تصحيح المسار وعلاقته بأساطير النمط المجتمعي التونسي
تاريخ النشر: 8th, December 2023 GMT
عندما أعلن الرئيس التونسي قيس سعيد إجراءاته "الاستثنائية" يوم 25 تموز/ يوليو 2021، تلقاها التونسيون بموقفين متعارضين جذريا، ولكنهما موقفان يجدان مرجعيّتهما في دستور 2014 الذي كان محل توافق واسع بين التونسيين. فالرئيس قد استند في إعلان "حالة الاستثناء" إلى الفصل 80 من الدستور، ولكنه فعّله بطريقة ألجأت أكثر أنصاره "تعالما" إلى ربطها بقراءة "ما فوق دستورية" لذلك الفصل.
وقد كان لغياب المحكمة الدستورية -بالإضافة إلى سيطرة الأصوات الانقلابية على الإعلام والنقابات والأحزاب والمجتمع المدني- دور كبير في تغليب قراءة الرئيس، وفرضها بعيدا عن التماهي الكلي مع منطق القوة العارية. كان "تصحيح المسار" من الناحية النظرية أو الدستورية إدارة لمرحلة انتقالية ومؤقتة، ولكنه تحوّل واقعيا إلى مرحلة تأسيسية لجمهورية جديدة ليس فيها من دستور 2014 ومخرجاته إلا بقية باقية هي الرئيس نفسه باعتباره الواجهة الجديدة للنواة الصلبة للمنظومة القديمة، أو بالأحرى باعتباره رمز السردية التي يحتاجها محور الثورات المضادة ووكلاؤه المحليون لإنهاء الربيع العربي في بلده الأم.
خلال الفترة الأولى التي أعقبت الإجراءات (أي تجميد عمل البرلمان، إقالة رئيس الحكومة، رفع الحصانة على النواب، وهي كلها أمور مخالفة لمنطوق الفصل 80 ذاته)، كانت سردية "الإصلاح" تقتضي من الرئيس أن يحافظ على شرعيته وعلى حزام المساندة بمكوناته الحزبية والمدنية والنقابية. ولذلك لم يقطع الحبل السري مع دستور 2014، ولم تظهر نية تحويل حالة الاستثناء إلى مرحلة انتقالية إلا مع الأمر الرئاسي عدد 117 المؤرخ في 22 أيلول/ سبتمبر 2021. فقد أوضح هذا المرسوم أن الرئيس لا ينوي إنهاء حالة الاستثناء ولا إدارتها بصورة تشاركية مع أي فاعل جماعي، بل ينوي تجميع كل السلطات وإدارة البلاد بمنطق المراسيم والأوامر بعيدا عن أي سلطة رقابية.
ولا شك عندنا في أنّ نسبة القرارات إلى شخص مفرد هو ضرب من المجاز أو التسطيح، فالرئيس ومشروعه السياسي لا يمثّلان إلا مكوّنا من مكوّنات منظومة الحكم، بل لا يُمثّلان في الحقيقة إلا الجزء الظاهر منها، أو الجزء المكلف بتوفير غطاء الشرعية لمشروع انقلابي سابق لهما.
رغم رفضه لأية تشاركية في حكم البلاد، ورغم شيطنته النسقية لكل الأجسام الوسيطة -خاصة الأحزاب السياسية- حرص الرئيس -حتى بعد صدور المرسوم ١١٧ سيئ الذكر- على أن لا يقطع حبل "التعامد الوظيفي" (أي الاعتماد المتبادل) الذي كان قد مُدَّ بينه وبين مكوّنات "العائلة الديمقراطية" قبل 25 تموز/ يوليو 2021. فقد حاول استرضاء القوى "الانقلابية" بضرب حركة النهضة وكل من طبّع معها من الأحزاب (مثل ائتلاف الكرامة أو قلب تونس) أو الشخصيات الوطنية (مثل الرئيس الأسبق منصف المرزوقي وبعض الشخصيات السياسية الأخرى)، كما جارى أولئك الانقلابيين في سردية "الاختراق" (اختراق أجهزة الدولة من طرف النهضة، وكأن النهضويين من "البدون" أو الأجانب الذين لا يحق لهم تولي المناصب الهامة في الدولة).
