لجريدة عمان:
2025-12-02@02:03:44 GMT

حزن الوجود الساحر

تاريخ النشر: 1st, July 2025 GMT

حزن الوجود الساحر

كان ذلك قبل عقود، لدرجة أنه يبدو الآن وكأنه ينتمي إلى حياة أخرى؛ حياة تعود لتنساب فجأة من الذاكرة وتفرد حضورها. كنت يومها فـي مرحلة الشباب الأولى، فـي بداية عهدنا بالقراءة الجادة، قراءة مجنونة لا تتوقف، إذ تريد معرفة كلّ شيء بأسرع وقت ممكن، فـي تلك الفترة، عثرت صدفة، على «تقييم لاذع» (إن جاز القول) أفردته فـيرجينيا وولف عن الروائي جوزف كونراد فـي كتابها «يوميات كاتب» -وهو الرأي الذي دفعني- إلى البحث عن كتب كونراد للاطلاع عليها -(وفـيما بعد إلى ترجمة إحدى رواياته)- أي لقراءة أعمال ذلك الرجل الذي اعترف بنفسه بأنه لم يكن يعرف سوى كلمة واحدة باللغة الإنجليزية عندما صعد إلى متن سفـينة تابعة للبحرية التجارية البريطانية عام 1876.

شعرت وولف يومها بأنه «من أصل أجنبي، ويتحدث الإنجليزية بشكل معيب، ومتزوج من امرأة خرقاء، كان على حافة الدراما».

لم يكن فـي كلامها أي تنازل، إذ من المضحك أن نتخيل ما كان سيقوله كونراد عن «مجموعة بلومزبري» (دار النشر الإنجليزية الشهيرة)، حتى لو كانوا جميعًا، بلا شك، سيجدون أنفسهم فـي بعض أقواله، مثل تلك التي تُعتبر «إعلان إيمان» فـي مقدمة كتابه «زنجي سفـينة النارسيوس»: «أي عمل أدبي يطمح، مهما كان متواضعًا، إلى الجودة الفنيّة، يجب أن يُبرر وجوده فـي كلّ سطر».

بدأتُ بقراءة كونراد فـي وقتٍ كنتُ غارقا فـيه مع روايات دوستويفسكي، بشغف لا يضاهيه أي شغف آخر، ومع ذلك لم أشعر بأي مفاجأة حين علمت أنه كان يبتعد عن قراءة مؤلف «الإخوة كارامازوف» الذي كان يرفضه؛ ففـي نظر كونراد، يُمثل دوستويفسكي قوى الظلام والاضطراب والجنون: «لأن كتبه -مثلما قال- تبدو كصراخٍ عنيف من عصور ما قبل التاريخ». كان كونراد يُفضل كتب موباسان وفلوبير، التي حفظ منها مقاطع كاملة عن ظهر قلب. ولعلّ قراءته المُكثّفة لأعمالهما دفعته إلى عباراتٍ مثل هذه التي نجدها فـي «قلب الظلام»: «نعيش كما نحلم -وحدنا».

لا بدّ من أن يكون المرء قد أبحر، فـي حلم، على متن باتنا (اللورد جيم)، أو أوتاغو (خط الظل)، أو نيلي (قلب الظلام)، أو النارسيوس، ليدرك حقيقة ما أراد كونراد أن يجعلنا نشعر به، ونراه، ونسمعه: «حزن الوجود الساحر بين السماء والبحر». ولا بدّ من أن يكون المرء قد أدرك أيضًا أن الخيانة تسري فـي دمنا لنقبل تأكيد الكاتب بأن لكلّ منّا ملاكًا حارسًا، ولكن أيضًا شيطانًا مألوفًا، يدفعنا إلى الانشقاق أو التخلي عمّا يجلب السعادة للبشر العاديين، لكي نحتفل، مثل اللورد جيم، «بزواجات قاسية مع سلوكية شبحية».

