إسرائيل.. تتأخّر لتعويض ما لا يمكن تعويضه!
تاريخ النشر: 17th, October 2023 GMT
بدأتُ بكتابة هذه المقالة في مطالع اليوم الحادي عشر لعملية "طوفان الأقصى". في العادة كان عدوان الاحتلال على غزّة ينقضي بعد عشرة أيام، أو تكون الخطوة التالية هي "وقف إطلاق النار"، لكن الحاصل هذه المرّة أنّ العدوان في بدايته، ليس فقط لأنّ الأيام العشرة الماضية لم تكن كافية ليقضي شهوة الانتقام، أو ليرمّم هيبة جيشه بإلقاء كلّ ما لديه من مقذوفات على المكان الأكثر اكتظاظا في العالم في المساحة الأصغر، كلّ ما لديه، لأنّ ما لديه نفد فزودته أمريكا بالمزيد، ليس لأجلّ ذلك فحسب هو يقف في البداية، ولكن لأنّه في وضع غير معتاد عليه، في وضع يُبشّر بقتال حقيقيّ، يتجنّبه منذ عدوانه في العام 2014، ويتنافر مع الوضع الذي تحوّل إليه، من الجيش الذي يُبادر إلى الزحف والقتال إلى الجيش المحتمي بالمجسّات والتكنولوجيا الفائقة!
أخطر ما في "إسرائيل" الآن جرحها.
لا يكاد يملك الطرف الآخر إلا البنادق، وما سوى ذلك أسلحة من قذائف مضادة للدروع، وعبوات متفجّرة، يصنعها بنفسه في قلب الحصار المطبق، إذن ما هذه الحرب البرّية في هذه المساحة وبهذا الفارق غير القابل لقياس القوّة أصلا؟!
هذا الموقف الغريب من الهياج داخل الزاوية، زاوية الحسابات الدقيقة، والخيارات التي تتنازعها إرادة الانتقام والخشية من الانتقام نفسه، تتنازعها ضرورة الانتقام وضعف الإرادة السابقة على داعي الانتقام، هو غريب من جهة أخرى، وهي جهة الحرب البرّية نفسها على قطاع غزّة، وجهة أن تسمّي "إسرائيل" ما كانت تسمّيه "عملية" أو "حملة" حربا هذه المرّة؛ لأوّل مرّة منذ حرب تشرين/ أكتوبر 1973. فذلك العمق الجغرافي لـ"إسرائيل" كلّه والممتدّ على جبهتين في جنوبها وشمالها، بحيث تصير هي كلّها فيه، وسوريا ومصر، وبين جيوش دول، لا مثيل له الآن، فما ينبغي أن يكون جولة سهلة في هذه الـ365 كيلو مترا مربعا لهذه المساحة المسمّاة قطاع غزّة، يصير "حربا برّيّة"، حربا المدرّعاتُ فيها المستظلّة بالطائرات الخارقة لا يملكها إلا طرف واحد. لا يكاد يملك الطرف الآخر إلا البنادق، وما سوى ذلك أسلحة من قذائف مضادة للدروع، وعبوات متفجّرة، يصنعها بنفسه في قلب الحصار المطبق، إذن ما هذه الحرب البرّية في هذه المساحة وبهذا الفارق غير القابل لقياس القوّة أصلا؟!
تبدو القصّة غير قابلة للتصديق، لكنّها حقيقية بالفعل، لأنّ الإرادة هي التي صنعت الفارق وقلّصت المسافة، التي يُفترض أنّها غير قابلة بدورها للتقليص. والإرادة، والحالة هذه، لا تعود شعارا تحفيزيّا، ولكنّها واقع يحمل "إسرائيل" على تسمية ما كان يوما جولة ساعات على الأكثر، حربا، في تلك المساحة المستعصية على التحديد على الخريطة، وضدّ من لا يملك مسمارا في دبّابة، ليصير القتال بين الإرادة، الإرادة التي رسمت هذه الصورة الأسطورية الحقيقية جدّا، وبين كتلة القوّة المرتصّة من الطائرات والدبابات والصواريخ ومئات آلاف الجنود، ومن خلف ذلك العالم الغربي كلّه، الزاحف بالبوارج وحاملات الطائرات.
