إنّ أكثر ما يُروعنا ويهزنا الآن هو ذلك الشعور العميق بالخزي إزاء بسالة الفلسطينيين، ذلك التضاؤل والتقهقر النفسي أمام صور أطفالهم وتلك المقاطع المصورة التي تُرينا انعكاس خذلاننا لهم أكثر مما تُرينا هشاشتهم وموتهم اليومي، لا سيما وأنّنا نلعبُ باقتدار دور المتفرج في حلكة أيامهم بل سنواتهم وعقودهم الماضية، فيشعرُ كل عربي منا بخناجر مُسننة تطعنُ إنسانيته، ناهيك عن العروبة والقومية.
لكن أليس غريبا أنّ الفلسطينيين وفي كل مرّة ينفخون فيها الرماد عن جمر نضالهم المستعر، يبرق فينا أمل خافت؟ أليس غريبا أنّ كل ما يُثار عن تشرذمنا العربي، ينهارُ عندما تمسُ فلسطين بأذى؟ نحن الشعوب المكلومة والمتفجعة والمسيجة بالموت؟ أليس عجيبا أن تنبثق مياه وحدتنا من قلب فلسطين المحاصر؟ أليس من المذهل حقا لسان أطفالهم الحر الطليق وأفعالهم التي تُوقف شعر الرأس، بينما ترن القيود والأقفال في أقدامنا وألسنتنا المتعثرة بالكلام؟
ليس بالضرورة أن نحمل سلاحا لكي نقول إننا مع القضية، يمكن أن تمنح الشعوب العربية بلدانها تعليما رصينا، فهما أعمق لنقاط اشتراكنا العربي في الدين واللغة والجغرافيا والاقتصاد، إعلاما ناضجا في أطروحاته قادرا على تقديم صورتنا الإنسانية للآخر، فلسنا وحوشا متعطشة للدماء. لقد أخبرنا أمل دنقل من قبل أنّ أيدي العار تبقى بأصابعها الخمس مرسومة فوق الجباهِ الذليلة! «أترى حين أفقأ عينيك/ ثم أثبّت جوهرتين مكانهما/ هل ترى؟ / هي أشياء لا تشترى».
من حسن حظنا أننا الآن في زمن الإعلام المتعدد، فلسنا رهن آلة إعلامية واحدة مسيّسة ومسمومة بالأكاذيب. تلك الآلة التي تقبض خناق الحقيقة وتشوهها، تلك التي لم نكن يوما جزءا من هيمنتها لندلي بشهادة مناقضة لما يدعون، فالإعلام المضلل لطالما لعب بمصائر الشعوب ومواقفها واصطفافاتها. ولذا لا ريب أن يتمّ تقديمنا باعتبارنا إرهابا بوهيميا. لقد انسل الإعلام الحديث قليلا من ربقة المركزية الغاشمة، صار بيد الأفراد أن يُغيروا بيادق اللعبة، رغم الأفعال المشينة المتعلقة بحجب المحتوى أو تقليص مشاهدته، فالصور التي خرجت من غزة ومقاطع الفيديو لن تُسكت الحقيقة وإن رغبوا. جزء كبير من حربنا، هي حرب الوعي، وتغيير الأفكار التي دأبت على شيطنتنا، كما فعل الإعلامي باسم يوسف بلغة ساخرة حين اخترق الحجب بلغتهم وبواسطة مفاتيح تخصهم، ففي الوقت الذي كان الإعلامي البريطاني بيريس مورغان ينتظر منه أن يُدين «حماس»، قلب باسم الطاولة عليه بكوميدياه السوداء. ولم يكن وحده من فعل، فلقد خرجت العديد من الأصوات من صمتها، بعضها كان من صفوف العدو.