قال إنه أراد وصف رجالٍ يكافحون قوى الطبيعة العمياء مصمّمين على الانتصار على وحشية الجماهير الحمقاء. أثارت أخلاق كونراد استياء «جماعة بلومزبري». ولكن، ألم يكن ليتفقوا معه لو سمعوه يؤكد على ضرورة مراعاة هذا العرف الخفـي فـي كلّ حقيقة، وعلى صدق الكذب الجوهري؟

قراءة كونراد، كما هو الحال مع «اللورد جيم»، أشبه بـ«القفز إلى أعماق هاوية أبدية»: شخصياته غالبًا ما تُصمّم على خوض معركة محكوم عليها بالفشل. أما كونراد نفسه، فإن معركته مع اللغة الإنجليزية هي إحدى تلك المعارك القاسية التي خاضها، مؤمنًا بضرورة توخي الحذر الشديد فـي نطق الجمل لبثّ حياة جديدة فـيما أسماه الكلمات البالية التي مُحيت بفعل قرون من الاستخدام غير الدقيق. وصفه كلاوديو ماغريس (كاتب إيطالي) بأنه «كاتب كلاسيكي يروي انحلال كلّ الكلاسيكية والوضوح الخطي فـي متاهة تتشابك فـيها كل الأشياء». من المستحيل أن نحدد بشكل أفضل لماذا يمارس عمل كونراد مثل هذا السحر على القارئ الذي يغامر فـي عالمه: إنه يتحدث إلى ما هو موجود فـي داخلنا والذي يبحث عن «الكلمة الأخيرة»، «الكلمة الأخيرة لحبنا، ورغبتنا، وإيماننا، وندمنا، وخضوعنا، وثورتنا»، هذه الكلمة الأخيرة التي لا نجد الوقت أبدًا لنقولها، يذكرنا كونراد، فكل أدبه يولد من هذا العجز.

تذكرت كونراد فـي الأيام الأخيرة، بعد أن اتصلت بي صديقة ناشرة، عارضة عليّ إعادة ترجمة روايته الشهيرة «قلب الظلام» التي كانت صدرت بترجمة جميلة فـي نهاية سبعينيات القرن الماضي، والتي كانت من أوائل الكتب التي لفتتنا. تهيبت الموقف، على الأقل من جراء تساؤلي عن كيفـية جعل القارئ يتخطى الترجمة القديمة التي سكنت ذاكرته، ليقدم على قراءتها من جديد. اعتذرت عن ذلك بطبيعة الحال، معللا الأمر بأن وضعي الصحي لا يسمح لي بالعمل الدؤوب، وهو العمل الذي تفترضه ترجمة كونراد من جديد. لكني لم أخرج سالما من هذا العرض، إذ جعلني أعيد قراءة هذه الرواية من جديد للمرة العاشرة ربما.

فـي كلّ مرة أقرأ فـيها «قلب الظلام»، لا أستطيع تصديق ذلك: أشعر وكأنني أمرّ بتجربة حاسمة، وكأنني أواجه، من خلال جملها، حقيقة تستمر فـي الانزلاق بعيدًا والتي، فـي الوقت عينه، تفتح لي أبواب الكشف المتأخر عن لغز؛ كأنني أصل إلى «ذلك الشيء الغريب داخل اللغة» الذي يتحدث عنه ميشيل فوكو، والذي هو موضوع الأدب نفسه، ناره، فرحته، صوته السرّي، جنونه، وربما مستقبله.

عندما أقرأ «قلب الظلام»، أشعر وكأن حدوداً قد تمزقت: الرحلة عبر النهر على متن باخرة تجعلني أفكر فـي تطور المريد نحو آلهة الحقيقة فـي قصيدة بارمينيدس؛ ولكن حيث يختار المبتدئ الشاب طريق الوجود، تتجه شخصية كونراد إلى الطريق المحظور: «بدا أن كلّ شيء يمنعني من معرفة حقيقة الأشياء»، كما يقول لجمهوره.

