّن، بِظَاهِرٍ محسوس وتفاصيل مرئية، تجمعت وتراكمت في مركز البيت وأركانه عبر الزمان، ثم إمتزجت بذاكرةِ السُّكَّانِ مُنذُ الطُّفُولّةِ والصِّبَا، فصار البيت رَدِيفاً يتبع الإِنسان أينما رحل، من بَيتٍ لِبيتِ، ومِنْ بَلدٍ لآخر، ولو طاف أَرْجَاءِ الأرضِ وأركانها القَصِيَّة.
إيلاَفُ الأَمْكِنَةٌ، لايعني التَعَوُّد أو الاِرتَبِاط الحميم بأجسامِ الأَشْكَالِ الثابتة والمساحات التي تَتَخلَّلَها وتُحِيط بها. أُلْفَةُ المكان لاتَحدُث بمعزلٍ عن الإنسان الذي يَمتزِجُ بالفَرَاغَاتِ ويَمْلَأهَا بحيوية الحياة الفاعلة. البيت يتشكل بمُحَاوَرَةِ الانسان للمكان، حين يمتلئ الإطارٌ بِالصُوَرِ المُزَخْرَفَةِ المتحركة التي تلتصق بالذاكرةِ فتَحْتَشِد الذكريات. الذين بعد الحرب قَعَدُوا على حافةِ الموتِ في البُيُوتِ، ما كانوا عَالِقون بالمباني والْمَرَافِقِ والمنافِعِ وجملة اللواحق، لكنهم مُنْصَهِرون بجَوْهَرِ المكانِ الرَّمزيِّ المُجَرَّدِ، بِالحَيِّزِ الخاصِ الذي تَكَوَّنت في دَاخِلهِ الذَّاكِرَةِ والمِزَاجِ والوِجْدَانِ.
تَّهْجِيرُ السُكّان والسَاكِنات من البيوت بِالإِكْرَاهِ، كان بِدْعَة مِن ضَلال الدعم السريع، الذي جَعَلَ البيوت سَوَاتِراً للقتالِ وثُكُناتٍ للإِعاشَةِ. فهُجِرَت البيوت والأحياء والبلدات، وتَوَحَّشَ المكان وخَلاَ من الناسِ والأنيسِ. البُيُوتُ المُحْتَلُّة التي اِنْتَزعوا أحْشَاءهَا، اِسْتَحَالَت لكُتلٍ ماديةٍ صلبة، صُخُورٌ صَمَّاءٌ يَلْبُدُون وراءها في الأحياء السكنية التي قَلَبوُها لساحاتِ قتالٍ. وفي جانب المعركة الآخر، كان الجيش، لأسبابِ فنية وأخلاقية، وبمعاييرِ قِيمٍ إجتماعية لَا يُدرِكُهَا جِنود الدعم السريع، ينظر للبيوت كعَوَائِقٍ حالت دون تحقيقه لإنجازٍ عَسْكَريِّ حاسمٍ. رغم ذلك، ظلت البيوت من منظار كلا الطرفين، مَنظرها واحد، فهي سَاتِرُ او عَائِق، البيوت التي كانت عَامِرةٌ بحَيَوِيَّةِ النَّاسِ، تحولت لمجرَّدِ أجسامٌ وأشياءِ مَادِّيَّةِ، مَوْجُودُة بالفعلِ، خارج الذهن، في أرضِ المعاركِ.
الفيلسوف الفرنسي، غاستون باشلار1، بِإسلوبهِ اَلسَّهْل اَلْمُمْتَنِع، في تنظيره حول المكان، قال أنه بالتحديد يريد فحص الصور البسيطة للمكان المناسب، وهو أساس بحثه من أجل (تحديد القيم الانسانية لانواع المكان الذي يمكننا الامساك به، والذي يمكن الدفاع عنه ضد القوى المعادية،.
