على هذه الجزيرة التي اصطفاها الخالِق المُبدِع بمُختلف تفاصيل الجمال من جميع الجهات، عاش الإنسان محفوفًا بكل ما يُعزز من قدرته على التأمُّل ومِن ثم الإبداع على مُختلف الأصعِدة الإنسانيَّة، فكان الإبداع جزءًا من علمه وعمله وعبادته على امتداد الحضارات التي خلَّد التاريخ آثارها لتبقى آياتٍ تستحق فخر الأحفاد بما قدمهُ الأجداد، وتتحول إلى موروثٍ ثمينٍ تستمد منه أجيال الحاضر الهام ما يمكنها تقديمه للمستقبل، ولعل من أثمن صور موروث حضارة «دِلمون» التي قامت على أرض البحرين قبل الميلاد بثلاثة آلاف عامٍ تقريبًا «الأختام» التي حرِص المُهتم بالبحث في الشأن الدلموني/‏ محمود عبدالصاحب البقلاوة تسليط الضوء على جوانب قيِّمة من فلسفتها ودلالاتها الرمزية على صفحات كِتابه «الأختام رائعة الثقافة الدلمونيَّة».


أَوْلَى مضمون الكتاب اهتمامًا خاصًا بمهارة «الفنان الدلموني» الذي خلَّد بإبداعه صورًا من الحياة العِبادية والمُجتمعيَّة والاقتصادية ومُختَلف أوجُه نشاطات الفكر الإنساني القائمة على أرض دِلمون في تلك المرحلة، ورسمَ جانبًا من مُعتقداته وأفكاره ومشاعره على جُدران المعابد والفخاريَّات والحُلي والأختام، وهو ما أشار إليه المؤلف على صـ25 من كتابه بقوله: «نتيجةً للنهضة الفكرية والمعرفيَّة والثقافيَّة التي بدأت على أرض دِلمون منذ ثلاثة آلاف عام قبل الميلاد؛ بدأ الإنسان الدلموني في ذلك الوقت بتجميع أفكاره ومدلولاته العقائديَّة في اختصارات صوريَّة ودلالات رمزيَّة، وهذا ما اقتضتهُ لهُ الضرورة من خلال الثراء الفِكري والاستقرار المُجتمعي الذي كان يعيشه. واختزال الأمور بدلالة رمزية وصورية أصبح أمرًا ثابتًا لدى الدلمونيين. وأصبح الرمز والصورة في الأختام الدلمونية أحد أوجُه نشاطات الفكر الإنساني الدلموني التي استخدمها منذ آلاف السنين للتعبير عن أفكاره ومشاعره وعاداته، وذلك بتحويلها إلى رموز صوريَّة»، كما كانت دقَّة الرسوم المنقوشة على الأختام علامة واضحة على براعة الفنان الدلموني وحرصه على إتقان عمله، وهو ما يؤكده الكتاب على صـ47 بقوله: «إن تقنيات نحت وحفر أسطُح الأختام الدلمونيَّة الدائريَّة صغيرة المساحة قاد إلى اهتمام الفكر المُعاصر بها، حيث تكمن الصعوبة في إنجاز تلك المشاهد المُجرَّدة والتفصيليَّة والتجريديَّة النحتيَّة الدقيقة في مساحة مُحددة ومن دون استخدام عدسات مُكبرة، وباستخدام أدوات بدائيَّة جدًا من الأدوات الحجرية وعظام الحيوانات والمعادن كالنحاس والبرونز لاحقًا في إنجاز هذه المشاهد التصويرية الرائعة مع تأكيد وجود الخبرة والمهارة الفنيَّة في إنجاز تلك الأيقونات الصغيرة الحجم».
لم يُغفل الكتاب الإشارة إلى الدور الحيوي للأختام في تلك المرحلة، إذ كانت من المُقتنيات الشخصيَّة المُلازمة لكثير من أفراد المُجتمع، تُثقب طوليًا ويُمرر خيطٌ من خلالها لتُعلَّق حول عُنق مالكها أو معصم يده، ويستخدمها بمثابة توقيعٍ شخصي لتكون وسيلة تنظيمية للمعاملات كالشراء والبيع وكُل ما يستلزم حفظ الحقوق، كما كان بعضها يدُل على المكانة المُجتمعية المُتميزة لحاملها بين الناس، ولم يكُن مضمون نقوش تلك الأختام بعيدًا تفاصيل الطبيعة البيئية المُحيطة بمُبتكريها، فأختام «شعار الشمس» كانت دلالة على قيمة هذا العُنصُر الذي تُستمد منه البركة والطاقة والضوء، وأختام «النخيل» دلَّت على المكانة الكبرى والأهمية القصوى لتلك الأشجار باعتبارها مصدر الثروة ومُرتكز الارتباط بالأرض والتجذُّر فيها، أما أختام «الغزلان» فتؤكد وجود الغزلان بكثرة في هذه المنطقة قديمًا، بينما تُبرز أختام «المعبد» وأختام «القيثارة الدلمونيَّة» بعض المسارات العقائديَّة لمُجتمع تلك الحضارة، بل إن فكرة الأختام كابتكارٍ أصيل بدأت من إحدى الثروات الجمالية وهي القواقِع المُكتسبة من خيرات البحر وأمواجه الغافية على سواحلها من كل الجهات، إذ وُجِدت قواقع بحرية مقطوعة من الأعلى قبل عصر العُبيد (4000 ق.م) الذي سبق ثقافة باربار وحضارة دلمون المُبكرة.
الكتاب المؤلَّف من 61 صفحة قدَّمت باقة من المعلومات التي تم عرضها بصورةٍ تُلائم فئة واسعة من الشرائح العُمرية والفِكريَّة، حرِص مؤلفه على رفد المعلومات المذكورة فيه باثني عشر مصدر عرب وأجنبي، وأكثر من عشرين صورة فوتوغرافية ورسمٍ توضيحي في مُحاولة لتغذية مُخيِّلة القارئ ببعض ما تبقى من الأشكال الحقيقيَّة التي ظلَّت تحت حِماية الزمن لتكون قبسًا من الضوء في طريق المُهتمين بهذا المجال، وتُساهم في التأكيد على أن هذه الأرض لطالما كانت مصدرًا للإلهام وموطِنًا للنشاط الثقافي والإبداعي البنَّاء.