أما الالتقاء الموضوعي الأهم بين الرئيس وسائر مكونات العائلة الديمقراطية دعوى الانقلابية حقيقةً؛ فهو شيطنة عشرية الانتقال الديمقراطي دون ما سبقها من أنظمة الحكم خلال اللحظتين الدستورية والتجمعية بوصمها بـ"العشرية السوداء". وهي تسمية تهدف إلى شيطنة طرف معين (هو حركة النهضة أو الإسلاميين بصورة عامة)، بحكم ارتباطها في مجالها التداولي الأصلي (الجزائر) بالحرب الأهلية وسنوات الدم التي عرفتها "الشقيقة الكبرى" ما بين 26 كانون الأول/ ديسمبر 1991 و8 شباط/ فبراير 2002 بين "الإسلام السياسي" والحكومات الجزائرية المتعاقبة.
إن التقاء الرئيس موضوعيا مع السردية "الديمقراطية" -خاصة مع سردية الاستئصال الناعم للإسلام السياسي- لا يعني تماهيه مع تلك السردية، وكذلك الشأن في علاقته بالإسلاميين أو بالمرجعية الإسلامية. فاستهدافه المُمنهج لحركة النهضة يرجع في تقديرنا إلى أسباب سياسية أكثر مما يرجع إلى أسباب أيديولوجية. ذلك أن الرئيس يبدو ذا فكر محافظ، بل إنه قد أظهر حسما أكبر مما أظهرته حركة النهضة في قضايا المساواة في الميراث والمثلية الجنسية وأدرج في دستوره الجديد قضية تحقيق "المقاصد الشرعية" باعتبارها وظيفة من وظائف السلطة التنفيذية.
قد يبدو استهداف الرئيس لحركة النهضة وللنظام البرلماني المعدل تحقيقا لمطلب من مطالب "العائلة الديمقراطية"، ولكنه في جوهره ومقصده الأول تحقيق لمطلب من مطالب مشروع الرئيس ذاته، ومن وراء ذلك تحقيق لمطلب من مطالب النواة الصلبة لمنظومة الحكم. فحتى لو كان الحزب الأقوى والأكثر شعبية هو حزب لائكيّ (يساريا كان أو قوميا أو تجمعيا جديدا) لم يكن الأمر ليتغير من جهة المطلب الإقليمي والمحلي: يجب إنهاء الربيع العربي ومخرجاته ومركزة السلطة بتحويل النظام إلى نظام رئاسوي.
يلاحظ أي متابع لخطابات الرئيس أنه لم يستعمل يوما استعارة "النمط المجتمعي التونسي" باعتبارها الاستعارة التوليدية لكل السرديات "الحداثية" التي تحدّد هويتها من خلال تقابلها مع "الإسلام السياسي"؛ أكثر مما تحددها بأي منجز اقتصادي أو اجتماعي أو فكري قابل للضبط والإحصاء بصورة موضوعية.
فالرئيس معني أساسا بحماية الدولة وأجهزتها وليس معنيا إلا بصورة هامشية بالدفاع عن أيديولوجية تلك الدولة (إيديولوجيا الدولة الوطنية ذات الجوهر الفرنكفوني المعادي للهوية تحت غطاء التحديث). وسواء أكان المحدد الأساسي في ذلك هو الدافع السياسي (ضرورة التخلص من إرث الدولة الوطنية المرتبط بالجهوية والزبونية والتبعية والتخلف ونزع الشرعية عن ميراثه البشري) أم كان دافعا أيديولوجيا (الخلفية المحافظة لفكر الرئيس واختلافه الجذري عن "الزعيم-المؤسس" في عدة قضايا تتعلق بالدين ومقاصده ودوره في التشريع وفي إدارة المجال العام)، فإن الرئيس قد عمل على الدفع بنقده السياسي إلى ما قبل الثورة التونسية.
فما سبق الثورة لم يكن "زمنا جميلا" كما يدّعي ورثة التجمع وبعض حلفائهم الوظيفيين من القوى اليسارية والقومية، كما أن مشروع "التحرير الوطني" ليس مكتملا كما يزعم بعض سدنة "النمط المجتمعي التونسي" وأساطيره التأسيسية. ولكنّ "تنسيب" الأزمنة السياسية السابقة كان يشتغل عكسيا بـ"أمثلة" النظام الحالي وإظهاره بصورة هي أقرب إلى الزمن النبوي -أو الزمن الخلاصي- منه إلى الزمن السياسي الواقعي.
