بقلم: تاج السر عثمان بابو

(1)
صدرت الطبعة الأولي من كتاب الدولة السودانية : النشأة والخصائص ، للمؤلف تاج السر عثمان الحاج عن الشركة العالمية للنشر 2008 ، وكان الهدف الوقوف علي التطور التاريخي للدولة السودانية بذهن مفتوح ، وبدون نظريات مسبقة ، رغم اهميتها، نحشر فيها نشأة وتطور الدولة السودانية حشرا.

تناول الكتاب نشأة الدولة في : السودان القديم ، حضارتي نبتة ومروي ، حضارة النوبة المسيحية ، مملكة الفونج ، سلطنة دارفور ، الحكم التركي المصري ، المهدية ، الحكم الثنائي البريطاني- المصري ، واختتمنا بمآلات الدولة الحديثة بعد الاستقلال التي واجهت التحديات الآتية :ـ
عدم استقرار واستمرارية التجربة الديمقراطية جراء الانقلابات العسكرية ، ودخل السودان في الحلقة المفرغة : ديمقراطية – ديكتاتورية – ديمقراطية ، الخ .

وتأثر جهاز الدولة بتلك الانقلابات ، وفقدت الدولة اغلب كادرها المؤهل بسبب التطهير ، وانهارت الخدمة المدنية، وتعثر بناء الدولة الوطنية الديمقراطية المنوط بها إحداث النهضة الاقتصادية والاجتماعية والثقافية والسياسية ، وتعزيز الديمقراطية والمؤسسات النيابية والدستورية ، ورغم إمكانيات البلاد في القطاعين الزراعي والحيواني ، وبعد اكتشاف البترول والمعادن لأحداث نهضة وطنية ديمقراطية عميقة تنتشل البلاد من الظلمات إلى النور ، والي آفاق التنمية والتقدم الاجتماعي والسلام، بل دمر انقلاب الإسلامويين في 30 يونيو 1989، ونهب البنيات الأساسية التى تركها المستعمر مثل: السكك الحديدية، النقل النهري، مشاريع القطن، الخ. كما انهار القطاع الزراعي والصناعي، اضافة لثقل الدين الخارجي (تجاوز حاليا أكثر من 60 مليار دولار)، وقضت الحرب الأهلية على مليوني شخص وشردت حوالي 4 مليون إلى داخل وخارج البلاد، وجاءت الحرب الثانية التي اندلعت في 15 أبريل 2023 لتدمير البنيات التحتية ، وادت لمقتل أكثر من 9 الف شخص وتشريد 5.8 مليون نازح داخل وخارج البلاد ، فضلا عن تدهور الاوضاع المعيشية الاقتصادية والانسانية التي خلفتها الحرب.

كما رفعت الدولة يدها عن خدمات أساسية مثل التعليم والصحة الذين دخلا دائرة الاستثمار الخاص. وأصبحت الدولة الوطنية السودانية قي مفترق الطرق، و مهددة بالتمزق( بعد انفصال الجنوب) والتدخل الأجنبي ما لم تقف الحرب التي تستنزف قدرات البلاد الاقتصادية والبشرية واحلال السلام الشامل والعادل في ربوع بلادنا.

فإما أن تظل الدولة السودانية مدنية ديمقراطية تستوعب التنوع الديني والثقافي واللغوي أو تتعرض للتشرذم والتجزئة، واستكمالها بالتنمية المتوازنة الاقتصادية والاجتماعية والثقافية لكل أقاليم السودان وتوفير احتياجات المواطنين في مستوى معيشة لائق وتعليم وصحة،.الخ.

هذا اضافة لتزايد خطورة تفكك الدولة السودانية بعد ثورة ديسمبر وحلاب 15 أبريل، واتساع التدخل الخارجي في شؤونها الداخلية، واتساع نهب موارد البلاد ، وتعدد المليشيات والجيوش، وضرورة حل مليشيات الدعم السريع وجيوش الحركات ومليشيات المؤتمر الوطني المرتهنة للخارج ، وقيام الجيش القومي المهني الموحد ، وضم كل شركات الجيش والأمن والدعم السريع والشرطة لولاية وزارة المالية، لدعم سيادة ووحدة الدولة السودانية.

(2)
الواقع أنه منذ القرن التاسع عشر بدأ يحدث وضوح نظري حول التطور التاريخي للدولة ، وذلك نتيجة لجهود علماء الاجتماع مثل : الأمريكي مورغان الذي عاش لسنوات طويلة مع القبائل والعشائر البدائية للهنود الحمر ، وقدم اكتشافات مهمة في علم الاجتماع مثل التطور التاريخي للعائلة من نظام الأمومة الي نظام الأبوة ، هذا اضافة للعلائق السياسية والاقتصادية والاجتماعية التي كانت تحكم نشاط تلك المجتمعات البدائية ، كما وضحها مورغان في مؤلفه ” المجتمع القديم ، 1877م”.