لم يكن لهذا الموقف الغريب التشكّل، لولا إدراك المقاومة في غزّة لـ"إسرائيل" على ما باتت عليه، لكن ما باتت عليه "إسرائيل" ساهمت هذه المقاومة في صنعه، ومن ثمّ صار لا بدّ من الاستثمار فيه، في لحظة سُمّيت بالانسداد التاريخي، أي أن الاستحالة قد انغلقت على الممكنات النضالية للفلسطينيين، إلا أنّ ما كانت تراه كتائب القسام غير ذلك، بإدراكها ما باتت عليه "إسرائيل"، وهو ما احتاج عملية فائقة في شكلها ومعناها، لتحقيق الخلخلة اللازمة فيما يبدو انسدادا تاريخيّا
وينغي أن يكون حاضرا دائما أن ذلك كلّه يتأهّب لدخول غزّة، بمساحتها تلك التي لا تكاد تُذكر، وبالقوات تلك التي تتأهّب فيها بالإرادة فحسب، ليكون المعنى شديد الحدّة والكثافة، إذ هذا الموقف في وضع آخر أقرب إلى الكوميديا السوداء، أو العبثية الخالصة. في وضع آخر، لو تحصّل فيه موقف بهذا النحو، سيبدو العالم قد فقد عقله، ولكن العالم، وفيه "إسرائيل" وأمريكا وهذه الدول المرتجفة من إصبع التهديد الأمريكي، مفرطة في عقلانيتها، إلى درجة ارتسام هذا الموقف الغريب جدّا، والواقعي جدّا!
لم يكن لهذا الموقف الغريب التشكّل، لولا إدراك المقاومة في غزّة لـ"إسرائيل" على ما باتت عليه، لكن ما باتت عليه "إسرائيل" ساهمت هذه المقاومة في صنعه، ومن ثمّ صار لا بدّ من الاستثمار فيه، في لحظة سُمّيت بالانسداد التاريخي، أي أن الاستحالة قد انغلقت على الممكنات النضالية للفلسطينيين، إلا أنّ ما كانت تراه كتائب القسام غير ذلك، بإدراكها ما باتت عليه "إسرائيل"، وهو ما احتاج عملية فائقة في شكلها ومعناها، لتحقيق الخلخلة اللازمة فيما يبدو انسدادا تاريخيّا. وهذا النوع من التفكير يحتاج جرأة، لا تتوفّر إلا على قاعدة من الإيمان، الذي بدوره ارتفعت عليه الإرادة، هذه الإرادة الآن تحتاج "إسرائيل" تقليص الفجوة نحوها بفائض القوّة.
هذا التأخير الكبير الحاصل قبل الذهاب إلى "الحرب البرّية"، هو تعبير عن هذه المعضلة الإسرائيلية، معضلة أنّ المقاتل المحاصر في البيئة الضيقة المكشوفة بات قادرا على مفاجأة القوّة المدجّجة بالدبابة والطائرة والبارجة، وإيقاع الهزيمة المحقّقة بها، كما حصل فجر السابع من تشرين/ أكتوبر، ومن ثمّ تعلم دولة الميركافاه أنّ ما ينتظرها داخل غزّة أصعب، وهذه الدولة، بالرغم من غطرستها وكونها جيبا للإمبراطورية الأمريكية وبالرغم من دلالها على العالم، تعلم أنّ العالم يتغيّر ولن يسير بالضرورة على هوى دلالها، وأنّ هذا المقاتل المسلّح بالإرادة من أهمّ من يغيّر في هذا العالم، ولذلك فإنّها لم تتمكن من تحديد أهدافها وصياغة خطّتها المفصّلة للحرب البرّية، ولتبدو أهدافها أوّل الأمر ترهيبية مرتفعة جدّا، مؤسّسة على وجوب ترميم الصورة والإحساس بأن ما كانت تخشى من خسارته قد خسرته أصلا فجر السابع من تشرين/ أكتوبر، ثمّ لتؤول تالي الأمر إلى البحث في أهداف أكثر قابلية للتحقّق وبأقلّ قدر ممكن من الخسائر لتعود بصورة انتصار ما.
