موقع الحرب في التحليلات الماركسية للتراكم البدائي (2/1)
دانيال ايجان (Daniel Egan )
ترجمة عصام على عبد الحليم

الملخص
منذ فترة طويلة فهم الماركسيون - ابتداءً بماركس-، أن التراكم البدائي لم يقتصر على مرحلة التأسيس التاريخي للرأسمالية. بدلا من ذلك ، استمرت العمليات غير الاقتصادية لتراكم رأس المال ذات صلة طوال التطور اللاحق للرأسمالية.

يشير فحص التحليلات الكلاسيكية للتراكم البدائي التي أجراها كارل ماركس وروزا لوكسمبورغ إلى أن التفسير المعاصر الأكثر أهمية للمفهوم ، والذى قدمه ديفيد هارفي للتراكم عن طريق نزع الملكية، يفشل في تفسير الدور الذي تلعبه الحرب والقوة العسكرية في تراكم رأس المال اليوم. فهو نتاج تفسير إشكالي لتحليلات ماركس ولوكسمبورغ للتراكم البدائي ، وهو – بنفس القدر- تفسير إشكالي للغزو الأمريكي للعراق عام 2003. أنا أزعم أن ماركس ولوكسمبورغ يستمران فى تقديم أساس أكثر نضجا يمكن من خلاله معالجة هذه المسألة.
نص المقال الرئيسي
استندت عملية التراكم في نمطى الإنتاج العبودى والإقطاعي ، على امتلاك الطبقة الحاكمة لسلطة سياسية قسرية صريحة ، أي قوة خارج الاقتصاد. في هذا السياق ، كان دور القوة العسكرية كوسيلة للتراكم مهما بشكل خاص. في مجتمعات العبيد في العصور الكلاسيكية القديمة ، على سبيل المثال ، كانت الهزيمة العسكرية لما يسمى بالشعوب "البربرية" هي الطريقة الرئيسية التي يمكن أن يتوسع بها العمل القائم على كد العبيد. أما بالنسبة للإقطاع ، فقد استندت حقوق ملكية اللورد على الأرض ، والقدرة على استخراج الفائض من الفلاحين، على البنية التراتبية تُشيّدُ تسلسلا هرميا للعلاقات الاجتماعية يقوم على توفير الخدمة العسكرية. في كلتا الحالتين ، كان التراكم من خلال القوة غير الاقتصادية واضحا في أشكاله الاجتماعية ، سواء كان ذلك من خلال الملكية القانونية للعمالة المستعبدة ، أو من خلال السخرة والإيجارات المستخلصة من الفلاحين ( وود 2005). مع ظهور العمل الحر بشكله المزدوج المرتبط بنمط الإنتاج الرأسمالي-متحرر من أي امتلاك لاى وسيلة إنتاج ، وحر في بيع قوة عمله—تم استبدال مركزية الإكراه القائمة خارج الاقتصاد بـ "الإكراه الصامت للعلاقات الاقتصادية" ( ماركس 1976 ، 899). كانت ملاحظة استخراج البرجوازية للفائض من البروليتاريا أصعب بكثير ، لأن حدوثه يبدو - ظاهريا- في سياق تبادل حر ومتكافئ لقوة العمل مقابل الأجور. ومع ذلك ، يجب الاعتراف بالطبيعة الديالكتيكية لهذه العملية ، حيث تم إنجاز هذا الانتقال من خلال أشكال الإكراه خارج الاقتصاد التي تمارسها الدولة، مثل القوة العسكرية. ومع ذلك ، في الوقت نفسه ، لا يلغي هذا الانتقال أهمية القوة خارج الاقتصاد بشكل عام ، والقوة العسكرية بشكل خاص ، في إعادة إنتاج البنية الرأسمالية.

الغرض من هذه المقالة هو دراسة كيف ناقش الماركسيون الدور الذي تلعبه الحرب والقوة العسكرية في التراكم البدائي. يسلط ذلك الضوء على المساهمة الأساسية للدولة في عملية تراكم رأس المال. أتفحص أولا التحليلات الكلاسيكية للتراكم البدائي التي أجراها كارل ماركس وروزا لوكسمبورغ ، ثم التفسير المعاصر للمفهوم-التراكم عن طريق نزع الملكية—الذي قدمه ديفيد هارفي. أنا أزعم أن الطريقة التي يدمج بها هارفي الحرب في تحليله للتراكم عن طريق نزع الملكية إشكالية ، وأن منظور ماركس ولوكسمبورغ يوفر أساسا منتجا يمكن من خلاله معالجة هذه الموضوعة بطريقة مثمرة كليا.
عن التراكم البدائي عند ماركس ولوكسمبورغ
في مقدمة مساهمة في نقد الاقتصاد السياسي ، حدد ماركس خطة تحليله لـ" نظام الاقتصاد البرجوازي بالترتيب التالي: رأس المال ، ملكية الأرض ، العمل المأجور ؛ الدولة ، التجارة الخارجية ، السوق العالمية " (ماركس 1970 ، 19 ). وقد ابتدأ ماركس بالعمل فى الجزء الأول من هذا المخطط فقط ولكن لم يكمله أبدا ، ولم يتم الوفاء بوعده بتحليل الدولة. كان من المتوقع أن تتيح خطته الفرصة ليدرس بالتفصيل الدور الذي لعبته الحرب في عملية تراكم رأس المال. هذا لا يعني أن الدولة فشلت في الظهور في تحليله للرأسمالية. في الجزء الثامن من المجلد الأول لرأس المال ، عرف ماركس التراكم البدائي بأنه "تراكم ليس نتيجة لنمط الإنتاج الرأسمالي بل نقطة انطلاقه" ((ماركس 1976 ، 874). (1) . إن إشارة ماركس التحقيرية إلى " ما يسمى بالتراكم البدائي " تعكس ازدراءه لافتراضات آدم سميث وآخرين بأن" نقطة انطلاق " الرأسمالية كانت نتيجة لجهود التفكير المستقبلي لتلك الفئات والتى ستصبح قريبا الطبقة الرأسمالية، لممارسة اكتناز الثروات الخاصة التي يمكن استثمارها لأغراض كسب الربح.
لم يكن رأس المال بالنسبة لماركس شيئا بل علاقة اجتماعية. وهى عملية تتطلب إنشاء "علاقة رأس المال" ، والتي لا يمكن أن تكون سوى العملية التي تفصل العامل عن ملكية شروط عمله ؛ إنها عملية تخلق تحولين ، حيث يتم تحويل الوسائل الاجتماعية للعيش والإنتاج إلى رأس مال ، وتحويل المنتجين المباشرين إلى عمال بأجر. إن ما يسمى بالتراكم البدائي . . . ماهو إلا العملية التاريخية لفصل المنتج من وسائل الإنتاج. (ماركس 1976 ، 874-875)
لقد كانت عملية الفصل بين المنتج ووسائل الإنتاج عملية تاريخية، لعب فيها" الغزو والاستعباد والسرقة والقتل ، باختصار ، القوة ، الجزء الأكبر " (ماركس 1976 ، 874). انه – فقط- تبعا "لما قبل تاريخ رأس المال" (875) ، الذي اتسم بهيمنة القوة ، وعمليات تعزيز "الإكراه الصامت للعلاقات الاقتصادية" (899) يمكن تعريف العمليات التي تحدد بنية الاستغلال الرأسمالي.
لقد كان ماركس واضحا في تحديد أن عملية التراكم البدائي لم تكن عملية عالمية أو ميكانيكية ، بل إنها "تفترض جوانب مختلفة في بلدان مختلفة ، وتمر بمراحلها المختلفة في تواليات مختلفة من الترتيب ، وفي عصور تاريخية مختلفة" (ماركس 1976 ، 876). ومع ذلك ، فقد حدد "الشكل الكلاسيكي" ( ماركس 1976 ، 876) بانه ذلك الذي حدث في إنجلترا ، وفي هذا السياق درس دور الدولة كعامل رئيسي للتراكم البدائي. وأشار ل"أعمال العنف الفردية" (ماركس 1976 ، 885) التي تم من خلالها إبعاد الفلاحين قسرا من الأرض بدءاً من أواخر القرن الخامس عشر . بحلول القرن الثامن عشر، تم استبدال تلك الممارسات ، بسن البرلمان لقوانين "ضم الأراضي" ( وهى سلسلة من قوانين اصدرها برلمان المملكة المتحدة ، حددت الحقول المفتوحة والأراضي العامة في البلاد واخضعتها لحقوق الملكية القانونية للأرض التي كانت تعتبر في السابق شائعة او ملكية عامة. بين عامي 1604 و 1914 ضمت هذه ألأراضى 6.8 مليون فدان (المترجم). رافق هذه العملية ما وصفه ماركس بـ "التشريع الدموي ضد المصادرة" ، وهو التشريع الذي يُجرّم الفقر الناتج عن الإخلاء الجماعي للفلاحين من الأرض ، مع عقوبات على" التشرد "تتراوح بين الجلد والسجن والاستعباد ، وبعد ذلك" النقل " إلى المستعمرات العقابية في الخارج ، وينص على تمديد إلزامي ليوم العمل ووضع حد أقصى للأجور بدون وضع حد أدنى لها ، وحظر تجمع العمال الهادف لتحسين ظروف عملهم. وكانت النتيجة هي تجريد السكان من وسائل الإنتاج وإجبارهم - بدافع الضرورة- على العمل في ظل ظروف مريعة وأجور منخفضة مفروضة . لقد مثلت تلك المجموعات التأسيس التاريخي لطبقة البروليتاريا. مثّلَ هذا التشريع أيضا ، من خلال ضمان التدمير النهائي للصناعة المحلية الريفية وإنشاء سوق محلية ، معبرا تطورت من خلاله البرجوازية الصاعدة. توضح هذه الأمثلة قوة الدولة ، قوة المجتمع المركزة والمنظمة ، لتسريع -كفقاسة - عملية تحويل النمط الإقطاعي للإنتاج إلى النمط الرأسمالي ، وتقصير فترة الانتقال. القوة هي قابلة كل مجتمع قديم يحمل في أحشائه آخرا جديدا. إنها في حد ذاتها قوة اقتصادية. (ماركس 1976 ، 915-916)
لم يكن الدور المحدد للقوة العسكرية الإنجليزية في هذه العملية بعيدا عن سردية ماركس-كانت الأشكال القانونية التي تم من خلالها فصل المنتجين عن وسائل الإنتاج مدعومة دائما بالقوة العسكرية ، كما توضح إشارته إلى استخدام الجنود لفرض عمليات الإخلاء في اسكتلندا في أوائل القرن التاسع عشر ( ماركس 1976 ، 897)—ولكن لم يحيطها بأي تفاصيل.