عندما لا تدين مؤسسات المجتمع الدولي ما حدث في «غزة»، فذلك يعني أننا كعرب ومسلمين -على كثرتنا- نكرة ودماؤنا رخيصة. رغم أن الثمن باهظ الكلفة الذي دفعه الفلسطينيون لنصحو من سباتنا الطويل، كما يقول محمود درويش: «ذهبَ الذين تحبُّهم ذهبوا فإمَّا أن تكونْ أَو لا تكونْ، سقط القناعُ عن القناعِ عن القناعِ، سقط القناعُ ولا أَحدْ إلاَّك في هذا المدى المفتوح للأعداء والنسيانِ».
الأمر الذي يُذكرني مجددا بالمقالات التي تركها لنا المفكر الكيني الذي ينتمي إلى أصول عُمانية، علي المزروعي، في كتاب بعنوان: «براهمة العالم ومنبوذوه»، ت: أحمد المعيني، والتي رغم أنّ زمن كتابتها يعود إلى نهاية ثمانينات وتسعينات القرن الماضي، إلا أنّها تتدفق في راهننا كأنّها قيلت للتو. ذهب المزروعي إلى أنّ فكرة التقدم تبرر تصنيف المجتمعات إلى «براهمة» و«منبوذين» فنحن سكان آسيا وإفريقيا ولأننا محكومون بتراجع الصناعة وبتراجع الاختراعات وبوفرة الأمية، تتراجع قيمتنا أمام العالم، فلسنا سوى أرقام لا تستدعي الالتفات في عداد الموت، لا ننتج ولا نُصدر سوى «الإرهاب». لذلك علينا ألا ننتظر الكثير، فـ«المساعدات الخيرية» هي أقصى ما يمكن أن يُقدمه البراهمة للمنبوذين، ليكونوا أكثر ولاءً لليد التي تمتد إليهم، وعليهم ألا ينتظروا أكثر من هذا إلى أن تقوم لهم قائمة. في ظرف استثنائي كهذا، يتمثل أهل «غزة» شعر دنقل ببسالة نادرة، نأمل ألا تذهب طيّ النسيان كما حدث في أوقات مضت، وألا تنخفض وتيرتها، فنصاب بالعمى، ونعود أدراجنا لسذاجة يومياتنا: «لا تصالح/ فليس سوى أن تريد/ أنت فارسُ هذا الزمان الوحيد/ وسواك.. المسوخ!»
هدى حمد كاتبة عمانية ومديرة تحرير مجلة نزوى
المصدر: لجريدة عمان
كلمات دلالية: التی ت
إقرأ أيضاً:
القاتل الذي لبس عباءة المقاومة…كيف مزق دم حنتوس أسطورة الحوثي؟
يمن مونيتور/وحدة الرصد/خاص
تواصلت ردود الفعل الغاضبة والتنديد الدولي والعربي تجاه جريمة اغتيال الشيخ صالح حنتوس وتفجير منزله من قبل الحوثيين.
وكشفت الجريمة التناقض الواضح بين الشعارات الدعائية للجماعة المسلحة وممارساتها القمعية على الأرض.
وقالت العديد من الجهات والشخصيات العربية والإسلامية إن الجريمة تعكس بشكل صارخ نمطًا من الكراهية والتمييز الطائفي الذي تمارسه الجماعات المسلحة، خاصةً جماعة الحوثي، التي اقتحمت منزل ومسجد الشيخ حنتوس في قرية “المعذب” بمحافظة ريمة، بعد حصار استمر منذ صباح 1 يوليو الجاري، مستخدمة أسلحة وذخائر ثقيلة، مما أدى لإصابة زوجته وعدد من أفراد أسرته، قبل أن تقوم بتصفيته ميدانياً رغم كبر سنه (نحو 70 عامًا) ومكانته الدعوية الكبيرة.
فضحت من لا يقدرون مكانة أهل القرآن
وعبّر الدكتور علي القرة داعي، رئيس الاتحاد العالمي لعلماء المسلمين، عن حزنه العميق وأسفه البالغين بعد استهداف العالم القرآني والداعية المخلص، الشيخ صالح حنتوس، مع أسرةٍ من أهل بيته، في حادثة وصفها بأنها جريمة قتل وعدوان على بيت الله ومقام القرآن ولقمة العلم.