أي المكان الذي نحب. وهو مكان ممتدح ويرتبط بقيمة الحماية التي يمتلكها المكان والتي يمكن ان تكون قيم ايجابية، قيم متخيلة، سريعاً ماتصبح هي القيم المسيطرة. ان المكان الذي ينجذب نحوه الخيال لايمكن ان يبقى مكاناً لا مبالياً، ذا أبعاد هندسية وحسب. فهو مكان قد عاش فيه بشر ليس بشكل موضوعي فقط، بل بكل مافي الخيال من تحيز. نحن ننجذب نحوه لانه يكثف الوجود في حدود تتسم بالحماية.)2 هذا الإقْتِطَاف يَرْوَقُ لي، لما فيه من سُلْوَان، وحيِلَةٌ لِدَفعِ الأحزانِ، قولُ رجل مُجرِّب ومفكر خاض الحرب العالمية الاولى وحضر الثانية، رَأَّى دَمَارَ المُدْنِ وفُقْدَان البُيُوت ومَصَائِب الحروب، وبعد كل ذلك كتب (جماليات المكان).
كمال الجزولي3، قبل عقود من الزمان، نُشِرت له هذه القصيدة، (مثقف… صياغة جديدة لأمثولة
قديمة)
( قالوا له: الحريق في البلد،
هل مس – قال –
في شارعنا أحد؟!
…
قالوا له: النيران في شارعكم
تلتهم الأشجار والحجارة،
أطارت – قال – منها
صوب بيتنا شرارة؟!
… … …
قالوا له: رمادا صار بيتكم،
هذا المساء
صاح: غرفتي،
وأجهش بالبكاء!)…
قال باشلار (الشاعر لايمنحني ماضي صورته، لكن هذه الصورة تتجذر في داخلي)4 وصورة كمال الجزولي الشِعرية تلك، ترسخت في داخلي، لم تكن خامدة، كانت تتحرك وتقفز من حين لآخر كلما ظهر لها شبيه أو نظير، وماأكثر الأَشْبَاه والنَّظائِر في وَاقِعِنا الشَّائِكِ المُتنَاحرِ، الذي مِنْ فَرْطِ التَضَادِّ والاِستقطاب بين قُطْبِيه، اِنْفَجَرَتْ الحربِ المُؤَجَّلةِ. حَربٌ بعدها خرج الحريق من مَجَازِ القصيدة للإشتعال في الحقيقةِ. ولو تَمَّ إِخْمَادِ نِّيرانِ الفِتْنَةِ وتَوْقيفِ هذه الحرب، ستظل تلك الصورة، تتقافز هاربة كغزالٍ من أَبَدِ هذه القصيدة، مِنْ الحريقِ الذى شَبَّ ببَيْتِ الشِّعرِ فبَكَى صَاحِبَهُ عَلَيْهِ ولم يبكِ الوطن. بيتُ المثقف الْغَشِيم، سيكون مَثَلُهُ كَمَثَلِ البيوتِ الأخرى دُونَ تَمْيِيزٍ، فهو مكان شَكَّلَه الناس في سَنواتٍ طِوالٍ، بالأشياءِ الصغيرةِ التي اِنتَظَمتَ في اِتِّسَاقٍ مِثلُ مُنَمْنَمةٍ زَاهِية بَهِيَّة.
