ليبيا دولة وشعباً صارت في مهب الأعاصير والعواصف
طوفان درنة اقتحم التاريخ، ووضع بصماته العميقة على ليبيا، شعباً ودولة، صفحات التجارب عبر الأزمنة، شاهدة على منعطفات حادة واجهت بلاد عمر المختار، تعقيدات وتشابكات الأحداث، لم تأتِ بما تشتهيه السفينة الليبية، فالأنواء والعواصف تضربها بقسوة من مرحلة إلى أخرى، كأن قدر الجغرافيا والتاريخ، يلازم هذا الشعب منذ فجر التاريخ.
فمن نكد الأرقام أن يتزامن هذا الإعصار الكارثي مع يوم الحادي عشر من سبتمبر (أيلول) على الأراضي الأمريكية، ذلك اليوم الذي ترتب عليه تغيير وجه التاريخ، فضلاً عن تزامنه مع أحداث أيلول الأسود في الأردن وفلسطين، كأن هناك ناظماً سبتمبرياً يسجل تاريخ الكوارث التي تصنع التحولات في الأمم والشعوب.
تأملت سياق الأجواء التي فرضها الإعصار، من دون أن أفصله عن محطات صعبة مرت بها ليبيا، تذكرت هذه البلاد الشاسعة، الغنية بمواردها الطبيعية، وقد وصفها المؤرخون القدامى، بأنها كانت قبل آلاف السنين جنة خضراء، بينما لاحقها غضب الطبيعية، فحوّلها صحراء جرداء عاني سكانها الجفاف والتصحر والهجرة المؤقتة في بعض الأوقات، ومع ذلك صمد الشعب الليبي، طوال آلاف السنين، وهكذا ظلت ليبيا تواجه أخطار الطبيعة، ما إن تنجو من تمرد الطبيعة، حتى تجد نفسها في حروب جديدة مع البشر، فقد تعاقب عليها الإغريق، والرومان، والعثمانيون، والإيطاليون، وصولاً إلى أحداث 17 فبراير (شباط) عام 2011، التي دمّر فيها حلف الناتو، البنية التحتية للدولة الليبية، وترك انقساماً عميقاً بين النخبة السياسية، لا يزال الشعب يدفع ثمنه إلى الآن، فخلال عقد مضى اختلطت الأوراق، سباق محتدم وأطماع شرهة، وعدم يقين في استقرار البلاد، غابت السياسة بغياب الإرادة الوطنية، دب اليأس في نفوس الشعب الليبي، كلما تقدم خطوة نحو الوحدة والاستقرار، وإعادة مؤسسات الدولة، يجد نفسه مشدوداً إلى الوراء، ورهناً لعنوان دائم اسمه «المراحل الانتقالية»، فاض كيل الصبر، باغت إعصار دانيال، هذا المشهد بالكامل، لم يستأذن في الدخول، ولم يضع في حسبانه محنة الشعب، ولم يشفع للمختلفين طوال عشر سنوات عند المستقبل، اقتلع الإعصار البنية الأساسية، ومعها تلاشت آمال الحلول السياسية، فالخسائر فادحة، الضحايا والمفقودون بالآلاف، الكارثة إنسانية من دون شك.
فإلى مَن نوجه اللوم؟ هل إلى إعصار دانيال؟ أم إلى الخلافات والانقسامات التي حالت دون بناء الدولة، أم من قبل كل ذلك، نلوم حلف الناتو، الذي دمّر مقدرات الدولة الليبية بالكامل؟
ربما تتباين وجهات النظر، حول مسيرة المتغيرات والصدمات التي مرّت بها ليبيا، لكن الثابت أن ليبيا دولة وشعباً صارت في مهب الأعاصير والعواصف، لم تعد في حاجة إلى الدواء التقليدي الذي أصابها بأعراض جانبية خطيرة، فهذا الدواء قادها إلى غرفة الإنعاش، لكننا لم نفقد الأمل في استعادة عافية الدولة الليبية الوطنية، اللحظة تتطلب قراءة الدروس بعناية.