وقال القرة داغي: “استيقظنا على نبأٍ يدمي القلب، ويعتصر الوجدان، فهذه الحادثة ليست مجرد اعتداء فردي، بل اعتداء على بيت من بيوت الله، وعلى قداسة القرآن، وعلى مكانة العلم والصلاح”.
وأوضح أن استشهاد الشيخ صالح حنتوس، العالم الرباني والمربي القرآني، هو علامة على انكشاف القلوب، وفضح لأولئك الذين لا يراعون حرمة بيوت الله، ولا يقدرون مكانة أهل القرآن، وأن حياته كانت وقفًا على تعليم كتاب الله، وأن موته يعكس عداوة الجهالة للهدى وغياب الصلاح في زمن يسود فيه العنف والحرب.
وأشار إلى أنه من غير المقبول أن يستهدف معلم القرآن في محرابه، وأنه رغم المؤلم إلا أن مقتل الشيخ زاد من عزيمة أهل الحق، وأكد أن هذه الجريمة لا تستهدف إلا قتل النفس الطاهرة، وأن أهل القرآن لن ينكسروا، وإنما سيزدادون ثباتًا وإصرارًا على مواصلة الطريق.
جريمة كشفت حقيقية الجماعة
واعتبرت هيئة علماء المسلمين في العراق أن جريمة اغتيال الشيخ اليمني صالح حنتوس على يد جماعة الحوثي، تمثل “نموذجاً صارخاً لجرائم الكراهية والتمييز الطائفي”، مؤكدةً أن الحقيقة حول ما يجري في اليمن مغيبة عن وعي كثير من الناس بسبب الترويج الإعلامي المضلل.
وفي بيان رسمي، أوضحت الهيئة أن جماعة الحوثي اقتحمت منزل ومسجد الشيخ حنتوس في قرية “المعذب” بمحافظة ريمة، بعد حصار استمر منذ صباح 1 يوليو الجاري، واستخدمت خلال العملية قذائف وأسلحة ثقيلة، ما أدى لإصابة زوجته وعدد من أفراد أسرته، قبل أن تقوم بتصفيته ميدانياً رغم كبر سنه (نحو 70 عاماً) ومكانته الدعوية البارزة.
وأضافت الهيئة أن الميليشيات خَطَفَت جثمان الشيخ بعد قتله، وشنت حملات اعتقال طالت جميع رجال القرية، ما أدى إلى تهجير سكانها بالكامل، باستثناء النساء، وخلّف وضعاً إنسانياً وأمنياً خطيراً.
ولفتت الهيئة إلى أن الشيخ حنتوس كان رمزاً دينياً واجتماعياً في منطقته، وأشرف على دار لتحفيظ القرآن الكريم، وواجه طوال سنوات ضغوطاً من الحوثيين بسبب موقفه الرافض لأفكارهم الطائفية وسلوكهم الإقصائي.
وانتقد البيان محاولات بعض الدوائر السياسية والإعلامية تلميع صورة الحوثيين تحت مظلة دعم القضية الفلسطينية، مؤكداً أن الجماعة تعمل كأداة طائفية للفوضى والتدمير، على غرار ميليشيات أخرى في العراق.
تداول واسع على منصات التواصل العربية
وفي تصريحات كثيرة على منصات التواصل و أوساط الإعلام، أدان الشيخ المغربي الحسن بن علي الكتاني الجرائم المرتكبة، معبرًا عن استنكاره التام لقتل العلماء، معتبرًا أن ذلك يخالف السياسة الشرعية وجوهر الحق، مؤكداً أن الأمة لن تقبل بمثل هذه الممارسات.