استند فردريك أنجلز الي تلك النتائج ، واضاف اليها الجديد في مؤلفه ” اصل العائلة والملكية الخاصة والدولة” ، والذي اشار فيه إلي أن الدولة هي نتاج تطور المجتمع في مرحلة معينة : مرحلة ظهور الفائض الاقتصادي ، وما نتج عنه من أول انقسام طبقي في التاريخ ، وأن الدولة نشأت في قلب تضارب مصالح تلك الطبقات، لذا فإنها كقاعدة دولة الطبقة الأقوي سيطرة من الناحية الاقتصادية ، وهي تصبح الطبقة المسيطرة سياسيا عن طريق الدولة، بالتالي تحصل علي وسائل جديدة لقمع واستغلال الطبقة المضطهدة.

كان مفهوم الدولة قبل دراسات مورغان – الذي أوضح أن العشائر البدائية أو المجتمعات البدائية لم تعرف الدولة – محاطا بالغموض ، ويُنظر للدولة وكأنها التعبير عن الروح الشاملة ، ولا يمكن النظر اليها بمعزل عن الدين ، أي لا يمكن فصل الدين عن الدولة ، كما يقول هيغل ( انظر : هيغل : المختارات ، الجزء الثاني ، ترجمة الياس مرقص ، دار الطليعة بيروت ، يونيو 1978م ، ص 159).

(3)
جاءت المعطيات التجريبية المعاصرة في القرن العشرين لتؤكد نظرية التطور التاريخي للدولة ، يقول مالينوفسكي عن أكثر الشعوب بدائية ” هذه الشعوب لا تملك لا سلطة مركزية ولا سياسة ، وبالتالي لا تملك لا قوة عسكرية ولا مليشيا و لا شرطة” (أنظر مالينوفسكي في ارنست ماندل : النظرية الاقتصادية الماركسية ، الجزء الأول ، دار الحقيقة بيروت ، 1972 ، ص 45).
ويصف ث. داريل بالصورة تفسها العشيرة البدائية التي لا وجود فيها للرؤساء الوراثيين لدي قبيلة تونغو في سيبريا الشمالية الشرقية (ماندل المرجع السابق ، ص 45).
ويلاحظ هابشلهايم بالمقابل ظهور بدايات الدولة في المدن الأولي بقوله ” يتألف سكان المدن الجديدة ( المدينية) في غالبيتهم من شريحة عليا تعيش علي الريوع ( أي تتملك فائض العمل الزراعي)، وتتكون من سادة نبلاء ، كما يلاحظ هابشلهايم بالمقابل ظهور بدايات الدولة في المدن الأولي بقوله ” يتألف سكان المدن الجديدة ( المدينية) في غالبيتهم من شريحة عليا تعيش علي الريوع ( أي تتملك فائض العمل الزراعي)، وتتكون من سادة ونبلاء وكهنة ، وينبغي أن نضيف اليهم الموظفين والمستخدمين والخدم الذين تطعمهم بصورة غير مباشرة هذه الشريحة العليا ( أي جهاز الدولة) ” ( هابشلهام : التاريخ الاقتصادي للعصر القديم ، المجلد الأول ، ص 171).

أي أن المعطيات التجريبية والنظريات المعاصرة لعلم الاجتماع أكدت وطورت وعمقت مفهوم التطور التاريخي للدولة ، علي اختلاف مدارسها ومشاربها النظرية والفكرية ، التي نشأت مع ظهور الفائض الاقتصادي ، وما نتج عنه من انقسام طبقي ، وظهرت الطبقات المالكة التي طورت الفنون والمعارف التقنية لتطوير القوي المنتجة الزراعية ( خزانات ، سدود ، هندسة وغيرها من الأشكال المائية اللازمة للري).

(4)
علي أن الدولة ظاهرة معقدة لا يجوز اختزالها في تصور آحادي الجانب ، يعتبرها مجرد متغير تابع بشكل آلي للبنية التحتية للمجتمع ( مجموع علاقات وقوي الإنتاج)، فالعلاقة بين البنية التحتية والبنية الفوقية ( مجموع آراء الناس الدينية والحقوقية والفلسفية والسياسية) للمجتمع متشابكة وديالكتيكية، أي ذات تأثير متبادل ، وليست علاقة آلية ، فالبنية الفوقية لها استقلالها النسبي وتؤثر في البنية التحتية وتعمل علي تغييرها.