فهذا المَنفَذ المُغلق فـي وجه الكائن، الذي تُقفل عليه القصة بابه باستمرار، يسميه كونراد «الظلام». فـي دراماتورجيا المقدس التي تُدبّرها مثل هذه الكتب، لا يقتصر «الظلام» على المجهول، أو الأرض غير المُستكشفة، أو حتى الجزء المُخيف المُخصّص للقارة الأفريقية كما يبدو للبيض الذين جاؤوا لاستغلال ثرواتها واستعباد سكانها: «الظلام» هو ما أسماه لاكان الواقع - أي ما يُفلت من الإدراك، الثغرة التي تجعل التمثيل مُستحيلاً وتهزّ أي علاقة بالوجود.

من هنا أعتقد، أن «قلب الظلام» ليس سوى اسم آخر لجوهر الوجود غير القابل للعيش؛ ولكنه أيضًا وميض الفراغ، ذلك الالتواء الذي يكشف الهاوية تحت أقدامنا، فـيمنحنا فسحة للتنفس. يؤكد مارلو (الشخصية الرئيسية): «لا سبيل لدخول مثل هذه الأسرار». ولكن أليست «قلب الظلام»، على العكس، قصة صعود إلى «وجه الحقيقة المخيف»؟ ألا يُدخل مارلو نفسه فـي تجربة دخول كورتز؟ ألا يقدم الكتاب نفسه كنصب تذكاري لحالة من الانهيار الروحي التي تنفتح فـي النهاية على تأمل روح ملعونة؟ (وبالطبع، كل دخول ناقص: يجب على المرء أن يدخل الموت ويعود ليُكمل هذه البادرة؛ ولكن ألا يُمثل الأدب محاولةً لاستبدال استحالة عيش لحظة الموت -لجعل المستحيل يتكلم؟)

وكما فـي المرة الأولى، ما يحرقني فـي هذه الرواية كلما أعدت قراءتها -وهذا ما يجعلها كتابًا معاصرًا تمامًا، وسياسيًا تمامًا- هذا الكشف الحاسم: الإبادة هي سرّ العصر الحديث. ألسنا نعيش بعد فـي عصر إبادات واقعين فـي قلبها؟

المصدر: لجريدة عمان

كلمات دلالية: التی ت فـی کل

إقرأ أيضاً:

الجنّي الذي تخلّى عن قصائده

عديدة هي الكتب والدراسات التي تناولت أشعار الجنّ في الأدب العربي القديم، وكتبت عن ظاهرة قول الجن للشعر ونسبته إلى الشعراء، وأنّ لكل شاعر شيطانًا يوحي إليه الشعر ويقوله على لسانه، كما قرأنا اعتراف الشعراء بأنّ شياطينهم يوحون إليهم كثيرًا من هذا الشعر، من ذلك مثلًا ما قاله أبو النجم الراجز:

إني وكل شاعر من البشرْ

شيطانه أنثى وشيطاني ذكرْ

أو ما قاله حسان بن ثابت فيما يُنسبُ إليه في الجاهلية:

ولي صاحب من بني الشيصبان

فحينا أقول وحينا هوه

هذه الاستشهادات تضعنا أمام ظاهرة دُرست كثيرًا في النقد القديم، وأفرد لها النقاد كتبًا ناقشوا فيها هذا الموضوع بشيء من التفصيل، لكن الذي دفعني لكتابة هذا المقال هو سؤال قديم كان يتبادر إلى ذهني عن الدافع الذي دفع الجنّي للتخلي عن شعره أو التخفي خلف شخصية شاعر آخر؟ وعن المَلَكَة التي امتلكها نفرٌ من الجن في كتابة الشعر؟ وهل ما يزال شعراء الجن إلى يومنا هذا يكتبون وينسبون أشعارهم إلى الشعراء؟ وعلى ذلك يمكن قياس أنه بوجود شعراء من الجن، يوجد أيضا كُتّاب قصة ورواية وخطباء وغيرها من الفنون، لم تُشرْ إليهم كتب التاريخ بهذا التوسع. وهل هناك نُقّاد بارزون في عالم الجن يوحون بنقدهم إلى النقاد من الإنس؟ أسئلة عديدة أفرزتها روايات الشعر على ألسنة الجن!!