إذا كان الرئيس في الفترات الأولي من "تصحيح المسار" قد حرص على إظهار التواصل مع ميراث الدولة الوطنية وسردياتها المختلفة، فإنه قد اتخذ منها مسافة نقدية بمجرد استواء مشروعه السياسي على سوقه. فالدولة الوطنية لم تكن دولة "مثالية" وزمنها لم يكن زمنا "نبويا" وزعماؤها لم يكونوا خونة أو عملاء، ولكنهم لم يكونوا أيضا معصومين من الخطأ ومن الانحيازات الطبقية والجهوية. ولم يكن شعار "لا عودة إلى الوراء" إلا إبرازا لرغبة الرئيس (ومن ورائه النواة الصلبة للمنظومة الحاكمة) لبناء سردية سياسية جديدة لا يمكن إرجاعها إلى سردية سابقة أو مطابقتها معها.
فالرئيس صاحب مشروع سياسي كامل (التأسيس الثوري الجديد)، وهو لا يطرحه لتونس فقط، بل هو مشروع يتوجه إلى الإنسانية جمعاء باعتباره تجسيدا لزمن كوني جديد، ولكنّ الرغبة في "الاستئناف" تتحول واقعيا إلى مجرد "عطف" في جملة سياسية واحدة.
إن الرئيس الذي لا يريد العودة إلى الوراء ويبشر بالوفرة وبإعادة توزيع السلطة والثروة بصورة أكثر عدلا بعد القضاء على الفساد؛ قد أعاد البلاد إلى زمن الشح والأزمة، واحتكر السلطات بصورة لم تكن حتى على عهد الزعيم المؤسس ووريثه المخلوع. كما أن مشروع "التحرير الوطني" يبدو مجرد مجاز في سلطة ما زالت حريصة على علاقاتها الاستراتيجية بفرنسا الاستعمارية وبمحور الثورات المضادة"، ولا علاقة لمكوناتها بـ"القضايا الكبرى" ولا بالتاريخ النضالي ضد الحكم الاستبدادي ومنظومة الاستعمار الداخلي التي تسنده.
وإذا كان الرئيس سعيد قد رفض الاعتماد على حزب حاكم في إدارة البلاد، فإن ذلك لا يخرجه من جبة بورقيبة ووريثه المخلوع، بل يجعل منه مجرد نسخة معدّلة منهما. فروح "عبادة الزعيم" ما زالت قائمة، والمطابقة بين إرادة الشعب وإرادة الحاكم لم تتغير، وكذلك شأن العلاقة السلطة بمنظومة الاستعمار الداخلي ومن يوظفها من القوى الاستعمارية، خاصة منها فرنسا. وهو ما يعني أن المنظومة الحاكمة الحالية هي مجرد تعديل براغماتي أدخلته النواة الصلبة للحكم على السردية القديمة دون أن تمس بجوهرها القائم على التوزيع اللامتكافئ للسلطة والثروة (المادية والرمزية) فرديا وجهويا وطبقيا.
بصرف النظر عن نوايا الرئيس، فإن تحليل منظومة الحكم في تونس يثبت أن مشروعه السياسي -خاصة في مستواه الاقتصادي- هو مشروع غير قادر على إحداث أي تغيير إيجابي في واقع التونسيين. فـ"عدم العودة إلى الوراء" وكتابة دستور جديد أو إعادة مركزة السلطة في نظام رئاسوي يشتغل بالمراسيم والأوامر ولا يقبل بمحاسبة الرئيس ولا يضع له أي سلطة رقابية، كل ذلك لا يعني بالضرورة تأسيسيا ثوريا جديدا بقدر ما يعني إعادة التوازن للمنظومة القديمة، لكن بعد شرعنة ذلك بسردية سياسية جديدة.
ولا شك في أن هذه السردية تقتضي مسافةً نقدية جزئية من الميراث الدستوري التجمعي، كما تقتضي نوعا من الاحتفاء "الصوري" بالثورة. وهو ما وجدته النواة الصلبة للحكم في "تصحيح المسار"، ولذلك سمحت له بإعادة هندسة الحقل السياسي، دون الحقل الاقتصادي أو المرتبط بالثقافة والتعليم أو الثروات الروحية. فـ"الشركات الأهلية" هي مجرد مشاريع تتحرك على هامش الاقتصاد الريعي-الزبوني، والتشريعات الاقتصادية المكرسة للاقتصاد الريعي ما زالت بعيدة عن مراسيم الرئيس، وقد لا نخالف الصواب إذا قلنا إن مشروع "إصلاح التعليم" لن يمس بواقع التبعية الثقافية لفرنسا أو بمشروع التغريب والفلسفة اللاّئكية المهيمنة على تونس منذ الاستقلال الصوري عن فرنسا وما ورثها من سرديات "النمط"؛ التي لم تكن في جوهرها إلا مجرد "تَونسة" مشوّهة لقيم الجمهورية الفرنسية ومبادئ الثورة الفرنسية لبناء نظام استبدادي جهوي زبوني تابع ومتخلف.