المصدر: صحيفة الأيام البحرينية

كلمات دلالية: فيروس كورونا فيروس كورونا فيروس كورونا

إقرأ أيضاً:

افتتاح منفذ جديد لهيئة الكتاب بقصر ثقافة الأنفوشي

افتتحت الهيئة المصرية العامة للكتاب منفذًا جديدًا لبيع إصداراتها بقصر ثقافة الأنفوشي بمحافظة الإسكندرية.

وذلك تنفيذًا لتوجيهات الدكتور أحمد فؤاد هنو وزير الثقافة، وفي استجابة مباشرة لمطالبات واسعة من أهالي الإسكندرية والمثقفين لضرورة وجود منافذ رسمية للهيئة داخل المحافظة.

ويأتي افتتاح المنفذ الجديد ضمن خطة شاملة وضعتها الهيئة المصرية العامة للكتاب لتوسيع انتشارها في الإسكندرية، باعتبارها إحدى أهم المحافظات ذات الثقل الثقافي والتاريخي في مصر، ومدينة تتمتع بحراك فكري فريد، جعل الحاجة إلى منافذ بيع ثابتة للهيئة مطلبًا ملحًا طوال السنوات الماضية، وجاء اختيار قصر ثقافة الأنفوشي ليكون أول موقع ضمن هذه الخطة جاء لكونه أحد أهم المراكز الثقافية النشطة التابعة للهيئة العامة لقصور الثقافة، حيث يشهد القصر على مدار العام فعاليات فنية وأدبية وتنويرية تستقطب جمهورًا واسعًا من المهتمين بالكتاب والفنون.

ويأتي افتتاح هذا المنفذ في إطار التعاون المشترك بين الهيئة المصرية العامة للكتاب والهيئة العامة لقصور الثقافة برئاسة اللواء خالد اللبان، بهدف تعزيز حضور الكتاب في المحافظات، وتسهيل وصول القراء إلى أحدث إصدارات الهيئة، خاصة في المدن التي تشهد إقبالًا كبيرًا من الجمهور على الأنشطة الثقافية.

وفي هذا السياق، أعرب الدكتور خالد أبو الليل، القائم بأعمال رئيس الهيئة المصرية العامة للكتاب، عن سعادته بافتتاح المنفذ الجديد، مؤكدًا أن الهيئة تسعى إلى تحقيق انتشار حقيقي للكتاب في كل المحافظات، وليس في القاهرة فقط.


وقال: «إن وصول الكتاب إلى المواطن المصري هو مهمة ثقافية لا تقل أهمية عن إنتاجه، ونحن نعمل وفق رؤية واضحة لمدّ جسور جديدة بين الهيئة والجمهور، وافتتاح منفذ الأنفوشي خطوة ضمن مشروع أكبر يستهدف تغطية الإسكندرية بعدد وافر من المنافذ التي تتيح الكتاب بأسعار مناسبة وجودة عالية».

وأضاف أبو الليل أن الفترة المقبلة ستشهد افتتاح منافذ أخرى في عدد من المواقع المخطط لها داخل الإسكندرية، وأنه سيتم الإعلان عنها تباعًا بعد الانتهاء من تجهيزها وتحديد جداول تشغيلها.

ويؤكد افتتاح منفذ الأنفوشي على استمرار جهود وزارة الثقافة وهيئاتها في تعزيز دورها التنويري، وتقديم الكتاب المصري لكل فئات المجتمع، دعمًا لحركة القراءة والمعرفة في مختلف المحافظات.

طباعة شارك الهيئة المصرية العامة للكتاب قصر ثقافة الأنفوشي محافظة الإسكندرية الدكتور أحمد فؤاد هنو

مقالات مشابهة

  • هل يجوز للمرأة حضور صلاة الجمعة؟ الإجابة الشرعية من الكتاب والسنة
  • «قضاء أبوظبي» تستعرض تجربتها في معرض الكتاب القانوني
  • بعد تصدره الترند.. أسرار وكواليس تكريم النجوم في ملتقى التميز والإبداع
  • هيئة الكتاب تعيد إصدار الخرز الملون لمحمد سلماوي
  • مدير معرض الكتاب يكشف تفاصيل الاستعداد لدورة نجيب محفوظ
  • قصة لحن”.. جوقة موسيقية تعزز الشمولية والإبداع تحت رعاية الأميرة ثروت الحسن
  • هيئة الكتاب تعيد إصدار «الخرز الملون» لمحمد سلماوي
  • قمة بريدج: التنوع والإبداع يعيدان رسم خريطة صناعة المحتوى العالمي
  • افتتاح منفذ جديد لهيئة الكتاب بقصر ثقافة الأنفوشي استجابة لمطالب أهالي الإسكندرية
  • افتتاح منفذ جديد لهيئة الكتاب بقصر ثقافة الأنفوشي