أما الكاتب والمحلل السياسي الفلسطيني ياسر الزعاترة فقد وصف الجريمة بأنها تجاوزت القتل إلى الابتذال، لافتًا إلى تهم باطلة نسبت للشيخ من قبل الداخلية الحوثية. وشدد على أن محاولة ربط القضية الفلسطينية بمبررات قتل رجال القرآن، هو إساءة قوية للقضية، مؤكدًا أن الشيخ اعتمد خدمة كتاب الله، وليس من المقبول تبرير اغتياله بمبررات سياسية كاذبة.
وفي السياق ذاته قال رئيس الهيئة العالمية لأنصار النبيﷺ، الدكتور محمد الصغير، إن حزن عميق أصاب الأمة الإسلامية وأدمى فؤادها بعد جريمة مقتل الشيخ صالح حنتوس شهيد القرآن ورفيقه الذي صحب القرآن وعلمه وترأس إدارة المعاهد العلمية ثم دار التحفيظ الخاصة به.
أما الصحفي السوري عمر مدنية، فكتب عبر منشور عن محاصرة منزل الشيخ صالح حنتوس واغتياله، متهمًا الحوثيين بمحاولة تلميع ممارساتهم رغم جرائمهم، وأوضح أن مجيء المنافقين وصفقائهم للحوثي يعكس مدى هشاشة وترهل الموقف.
وفي خطاباته، خاطب الدكتور محمد الهاشمي، رئيس قناة المستقلة، الحوثيين، قائلًا: “أعيدوا اليمن لأهله أولًا، فهي أكبر خدمة تقدمونها لغزة ولأمتكم”. وحذر من أن حكم الحوثيين دون انتخابات وتفاقم الوضع اليمني، يعمّق الانقسام ويضع البلاد في نفق مظلم، محذرًا من عودة الحكم العبيدي وإن استمرت الأمور على هذا المنوال.
حقد طائفي
وفي سياق متصل، وصف الصحفي الكويتي “فالح الهاجري” الجريمة بأنها “حقد طائفي لا يضاهيه حتى من يخالفوننا في الدين والمعتقد”، وقال إن قتل شيخ مسن في بيته بسبب تحفيظه للقرآن هو أبشع صور الإجرام المعنوي والأخلاقي، مؤكدًا أن مرتكبيها مجرد أدوات لتنفيذ أجندات عدائية للهوية الإسلامية.
بدوره، استدعى الكاتب العراقي “عثمان المختار” واقعة مشابهة حدثت في بغداد قبل سنوات، حين أقدمت مليشيا طائفية على قتل محفظ للقرآن يُدعى الشيخ علي رزوقي السامرائي. واعتبر أن ما جرى في ريمة يعيد إنتاج ذات السيناريو الدموي، ضمن مشروع استهداف علماء الأمة.
واعتبر الكاتب السعودي “عبدالعزيز التويجري” أن الجريمة الحوثية تندرج ضمن مسلسل طويل يستهدف العلماء، وقال إن أتباع إيران في اليمن ينفذون مخططاتها ضد أهل السنة بعنف مفرط. وذكّر بأن الشيخ صالح لم يكن يشكل خطرًا على أحد، سوى أنه علم الناس القرآن.
الكاتب المصري جمال سلطان وصف الحادثة بأنها “دليل فاضح على بشاعة الإرهاب الحوثي وعنصريته الكهنوتية”، مشيرًا إلى أن ما حدث في ريمة “يضاف إلى سجل طويل من الانتهاكات ضد اليمنيين، من تفجير للمنازل ودور العبادة، وسلب للحقوق، واختطاف العلماء”.
وفي تغريدة ساخرة، علق الصحفي السوري “حاتم قشوع” على الجريمة الحوثية بالقول: “لو كانت صواريخ الحوثي على إسرائيل بنفس دقة رصاصاتهم على صدر الشيخ حنتوس، لصدقنا نواياهم”. واعتبر أن المليشيا الحوثية تستخدم الشعارات كغطاء لتبرير القتل، وأن نيرانها لا تطال إلا أهل القرآن.