﴿ لَّيْسَ عَلَى الْأَعْمَىٰ حَرَجٌ وَلَا عَلَى الْأَعْرَجِ حَرَجٌ وَلَا عَلَى الْمَرِيضِ حَرَجٌ وَلَا عَلَىٰ أَنفُسِكُمْ أَن تَأْكُلُوا مِن بُيُوتِكُمْ أَوْ بُيُوتِ آبَائِكُمْ أَوْ بُيُوتِ أُمَّهَاتِكُمْ أَوْ بُيُوتِ إِخْوَانِكُمْ أَوْ بُيُوتِ أَخَوَاتِكُمْ أَوْ بُيُوتِ أَعْمَامِكُمْ أَوْ بُيُوتِ عَمَّاتِكُمْ أَوْ بُيُوتِ أَخْوَالِكُمْ أَوْ بُيُوتِ خَالَاتِكُمْ أَوْ مَا مَلَكْتُم مَّفَاتِحَهُ أَوْ صَدِيقِكُمْ ۚ لَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَن تَأْكُلُوا جَمِيعًا أَوْ أَشْتَاتًا ۚ فَإِذَا دَخَلْتُم بُيُوتًا فَسَلِّمُوا عَلَىٰ أَنفُسِكُمْ تَحِيَّةً مِّنْ عِندِ اللَّهِ مُبَارَكَةً طَيِّبَةً ۚ كَذَٰلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمُ الْآيَاتِ لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ﴾ [ سورة النور: 61]
بهذهِ الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ، تَمَّ رَفْعَ الحَرَجَ، عن المُسلمينِ ومِنْ ضِمْنِهِمْ ذوي الإحتياجات الخاصة، بِالسَّمَاحِ لهم بتَنَاوُلِ الأكل في البيوت التي تم تحديدها لهم بوضوحٍ، او بإلحاقٍ ضِمْنِيٍّ يزيد من عددها. لم تُجْمِل الآية البيوت في إِطارِ القَرَابَةِ بِاِتِّسَاعٍ، ولكن تَمَّ تحديدها، كلُّ بَيْتٍ وَحْدَهُ، قَائِمٌ بِذاتِه، وهذه دَلالَة تَأَكِيد مُبَاشِرة على ضَبَطِ البَيتِ، بِصِفتَهِ وَحْدَةِ سَكَنِيِّة، ومكانُ الأُسْرةُ الذي يخصها، مع الإلتزام بتوجيه الآية، وهو تَوْسِيعُ المشاركة في الطعامِ. والآية، بِحَسَبِ سيد قطب5،
آية تشريع ( نلحظ فيها دقة الأداء اللفظي والترتيب الموضوعي والصياغة التي لاتدع مجالا للشك والغموض)6
سيد قطب، فَصَلَ آيات التشريع من التَّصويِرِ الفني في القرآن، لكن هذه الآية، فيها كثير من اِحْتِمَالاتٍ كَامِنَة لامُتَناهِية، يمكن تَخَيُّلُ صُورَتِها المتحركة حولَ البيوتِ والطُّرُقَاتِ التي يتنقل بينها المسلمين، بهيئة أجسادهم واحوالها المتباينة، أَشَتَّاتٌ وجماعات، يأكلون هنا، ثم يدخلون ويخرجون من هناك، مَوْقِعُ تصوير مفتوح، يتسق مع نَزْعَاتِ سيد قطب الفنية البليغة، قال( قليل من صور القرآن هو الذي يُعَرض صامتاً ساكناً، أما أغلب الصور ففيه حركة مضمرة أو ظاهرة، حركة يرتفع بها نبض الحياة، وتعلو بها حرارتها،…ويجب أن ننبه الى نوع هذه الحركة، فهي حركة حيَّة مما تنبض به الحياة الظاهرة للعيان، أو الحياة المضمرة في الوجدان، هذه الحركة هي التي نسميه "التخييل الحسي"، وهي التي يسير عليها التصوير في القرآن لبث الحياة في شتى الصور )7
سيد قطب في شبابِهِ وباشلار في شيخوخته، رغم تفاوت أعمارهم، كان بينهما تقارب حول مفهوم الصورة، وهي من النقاط المركزية في مباحثهما التي كانت في ذاتِ الحِقْبةِ الزمنية، منذ منتصف ثلاثينيات القرن الماضي ومابعدها. ودون قصد إجتمعا هنا، في مقالٍ عن البيوت، التي تَشابهت دون قصد أيضاً، منذ بيوتِ المدينة المنورة في فجرِ الاسلام إلى بيوتِ اوربا في القرنين الماضيين أمَّا البيوت التي فَرَرْنَا من حِيشانِها وحُجُراتها الآن، فقد كانت مثل بيوتهم، لكن الذي حدث فيها ولها مع الحرب، أَقْعَدَها خارج سِياق المُقَارنة، مع بيوت الآخرين ومع تاريخها ذاته.