ورد في كتاب (جمهرة أشعار العرب) لأبي زيد القرشي فصلٌ خاصٌ بعنوان (شياطين الشعراء)، تطرَّق في 16 صفحة إلى هذه الفئة، عارضًا نماذج من قصص العرب وأخبار الشعراء وأشعار الجن المنسوبة إليهم، ومما ورد في الكتاب قصتان أقف عليهما: الأولى قصة مظعون بن مظعون الأعرابي الذي لقي رجلا في الصحراء تبيّن له فيما بعد أنه من الجن، فدار بينهما حوارًا عن أشعر العرب فأجاب الجنيُّ قائلًا: «... اروِ قول لافظ بن لاحظ وهياب وهبيد وهاذر بن ماهر. قلت: هذه أسماء لا أعرفها. قال: أجل! أما لافظ فصاحب امرئ القيس، وأما هبيد فصاحب عبيد بن الأبرص وبشر، وأما هاذر فصاحب زياد الذبياني، وهو الذي استنبغه». (جمهرة أشعار العرب ص43)، وأما الثانية فهي بالطريقة نفسها والحوار الذي كان عن أشعر العرب، نقرأ منه الآتي: «... وقد عرفتُ أنه من الجن، فقلت له: من أشعر العرب؟ فأنشأ يقول:

ذهب ابن حجر بالقريض وقوله: ولقد أجادَ فما يُعابُ زيادُ

لله هاذرٌ إذ يجود بقوله،

إن ابن ماهر بعدها لجوادُ

قلت: من هاذر؟ قال: صاحب زياد الذبياني، وهو أشعر الجن وأضنهم بشعره، فالعجب منه كيف سلسل لأخي ذبيان به...». (ص44)

نجد في هاتين الحكايتين السرد متقاربًا إلى درجة كبيرة من حيث الخروج في الفضاء/ الصحراء، الالتقاء برجل وحيد/ يُتبيّن لاحقًا أنه من الجن، يتحدثان عن الشعر وقوله، ثم يسأله عن أشعر العرب، فيجيء ذكر شعراء الجن وأشهر شعرائهم، وأنهم من استنبغوا الشعراء من الإنس. وكأن الرواية تستنطق الغرائبية في مدلولاتها، وتُبنى على الغيبيات؛ إذ إنها قائمة في بنيتها على حكايات السَمَر واللهو، ونحن علمنا أنّ مجالس السَّمَر كثيرة في الجاهلية يجتمع الناس ويقصون بطولاتهم ومغامراتهم وخوارق أفعالهم.

فمَن ذلك الشاعر/ الجني الذي تخلى عن قصائده ليرفع قدر شاعر آخر؟ وكيف مرّت هذه الحكايات على ألسنة الناس حتى زمن متأخر من العصور الأدبية كالأموي والعباسي، فصار لكل شاعر شيطانًا يوحي إليه أجود الشعر، ثم يتخفى تحت عباءته.

إنّ كل ما ذكر من شعر على لسان الجن يُدخلنا في دائرة الانتحال والسرقات، كما يُقدم لنا صورة متذبذبة عن الشعر الذي جاء عن شعراء تلك العصور، فما الذي كتبه الجنيُّ وما الذي كتبه الشعراء؟ كما إنّ ذلك يهدم جزءًا كبيرًا من موروثنا الشعري العربي، ويقلّل من قيمة الشعراء الذين ذاع صيتهم، إضافة إلى نشر جو من الغرائبية والطرافة على مجالس السَمَر واللهو؛ لذا شاعت أخبار شياطين الشعر وتناقلها الرواة وسارت بها الركبان من عصر إلى آخر حتى أصبحت خبرًا صادقًا صدَّقه الشعراء أنفسهم ونسبوه فعلًا وحدثًا لأنفسهم، وتباهوا به في أشعارهم للتعبير عن نبوغهم في الشعر وإجادتهم له.