في مناقشته للتراكم البدائي على المستوى العالمي ، أظهر ماركس بوضوح أكبر الدور الهام الذي لعبته الحرب والقوة العسكرية ، بشكل مباشر وغير مباشر ، في هذه العملية. الصورة التي رسمها ماركس هنا للتراكم البدائي هي صورة قاتمة حقا: اكتشاف الذهب والفضة في أمريكا ، واستئصال واستعباد ودفن السكان الأصليين في المناجم ، وبدايات غزو الهند ونهبها ، وتحويل إفريقيا إلى محمية للصيد التجاري للأفارقة ، كلها أشياء تميز بزوغ نمط الإنتاج الرأسمالي. هذه الإجراءات "الشاعرية" هي اللحظات الرئيسة للتراكم البدائي. (ماركس 1976 ، 915)

يقول ماركس "الكنوز التي تم الاستيلاء عليها خارج أوروبا عن طريق النهب والاستعباد والقتل الصريح" ، ويتابع "عادت إلى البلد الأم وتحولت إلى رأسمال " (ماركس 1976 ، 918). ضَمِنتْ القوة العسكرية اللازمة لهذه العملية ظهور" الحروب التجارية للدول الأوروبية ، التي جعلت الكرة الأرضية ساحتها "، والتي " تبدأ بالثورة الهولندية ضد إسبانيا ، واتخذت أبعادا هائلة في حرب إنجلترا ضد اليعاقبة ، وما زالت مستمرة في شكل حروب الأفيون ضد الصين ، إلخ."(ماركس 1976 ، 915). نرى في كتاب راس المال ، على سبيل المثال ، كيف أن سلسلة المعاهدات على مدار 1713-1715 التي شكلت سلام أوتريخت بعد حرب الخلافة الإسبانية (أشعل فتيلها موت كارلوس الثاني ملك إسبانيا في نوفمبر عام 1700، والذي لم يخلّف ذرية ترث العرش ، فاندلعت الحرب بين المتنافسين على العرش، تدخلت فيها دول أروبية - المترجم)، انتهت بتوسيع احتكار إنجلترا لتجارة الرقيق إلى جزر الهند الغربية لتشمل مستعمرات إسبانيا في الأمريكتين ، وكذلك كيف ساهمت المكافآت التي وضعتها مستعمرات نيو إنجلاند على فروة الرأس التي تم الحصول عليها نتيجة حروب الإبادة ضد السكان الأصليين، في تحويل الأراضي العامة- المتاحة للاستخدام الجماعي- إلى ملكية خاصة. مع هذه الأمثلة وغيرها الموجودة في كتاب رأس المال ، استطاع ماركس ان يدفع باستنتاجه بلا لجاجة أن "رأس المال يأتى متبخترا، يقطر من الرأس إلى أخمص القدمين ، ومن كل المسام ، دماً وأوساخاً ( ماركس 1976 ، 926).

تجدر الإشارة إلى أن كتابات ماركس الأخرى المتعلقة بالاستعمار ذات صلة بفهم تحليله للتراكم البدائي ، حتى لو كانت هذه الكتابات تسبق كتابته لرأس المال (انظر براديلا 2013). تعليقات ماركس على الهيمنة البريطانية على الهند والصين ، التي كتبت خلال 1850 ، تقدم أمثلة على ذلك. فقد أشار، على سبيل المثال ، أن "التدخل الوحشي للجندي البريطاني " (ماركس 1979 أ ، 131) لعب دورا مهما في توسيع قوة شركة الهند الشرقية في جميع أنحاء الهند. على مدار سلسلة من حروب القرن الثامن عشر ، وأبرزها حروب كارناتيك من 1746-1763 التي هزم فيها البريطانيون الفرنسيين وحلفائهم المحليين ،ثَبّتتْ الشركة نفسها كقوة تجارية أوروبية مهيمنة في الهند وتحولت "من مؤسسة تجارية إلى قوة عسكرية وإقليمية" ( ماركس 1979 ب ، 149). خلال هذه الفترة ، "تم اكتساب الكنوز المنقولة من الهند إلى إنجلترا بشكل أقل بكثير من خلال التجارة غير المهمة نسبيا ، مقارنة بالاستغلال المباشر لذلك البلد ، والثروات الهائلة التي تم ابتزازها واستخلاصها ونقلها إلى إنجلترا" (ماركس 1979 ب ، 154). لاحظ ماركس أيضا أن الحروب خلال 1830 و 1840 ، ولا سيما تلك ضد السيخ والأفغان ، أكملت إخضاع الشركة لشبه القارة الهندية وأنشأت "إمبراطورية أنجلو هندية عظيمة " ( ماركس 1979 ب ، 152) بحلول عام 1849. وفي عام 1857 إنطلقت ثورة هندية ضد الحكم الاستعماري البريطاني قمعت بشكل دموي ، وصلت التكاليف المرتبطة بـ "مسيرة الغزو اللامتناهي والعدوان الدائم التي يشارك فيها الإنجليز لحيازة الهند" ( ماركس 1986 ب ، 352) إلى درجة أن الشركة لم تعد قادرة على تأمين النظام اللازم للحفاظ على النهب الاستعماري دون ضخ أموال ضخمة من البرلمان ؛ فتم إلغاء ميثاق الشركة وتولت بريطانيا الحكم في شكله الاستعماري المباشر.