"إعصار دانيال" ليس هو الاختبار الوحيد، لكنه الأكثر قسوة، من حيث آثاره الإنسانية والاجتماعية والسياسية، وحتى الاقتصادية، لم تعد الغاية المنشودة هي إعادة الإعمار في حد ذاتها، فأي إعمار من دون إرادة ووحدة، لا يفضي إلى التئام الجروح، الرسالة تعرفها جيداً كل الأطراف الليبية الفاعلة، من الممكن شراء كل شيء إلا الأوطان، وليبيا ما بعد دانيال، وطن لن يحتمل أي اختبارات جديدة، على الجميع أن يفكر بضمير يقظ في مصير العباد والبلاد الليبية، ويتجرد من الأهواء والحسابات السياسية الضيقة، فالمهمة ثقيلة، فبعد أن كان الشعب الليبي يبحث عن حلول سياسية لأوضاعه الاجتماعية، بات يقتفي أثر الوجود والبقاء، على قيد الحياة. صور الضحايا المعلقة على جدران المنازل حفرت أحزاناً، لا يمكن أن تسقط بالتقادم، ولن يقبل مصابوها، بأن تصبح آلامهم وأحزانهم بضاعة رائجة في الأسواق السياسية، دانيال صنع جسراً ليبياً في اتجاه واحد، لا مجال للعودة إلى الوراء، أو السير في الاتجاه المعاكس.
ليس مستحيلاً العبور من هذه المحنة، الإرادة الحقيقية تستطيع تحويل الأزمة فرصة، شريطة أن تخلص النيات، ويلتف الجميع حول هدف واحد، هو عودة الدولة الليبية الواحدة، وإعادة إعمارها، وتأسيس بنية تحتية سياسية واقتصادية واجتماعية، تصلح لمواجهة الأعاصير الطبيعية والبشرية، وأن يدرك الليبيون أن المصير بات مهدداً، ومعلقاً على تطابق الرؤى، وخلق المساحات المشتركة، واحترام الاختلاف، المشروع بين النخب السياسية، والانتقال من معسكر تحقيق أكبر قدر ممكن من المكاسب إلى معسكر المشروع الوطني الجامع لكل الليبيين، بمختلف أطيافهم وتوجهاتهم، فليبيا تستحق من أبنائها التضحية، ومن أشقائها الدعم الكامل، ومن محيطها العالمي التفهم لمشروعية مطالب الليبيين في الأمن والاستقرار والسلام، وعلينا ألا نغفل أن ليبيا صاحبة مشوار طويل في الصمود، أمام كل التحديات التاريخية، بدءاً من الغزاة القدامى والجدد، ونهاية بمحنة درنة، فالوحدة كانت هي كلمة السر، وباتت الخيار الإجباري.
المصدر: موقع 24
كلمات دلالية: زلزال المغرب انتخابات المجلس الوطني الاتحادي التغير المناخي محاكمة ترامب أحداث السودان سلطان النيادي مانشستر سيتي الحرب الأوكرانية عام الاستدامة ليبيا
إقرأ أيضاً:
العراق: عن هشاشة الدولة التي لا يتحدث عنها أحد!
تتباين التقييمات المتعلقة بالاقتصاد العراقي، حسب اختلاف مصادرها سواء كانت تقارير دولية، أو تصريحات وأرقام رسمية عراقية (في حال توفرها طبعا، فثمة عداء تاريخ بين المؤسسات العراقية وحق الوصول إلى المعلومات) حتى ليبدو الأمر وكأننا نتحدث عن دولتين مختلفتين!
فلو راجعنا موقع البنك المركزي العراقي، سنجد أن آخر تقرير عن الاستقرار المالي يعود إلى عام 2023، وإلى نهاية الشهر الخامس عام 2025، ولم يصدر تقرير الاستقرار المالي لعام 2024!
كما لم يصدر حتى اللحظة التقرير الخاص بالفصل الأول من عام 2025 الخاص بـ«الإنذار المبكر للقطاع المصرفي». لكن مراجعة التقرير الخاص بالفصل الرابع عام 2024 تكشف انخفاض صافي الاحتياطي الأجنبي بنسبة (10.2٪) حيث بلغ 103.8 ترليون دينار عراقي بعد أن كان 145.6 تريليون دينار عراقي نهاية الفصل الرابع عام 2023، ولم يقدم البنك تفسيرا لأسباب هذا الانخفاض، بل اكتفى بالقول إن «النسبة بقيت إيجابية ومؤثرة لأنها أعلى من النسبة المعيارية المحددة بنسبة 100٪»!