الحَنِينُ للأوْطَانِ والبيوتِ والأَصْحَابِ، سِمةُ لازِمة لِشَجْنِ المَهَاجِرِ والمَنَافِي والاِغْتِرَابِ. بِالصَّبرِ والتَّحَمُّلِ كان الناس يَتَغَلَّبُون عليه، ثم صاروا يتَجمَّلُون بِسُلْوَانِ وسائط التواصل الإجتماعي، وفيها يُشاهِدون أطفالِ الأُسْرةِ وعجائز البيت، ينظرون لوجوهِ أَهْلَهم ويلمحون خلفهم أثاث البيت القديم المُحَبَّب الصامد، يرون الكَراكِيب مخبأة في الزُّقَاقِ ، والشَّجَرةُ العَجُوُز التي ضَمَّت في جِذْعِها تاريخ البيت وروحه، مازالت واقِفة بجنب باب الشارع. المكان المحمول في الخاطر والذاكرةِ لم ينفصل عن مَنْبَتِه، بِدفقِ المنابِع الحَيَّويِةِ فيه، وبِقُوِّةِ البَثِّ التي تَنْدَاح موجاتها الأثِيريَّة منه، فقد كانت البيوت المفتوحة العَامِرة بالناسِ، هي العَزَاءِ والسَّلْوَى لِلمُسَافِرِين والمهاجرين بَعِيدِ عنها. هذا ماكان…
أَمَّا الآن، البُيُوتٌ مُحْتَلَّةٌ، ومُوحِشةٌ مُخِيفَة، بجوارِها بُيُوتٍ مَهْجُورَةٍ مَنْهُوبة، في حَيِّ خالٍ مِنْ السُكُّانِ، كل شئ فيه يُثِيرُ الذُّعرَ، كأنه خَرَابَاتٌ مَسْكُونة بالجِنِّ. أينما ذهبتَ في مدن الحرب، يُعَادّ لِنَاظِرِكَ هذا المَشْهَدِ الجَارِجِ. فقد توقف نَبَض البيوت الذي كان يَضُخُّ دَفَقِ الحياةِ في شرايينِ المهاجرينِ في أقاصي الأرض. إنقطع رَنين الهواتف، لاصوتُ سِوىَ عُوَاءُ الكِلابِ المَسعُورّةِ الذي يَشقَّ السُّكُون عندما تَسكُّتَ آلات الحرب.
جِراحُ التَّهْجِيرُ القَسرِيَّ مِنْ الأَماكِنِ والبيوتِ قد تَلتَئِم بمرورِ الأيامِ وشَوَاغِلِ الحياة المُلِحَّة.
وببصِيرةِ النساء الحكيمات اللواتي تَحَمَّلَن وَيْلُ الحرب، وسوف يحَملِّنَ أَعْبَاءِها الثقيلةِ، فربما تَخُفتَ الآلام وتَندَاح سحائب الكآبة من سَماءِ الوطنِ والبِلاد والأمكِنَة المَحْبُوبة. (حتَّام نرجوا إنفراج الأَذَى)8 بعد الطَعَنَةِ النَجْلاَءِ التي سَدَّدَتها قوات الدعم السريع للمجتمِعِ في قلبِ بيوتهِ.