فيما يتعلق بالصين ، جادل ماركس بأن الجهود البريطانية لإنهاء عزلة الصين التي فرضتها على نفسها" وجدت تطورها الكامل تحت فوهة المدفع الإنجليزي " (ماركس 1979 ج ، 95). وأشار إلى أن البيع غير القانوني للأفيون للصين ساهم بشكل ضخم في زيادة إيرادات شركة الهند الشرقية ،وكذلك في زيادة الطلب الهندي على السلع المصنعة البريطانية. كان يُنظر إلى الغاء الحظر الصيني على استيراد الأفيون على أنه وسيلة لمعالجة اختلال التوازن التجاري طويل الأمد ، الناشئ عن الطلب البريطاني على السلع الكمالية الصينية مثل الحرير والخزف ، وعكس ما كان - حتى ذلك الحين - تدفقا صافيا للمعادن الثمينة من بريطانيا إلى الصين. حرب الأفيون الأولى 1839-1842 ، التي شنها البريطانيون باسم "التجارة الحرة" ، لم تجبر الصين على شراء الأفيون من الهند الاستعمارية فحسب ، بل فتحت أيضا موانئ صينية للتجار البريطانيين ،وفى سياقها تنازلت الصين فيه عن السيطرة على هونغ كونغ للبريطانيين. أدت "الإهانات" اللاحقة لحقوق الوصول البريطانية في الصين ، إلى زيادة استخدام القوة العسكرية في حرب الأفيون الثانية ، لتعزيز وتوسيع السيطرة الأوروبية على تجارة الصين. بعد أكتوبر 1856 ، صعد المسؤولون الصينيون لسفينة صينية ترفع العلم البريطاني من أجل القبض على أفراد الطاقم الصينيين المتهمين بالقرصنة ، ردت القوات البريطانية وقصفت بالمدافع الجبارة عدة حصون في ميناء كانتون، ثم استولت علي كامل المدينة. عن ذلك ، كتب ماركس أنها كانت "الحرب الأكثر ظلما في التاريخ" ( ماركس 1986 أ ، 234) اتت من قبل "مروجي الحروب/الحضارة الذين يرمون القذائف النارية على مدينة عزلاء ويضيفون الاغتصاب إلى القتل" ( إنجلز 1986 ، 281).تم الاستيلاء على كانتون نفسها من قبل القوات البريطانية والفرنسية في ديسمبر 1857 ، وفي مايو 1858 استولوا على الحصون بالقرب من تيانجين. لم تفرض معاهدة تينتسين اللاحقة في يونيو 1858 تعويضات للصينيين فحسب ، بل فتحت أيضا المزيد من الموانئ الصينية للتجارة الأوروبية ، وسمحت للتجار الأجانب بالسفر داخل الصين. في وقت لاحق ، في يونيو 1859 ، عندما رفض المسؤولون الصينيون مرور سرب بحري من السفن الحربية البريطانية والفرنسية التي ترافق الدبلوماسيين على نهر هاي في تيانجين ، تم إطلاق" حرب حضارية أخرى " (ماركس 1980 ، 517) لفرض الوصول الأوروبي إلى الصين ، والتي انتهت بنهب القصر الصيفي الإمبراطوري في بكين في أكتوبر 1860.

في كل من الهند والصين ، كان التراكم البدائي نتيجة لنقل مخزونات غير عادية من الثروة إلى بريطانيا ، تلك الثروة التي اصبحت متاحة بعد ذلك لاستخدامها كرأس مال من قبل البرجوازية الناشئة. وبالمثل ، في كل من الهند والصين ، كانت الصناعة المحلية ، وعلى الأخص الغزل والنسيج ، غارقة في الاستيراد القسري للمنسوجات البريطانية. سهل هذا التآكل البطيء ولكن المطرد لأنماط العمل الأصلية ظهور قوة عاملة متعاقدة شبه بروليتارية في الصين (كما في الهند) ، على سبيل المثال ، لعبت دورا مهما في استخراج ذرق الطيور( يستخدم كسماد طبيعي - المترجم) من بيرو للتصدير إلى بريطانيا ، وهي قوى عاملة تخضع لعملية تشبه "العبودية المقنعة" ( ماركس 1973 ، 97 ن) ؛ لعب العمل التعاقدي الصيني أيضا دورا مهما في تعدين الذهب في كاليفورنيا وأستراليا وبناء السكك الحديدية في غرب الولايات المتحدة.

ومع ذلك ، في مناقشتهم لأيرلندا ، يمكن للمرء أن يرى بوضوح كيف فهم ماركس (وإنجلز) الدور الذي تلعبه الحرب في التراكم البدائي. وأشارا لعمليات المصادرة والتهجير القسري من الأراضي الأيرلندية والتطور اللاحق لملاك الأرض الإنجليز الذي رافق الغزو الإنجليزي لأيرلندا ، بدءا من غزو هنري الثاني عام 1171 ، وامتد من خلال إنشاء مزرعة أولستر بواسطة جيمس الأول بعد عقود من الحرب التي بدأها هنري السابع ، وإخضاع كرومويل لأيرلندا الكاثوليكية ، وانتهاءاً بانتصار ويليام الثالث على اليعاقبة في عام 1691. كانت أيرلندا ، وفقا لماركس ، "قلعة للأرستقراطية الإنجليزية "،" وكان استغلالها ليس فقط أحد المصادر الرئيسية للرفاهية المادية لهذه الأرستقراطية ؛ بل كانت أعظم قوتها الأخلاقية " (ماركس 1988 ، 473 ). أدى القهر الإنجليزي لأيرلندا إلى تحويلها إلى ما أسماه ماركس "المقاطعة الزراعية الإنجليزية" ( ماركس 1985 أ ، 192) ، توفر الصوف اللازم لصناعة النسيج الإنجليزية ، والمواد الغذائية اللازمة لإعادة إنتاج قوة العمل الإنجليزية. بالإضافة إلى ذلك ، أدت أنماط الزراعة التي تقوم على استئجار الأرض - التي فرضها الحكم الإنجليزي- إلى تطور فائض السكان في أيرلندا ، والتي لم يستسلم جزء منها للمجاعة فهاجرت إلى المدن البريطانية، لتصبح مصدرا وفيرا لاستغلال قوة العمل الصناعية. نتيجة لذلك ، اضطرت أيرلندا إلى "المساهمة بعمالة رخيصة ورأس مال رخيص لبناء" الأعمال العظيمة لبريطانيا " (ماركس 1985 ب ، 200-201). كانت الأهمية المتساوية إن لم تكن الأكبر لرأس المال البريطاني هي حقيقة أن العمالة الأيرلندية في الشتات ،كانت تستخدم كإسفين لإضعاف تضامن الطبقة العاملة ضد رأس المال. كانت البروليتاريا الإنجليزية تميل إلى رؤية العمل الأيرلندي كمنافس اقتصادي يدفع الأجور إلى الانخفاض وتعدها كطبقة ادني اجتماعيا: كتب ماركس: "هذا العداء هو سر عجز الطبقة العاملة الإنجليزية ، على الرغم من تنظيمها. إنه السر الذي تحافظ به الطبقة الرأسمالية على قوتها " (ماركس 1988 ، 475). لاحظ إنجلز أيضا ، على وجه الخصوص ، كيف أن الانتصارات العسكرية الإنجليزية في القرن السابع عشر "سحقت تماما" الشعب الأيرلندي ، "سرقت ممتلكاتهم من الأراضي وأعطها للغزاة الإنجليز ، وحظر الشعب الأيرلندي من التواجد في أراضيه وتحول إلى أمة من المنبوذين" ( إنجلز 1985 ، 140). ومع ذلك ، لم تكن الطبيعة القسرية للحكم البريطاني في أيرلندا مجرد حقيقة تاريخية ، كما أوضح إنجلز في رسالة إلى ماركس بعد جولة في أيرلندا عام 1856:
تستند ما يسمى بحرية المواطنين الإنجليز على اضطهاد المستعمرات. لم أر قط هذه الكثرة من رجال الشرطة في أي بلد ، وقد تم تطوير المظهر المتبلد للشرطى البروسي المخمور إلى أعلى مستوى من الكمال، اولئك المسلحين بالبنادق القصيرة والحراب والأصفاد. (إنجلز 1983 ، 49)

أوضحت مناقشة إنجلز للفقر المدقع للأيرلنديين ، سواء كمزارعين مستأجرين في أيرلندا أو كعمال في المراكز الصناعية البريطانية ، في كتابه " حالة الطبقة العاملة في إنجلترا "، أنه في حين أن "الهجرة الإنجليزية" "اكتفت بالنهب الأكثر وحشية للشعب الأيرلندي . . . لم يكن للأيرلنديين الكثير ليكونوا شاكرين للهجرة الإنجليزية" ( إنجلز 1973 ، 310). وكانت النتيجة أنه "نتيجة للغزو الإنجليزي ، تعرضت أيرلندا للغش وسلبت فرص تطورها بالكامل ، وألقيت بقرون إلى الوراء" (إنجلز 1988 أ ، 409). أكد إنجلز أيضا على مدى أهمية الهيمنة الإنجليزية على أيرلندا والأدوار التي لعبتها في التطور اللاحق للرأسمالية البريطانية:" يبدو واضحا لي أن الأمور في إنجلترا كانت ستتخذ منعطفا آخر لولا ضرورة الحكم العسكري في أيرلندا وخلق أرستقراطية جديدة " (إنجلز 1988 ب ، 363).
بينما أكد ماركس أن التراكم البدائي ميز عصور ما قبل التاريخ لرأس المال ، أوضحت كتاباته عن التجربة المعاصرة للاستعمار البريطاني أنه لا يرى أنها تنتهي بظهور العلاقات الاجتماعية الرأسمالية. حقيقة أنه أدرج حروب الأفيون-التي حدثت بعد فترة طويلة من توطيد العلاقات الاجتماعية الرأسمالية في بريطانيا-في مناقشته للتراكم البدائي في رأس المال هو دليل على ذلك. ومع ذلك ، لم يأخذ هذه النقطة إلى أبعد من ذلك. ونتيجة لذلك ، تركت مسألة التعبير عن التراكم البدائي مع الاستنساخ الموسع لرأس المال دون إجابة.