twitter.com/adel_arabi21
المصدر: عربي21
كلمات دلالية: سياسة اقتصاد رياضة مقالات صحافة أفكار عالم الفن تكنولوجيا صحة تفاعلي سياسة اقتصاد رياضة مقالات صحافة أفكار عالم الفن تكنولوجيا صحة تفاعلي مقالات كاريكاتير بورتريه التونسي قيس سعيد الديمقراطية النهضة الإنقلاب تونس النهضة الديمقراطية قيس سعيد رياضة صحافة سياسة سياسة سياسة سياسة سياسة سياسة مقالات سياسة اقتصاد رياضة صحافة أفكار عالم الفن تكنولوجيا صحة الدولة الوطنیة تصحیح المسار لم یکن
إقرأ أيضاً:
الخلافات تتجاوز الكواليس ..أسباب وانعكاسات التوتر بين الرئيس العليمي والعميد طارق صالح
كشف ورقة تحليلية حديثة عن تصاعد التوتر داخل مجلس القيادة الرئاسي اليمني، ولا سيما بين رئيس المجلس الدكتور رشاد العليمي، وعضو المجلس العميد طارق محمد عبدالله صالح، قائد المكتب السياسي للمقاومة الوطنية، في ظل صراع نفوذ متصاعد وتباينات سياسية وإقليمية تعيق مسار العملية السياسية.
وبحسب الورقة التحليلية الصادرة عن "مركز المخا للدراسات الاستراتيجية" والتي حملت عنوان "أسباب وانعكاسات التوتر بين الرئيس العليمي والعميد طارق صالح"، فإن الخلافات لم تعد محصورة في الكواليس كما في السابق، بل اتخذت منحىً علنيًا بعد البيان الصادر عن المكتب السياسي في 23 يونيو، والذي اتهم فيه الرئاسة بممارسة "الإقصاء السياسي" و"تمييز الشركاء"، محذرًا من ما وصفه بـ"الدعوات الانتقائية" التي تضعف الدولة وتهمّش بعض مكوناتها.
التحليل أشار إلى أن الصراع بين الطرفين يدور بالأساس حول النفوذ وتوزيع المناصب الحيوية، لاسيما تلك التي تتحكم في الموارد والسلطة، حيث يسعى كل طرف لترسيخ حضوره في المؤسسات الحكومية والمناطق الحيوية.
كما لفت إلى أن العميد طارق صالح يعزز حضوره عبر تنفيذ مشاريع تنموية في تعز والحديدة، تتفوق أحيانًا على مشاريع المجلس ذاته، ما يثير حساسية الطرف الآخر.
ووفق المركز، فإن هذا التباين يتغذى كذلك من ارتباط كل طرف بمحور إقليمي مختلف، فالعليمي يُنظر إليه كمقرّب من السعودية، بينما يحظى طارق صالح بدعم إماراتي، الأمر الذي ينعكس على التوازنات داخل المجلس، ويفاقم حالة عدم الانسجام في اتخاذ القرار السياسي.
التحليل أشار أيضًا إلى ضعف الشفافية المؤسسية داخل المجلس، وفشل أعضائه في الاتفاق على آلية واضحة لتقاسم السلطة، ما أدى إلى إدارة الخلافات بعيدًا عن الأطر الدستورية، وفتح الباب أمام مواجهات علنية. ومن أبرز الأمثلة على ذلك، تأخر إعلان التعيينات الخاصة بحصة المكتب السياسي، والتي كانت سببًا في تصاعد التوتر مؤخرًا.
أما على مستوى التأثيرات، فقد نبّهت الورقة إلى أن هذا الانقسام من شأنه أن يعطل مسار استعادة الدولة ويضعف موقف الشرعية أمام الحوثيين، فضلًا عن أنه يهدد الجبهة الوطنية المناهضة للانقلاب، ويخلق بيئة خصبة لمشاريع الانفصال والفوضى السياسية.