جاء في كتاب تاريخ آداب العرب للرافعي: «...فإنّ أخبار الجن لا تُعرف إلا عن رجل من الأعراب أو رجل من الرواة الذين يقصّون للعامة وأشباه العامة، وقد يأتي القليل من ذلك عن الراوية الثقة يريد به الإغراب في حديث إن جاء به، وشعر إن أنشده، ليدير الكلام على روعة تؤكد معناه وتجعله ظريفًا غريبًا، فكأنه يستعين على بيان غرضه بضرب من التخييل، كما يستعين الكاتب أو الشاعر بمثل من المجاز. ولقد أفرط رواة الإسلام من أهل الأخبار في مزاعمهم عن الجن، ونسبوا إليها كل غريب وكل عظيم، لأنها مظنة كل ذلك في أوهامهم؛ وقفى على آثارهم جماعة من المتصوفة، حتى عيَّنوا أول من أسلم من الجن، وهو بزعمهم (هامة بن الهام بن لاقيس بن إبليس ...) وأول نبيّ أرسل إلى الجن فيما قالوا (عامر بن عمير بن الجان) فقتلوه وقتلوا بعده 800 نبي». (ص310)

أما كتاب (الحياة العربية من الشعر الجاهلي) فيرد مثل هذه الحكايات إلى العاقل الباطن الذي يرى أنّ الكتابة تصدر في تلك اللحظة من العقل الباطن، فبعد أن أورد عبارة لريلكه في هذا الموضوع وهي :»...ويقول ريلكه، إنه ظل أسير الأرواح ثلاثة أيام لم ينقطع فيها نظمه، وأخرج ديوانا من دواوينه الروائع، وأعجبه، وألح الجن أن ينشره، فرضي على شريطة أن يكون النشر بعد وفاته، حتى لا يتحمل تبعة شعر أملاه عليه جنيٌّ جالس قبالته»، فبعد أن أورد هذه الجملة، عاد قائلًا: «ولكن علم النفس يعزو هذا كله إلى العقل الباطن، وقد كشفت الدراسات التي قام بها علماء التحليل النفسي عن كثير من عمل العقل الباطن عند الفنان، وانتهوا إلى أن الإنتاج الفني يصدر غالبا عن العقل الباطن كأنه حلم يقظة». وقال: «التحليل النفسي يعزو إلى العقل الباطن الإنتاج الأدبي الرفيع، وقد عبّر الشعراء العرب والإفرنج عن هذا العقل بأنه قوى خفية تلهم، وسموها شياطين.

وإذ كان الشعر يحلق بجناحين من الخيال فقد حق للشعراء أن ينطلقوا مع خيالهم فينسبوا شعرهم إلى قوى وراء حسهم، وتصورهم هذه القوى شياطين ألصق بالخيال وأدنى إلى الشعر من التحليل النفسي الذي يرجع الإنتاج الأدبي إلى العقل الباطن للشاعر، أي إلى الشاعر نفسه». (ص388)

هنا، تتداخل روايات الرواة وعلاقات الشعراء بالجن مع نظرية الشك التي طرحها طه حسين عن الشعر الجاهلي، وإلى أي حد يظهر أثر الرواة في الشعر الذي كُتب بعد مئات السنين من إنشاده، وهنا أيضا يبقى الباب مفتوحًا على أسئلة ذات مدلولات عميقة حول الشعر الجاهلي وموضوعاته منذ تشكّله إلى اليوم.