هذا الفِعل سوف يُخَلَّدُهم في التراثِ الشعبي، بمَأثُورَاتٍ مِنْ قَصَصِ المَآسِي والطرائف، وبِأَمثَالٍ وقصائدٍ ومَنَاحَاتٍ، بإِيقَاعِ الغناءِ ونغماتهِ. فالأَدَبُ الشَّعْبِيُّ، يَنَابِيعه فَوَّارَة، ليس لتَدَفُّقِها حدود، ولا لتَوَقُّفِها زمن. غاستون باشلار، حِين اِمْتَدَحَ المكان الجاذب وتحيَّز للحيوية الإنسانية التي تُكَثِّف الوجود داخله، كان ذلك بِشَرْطِ أن يكون له حُدُود تتوفر بها الحماية ضد القوى المُعادِية، وقد قال الحقيقة. فالمساكن بنات السَّكِينَة، والبيوت أخواتها التي تَهَب السُكَّان الطُمَأْنِينَةِ وثَبَات
القُلُوب، والقُلوب مازالتَ تَرتجِفُ من أَثَرِ اللَّدغَةِ الأُوْلَى.
1/ غاستون باشلار، ١٨٨٤-١٩٦٢، فيلسوف وكاتب فرنسي، بدأ حياته العلمية والعملية بالعلوم التجريبية ثم تحول لاحقاً لحقل التخيل والادب ومنه نال شهرته
2/ غاستون باشلار : جماليات المكان، ترجمة غالب هلسا صفحة ٣١
3/ كمال الجزولي ١٩٤٧م مفكر سوداني، باحث وشاعر، حقوقي مصادم للانظمة الشمولية، له مسهامات عديدة منشورة، لتفاصيل اكثر يمكن الرجوع ل ويكيبيديا الموسوعة الحرة.
4/ جماليات المكان صفحة ١٨
5/ سيد قطب: ١٩٠٦ _ ١٩٦٦م مفكر مصري، أديب وناقد أدبي متميز، تحول للدراسات الاسلامية، ثم الاسلام السياسي القتالي، تم إعدامه في سنوات حكم عبدالناصر.
6/ سيد قطب : في ظلال القرآن تفسير سورة النور الاية ٦١
7/ سيد قطب: التصوير الفني في القرآن صفحة ٧٢
8/ النور عثمان ابكر
[email protected]
المصدر: سودانايل
كلمات دلالية: المکان الذی سید قطب ة التی التی ت الذی ی
إقرأ أيضاً:
أحمد زيور باشا.. الحاكم الذي جمع القوة والعقل والإنسانية
أحمد زيور باشا، هذا الاسم الذي يلمع في صفحات التاريخ المصري، ليس مجرد شخصية سياسية عابرة، بل هو رمز للإصرار والعطاء والتفاني في خدمة وطنه.
ولد زيور باشا في الإسكندرية عام 1864 في أسرة شركسية تركية الأصل، كانت قد هاجرت من اليونان، لكنه بالرغم من جذوره الأجنبية، حمل قلبه وروحه على مصر، وجعل منها مسرحا لحياته المليئة بالعطاء والمسؤولية.
منذ نعومة أظافره، أظهر أحمد زيور براعة وحسا عميقا بالواجب؛ فقد التحق بمدرسة العازاريين، ثم واصل دراسته في كلية الجزويت ببيروت، قبل أن يتخرج من كلية الحقوق في فرنسا، حاملا معه العلم والخبرة ليخدم وطنه الغالي.
طفولته لم تكن سهلة، فقد كان صبيا بدينا يواجه العقوبات بحساسية شديدة، وكان العقاب الأصعب بالنسبة له مجرد “العيش الحاف”، لكنه تعلم من هذه التجارب الأولى معنى الصبر والمثابرة، وكان لذلك أثر واضح على شخصيته فيما بعد، إذ شكلت بداياته الصعبة حجر أساس لصقل إرادته القوية وعزيمته التي لا تلين.