يشير التقرير أيضا إلى أن الدين الداخلي حقق نموا في الفصل الرابع من العام 2024 بنسبة 17.0٪ مقارنة بذات الفصل من العام 2023، ليسجل 83.1 ترليون دينار عراقي (حوالي 63 مليار دولار) بعد أن كان 70.6 ترليون دينار (53.48 مليار دولار) في الفصل الرابع من العام 2023. وأن نسبة هذا الدين بلغت 53.92٪ من إجمالي الدين العام، فيما انخفض معدل الدين الخارجي في هذا الفصل بنسبة 2.9٪ مقارنة بذات الفصل من العام 2023، وشكل الدين الخارجي 46.08٪ من إجمالي الدين في هذا الفصل (مقارنة الدين الخارجي هذه بالأرقام التي أطلقها الناطق الرسمي باسم الحكومة العراقية والذي تحدث عن انخفاض الدين الخارجي الى 9 مليارات دولار فقط تبيّن الاستخدام السياسي لهذه الأرقام)!
أما بالنسبة للناتج المحلي الإجمالي، فيشير التقرير إلى أنه قد سجل ارتفاعا في الفصل الرابع من العام 2024 ليبلغ 95.6 ترليون دينار عراقي بالأسعار الجارية، مسجلا نموا بنسبة 7.5٪ مقارنة بذات الفصل من عام 2023، إذ كان يبلغ 88.9 ترليون دينار. ويقدم التقرير سببا وحيدا لهذا النمو وهو «نتيجة ارتفاع الإنفاق الحكومي بنسبة تجاوزت 30٪ خلال ذات الفترة»! ولكن التقرير لا يقدم لنا أي معلومة أو تفسير لأسباب هذا الارتفاع غير المفهوم للإنفاق الحكومي، وإذا ما كان مرتبطا بتحقيق الاستقرار الاقتصادي والنمو المستدام، أم مرتبط بسياسات ارتجالية ذات أهداف سياسية بحتة، فارتفاع الإنفاق الحكومي قد يكون في أحيان كثيرة دليل على الفشل وليس النجاح، خاصة إذا أدى الى عجز أو ارتفاع الدين العام وزيادة معدلات الفساد!
أما فيما يتعلق بالتضخم، فتقرير العام 2023 «الإنذار المبكر للقطاع المصرفي» ينبهنا إلى الانخفاض في نسب التضخم إلى آلية حساب تلك النسبة، إضافة إلى تغيير سنة الأساس من احتساب الرقم القياسي للأسعار من 2012 إلى 2022، وبالتالي نحن أمام أرقام خادعة تماما فيما يتعلق بحساب نسب التضخم وذلك لارتفاع نسبة التضخم في العام 2022 قياسا إلى العام 2012.
واعتمادا على ذلك فقد سجل معدل التضخم في الفصل الرابع من عام 2024 (2.8٪) بعد أن كان 3.5٪ في الفصل الثالث من ذات العام، لينتهي إلى أن هذا يدل على «وجود استقرار في المستوى العام للأسعار»، من دون أن يقارن ذلك مع معدل التضخم في الفصل الرابع من العام 2023 وفقا لمنهجية التقرير! ولكن الترسيمة المصاحبة تقول شيئا مختلفا تماما، فقد سجل الفصل الأول من العام 2024 تضخما بنسبة 0.8٪، ليرتفع هذا المعدل في الفصل الثاني إلى 3.3٪، ثم ليرتفع إلى 3.5٪ في الفصل الثالث، وبالتالي فإن الانخفاض الذي سجله الفصل الرابع الذي عده التقرير دليلا على «الاستقرار في المستوى العام للأسعار» تنقضه تماما هذه الأرقام، وتكشف عن معدل تضخم وصل في الفصل الرابع إلى 3.5 أضعاف معدل التضخم في الفصل الأول، وهو دليل على عدم استقرار المستوى العام للأسعار!