الآن، وبعد قرون من الشعر الجاهلي مثلًا، هل يمكن الاعتقاد بأن امرأ القيس أو النابغة أو الأعشى أو حتى الفرزدق وجرير وبشار والمتنبي لم يكونوا من الشعراء الفحول، وإنهم ليسوا إلا مرددين لأشعار غيرهم، وأنَّ هذا النبوغ الشعري مردّه لطاقة خفية يتستّر وراءها جنّيٌ أفصح وأبلغ منهم، وقد تخلى عن قصائده لسبب أو لآخر، ثم عاد في روايات مجهولة على ألسنة رواةٍ يتفاخر بنبوغه وتفوقه الشعري بعد سنوات طويلة من رحيل الشعراء.

أصبح باب الشك مفتوحا على مصراعيه، فقد آمن الشعراء أنفسهم بذلك، كما آمن العرب الأوائل به أيضا، وصار للجن مدينتهم الشعرية التي تعبّر عن شاعرية شعرائهم، ولعل ذلك ما رمى إليه أبو العلاء المعري في (رسالة الغفران ص100) في حديثه عن أشعار الجن قائلًا: «...فيقول: ما اسمك أيها الشيخ؟ فيقول: أنا الخيثعور أحد بني الشيصبان، ولسنا من ولد إبليس ولكنا من الجن الذين كانوا يسكنون الأرض قبل ولد آدم، صلى الله عليه. فيقول: أخبرني عن أشعار الجن، فقد جمع منها المعروف بالمرزباني قطعة صالحة.

فيقول ذلك الشيخ: إنما ذلك هذيان لا معتمد عليه، وهل يعرف البشر من النظيم إلا كما تعرف البقر من علم الهيئة ومساحة الأرض؟ وإنما لهم خمسة عشر جنسًا من الموزون قل ما يعدوها القائلون، وإن لنا لآلاف أوزان ما سمع بها الإنس، وإنما كانت تخطر بهم أُطيفالٌ منا عارمون، فتنفث إليهم مقدار الضوارة من أراك نعمان. ولقد نظمتُ الرجز والقصيد قبل أَن يَخْلُقَ اللهُ آدَمَ بكور أو كورين. وقد بلغني أنكم معشر الإنس تلهجون بقصيدة امرئ القيس:

قفا نبك من ذكرى حبيب ومنزل

وتُحفّظونها الحزاورة في المكاتب، وإن شئتَ أمليتُك ألف كلمة على هذا الوزن على مثل: منزل وحومل، وألفاً على ذلك القري يجيء على: منزلُ وحوملُ، وألفاً على: منزلا وحوملا، وألفًا على: منزلَهْ وحوملَهْ، وألفًا على: منزلُهْ وحوملُهْ، وألفًا على: منزلِهْ وحوملِهْ. وكل ذلك لشاعر منا هلك وهو كافر، وهو الآن يشتعل في أطباق الجحيم...».

مقالات مشابهة

  • 6 دقائق من الظلام.. أطول كسوف شمسي يغمر سماء دول عربية في هذا الموعد
  • الرجل الذي حطم بي بي سي
  • ثلاثية الوجود.. ودعاوى الإلحاد
  • الجنّي الذي تخلّى عن قصائده
  • "أم الأكفاء": قصة أم مصرية هزمت الظلام وصنعت النور لأبنائها الخمسة
  • أمريكا تمنح مادورو مهلة للرحيل وتشدد الوجود العسكري قبالة السواحل الفنزويلية
  • مصدر سياسي:الزعامة الإطارية ما زالت تتحرك في الظلام الإيراني
  • السؤال الذي ينقذك حين لا ينقذك أحد
  • فتاوى واحكام..كيف يقضي صلاة الفجر من فاتته مرات كثيرة؟ ..هل دخول الحمام في الظلام يعرضك لـ مَسّ الجن..هل أستطيع الزواج بمن أحب في الجنة؟
  • ما هو القلم الآلي الذي ألغى ترامب كل توقيعاته؟