عندما عاد إلى مصر بعد دراسته، بدأ أحمد زيور مسيرته في القضاء، ثم تقلد مناصب إدارية هامة حتى وصل إلى منصب محافظ الإسكندرية، وبدأت خطواته السياسية تتصاعد بسرعة.
لم يكن الرجل مجرد سياسي يحكم، بل كان عقلا مفكرا يقرأ الواقع ويفكر في مصلحة الوطن قبل أي اعتبار شخصي، تولى عدة حقائب وزارية هامة، منها الأوقاف والمعارف العمومية والمواصلات، وكان يتنقل بين الوزارات بخبرة وإخلاص، ما جعله شخصية محورية في إدارة شؤون الدولة، وخصوصا خلال الفترة الحرجة بعد الثورة المصرية عام 1919.
لكن ما يميز أحمد زيور باشا ليس فقط المناصب التي شغلها، بل شخصيته الإنسانية التي امتزجت بالحكمة والكرم وحب الدعابة، إلى جانب ثقافته الواسعة التي جعلته يجيد العربية والتركية والفرنسية، ويفهم الإنجليزية والإيطالية.
كان الرجل يفتح صدره للآخرين، ويمتلك القدرة على إدارة الصراعات السياسية بحنكة وهدوء، وهو ما جعله محل احترام الجميع، سواء من زملائه السياسيين أو من عامة الشعب.
عين رئيسا لمجلس الشيوخ المصري، ثم شكل وزارته الأولى في نوفمبر 1924، حيث جمع بين منصب رئاسة الوزراء ووزارتي الداخلية والخارجية، مؤكدا قدرته على إدارة الأمور بيد حازمة وعقل متفتح.
واستمر في خدمة وطنه من خلال تشكيل وزارته الثانية، حتى يونيو 1926، حريصا على استقرار الدولة وإدارة شؤونها بحنكة، بعيدا عن أي مصالح شخصية أو ضغوط خارجية.
زيور باشا لم يكن مجرد سياسي تقليدي، بل كان رمزا للفكر المصري العصري الذي يحترم القانون ويؤمن بالعلم والثقافة، ويجمع بين الوطنية العميقة والتواضع الجم.
محبا لوالديه، كريم النفس، لطيف الخلق، جسوره ضخم وقلوبه أوسع، كان يمزج بين السلطة والرقة، بين الحزم والمرونة، وبين العمل الجاد وروح الدعابة.
هذا المزيج الفريد جعله نموذجا للقيادة الرشيدة في وقت كان فيه الوطن بحاجة لمثل هذه الشخصيات التي تجمع بين القوة والإنسانية في آن واحد.
توفي أحمد زيور باشا في مسقط رأسه بالإسكندرية عام 1945، لكنه ترك إرثا خالدا من الخدمة الوطنية والقيادة الحكيمة، وأصبح اسمه محفورا في وجدان المصريين، ليس فقط كوزير أو رئيس وزراء، بل كرجل حمل قلبه على وطنه، وبذل كل ما في وسعه ليبني مصر الحديثة ويؤسس لمستقبل أفضل.
إن تاريخ زيور باشا يعلمنا درسا خالدا، أن القيادة الحقيقية ليست في المناصب ولا في السلطة، بل في حب الوطن، والعمل الدؤوب، والوفاء للعهود التي قطعناها على أنفسنا تجاه بلدنا وشعبنا.
أحمد زيور باشا كان نموذجا مصريا أصيلا، يحكي عن قدرة الإنسان على التميز رغم الصعاب، ويذكرنا جميعا بأن مصر تحتاج دائما لأمثاله، رجالا يحملون العلم والقلب معا، ويعملون بلا كلل من أجل رفعة وطنهم وشموخه.
ومن يقرأ سيرته، يدرك أن الوطنية ليست شعارات ترفع، بل أفعال تصنع التاريخ، وأن من يحب وطنه حقا، يظل اسمه حيا في ذاكرة شعبه، مهما رحل عن الدنيا، ومهما تبدلت الظروف.