تم طرح هذا السؤال بشكل مباشر أكثر في تحليل لوكسمبورغ لتطور الرأسمالية. مثل ماركس ، أشارت إلى أهمية التراكم البدائي لإنشاء البروليتاريا ، سواء من خلال تحرير المنتجين المباشرين من القنانة وفصلهم عن وسائل الإنتاج ، من خلال أساليب مثل مصادرة الأراضي في الممارسة الإنجليزية التي بدأت في القرن الخامس عشر ( لوكسمبورغ 2014). كما أنها ، مثل ماركس ، حددت أهمية "الهجوم الأول لأوروبا على العالم الجديد" الذي بدأ في أواخر القرن الخامس عشر ، "مسألة نهب أسرع للكنوز والثروة الطبيعية للأراضي الاستوائية المكتشفة حديثا من حيث المعادن الثمينة والتوابل والحلي القيمة والعبيد" ( لوكسمبورغ 2014 ، 150-151) ونهب المواد الخام واستعباد الشعوب الأصلية من قبل الشركات التجارية الهولندية والإنجليزية من أجل التطور اللاحق للرأسمالية. ومع ذلك ، على عكس ماركس ، الذي رأت أنه يقصر التراكم البدائي على عصور ما قبل التاريخ لرأس المال والذي "يعود باستمرار إلى افتراضه المسبق للهيمنة العالمية والحصرية للإنتاج الرأسمالي" ، أكدت لوكسمبورغ:
حتى في نضجها الكامل ، تعتمد الرأسمالية في جميع علاقاتها على الوجود المتزامن لطبقات ومجتمعات غير رأسمالية . . . ترتبط عملية تراكم رأس المال بأشكال الإنتاج غير الرأسمالية في جميع علاقات القيمة والعلاقات المادية-أي فيما يتعلق برأس المال الثابت ورأس المال المتغير وفائض القيمة. (لوكسمبورغ 2016 ، 262) وقالت ببعدين لتراكم رأس المال : أ)

عملية اقتصادية يتم تنفيذ أهم مرحلة لها بين الرأسمالي والعامل المأجور ، لكنها عملية تتحرك حصريا داخل حدود تبادل السلع-التبادل بين متعادلين—في كلتا المرحلتين (أي داخل مجال الإنتاج ومجال التبادل) ؛ (لوكسمبورغ 2016 ، 329 )

و ب)" عملية تحدث بين أشكال الإنتاج الرأسمالية وغير الرأسمالية " (لوكسمبورغ 2016 ، 329) على المستوى العالمي. إن أهمية هذا الأخير ، حسب لوكسمبورغ ، هي أن افتراض ماركس بأن "جميع وسائل الإنتاج والاستهلاك المطلوبة يجب أن تستمد فقط من الإنتاج الرأسمالي لا يتوافق مع الممارسة اليومية وتاريخ رأس المال ، ولا مع الطابع المحدد لهذا النمط من الإنتاج" ( لوكسمبورغ 2016 ، 257) وبالتالي يجب رفضه. لا يمكن لاستهلاك الرأسماليين والعمال على حد سواء أن يضاهي أبدا الدافع الثابت المتعطش لتجميع رأس المال ، وبالتالي فإن إنتاج فائض القيمة سوف يفوق دائما الفرص لتحقيق ذلك الفائض من القيمة من قبل الرأسماليين. نتيجة لذلك ، أشارت لوكسمبورغ إلى ضرورة أن تمتص المنافذ غير الرأسمالية فائض القيمة الذي لا يمكن امتصاصه داخل النظام الرأسمالي نفسه. "في أشكاله وقوانين الحركة" ، جادلت لوكسمبورغ ، أن الإنتاج الرأسمالي يعتبر العالم كله خزينة للقوى المنتجة ، وقد فعل ذلك منذ نشأته. في سعيه إلى الاستئثار بهذه القوى المنتجة بهدف استغلالها ، يقوم رأس المال بنهب الكوكب بأسره ، وشراء وسائل الإنتاج من كل صدع في الأرض ، وانتزاعها أو اكتسابها من الحضارات من جميع المراحل وجميع أشكال المجتمع. (لوكسمبورغ 2016 ، 258)

isamabd.halim@gmail.com  

المصدر: سودانايل

كلمات دلالية: على سبیل المثال القوة العسکریة خارج الاقتصاد وسائل الإنتاج هذه العملیة لرأس المال الدور الذی فی أیرلندا الحرب فی من الهند ومع ذلک ما یسمى من خلال عن طریق التی تم من قبل

إقرأ أيضاً:

هل هي “حمى الذهب والمعادن الثمينة” التي تحرك النزاع في السودان.. أم محاربة التطرف الإسلامي؟

بقلم : ديكلان والش

أعادت صحيفة نيويورك تايمز، قبل فترة، نشر تحقيق استقصائي مطول أجراه الصحفي “ديكلان والش”، وأدخل عليه بعض التحديثات، وركز التحقيق الاستقصائي على زاوية “الذهب والمعادن الثمينة” باعتبار التنافس عليها ، بين القوى الخارجية، وأطراف داخلية، هو المحرك الحقيقي للحرب التي دمرت السودان.

وكشف التحقيق الاستقصائي عن مصالح متبادلة بين أطراف متناقضة، لا تلتقي إلا على رعاية المصلحة المرتجاة من عوائد المعدن النفيس، وقد رأينا في موقع “المحقق” الإخباري، أن نستعرض ما جاء في ذلك التحقيق، واخترنا له عنواناً غير الذي اختارته الصحيفة الأمريكية.

ترجمة واستعراض:

محمد عثمان آدم

تحقيق هو من الفرائد عن الذهب السوداني، وكيف أشعل الحرب وفاقم من أوارها ودفع إليها الطامعين من الأقربين في الخليج والجيران والأهل في أفريقيا، والأبعدين في أوروبا، أجراه الصحفي ديكلان والش ونشره في صحيفة نيويورك تايمز بتاريخ 11 ديسمبر 2024، وجرى تجديده إثر التطورات التي وقعت في السودان، في 7 فبراير 2025 تحت عنوان “حمى الذهب محرك رئيس لحرب السودان الأهلية” وبعنوان جانبي موح هو: تتلاحق عليه المجاعات والتطهير العرقي ومع ذلك، تزدهر تجارة الذهب، بما يُثري الجنرالات ويزيد من أوار الاقتتال بالسودان”.

وإذا كان السائد والجاري على الألسن هو تورط الكثير من الدول الجارة والبعيدة في الصراع وحرب الوكالة الفاضحة في السودان لأسباب الكيد السياسي ومحاربة الإرهاب والتموضع السياسي الجغرافي فان التحقيق يحاجج بصورة مفصلة أن وراء كل هذا معادن السودان المنبثة في أرجائه جميعاً والتي يتقدمها الذهب آنيا، فالذهب هو المهماز الأول في تحريك هذه الدول – وخاصة الإمارات – ودفعها للتورط في الحرب، وربما أتى بعد ذلك الزراعة ومحاربة الاسلام (سمه ما شئت .. السياسي أو الإخواني أو العنيف)، لكن يظل بريق الذهب وكمياته المهولة التي تتبعها الكاتب هي الأساس.

ويسوق التحقيق الذي أتى على صيغة “المقال القصصي والسردي التحليلي” أحداثاً فردية ثم يربطها جميعاً بتجارة الذهب وتهريبه من السودان، وتظهر من بعد الصورة الجلية للمنغمسين في تجارة الذهب، ويكشف كيف عمل جيران السودان دونما استثناء، إلا القليل منهم – مثل إريتريا – في تجريد لحم السودان وتمزيق نسيج أهله، ما همهم من بعد أي شيء، لكن المقال يؤكد تأكيداً قوياً أن ما يجري في السودان يفوق الدعاوى الشاطحة بأنه حرب بين جنرالين يتصارعان على السلطة في الخرطوم التي أصبحت الآن أثرا بعد عين.

و من يقرأ المقال ربما يفكر مرتين في مسالة محاربة الإماراتيين للتطرف و ربما يصل إلى قناعة بأن وراء كل ذلك الذهب واليورانيوم و ربما معادن أخرى!!