تبحث "إسرائيل" ومعها أمريكا عن الشروط الممكنة لعملية برّية تحقّق صورة الانتصار بأقلّ كلفة ممكنة، وما هو واضح أنه دخول متدحرج يسعى (ويا للمفارقة) إلى تقليص الفجوة، الفجوة مع المقاتل الذي لا يكاد يملك شيئا، تقليص الفجوة بمضاعفة الاستناد للقوّة، قوّة رصّ الدبابات والجنود على الأرض المحروقة، لتقليص الفجوة مع إرادة المقاتل الفلسطيني!
هذا التردّد داخل الزاوية كاشف عن مفارقة أخرى، فالدافع للانتقام هو الكابح للانتقام، فـ"طوفان الأقصى" الذي فتق جرح الكبرياء الإسرائيلي بحيث لم يبق أمام الإسرائيلي مناص من "إعلان الحرب"، فرض عطلا عملياتيّا بتدمير فرقة غزّة في الجيش الإسرائيلي المسؤولة عن العمليات الحربيّة ضدّ غزّة، وأنذر، لا بالصوت العالي ولكن بالفعل المحقّق، أن من تجرأ بضخّ الطوفان مستعد لما بعده، لكن يبقى الجرح مضطرا للدواء، الذي هو الانتقام وصورة النصر، فما العمل؟!
بالضرورة، تأخّرت "الحرب البرّيّة"، لذلك كلّه، ولأنّه صار لا بدّ من خطّة يطالب بها الأمريكي الذي لا بدّ وأنّه حريص أيضا على أن يمسح عار الهزيمة الإسرائيلي، ثمّ لأنّ التدافع في العالم لازم للوجود البشري بما لا يمكن للغطرسة الإسرائيلية نفيه، وبالإضافة إلى الأسباب السياسية والعملياتية، تبحث "إسرائيل" ومعها أمريكا عن الشروط الممكنة لعملية برّية تحقّق صورة الانتصار بأقلّ كلفة ممكنة، وما هو واضح أنه دخول متدحرج يسعى (ويا للمفارقة) إلى تقليص الفجوة، الفجوة مع المقاتل الذي لا يكاد يملك شيئا، تقليص الفجوة بمضاعفة الاستناد للقوّة، قوّة رصّ الدبابات والجنود على الأرض المحروقة، لتقليص الفجوة مع إرادة المقاتل الفلسطيني!
"إسرائيل" إذن تتأخر، لتعويض ما لا يمكن تعويضه، وهذا في حدّ ذاته يعني أنّها بوصفها قوّة لا تقهر قد انتهت.
twitter.com/sariorabi
المصدر: عربي21
كلمات دلالية: سياسة اقتصاد رياضة مقالات صحافة أفكار عالم الفن تكنولوجيا صحة تفاعلي سياسة اقتصاد رياضة مقالات صحافة أفكار عالم الفن تكنولوجيا صحة تفاعلي مقالات كاريكاتير بورتريه إسرائيل المقاومة إسرائيل غزة المقاومة طوفان الاقصي السيوف الحديدية مقالات مقالات مقالات مقالات مقالات مقالات مقالات سياسة سياسة مقالات مقالات سياسة سياسة رياضة صحافة سياسة سياسة اقتصاد رياضة صحافة أفكار عالم الفن تكنولوجيا صحة المقاومة فی ما کانت الذی لا فی وضع القو ة
إقرأ أيضاً:
غروندبرغ: الحل في اليمن سياسي ولا يمكن حسمه من قبل أي طرف
أكد المبعوث الأممي الخاص إلى اليمن، هانس جروندبرج، أن النزاع فى اليمن لا يمكن أن يحسم عبر إجراءات أحادية، أيًا كان الطرف الذي يتخذها، وأن اليمن يحتاج إلى حل سياسي لإنهاء الأزمة التي يعاني منها الشعب منذ أكثر من عقد من الزمن.
وقال غروندبرغ في حوار مع صحيفة الدستور المصرية، إن الحل في اليمن بحل سياسي شامل يأتى نتيجة مفاوضات جادة وبحسن نية، وبدعم من جهد دولي منسّق، داعيا لتضافر جهود جميع الأطراف الفاعلة لدعم عملية السلام التي تقودها الأمم المتحدة.