وبدلا من أن تدق هذه الأرقام ناقوس الخطر حول الوضع المالي، أعلنت الحكومة العراقية في جلستها يوم 15 نيسان 2025، تخويل وزارة المالية سحب مبالغ الأمانات الضريبية التي لم يمض عليها خمس سنوات، وهي تزيد على 3 ترليونات و45 مليار دينار عراقي لتمويل وتسديد رواتب شهر نيسان والأشهر اللاحقة، ويعني هذا عمليا أنها قد أضافت إلى موازنتها المقررة مبلغا يزيد على 2.6 مليار دولار، وأنها أضافت دينا داخليا إضافيا إلى إجمالي الدين العام بمبلغ يزيد على 2.6 مليار دولار دون سند قانوني، وأنها خالفت قانون الموازنة وقانون الإدارة المالية للدولة!
على الجانب الآخر أصدر صندوق النقد الدولي يوم 15 أيار 2025 البيان الختامي لخبراء الصندوق في ختام مشاورات جرت في بغداد وعمان. وكان من بين التوصيات أن على العراق اتخاذ تدابير عاجلة للمحافظة على الاستقرار المالي.
فالتقرير يتوقع أن يتراجع الناتح المحلي الاجمالي للعراق الى نسبة 2.5٪ في العام 2014، وهو ما يتناقض مع الأرقام التي قدمها البنك المركزي! ويرجع التقرير إلى التباطؤ في الاستثمار العام، وفي قطاع الخدمات، فضلا عن زيادة الضعف في الميزان التجاري، وبالتالي لا أحد يعرف أين يذهب هذا الحجم الكبير من الإنفاق العام الذي أشار اليه البنك المركزي العراقي.
لكن تقرير صندوق النقد الدولي يتورط باعتماد الرقم الرسمي العراقي المتعلق بنسبة التضخم، دون أن ينتبه إلى مغالطة الأرقام!
والتقرير يشرح أسباب تراجع الوضع المالي وانخفاض الاحتياطي الاجنبي، فيؤشر على أن العجز المالي للعام 2014 بلغ 4.2٪ من إجمالي الناتج المحلي، مقارنة بنسبة 1.1٪ في العام 2023. وهو يعزو أسباب ارتفاع الإنفاق الحكومي إلى الارتفاع في الأجور والرواتب (بسبب سياسات التوظيف المرتبطة برشوة الجمهور) ومشتريات الطاقة، وليس إلى تحقيق الاستقرار الاقتصادي والنمو المستدام. ويتوقع التقرير أن يتباطأ الناتج المحلي الاجمالي عام 2025، فضلا عن انخفاض الاحتياطات الأجنبية!
أما بالنسبة لأولويات السياسات المطلوبة تبعا لصندوق النقد الدولي، فيقينا أن لا يلتفت إليها أحد في العراق؛ ولن توقف الحكومة الحالية التوسع الكبير في الإنفاق الحكومي والمالية العامة، أو تقوم بفرض ضرائب انتقائية على الاستهلاك أو زيادتها، لاسيما أننا في موسم انتخابات، بل بالعكس هو ما سيحدث!
وستبقى سياسات التوظيف قائمة لأنها أداة رئيسية لرشوة الجمهور ووسيلة لصنع الجمهور الزبائني، وبالتالي لن يتوقف ارتفاع الدين العام، تحديدا الدين الداخلي، لتمويل العجز، ولن تفكر أي حكومة في إصلاح ضريبة الدخل، أو الحد من الاعفاءات الضريبية، أو تحسين الجباية فيما يتعلق بالخدمات، أو فرض ضريبة مبيعات، أو الحد من التوظيف في القطاع العام، أما مكافحة الفساد، او الحد منه، فهو أمر مستحيل، لأن الفساد في العراق أصبح فسادا بنيويا، وبات جزءا من بنية النظام السياسي، وجزءا من بنية الدولة نفسها، والأخطر من ذلك أنه تحول إلى سلوك بطولي في المجتمع العراقي!
القدس العربي