يبدأ المقال القصصي بهذه الصورة:

“هبطت الطائرة الفاخرة في جوبا، عاصمة جنوب السودان، في مهمة لجمع مئات الكيلوجرامات من الذهب الذي جُلب عبر طريقة غير شرعية. وأظهر بيان الرحلة أنه قد كان على متنها ممثلٌ للجماعة شبه العسكرية الفظة و المتهمة بالتطهير العرقي في الحرب الأهلية السودانية البلد مترامي الأطراف. وقد تم تهريب الذهب نفسه من دارفور، وهي منطقة في السودان تجثم على صدرها المجاعة والخوف وتخضع إلى حد كبير لسيطرة تلك الجماعة الوحشية ..

وقال ثلاثة أشخاص على صلة بالصفقة ومُطلعون عليها إن الحمالين الذين قاموا بتعتيل ومناولة الشحنة كانوا يتذمرون وهم يحملون صناديق مليئة بالذهب، بقيمة حوالي 25 مليون دولار، إلى الطائرة. و قد حافظ مسؤولو المطار و في سرية تامة على محيط آمن حول الطائرة، التي نزلت فجأة في المطار الرئيسي لواحدة من أفقر دول العالم. وبعد 90 دقيقة، أقلعت تلك الطائرة مرة أخرى، وهبطت قبل فجر يوم 6 مارس في مطار خاص في الإمارات العربية المتحدة، وفقاً لبيانات ذات الرحلة. وهنا سرعان ما اختفت الحمولة الثمينة للمعدن اللامع في سوق الذهب العالمية.”

و يقول الصحفي الذى عاونه في جمع المادة فريق من الصحفيين و المحللين و الخبراء من داخل و خارج السودان و داخل و خارج القارة الأفريقية أنه كلما زاذ احتراق السودان و جاع أهله، اشتعلت في المقابل حمى كنز الذهب من أرجائه المختلفة.

و يذهب الكاتب في شرح معاناة و احتراق أهل السودان مجازاً و حقيقة إذ يقول “لقد حطمت الحرب اقتصاد السودان، وأدت إلى انهيار نظامه الصحي، وحولت جزءًا كبيرًا من العاصمة التي كانت ذات يوم مصدر فخر إلى أكوام من الأنقاض. كما تسبب القتال في واحدة من أسوأ المجاعات في العالم منذ عقود، حيث يواجه 26 مليون شخص الجوع الشديد أو الموت جوعاً …

لكنه رغم ذلك فإن تجارة الذهب تزدهر، فقد تجاوز إنتاج وتجارة الذهب، الموجود في رواسب غنية في جميع أنحاء الدولة الشاسعة، مستويات ما قبل الحرب – وهذا مجرد الرقم الرسمي في بلد يسود فيه التهريب. في الواقع، تتدفق مليارات الدولارات من الذهب من السودان في كل اتجاه تقريباً، مما يُسهم في تحويل منطقة الساحل الأفريقي إلى واحدة من أكبر مُنتجي الذهب في العالم، في وقتٍ تُسجل فيه الأسعار مستوياتٍ قياسية.

ولكن عوضاً عن استخدام هذه الثروات الطائلة لمساعدة جيوش الجوعى والمشردين، تُوظّف الأطراف المتحاربة في السودان الذهب لتمويل حربها، مستخدمةً ما يُطلق عليه خبراء الأمم المتحدة “أساليب التجويع” ضد عشرات الملايين من الناس.

و يشير الصحفي إلى أن هذا الذهب يُساعد في تمويل الطائرات المُسيّرة و المدافع و الأسلحة والصواريخ التي قتلت عشرات الآلاف من المدنيين وأجبرت 11 مليونًا على النزوح من ديارهم.

و يقول هذه الحرب هي “جائزة المقاتلين والمرتزقة المتوحشين الذين نهبوا العديد من البنوك والمنازل حتى أصبحت العاصمة الآن أشبه بمسرح جريمة ضخم، حيث يتباهى المقاتلون باستعراض أكوام من المجوهرات وسبائك الذهب المسروقة على وسائل التواصل الاجتماعي.”

وكان الشعب السوداني يأمل في أن يرفع الذهب من الوضع الاقتصادي للبلد. لكن بدلاً من ذلك، اتضح أنه سبب تدهوره. بل إن يوفر تعليلا وتسبيبا ويفسر ما وراء اندلاع الحرب – ولماذا يصعب إيقافها. واستشهد الكاتب بما قاله الدكتور سليمان علي بلدو خريج الجامعات الفرنسية والخبير السوداني في موارد البلاد: “الذهب يدمر السودان، ويدمر السودانيين” معاً.

و يقول الكاتب الافرنجي عن دقلو : قائد المليشيا “الفريق محمد حمدان، هو تاجر إبل تحول إلى أمير حرب، وقد ازدادت قوة قواته بشكل خاص بعد استيلائه على أحد أكثر مناجم الذهب ربحية في السودان عام 2017، وقال لصحيفة نيويورك تايمز في مقابلة عام 2019، محاولًا التقليل من أهميته: “إنه لا شيء، مجرد منطقة في دارفور تابعة لنا”.

وقد أصبح المنجم حجر الزاوية لإمبراطورية بمليارات الدولارات حوّلت جماعته المسلحة، قوات الدعم السريع، إلى قوة هائلة. باع الجنرال حمدان المنجم لاحقًا للحكومة مقابل 200 مليون دولار، مما ساعده على شراء المزيد من الأسلحة والنفوذ السياسي. لكن هذه الثروة والطموح أديا إلى مواجهة مع الجيش السوداني، مما مهد الطريق للحرب الأهلية التي دمرت البلاد تقريبًا.

اشتدت المعركة على الذهب مع اندلاع الحرب عام 2023. في إحدى هجماته الافتتاحية، “استولى الجنرال حمدان على المنجم الذي باعه للحكومة”. بعد أسابيع، هاجم مقاتلوه مصفاة الذهب الوطنية في العاصمة أيضًا، ونهبوا سبائك ذهب بقيمة 150 مليون دولار، وفقًا للحكومة.

يُحرك الذهب الحرب في الجيش السوداني أيضًا. فقد قصف مناجم قوات الدعم السريع، بينما زاد إنتاج الذهب في المناطق التي لا تزال تحت سيطرة الحكومة، غالبًا من خلال دعوة قوى أجنبية للقيام بالتعدين. يتفاوض المسؤولون السودانيون على صفقات أسلحة وذهب مع روسيا، ويسعون إلى استمالة مسؤولي التعدين الصينيين. حتى أنهم يتشاركون منجم ذهب مع قادة خليجيين متهمين بتسليح أعدائهم.

ووفقا للكاتب فان ” الرعاة الأجانب للحرب يلعبون على كلا الجانبين أيضًا.” و لطالما أشاد الرئيس فلاديمير بوتين بتعدين الذهب بواسطة الروس في السودان، وعملت مجموعة فاغنر التابعة لبلاده مع الجيش ومنافسيه حتى قبل خوضهم الحرب.

والآن، وبعد وفاة رئيس فاغنر في حادث تحطم طائرة بعد تمرده القصير ضد القادة العسكريين الروس، استولى الكرملين على أعمال المجموعة، ويبدو أنه يسعى وراء الذهب على جانبي خط المواجهة، بالشراكة مع قوات الدعم السريع في الغرب والجيش الوطني في الشرق.

ويؤكد المقال بأن الإمارات العربية المتحدة تسعر من أوار الحرب مع كلا الجانبين”ففي ساحة المعركة، تدعم قوات الدعم السريع، وتُرسل إليهم طائرات مُسيّرة وصواريخ قوية في عملية سرية تحت ستار مهمة إنسانية. ولكن عندما يتعلق الأمر بالذهب، يُساهم الإماراتيون أيضًا في تمويل الطرف الآخر” !!

ويشير الكاتب إلى أن شركة إماراتية، والتي تربطها صلات بالعائلة المالكة، تمتلك أكبر منجم صناعي في السودان. يقع في منطقة تسيطر عليها الحكومة ويسلم جزءًا كبيرًا من المال لآلة الحرب التابعة للجيش الذي تعاني من ضائقة مالية – وهو مثال آخر على المجموعة المذهلة من التحالفات والتحالفات المضادة التي تغذي الحرب.

و تقول الصحيفة إن دراجات نارية وشاحنات وطائرات تحمل بالذهب من السودان من مختلف الأقاليم و من كل منعطف، لتنقله عبر الحدود التي يسهل اختراقها مع الدول السبع المجاورة للسودان، وفي النهاية، ينتهي الأمر بمعظمه في الإمارات العربية المتحدة، الوجهة الرئيسة للذهب المهرب من السودان، وفقًا لوزارة الخارجية.

على طول الطريق، يأخذ كل واحد من سلسلة متباينة من المستفيدين نصيبه – منهم مجرمون ومن بينهم أمراء حرب ورؤساء جواسيس وجنرالات ومسؤولون فاسدون، وهم تروس اقتصاد حرب متسعة ليوفر لهم حافزًا ماليًا قويًا لاستمرار الصراع، كما يقول الخبراء.