وأضاف: "أواصل انخراطي مع جميع المعنيين، مع الأطراف اليمنية والجهات الإقليمية والمجتمع الدولي بشكل واسع، للحفاظ على التركيز على ما هو جوهري: معالجة جذور النزاع من خلال الحوار والمضي نحو سلام عادل ودائم".
وأشار هانس جروندبرج إلى انعدام ثقة متجذر بين الأطراف المتصارعة وتصاعدًا للخطاب العدائى، مشددا على أهمية تقديم ضمانات مستدامة للمجتمعين الإقليمي والدولي بأن البحر الأحمر لن يتأثر باعتباره ممرًا دوليًا، لافتا إلى أن الحرب في غزة فاقمت الأوضاع، وأنه لا بديل عن حل سياسي يضمن لليمنيين حقهم في تقرير مصيرهم.
وأوضح المبعوث الأممى أن إنهاء هذه الحرب يبدأ بوقف إطلاق نار دائم على مستوى البلاد، يحترمه جميع الأطراف ويلتزم به، مشيرًا إلى أنه يواصل العمل مع الأطراف اليمنية والجهات الفاعلة الإقليمية، بما في ذلك مصر والشركاء الدوليون، لتهيئة الظروف اللازمة لحوار جاد وهادف.
ولفت إلى وجود أولويات واضحة، متمثلة بوقف إطلاق نار دائم مدعوم بترتيبات أمنية قوية؛ وتخفيف المعاناة الاقتصادية، بدءًا من صرف الرواتب وتوفير الاحتياجات الأساسية مثل الوقود؛ والأهم من ذلك، استئناف عملية سياسية شاملة تمكّن اليمنيين من رسم مستقبلهم.
وتحدث غروندبرغ عن الحرب في غزة وأثرها على جهوده الرامية لإحلال السلام، حيث قال: "الوضع في اليمن لا يتأثر فقط بالعوامل الداخلية، بل يتشابك أيضًا مع السياق الإقليمي، بما في ذلك المأساة المستمرة في غزة. ما شهدناه فى الأسابيع الأخيرة من هجمات الحوثيين على مطار بن جوريون، وما أعقبها من ضربات شنتها إسرائيل على ميناء الحديدة ومطار صنعاء، أمر مقلق للغاية، ويضع اليمن مجددًا فى قلب التصعيد الإقليمي".
واعتبر إعلان سلطنة عمان في السادس من مايو الماضي، حول وقف الأعمال العدائية بين الولايات المتحدة والحوثيين، كخطوة يمكن أن تخفف من التوترات، ليس فقط في البحر الأحمر، ولكن أيضًا داخل اليمن، مضيفا: "هذا الإعلان يمنحنا فرصة لإعادة تركيز الجهود على ما هو مهم حقًا؛ التحرك نحو تحقيق السلام فى اليمن، إلى جانب تقديم ضمانات مستدامة للمجتمعين الإقليمي والدولي بأن هذا الممر المائي الدولي الحيوي لن يتأثر.
وتابع: "أنا أرى أنه لا يوجد حل مستدام في اليمن إلا من خلال تسوية سياسية تفاوضية، وأواصل العمل مع الأطراف اليمنية والجهات الفاعلة الإقليمية، بما في ذلك مصر والشركاء الدوليون، لتهيئة الظروف اللازمة لحوار جاد وهادف، وقد التقيت في هذا السياق وزير الخارجية المصري في عمّان في الأول من يونيو، حيث أجرينا نقاشًا بنّاءً حول مستجدات الوضع في اليمن. لقد شهدنا سابقًا بأن الحوار يمكن أن يكون هادفًا، كما رأينا في هدنة عام 2022، والالتزامات التي قدمتها الأطراف في 2023. من خلال الحوار، يمكن تحقيق تقدم يترجم إلى تحسينات ملموسة في حياة الناس. ما نحتاج إليه الآن هو البناء على هذه الخطوات، والحفاظ على قنوات التواصل مفتوحة، وضمان أن يكون لليمنيين الدور الرئيسي في رسم مستقبلهم، وهذا هو جوهر ما تسعى إليه الأمم المتحدة".
ودعا غروندبرغ، جماعة الحوثي، إلى الإفراج الفورى وغير المشروط عن جميع المحتجزين من موظفي الأمم المتحدة، والدبلوماسيين، وأفراد المجتمع المدني، والعاملين في المجال الإنساني.