كما حذرت الورقة من تداعيات هذا التباين على الدعم الدولي، معتبرة أن المجتمع الدولي قد يعيد حساباته بشأن تقديم مساعدات اقتصادية وسياسية في ظل غياب التماسك داخل القيادة الشرعية.
وختمت الورقة بالتحذير من أن استمرار هذا الانقسام دون تدخل عاجل لإصلاح أداء المجلس سيقود إلى مزيد من التشظي ويفاقم الأزمة اليمنية، داعية إلى وضع آليات واضحة لتجاوز الخلافات والعمل على بناء مؤسسات دولة فاعلة تتجاوز منطق المحاصصة والصراع على النفوذ.
مأرب برس يعيد نشر ابرز ما ورد في الدراسة وهي على النحو التالي:
يبحث تقدير الموقف هذا في أسباب هذا التباين بشكل خاص، وأسباب التباين الرئاسي بشكل عام، وانعكاسات ذلك على العملية السياسية.
أولًا: أسباب التباين:
تتعدد الأسباب الكامنة وراء التباين المتصاعد بين “المكتب السياسي” لـ”المقاومة الوطنية” وبين مجلس القيادة الرئاسي، ويمكن تحليل أسباب هذا التباين ضمن عدة محاور رئيسة، هي:
1- صراع النفوذ وتباين المصالح:
يمثل هذا المحور الجوهر الأساسي للتباين، وموضوعه الأصلي توزيع السلطة والمناصب الحيوية، خصوصًا تلك التي تمثل شرايين التحكم بالموارد والنفوذ؛ حيث يسعى كل طرف لتعزيز قبضته، وتثبيت أركانه ضمن هياكل الدولة، ويرى أن له استحقاقات لا يمكن التنازل عنها، وأن أي مساس بها يعد خرقًا للاتفاقات الداخلية التي قام عليها مجلس القيادة الرئاسي في الأساس. فـ”العليمي” يمثل توازنات معينة، يسعى مِن خلالها للمحافظة على الصدارة، واحتكار القرار السياسي أحيانًا، وهذا ما دفع البعض للحديث عن أهمية تدوير منصب الرئاسة، بينما يعمل “صالح” جاهدًا على بناء نفوذ سياسي وتنموي خاص به في محافظتي تعز والحديدة، وهو يُنفذ مشاريع أكثر حيوية أحيانًا مِن مشاريع مجلس القيادة نفسه، كالمطار والطرقات ومشروع مياه تعز، وهي مشاريع تكسبه نفوذًا أقوى مِن نفوذ الدولة نفسها، وحضورًا أعلى من حضور مجلس القيادة الرئاسي أحيانًا، وهذا ما يثير حفيظة المجلس.
2- الارتباط الإقليمي:
تعد دولتي “التحالف العربي”، المملكة العربية السعودية والإمارات العربية المتحدة، الداعمتين لمجلس القيادة الرئاسي، طرفًا في هذه الديناميكية، فـ”العليمي” أقرب للسياسة السعودية، ويُمثل توازناتها في الملف اليمني، بينما “صالح” أقرب للسياسة الإماراتية، ويسعى لتعزيز مكانته كلاعب أساسي له وزنه وحصته، ويتصرف كأنه قطاع خاص مستقل عن مجلس القيادة الرئاسي؛ وهذا التباين في الرؤى والمصالح، المدعوم أحيانًا بتفضيلات إقليمية متباينة، يولد احتكاكًا مستمرًا، سواء على مستوى التوافق على القرارات الكبرى، أو عند محاولة ترجمة التوافقات إلى خطوات تنفيذية على الأرض، حيث تبرز التناقضات في الأولويات. إضافة إلى تباين الأجندات والمصالح بين الرياض وأبو ظبي في بعض الأحيان، الأمر الذي ينعكس بشكل مباشر على أجنحة مجلس القيادة الرئاسي.
3- ضعف المؤسسية والشفافية:
يفتقر مجلس القيادة الرئاسي إلى آليات مؤسسية واضحة وشفافة لإدارة الخلافات وتوزيع الصلاحيات والنفوذ بشكل منهجي وقانوني، إضافة إلى تأخر إعلان اللائحة الداخلية للمجلس، والتي مِن المفترض أن تُعلن للشعب، أو الجهات الرقابية كمجلس النواب، حتى يكونوا شهودًا على أداء المجلس. في المقابل، يعتمد المجلس على تفاهمات غير معلنة وصفقات تتم بعيدًا عن الأطر الدستورية والقانونية، خاصة في ملف قرارات التعيين، حيث يجري الحديث عن تأخر قائمة تعيينات لنواب وزراء ووكلاء محافظات مِن حصة المكتب السياسي، كأحد أسباب هذه التباينات. هذه العوامل تجعل السلطة عرضة للاهتزاز والنزاعات عند أي تباين في التفسير أو التنفيذ؛ ولعل الهجوم المباشر مِن مكتب “صالح” على “العليمي”، مطالبًا إياه باحترام القانون والتوقف عن التفرد بالسلطة، يؤكد ضعف المؤسسية والشفافية، والنقص الجوهري في الحوكمة الرشيدة.