يشبه البعض الآن ذهب السودان بما يسمى بالماس الدموي ومعادن الصراع الأخرى.

قال محمد إبراهيم (مو)، وهو قطب سوداني تعمل مؤسسته على تعزيز الحكم الرشيد: “لإنهاء الحرب، اتبع المال”. يُغذّي الذهب إمدادات الأسلحة، وعلينا الضغط على الأفراد الذين يقفون وراءه. ففي نهاية المطاف، هم تجار موت.

إمبراطورية من الذهب

في منطقة دارفور، التي تعادل مساحتها مساحة إسبانيا، حيث أثارت الإبادة الجماعية غضباً عالمياً قبل عقدين من الزمن، عادت الأهوال تطل برأسها من جديد.

فقد شنّ مقاتلو مليشيا قوات الدعم السريع حملة تطهير عرقي ضد المدنيين، وفرضوا حصارًا قاسيًا على مدينة الفاشر. في خضمّ الاضطرابات، بدأت أول مجاعة في العالم منذ أربع سنوات في مخيم يضمّ 450 ألف مدنيّ مرعوب.

قالت زحل الزين حسين، وهي إمرأة من دارفور تروي اغتصابها الجماعي على يد مقاتلي قوات الدعم السريع العام الماضي: “صرختُ وصرختُ. لكن دون جدوى”.

ومع ذلك، في ركن من دارفور لم تمسّه الحرب إلى حدّ كبير، دأبت قوات الدعم السريع، التي يسيطر مقاتلوها على كل جانب من جوانب تجارة الذهب، على بناء مشروع ضخم وسرّيّ لتعدين الذهب.

وتوسّع هذا المشروع، الذي تبلغ قيمته مئات الملايين سنويًا، بمساعدة مرتزقة فاغنر الروس، وأصبح الوقود المالي لحملة عسكرية اشتهرت بفظائعها.

ليس الذهب وحده بل اليورانيوم والماس

في منطقة السافانا المحيطة بسونغو، وهي بلدة تعدين اقتُطعت من محمية طبيعية، يعمل عشرات الآلاف من عمال المناجم في حُفر رملية في منطقة غنية بالذهب واليورانيوم، وربما الماس. تُوفّر هذه المناجم فرص عمل نادرة، وإن كانت غالبًا ما تكون خطرة، في وقت يشهد انهيارًا اقتصاديًا شبه كامل. لكن قوات الدعم السريع، التي يُسيطر مقاتلوها على كل جانب من جوانب تجارة الذهب، تُحقق ثروة طائلة. وتُعدّ المناجم أحدث فرع من أعمال عائلية ضخمة بدأت قبل الحرب بوقت طويل.

عندما استولى الجنرال حمدان على منجم ذهب رئيسي في دارفور عام 2017، ليصبح فعليًا أكبر تاجر ذهب في السودان بين عشية وضحاها، حوّل الأرباح إلى شبكة تضم ما يصل إلى 50 شركة دفعت ثمن الأسلحة والنفوذ والمقاتلين، وفقًا للأمم المتحدة.

وتضخم حجم قواته شبه العسكرية، وأصبح الجنرال حمدان ثريًا للغاية من الذهب ومن تزويد المرتزقة للحرب في اليمن، لدرجة أنه عرض علنًا التبرع بمبلغ مليار دولار عام 2019 لتحقيق الاستقرار في اقتصاد السودان المتعثر.

تُرسّخ شركة واحدة إمبراطوريته من الأسلحة والذهب. تُدعى هذه الشركة “الجنيد”، وقد فرضت عليها الولايات المتحدة عقوبات العام الماضي، قائلةً إن الذهب أصبح “مصدر دخل حيويًا” للجنرال حمدان ومقاتليه.

مع اجتياح العنف للسودان، ركّزت شركة “الجنيد” على مئات الأميال المربعة حول سونغو، حيث عملت قوات الدعم السريع منذ فترة طويلة بشكل وثيق مع فاغنر.

شهد الإنتاج في جميع أنحاء المنطقة ازدهارًا ملحوظًا، وفقًا لشهود عيان وصور أقمار صناعية ووثائق حصلت عليها صحيفة النيويورك تايمز. وكشف تقرير سري قُدّم إلى مجلس الأمن التابع للأمم المتحدة في نوفمبر أن ما قيمته 860 مليون دولار من الذهب قد استُخرج من مناجم تسيطر عليها جماعات شبه عسكرية في دارفور هذا العام وحده.

ولا يقوم المقاتلون بالتنقيب بأنفسهم. ففي حوالي 13 موقعًا في أنحاء المنطقة، يعمل عمال مناجم صغار مقابل أجر زهيد. وتسيطر قوات الدعم السريع على كل شيء في هذه المناجم.

رأس بندقية

زار صحفيون سودانيون من موقع “عاين ميديا”، وهو موقع استقصائي، المنطقة هذا العام، وتحدثوا عن مقاتلي قوات الدعم السريع وهم يقومون بدوريات في مصنع للذهب التابع لشركة الجنيد، مع موظفين روس متمركزين خلف أسوار عالية.

كانت مناجم السودان مصدر جذب كبير لشركة فاغنر، كما ذكرت صحيفة التايمز قبل عامين. ومنذ ذلك الحين، تُفصّل وثائق جديدة حصلت عليها التايمز شراكة فاغنر مع قوات الدعم السريع، بما في ذلك خطة للتنقيب عن الماس بالقرب من سونغو.

في رسالة من عام 2021، استشهد مدير شركة الجنيد باسم قائد قوات الدعم السريع، الفريق حمدان، وأشاد بـ”العمل الرائع بيننا وبين الشركة الروسية”، وهو اختصار شائع لشركة فاغنر في السودان.

يتعلق التحالف بالأسلحة والمال على حد سواء. وقد وثّق محققو الأمم المتحدة شحنات صواريخ من فاغنر إلى قوات الدعم السريع.

و يمضي المقال القصصي التحليلي ليشرح أن “سونغو” أصبحت الآن في غاية الأهمية للجنرال حمدان لدرجة أن المناجم أصبحت هدفًا عسكريًا. قصفت القوات الجوية السودانية المنطقة العام الماضي، ثم كررت ذلك في يناير، مما أسفر عن مقتل مدنيين، وفقًا لتقارير إخبارية. ويُظهر مقطع فيديو صُوّر بعد إحدى الغارات أشخاصًا يتدافعون بحثًا عن الأمان بينما تشتعل النيران في مكان قريب.

مليارات الدولارات من الذهب

تمتلك قوات الدعم السريع سوقًا جاهزة لذهبها في الإمارات، حيث تم تهريب 2500 طن من الذهب بطرق غير معلنة من قارة أفريقيا، بقيمة مذهلة تبلغ 115 مليار دولار، بين عامي 2012 و2022، وفقًا لدراسة حديثة أجرتها منظمة المعونة السويسرية، وهي مجموعة تنمية.

كيف يجري نقل الذهب السوداني الى الامارات ؟

قبل الحرب، كان بإمكان الجنرال حميدتي نقل ذهبه جوًا مباشرة إلى الإمارات. لكن مطار السودان الرئيس قد دُمّر في الحرب، ومدرجه أضحى مليئاً بالحفر و الندوب، والمخرج الآخر وهو بورتسودان، قد بات في أيدي الجيش السوداني.

لذلك، اضطرت قوات الدعم السريع إلى إيجاد طرق جديدة عبر الدول المجاورة – كما فعلت في عملية التهريب في وقت سابق من هذا العام، عندما كان الحمالون يحملون صناديق مليئة بالذهب غير المشروع عبر مدرج المطار.

طائرة فاخرة محملة بالذهب

لم تكن الطائرة التي هبطت في جنوب السودان في 5 مارس لنقل ذلك الذهب من النوع المعتاد الذي يستخدمه المهربون في أفريقيا. كانت الطائرة من طراز بومباردييه جلوبال إكسبريس، وهي طائرة أعمال بعيدة المدى من النوع الذي يفضله كبار المديرين التنفيذيين للشركات، ومسجلة في الولايات المتحدة. وكان لطاقمها تاريخٌ مشبوه.

فقبل سبعة أشهر، أُلقي القبض على قائد الطائرة ومضيفتها في زامبيا بعد هبوطهما بطائرة خاصة أخرى بفترة وجيزة. وصادر المحققون الزامبيون الذين داهموا تلك الطائرة خمسة مسدسات، و5.7 مليون دولار نقدًا، و602 سبيكة ذهب مزيفة، مما يشير إلى احتمال وجود عملية احتيال ذهب، على حد قولهم.