فالدولة كما يقول نيكوس بولانتزاس مجال متميز ، ومن الخطأ ارجاعها للعامل الاقتصادي ، وهي شأنها شأن عناصر البني الفوقية الأخري ذات استقلال ذاتي ثابت تجاه القاعدة الاقتصادية ( أنظر نيكوس بولانتزاس : نظرية الدولة ، دار التنوير بيروت 1987 ، ص 11).
كما يشير الي خطأ تفسير الدولة ( فقط) بمقولات القمع ، المنع والايديولوجيا ، فنشاط الدولة يتجاوز كثيرا القمع أو الايديولوجيا.
وفي بعض الأحيان كما يري ماركس تصبح ” الدولة مؤسسة مستقلة عن المجتمع المدني ، وتصبح سيدة له وقوي مهيمنة عليه” ( ماركس : الثامن عشر من برومير لويس بونابرت).

بالتالي يقوم علي مفهوم جديد يؤكد تاريخية الدولة السودانية ، أي يؤكد خصوصية كل دولة في التطور بفعل اختلاف الثقافات والجماعات الدينية والعوامل التاريخية المختلفة، مما يتطلب دراسة التطور التاريخي للدولة في أي مجتمع بذهن مفتوح، لمعرفة سمات وخصائص كل دولة ، والظروف التاريخية التي نشأت وتطورت فيها ، والعوامل التي تركت بصماتها عليها، وهذا ما سعينا له بقدر ما استطعنا سبيلا في هذا الكتاب..

الوسومتاج السر عثمان بابو

المصدر: صحيفة التغيير السودانية

كلمات دلالية: الدولة السودانیة

إقرأ أيضاً:

سيفقد أولاد دقلو كل المدن التي سيطروا عليها وسيتحولون إلى مجرد مجرمين هاربين

مع كل منطقة تعود لسلطة الدولة تفقد المليشيا أرضية للتجنيد والحشد لحرب الدولة. فتقدم الجيش في مناطق كردفان ودارفور يفقد المليشيا أهم مورد في حربها وهو الجنود والأنصار. وبالتالي تسريع نهاية الحرب.

عيال دقلو استغلوا في البدابة موقعهم في السلطة لحشد وتجييش القبائل ثم استغلوا واقع سيطرتهم على الأرض للاستمرار في الحشد بالترغيب والترهيب والتضليل. هذا كله ينتهي مع تقدم الجيش وبوتيرة متسارعة.

سيفقد أولاد دقلو كل المدن التي سيطروا عليها وسيتحولون إلى مجرد مجرمين هاربين مطاردين، وحينها ستتلاشى سطوتهم على زعماء القبائل والمجتمعات التي استخفوها وأطاعتهم.

حرب أولاد دقلو لم تكن ثورة قامت من القواعد للأعلى، ولكنها حرب استيلاء على السلطة شنت من أعلى موقع في الدولة وبأدوات الدولة، عكس منطق الثورات السياسية والتي تبدأ من الهامش ومن خارج السلطة. لا يملك حميدتي ولا أسرة دقلو أي نفوذ روحي أو فكري على أتباع المليشيا، لديهم نفوذ مستمد من السلطة والمال والقوة، وهذا قد بدأ في التلاشي وسينتهي تماما مع استعادة مدن دارفور وطرد المليشيات خارجها وهروب أولاد دقلو. ولن يأخذوا معهم المجتمعات في رحلة هروبهم الطويلة في صحراء دارفور. المجتمعات ستتحرر وستبقى مثلما كانت في ظل الدولة بكل ما تعنيه كلمة دولة.

لقد حاربت المليشيا ومن وراءها الإمارات السودان بمكونات سودانية بالإضافة إلى المرتزقة. تحرير دارفور يعني تجفيف أهم مصدر وقود لهذه الحرب. وهو أسرع طريق إلى السلام.


حليم عباس

إنضم لقناة النيلين على واتساب

مقالات مشابهة

  • العراق: عن هشاشة الدولة التي لا يتحدث عنها أحد!
  • قيادي بمستقبل وطن: قانون العلاوة وزيادة الأجور لتخفيف الضغوط الاقتصادية
  • التأمينات تُعلن بدء صرف الدفعة الثانية من معاشات فبراير 2021
  • برئاسة أبو العينين| مجموعة التنمية الاقتصادية بالجبهة الوطنية تناقش خطط الأمانات.. وتعد ورقة عمل لدعم الدولة في التنمية
  • الوزراء: الولايات المتحدة تتطلع للاستثمار بالمنطقة الاقتصادية بقناة السويس
  • بنعلي: تأخرنا 20 سنة في ملف النجاعة الطاقية رغم أنه الركيزة الثانية في الاستراتيجية الوطنية
  • سوريا.. رئيس منظمة الإنقاذ يكشف لـCNN كيف تختلف المناطق التي كانت تحت سيطرة الأسد عن مناطق المعارضة وكيف ستزدهر البلاد؟
  • القصة القصيرة جدًا: إشكالية المفهوم والخصائص
  • دراسة بريطانية: النشأة في بيئة فقيرة تكسبك احترام وثقة الآخرين
  • سيفقد أولاد دقلو كل المدن التي سيطروا عليها وسيتحولون إلى مجرد مجرمين هاربين