ثلاثة أسابيع من الجحيم عاشتها غزة تحت نيران العدوان الإسرائيلى الغاشم خلفت أكثر من ثمانية آلاف شهيد نصفهم تقريبا من الأطفال الأبرياء، بجانب آلاف المصابين، هذه الحرب الجنونية التى استخدم فيها العدو كافة أنواع الاسلحة، كانت كافية لإحداث تحول جوهرى فى التعاطى مع القضية الفلسطينية وانقلاب الرأى العام العالمى على إسرائيل وعلى السياسة الأمريكية المستبدة ضد الشعب الفلسطينى وخروج مظاهرات حاشدة فى عواصم ومدن أمريكية وأوروبية داعمة لأهالينا فى الأرض المحتلة ومنددة بالعدوان الصهيونى الوحشى على المدنيين العزل والأطفال والمدارس والمستشفيات ومطالبة المتظاهرين لحكومات العالم بالتدخل العاجل لوقف القصف المتواصل على غزة وإنهاء الاحتلال الإسرائيلى للأراضى الفلسطينية.
ثلاثة أسابيع من الجحيم والدمار عاشتها غزة تحت نيران العدوان الإسرائيلى الغاشم فقدت خلالها عائلات بأكملها واستشهد فيها الآلاف من الشباب والأطفال وحرم أهالينا فى غزة من الطعام والشراب والكهرباء والاتصالات والأمن والأمان وفقدوا بيوتهم وأعمالهم ومدارسهم وحتى مستشفياتهم لم تنجُ من العدوان الجنونى وكانت مجزرة مستشفى المعمدانى جنوب غزة التى ارتكبها سلاح الجو الإسرائيلى هى الأبشع خلال هذه الحرب، لكنها كانت العصا التى قلبت السحر على الساحر، فقد شاهدها العالم كله على الهواء مباشرة وعبر السوشيال ميديا، ما جعل الشوارع الأوروبية والأمريكية تموج بمئات الآلاف من المحتجين على السياسات الإسرائيلية وحكوماتهم الداعمة للكيان الصهيونى، وأصبح العلم والكوفية الفلسطينية أيقونة المظاهرات فى لندن وباريس وكوبنهاجن، ونيويورك، وتعالت هتافات المتظاهرين المطالبة بوقف انحياز حكوماتهم الأعمى لتل أبيب والمطالبة بإنهاء العدوان والحصار على غزة.
يأتى هذا فى وقت كانت فيه مصر سباقة لاتخاذ مواقف حاسمة تجاه القضية الفلسطينية ورفضها التام لمخطط تهجير الفلسطينيين، كما خرج الشعب المصرى بالملايين لدعم الأشقاء فى غزة وأجّلت الحكومة المصرية مهرجان القاهرة السينمائى الدولى إلى أجل غير مسمى تضامنا مع الشعب الفلسطيني، وهو نفس الموقف بتأجيل مهرجان الجونة.
أما الغريب فى الأمر فهو الإصرار على إقامة موسم الرياض فى هذه الظروف حالكة السواد على الأمة العربية والإسلامية، وتجاهل المجازر التى ارتكبها الصهاينة ضد إخوتنا فى غزة، والآلام التى خلفتها للشعب الفلسطينى.
المصدر: بوابة الوفد
كلمات دلالية: غزة العدوان الإسرائيلي الشعب الفلسطيني
إقرأ أيضاً:
حزن الوجود الساحر
كان ذلك قبل عقود، لدرجة أنه يبدو الآن وكأنه ينتمي إلى حياة أخرى؛ حياة تعود لتنساب فجأة من الذاكرة وتفرد حضورها. كنت يومها فـي مرحلة الشباب الأولى، فـي بداية عهدنا بالقراءة الجادة، قراءة مجنونة لا تتوقف، إذ تريد معرفة كلّ شيء بأسرع وقت ممكن، فـي تلك الفترة، عثرت صدفة، على «تقييم لاذع» (إن جاز القول) أفردته فـيرجينيا وولف عن الروائي جوزف كونراد فـي كتابها «يوميات كاتب» -وهو الرأي الذي دفعني- إلى البحث عن كتب كونراد للاطلاع عليها -(وفـيما بعد إلى ترجمة إحدى رواياته)- أي لقراءة أعمال ذلك الرجل الذي اعترف بنفسه بأنه لم يكن يعرف سوى كلمة واحدة باللغة الإنجليزية عندما صعد إلى متن سفـينة تابعة للبحرية التجارية البريطانية عام 1876. شعرت وولف يومها بأنه «من أصل أجنبي، ويتحدث الإنجليزية بشكل معيب، ومتزوج من امرأة خرقاء، كان على حافة الدراما».