على النقيض من ذلك، سارت رحلة نقل ذهب قوات الدعم السريع بسلاسة، ربما لأن الصفقة شملت مجموعة من المسؤولين ذوي النفوذ من دول متعددة ساعدوا في تسهيلها، وفقًا لوثائق الرحلة وثلاثة أشخاص كانوا متورطين في الصفقة أو مطلعين عليها. بعد مغادرة أبوظبي، توقفت طائرة بومباردييه – وعلى متنها نفس الطيار والمضيفة – لفترة وجيزة في أوغندا قبل أن تهبط في جنوب السودان. ورغم أن الطائرة كانت تتسع لـ 15 راكبًا أيضًا، إلا أن اثنين فقط من الركاب مدرجون في بيان حصلت عليه صحيفة التايمز.

قال عدد من المسؤولين والخبراء المطلعين على شبكات أعمال الجماعة شبه العسكرية إن أحدهما كان قريبًا للجنرال حميدتي، وقد عمل سابقًا نيابةً عن مصالح قوات الدعم السريع.

كان الراكب الآخر في البيان ضابط استخبارات كبير في أوغندا، وهي دولة تُعتبر على نطاق واسع مركزًا رئيسيًا لتهريب الذهب الأفريقي. في عام 2022، فرضت وزارة الخزانة عقوبات على مصفاة ذهب كبيرة بجوار المطار الرئيس في أوغندا، والتي قالت إنها كانت تتعامل مع مئات الملايين من الدولارات من ذهب الصراع سنويًا. وقال جيه آر مايلي، خبير الفساد في المبادرة العالمية لمكافحة الجريمة المنظمة، عن أوغندا: “إنها مركز غسيل الذهب في أفريقيا”.

وأكد المسؤول الأوغندي الكبير، في اتصال هاتفي، صحة تفاصيل جواز سفره المدرجة في بيان الشحنة، على الرغم من نفيه وجوده على متن الطائرة أو نقله أي ذهب من السودان. لكن الأشخاص الثلاثة المتورطين في الصفقة أو المطلعين عليها قالوا إنه شوهد واقفًا خارج طائرة بومباردييه بينما كان الحمالون يحمّلونها بصناديق من الذهب يصل وزنها الإجمالي إلى 1200 رطل.

جنوب السودان و ذهب السودان

وبدا أن مسؤولين إقليميين آخرين شاركوا في الصفقة أيضًا. وقال أثنان من الأشخاص المطلعين على عملية النقل إن الذهب وصل من دارفور عبر مدينة واو في جنوب السودان. وأضافا أنه من هناك، نُقل إلى جوبا على متن طائرة تجارية تديرها مخابرات جنوب السودان.

يُعدّ جنوب السودان ركنًا غامضًا بشكل خاص في تجارة الذهب الدولية. إذ يقول دبلوماسيون إن شخصيات بارزة من النخبة من دولة جنوب السودان تسيطر على صناعة ذهب يصل انتاجها منه إلى حوالي 40 طنًا سنويًا. ومع ذلك، رسميًا، لا يُصدّرون شيئًا تقريبًا.

أفادت التقارير أن كيلوغرامًا واحدًا فقط من الذهب خرج من البلاد عبر قنوات التصدير الرسمية هذا العام. وقال جيمس يوسف كوندو، المدير العام لوزارة التعدين في البلاد: “قد يكون الباقي خرج تهريبا”.

في 6 مارس، هبطت طائرة بومباردييه في أبوظبي، قبيل الساعة الثالثة صباحًا، في مطار البطين للطيران الخاص الذي تستخدمه طائرات رجال الأعمال والحكومة، وفقًا لبيانات الرحلات الجوية. (رفضت شركة فلاي أليانس للطيران، ومقرها فلوريدا، والتي تُشغِّل طائرة بومباردييه وتُعلن عنها على موقعها الإلكتروني، الإجابة عن أسئلة حول الرحلة، بما في ذلك هوية مُستأجرها وسبب استئجارها.

تُعدّ الإمارات مركزًا رئيسيًا لقوات الدعم السريع، التي تستخدم شركات واجهة يسيطر عليها الفريق حمدان وأقاربه لبيع الذهب وشراء الأسلحة، كما يقول المسؤولون. منذ بدء الحرب، فرضت الولايات المتحدة عقوبات على 11 شركة تابعة لقوات الدعم السريع، معظمها في الإمارات، وغالبًا ما يكون ذلك بسبب صلاتها بتجارة الذهب.

على هامش جهود السلام التي رعتها الولايات المتحدة في أغسطس، والتي فشلت في وقف الحرب، صرّح القوني حمدان، الشقيق الأصغر للجنرال حمدان، لصحيفة التايمز بأنه عاش في الإمارات طوال العقد الماضي. لكنه أصرّ على أن قوات الدعم السريع لم تعد تعمل في تجارة الذهب. وادعى بأنه “منذ الحرب، لم تعد هناك أي صادرات”. و لكن بعد حديثه هذا بأقل من شهرين، فرضت الولايات المتحدة عليه عقوبات ، ووصفته بـ”مدير المشتريات” في الجماعة شبه العسكرية، والمسؤول عن الحصول على أسلحة “لتسهيل الهجمات وغيرها من الفظائع ضد مواطنيها”.

ذهب الحكومة و روسيا والإمارات تقف خلف الاسرار الغامضة

على بُعد مئات الأميال من قوات الدعم السريع، تقع مناجم ذهب حصوية، لكنها مربحة، في دارفور، يقع منجم ذهب صناعي حديث يُعين الجيش على مواصلة القتال.

يُطلق عليه اسم منجم كوش، بحفاراته العملاقة وآلاته الباهظة الثمن، الذي يُنتج الذهب ويُدرّ دخلاً ثميناً لحكومة السودان في زمن الحرب. المشكلة هي أن قادة السودان لم يكونوا على دراية دائمة بمالكه.

ظنّوا أن المنجم – الواقع في الصحراء، على بُعد 220 ميلاً من العاصمة – يُسيطر عليه بوريس إيفانوف، وهو مسؤول تنفيذي روسي في مجال التعدين، تربطه علاقات بالكرملين، وازدهرت أعماله في فترة ما بعد انهيار الاتحاد السوفيتي.

لكن عندما دققوا النظر في عام 2021، اكتشف مسؤولو الحكومة السودانية أن المنجم قد انتقل بالفعل إلى أيدي مستثمرين جدد غامضين من الإمارات العربية المتحدة، الدولة التي تدعم عدوهم اليوم.

وقال مسؤولون من الحكومة السودانية، التي كانت تمتلك حصة صغيرة في المنجم، إن أحداً لم يُكلف نفسه عناء إخبارهم بشراكتهم الجديدة المفاجئة. لذا أرسلوا وفدًا، بقيادة وزير المالية السوداني، إلى أبوظبي لتسوية الأمر.

كانت كوش جوهرة طفرة الذهب في السودان، أكبر منجم ذهب صناعي في البلاد. كما كانت لها أهمية جيوسياسية، كنقطة محورية في تعزيز علاقات السودان مع روسيا.

أشاد السيد بوتين بهذا المشروع “الرائد” في القمة الروسية الأفريقية الأولى عام 2019، ووصف الشركة الروسية الخاضعة للعقوبات الأمريكية بأنها محور هذا الجهد. كما تحدث السيد إيفانوف، المدير الإداري لتلك الشركة، في القمة، في جلسة بعنوان “استغلال المعادن في أفريقيا لصالح شعوبها”.

كان نجاح السيد إيفانوف في مجال التعدين قصة كلاسيكية في روسيا ما بعد الاتحاد السوفيتي. بدأ حياته المهنية كدبلوماسي – عُيّن في ثمانينيات القرن الماضي في السفارة السوفيتية في واشنطن، حيث شملت مهامه ضبط الأسلحة – وانتهى به الأمر في قطاع النفط والغاز والتعدين. (قال زميلان سابقان إنه تفاخر بأنه كان يعمل أيضًا متخفيًا لصالح جهاز المخابرات السوفيتي (كي جي بي) خلال فترة وجوده في واشنطن. وأكد شخص مطلع على الاستخبارات الغربية ذلك، لكن متحدثًا باسم السيد إيفانوف نفى هذا الادعاء، قائلاً إن السيد إيفانوف لم تكن له أي علاقات بالمخابرات الروسية.

عندما بدأ منجم كوش في إنتاج الذهب، كانت روسيا والسودان تواجهان عقوبات دولية – روسيا لتدخلها في أوكرانيا، والسودان بسبب الإبادة الجماعية في دارفور – ولم يتوسع تعدين الذهب المشترك بينهما إلا في تلكم المنطقة.