لم يكن فـي كلامها أي تنازل، إذ من المضحك أن نتخيل ما كان سيقوله كونراد عن «مجموعة بلومزبري» (دار النشر الإنجليزية الشهيرة)، حتى لو كانوا جميعًا، بلا شك، سيجدون أنفسهم فـي بعض أقواله، مثل تلك التي تُعتبر «إعلان إيمان» فـي مقدمة كتابه «زنجي سفـينة النارسيوس»: «أي عمل أدبي يطمح، مهما كان متواضعًا، إلى الجودة الفنيّة، يجب أن يُبرر وجوده فـي كلّ سطر».
بدأتُ بقراءة كونراد فـي وقتٍ كنتُ غارقا فـيه مع روايات دوستويفسكي، بشغف لا يضاهيه أي شغف آخر، ومع ذلك لم أشعر بأي مفاجأة حين علمت أنه كان يبتعد عن قراءة مؤلف «الإخوة كارامازوف» الذي كان يرفضه؛ ففـي نظر كونراد، يُمثل دوستويفسكي قوى الظلام والاضطراب والجنون: «لأن كتبه -مثلما قال- تبدو كصراخٍ عنيف من عصور ما قبل التاريخ». كان كونراد يُفضل كتب موباسان وفلوبير، التي حفظ منها مقاطع كاملة عن ظهر قلب. ولعلّ قراءته المُكثّفة لأعمالهما دفعته إلى عباراتٍ مثل هذه التي نجدها فـي «قلب الظلام»: «نعيش كما نحلم -وحدنا».
لا بدّ من أن يكون المرء قد أبحر، فـي حلم، على متن باتنا (اللورد جيم)، أو أوتاغو (خط الظل)، أو نيلي (قلب الظلام)، أو النارسيوس، ليدرك حقيقة ما أراد كونراد أن يجعلنا نشعر به، ونراه، ونسمعه: «حزن الوجود الساحر بين السماء والبحر». ولا بدّ من أن يكون المرء قد أدرك أيضًا أن الخيانة تسري فـي دمنا لنقبل تأكيد الكاتب بأن لكلّ منّا ملاكًا حارسًا، ولكن أيضًا شيطانًا مألوفًا، يدفعنا إلى الانشقاق أو التخلي عمّا يجلب السعادة للبشر العاديين، لكي نحتفل، مثل اللورد جيم، «بزواجات قاسية مع سلوكية شبحية».
قال إنه أراد وصف رجالٍ يكافحون قوى الطبيعة العمياء مصمّمين على الانتصار على وحشية الجماهير الحمقاء. أثارت أخلاق كونراد استياء «جماعة بلومزبري». ولكن، ألم يكن ليتفقوا معه لو سمعوه يؤكد على ضرورة مراعاة هذا العرف الخفـي فـي كلّ حقيقة، وعلى صدق الكذب الجوهري؟
قراءة كونراد، كما هو الحال مع «اللورد جيم»، أشبه بـ«القفز إلى أعماق هاوية أبدية»: شخصياته غالبًا ما تُصمّم على خوض معركة محكوم عليها بالفشل. أما كونراد نفسه، فإن معركته مع اللغة الإنجليزية هي إحدى تلك المعارك القاسية التي خاضها، مؤمنًا بضرورة توخي الحذر الشديد فـي نطق الجمل لبثّ حياة جديدة فـيما أسماه الكلمات البالية التي مُحيت بفعل قرون من الاستخدام غير الدقيق. وصفه كلاوديو ماغريس (كاتب إيطالي) بأنه «كاتب كلاسيكي يروي انحلال كلّ الكلاسيكية والوضوح الخطي فـي متاهة تتشابك فـيها كل الأشياء». من المستحيل أن نحدد بشكل أفضل لماذا يمارس عمل كونراد مثل هذا السحر على القارئ الذي يغامر فـي عالمه: إنه يتحدث إلى ما هو موجود فـي داخلنا والذي يبحث عن «الكلمة الأخيرة»، «الكلمة الأخيرة لحبنا، ورغبتنا، وإيماننا، وندمنا، وخضوعنا، وثورتنا»، هذه الكلمة الأخيرة التي لا نجد الوقت أبدًا لنقولها، يذكرنا كونراد، فكل أدبه يولد من هذا العجز.