بدا أن السيد إيفانوف قد ازدهر أيضًا. تُظهر سجلات العقارات أنه وزوجته، ناتاشا، اشتريا شقتين سكنيتين في مانهاتن، بجوار كاتدرائية القديس باتريك في الجادة الخامسة، في أوائل العقد الثاني من القرن الحادي والعشرين. وفي وقت لاحق، اشتريا منزلين متجاورين على شاطئ البحر في جونو بيتش بولاية فلوريدا، يسعيان إلى هدمهما لبناء قصر واحد بمساحة 15000 قدم بدلاً من ذلك. لكن عندما سافر المسؤولون السودانيون إلى أبوظبي عام 2021، علموا أن السيد إيفانوف لم يكن الوحيد الذي يتعاملون معه تجاريًا.

فقد أصبح المنجم في السودان الآن ملكًا لشركة “إميرال ريسورسز”، وهي شركة جديدة أسسها السيد إيفانوف. ويقف وراء هذه الشركة لاعبٌ أكبر بكثير – الشيخ طحنون بن زايد، نائب رئيس الوزراء الإماراتي السابق -، مستشار الأمن القومي الإماراتي وشقيق زعيم البلاد، الشيخ محمد بن زايد، وفقًا لثلاثة أشخاص مطلعين على المحادثات.

صرح متحدث باسم شركة “إميرال” بأن الحكومة السودانية قد أُبلغت، في الواقع، بأن المنجم تحت ملكية جديدة. لكنه رفض تحديد هوية هؤلاء الملاك الجدد بالضبط، مكتفيًا بالقول إن “إميرال” مملوكة لـ”مجموعة استثمارية رائدة في أبوظبي”، دون ذكر أسماء.

كان الاستحواذ علامةً على توجه الإماراتيين بمليارات الدولارات نحو التعدين في أفريقيا. وفي سعيها لتنويع اقتصاد البلاد المعتمد على النفط، تتسابق شركات الشيخ طحنون للاستحواذ على المناجم والمعادن الخام اللازمة للسيارات الكهربائية والتحول إلى الطاقة الخضراء.

هذا يعني أن الإماراتيين يتحوطون فعليًا في حرب السودان. خلال الأشهر الثمانية عشر الماضية، هرّبوا كميات هائلة من الأسلحة إلى قوات الدعم السريع، غالبًا تحت ستار الهلال الأحمر، وهي جريمة حرب محتملة.

لكن منجم كوش المملوك للإماراتيين في الأراضي الخاضعة لسيطرة الحكومة يُدرّ على الأرجح عشرات الملايين من الدولارات للسلطات السودانية، التي بدورها تستخدم هذه الأموال لشراء طائرات إيرانية بدون طيار وطائرات صينية وأسلحة أخرى.

بعبارة أخرى، تُسلّح الإمارات طرف من أطراف الحرب، و تُموّل الطرف الآخر لشراء الأسلحة.

قال ثلاثة مسؤولين أمريكيين كبار إن إدارة بايدن أعربت عن مخاوفها مباشرةً للشيخ محمد والشيخ طحنون عندما زارا البيت الأبيض في سبتمبر من العام الماضي، ومع ذلك، حرص الرئيس بايدن على عدم انتقاد دولة خليجية ثرية علنًا، وهي حليفة لإيران وإسرائيل، مما أثار غضب العديد من السودانيين.

ومع ذلك، لا يزال الغموض يحيط بدور السيد إيفانوف، فقد صرّح مسؤول سوداني رفيع المستوى بأن سجلات وزارة التعدين السودانية تُدرجه كشريك في منجم كوش. لكن شركة “إميرال” نفت ذلك، قائلةً إن السيد إيفانوف ترك العمل العام الماضي، وأن “إميرال شركة إماراتية”.

يعتمدون عليه للبقاء على قيد الحياة.

بعد عشرة أيام من بدء الحرب، انطلق الفاتح هاشم مسرعًا عبر شوارع العاصمة الخرطوم الفوضوية، حابسًا أنفاسه بين نقاط التفتيش التي يحرسها مقاتلون نهبوا ممتلكاته. كانت السيارة تحمل والديه وإخوته الخائفين، وملابسهم التي حزموها على عجل، وأكياسًا من الذهب المخفي.

قال السيد هاشم إنه خبأ مجوهرات زفاف العائلة في حجرة مخفية تحت المقعد الخلفي، وحتى داخل خزان الوقود، مضيفًا: “كانت هذه بوليصة تأميننا”.

نجحت الحيلة. بعد أسابيع، وصلت العائلة إلى مصر، حيث يُموّل الذهب حياتهم الجديدة الهشة كلاجئين.

قال: “كان علينا أن نعيش من الذهب. لقد فعلت عائلات أخرى كثيرة الشيء نفسه”.

حتى قبل الصراع، كان الذهب ضروريًا للغاية لدرجة أنه ارتفع إلى 70% من صادرات البلاد، مما ساعد على تعويض عائدات النفط التي فقدها السودان بعد انفصال جنوب السودان عام 2011.

لقد بدّدت الحرب تلك الثروة. نُهِبَ الذهب من المنازل، واستُولي عليه عند نقاط التفتيش، وسُرِقَ من البنوك، أحيانًا على يد مقاتلين يستخدمون أجهزة كشف المعادن للتنقيب عنه.

في السنة الأولى من الحرب وحدها، يقول المسؤولون السودانيون إن البلاد أنتجت أكثر من 50 طنًا من الذهب – أكثر مما أنتجته خلال الأشهر الاثني عشر السابقة من السلام.

قد يكون أحد الحلول هو الضغط على المشترين. قد يُلزم تصنيف الذهب السوداني على أنه “معادن صراع” والطلب من الشركات باستبعاد الذهب السوداني من منتجاتها. فقد أدت مخاوف مماثلة بشأن “الماس الدموي” من غرب إفريقيا إلى نظام شهادات مدعوم من الأمم المتحدة قبل عقدين من الزمن. لكن الذهب، الذي يُصهر ويُخلط غالبًا، قد يصعب تتبعه. ومع تحطيم أسعار الذهب للأرقام القياسية مؤخرًا، تتزايد دوافع الحرب.

“بلادنا ملعونة بالذهب”، دعاء طارق، قالت عاملة إغاثة متطوعة من منزلها في الخرطوم التي مزقتها الحرب: “الذهب ساهم في تكوين جماعات مسلحة وإثراء بعض الناس”. وتابعت السيدة طارق، البالغة من العمر 32 عامًا، وهي أمينة فنية تُقدم الآن وجبات الطعام في مطبخ خيري وتساعد ضحايا الاعتداء الجنسي: “لكن بالنسبة لمعظمنا، لم يجلب لنا سوى المتاعب والحرب”.

ملحوظة من الصحيفة:

ساهم في إعداد التقرير كل من أناتولي كورماناييف من برلين؛ ومالاكي براون من ليمريك، أيرلندا؛ وعبد الرحمن الطيب من بورتسودان، السودان؛ وجوليان إي. بارنز وإريك شميت من واشنطن؛ وجاك بيج وويليام ك. راشباوم من نيويورك؛ ومحمد الهادي من أديس أبابا، إثيوبيا.

ديكلان والش هو كبير مراسلي صحيفة التايمز لشؤون أفريقيا ومقره نيروبي، كينيا. وقد سبق له أن عمل مراسلًا من القاهرة، حيث غطى الشرق الأوسط، ومن إسلام آباد، باكستان.

المحقق

إنضم لقناة النيلين على واتساب

مقالات مشابهة

  • عفوا جدي الأمين… عفوا ماركس
  • هل هي “حمى الذهب والمعادن الثمينة” التي تحرك النزاع في السودان.. أم محاربة التطرف الإسلامي؟
  • عُمان التي أسكتت طبول الحرب
  • الذهب وتمويل الحرب في السودان: من الفوضى إلى أدوات السيطرة
  • ترامب: أوروبا كانت ستتحدث الألمانية لولا دورنا في الحرب العالمية الثانية
  • هذه الحرب مختلفة عن كل الحروبات التي عرفها السودان والسودانيون
  • الرئيس أحمد الشرع: سوريا لكل السوريين بكل طوائفها وأعراقها ولكل من يعيش على هذه الأرض المباركة، التعايش هو إرثنا عبر التاريخ وإن الانقسامات التي مزقتنا كانت دائماً بفعل التدخلات الخارجية، واليوم نرفضها جميعاً.
  • الحرب التي أجهزت على السلام كله
  • وزير الإنتاج الحربي: شركاتنا تساهم في تنفيذ العديد من المشروعات القومية التي تخدم المواطن
  • الوزير "محمد صلاح": شركة الإنتاج الحربي للمشروعات تساهم في تنفيذ العديد من المشروعات القومية التي تخدم المواطن