تذكرت كونراد فـي الأيام الأخيرة، بعد أن اتصلت بي صديقة ناشرة، عارضة عليّ إعادة ترجمة روايته الشهيرة «قلب الظلام» التي كانت صدرت بترجمة جميلة فـي نهاية سبعينيات القرن الماضي، والتي كانت من أوائل الكتب التي لفتتنا. تهيبت الموقف، على الأقل من جراء تساؤلي عن كيفـية جعل القارئ يتخطى الترجمة القديمة التي سكنت ذاكرته، ليقدم على قراءتها من جديد. اعتذرت عن ذلك بطبيعة الحال، معللا الأمر بأن وضعي الصحي لا يسمح لي بالعمل الدؤوب، وهو العمل الذي تفترضه ترجمة كونراد من جديد. لكني لم أخرج سالما من هذا العرض، إذ جعلني أعيد قراءة هذه الرواية من جديد للمرة العاشرة ربما.
فـي كلّ مرة أقرأ فـيها «قلب الظلام»، لا أستطيع تصديق ذلك: أشعر وكأنني أمرّ بتجربة حاسمة، وكأنني أواجه، من خلال جملها، حقيقة تستمر فـي الانزلاق بعيدًا والتي، فـي الوقت عينه، تفتح لي أبواب الكشف المتأخر عن لغز؛ كأنني أصل إلى «ذلك الشيء الغريب داخل اللغة» الذي يتحدث عنه ميشيل فوكو، والذي هو موضوع الأدب نفسه، ناره، فرحته، صوته السرّي، جنونه، وربما مستقبله.
عندما أقرأ «قلب الظلام»، أشعر وكأن حدوداً قد تمزقت: الرحلة عبر النهر على متن باخرة تجعلني أفكر فـي تطور المريد نحو آلهة الحقيقة فـي قصيدة بارمينيدس؛ ولكن حيث يختار المبتدئ الشاب طريق الوجود، تتجه شخصية كونراد إلى الطريق المحظور: «بدا أن كلّ شيء يمنعني من معرفة حقيقة الأشياء»، كما يقول لجمهوره.
فهذا المَنفَذ المُغلق فـي وجه الكائن، الذي تُقفل عليه القصة بابه باستمرار، يسميه كونراد «الظلام». فـي دراماتورجيا المقدس التي تُدبّرها مثل هذه الكتب، لا يقتصر «الظلام» على المجهول، أو الأرض غير المُستكشفة، أو حتى الجزء المُخيف المُخصّص للقارة الأفريقية كما يبدو للبيض الذين جاؤوا لاستغلال ثرواتها واستعباد سكانها: «الظلام» هو ما أسماه لاكان الواقع - أي ما يُفلت من الإدراك، الثغرة التي تجعل التمثيل مُستحيلاً وتهزّ أي علاقة بالوجود.
من هنا أعتقد، أن «قلب الظلام» ليس سوى اسم آخر لجوهر الوجود غير القابل للعيش؛ ولكنه أيضًا وميض الفراغ، ذلك الالتواء الذي يكشف الهاوية تحت أقدامنا، فـيمنحنا فسحة للتنفس. يؤكد مارلو (الشخصية الرئيسية): «لا سبيل لدخول مثل هذه الأسرار». ولكن أليست «قلب الظلام»، على العكس، قصة صعود إلى «وجه الحقيقة المخيف»؟ ألا يُدخل مارلو نفسه فـي تجربة دخول كورتز؟ ألا يقدم الكتاب نفسه كنصب تذكاري لحالة من الانهيار الروحي التي تنفتح فـي النهاية على تأمل روح ملعونة؟ (وبالطبع، كل دخول ناقص: يجب على المرء أن يدخل الموت ويعود ليُكمل هذه البادرة؛ ولكن ألا يُمثل الأدب محاولةً لاستبدال استحالة عيش لحظة الموت -لجعل المستحيل يتكلم؟)
وكما فـي المرة الأولى، ما يحرقني فـي هذه الرواية كلما أعدت قراءتها -وهذا ما يجعلها كتابًا معاصرًا تمامًا، وسياسيًا تمامًا- هذا الكشف الحاسم: الإبادة هي سرّ العصر الحديث. ألسنا نعيش بعد فـي عصر إبادات واقعين فـي قلبها؟