4- الأزمات المعيشية والأمنية:
يعد تفاقم الأزمات المعيشية والأمنية في المحافظات المحررة، مِن تردي الخدمات الأساسية إلى الانهيار الاقتصادي، محفزًا للخلاف ويزيد مِن الضغط على مجلس القيادة الرئاسي، ويكشف عن ضعف أدائه. هذا الفشل يُغذي حالة الإحباط، ويخلق بيئة حاضنة للخلافات الداخلية، حيث يسعى كل طرف لتحميل الطرف الآخر مسئولية هذا الفشل، أو استغلاله لتعزيز موقفه الخاص، بدلًا مِن التعاون على معالجة الأزمة.
ثانيًا: انعكاسات التباين على العملية السياسية:
تفاقم هذا التباين يحمل في طياته انعكاسات خطيرة، لا تقتصر على إدارة مؤسسات الدولة فقط، بل تمتد لتلقي بظلالها على مجمل العملية السياسية الهشة في البلاد، وتعيق أي تقدم نحو حل شامل ومستدام في اليمن سلمًا أو حربًا؛ ومِن أبرز هذه الانعكاسات:
1- تأجيل الحسم العسكري:
الحديث عن إنهاء الانقلاب واستعادة مؤسسات الدولة يتطلب أولًا وحدة داخلية، وإرادة حقيقية تتجاوز المصالح الآنية الخاصة، وتفكر في البعد الإستراتيجي العام، الذي يحقق مصلحة الجميع، وأي ارتباط بالمصالح الضيقة ينعكس سلبًا على المصلحة الوطنية، ويؤجل جهود استعادة مؤسسات الدولة.
2- ضعف إدارة مساعي السلام:
عندما تكون قمة السلطة، المدعومة دوليًا وإقليميًا، في حالة مِن التباين الداخلي، الذي يرقى أحيانًا لحد الانقسام، فإن ذلك ينعكس على طبيعة المفاوضات التي تجري هنا وهناك، ويُفقد الشرعية القدرة على أن تكون طرفًا موحدًا ومفاوضًا قويا، ويرسل رسائل سلبية للأطراف الدولية والإقليمية المتصارعة مع الحوثي، ما يُقلل الثقة بالمجلس وقيادته.
3- تفتيت الجبهة المناهضة للانقلاب:
التباينات الداخلية تؤثر على الجبهات المناهضة للحوثي، وتصب في مصلحة الأطراف التي تستفيد مِن ضعف الشرعية وتشتت جهودها، وهذا الأمر ينعكس على حالة المصداقية والدعم الشعبي للمجلس الرئاسي، ويُشتت الجهود الوطنية، وربما يمهد الطريق لتزايد الاستقطاب حول مشاريع انفصالية أو مناطقية، ما يُعمق مِن حالة التشظي المجتمعي والسياسي.
4- تراجع الدعم الدولي للاقتصاد الوطني:
ضعف المجلس في تحمل مسئوليته والقيام بدوره، قد يدفع المجتمع الدولي لإعادة النظر في دعمه السياسي والاقتصادي، خاصة إذا رأى أن المجلس غير قادر على أداء وظيفته وتحقيق الاستقرار أو التقدم المرجو مِنه نحو السلام، ويبدو أن تراجع المساعدات يعود لهذه التباينات المتكررة، ما خفف التفاعل الإقليمي والدولي مع الأزمة الاقتصادية المتسارعة، إذ ربما ينظر مجتمع المانحين إليها بأنها تستزف موارده وجهوده.
5- توسع نفوذ جماعة الحوثي:
يمكن لجماعة الحوثي استغلال هذه الانقسامات لتوسيع نفوذها، أو تعزيز موقعها التفاوضي، وربما لإطلاق مبادرات تفاوضية منفردة مع أطراف إقليمية تهدف لتجاوز مجلس القيادة الرئاسي، وهذا الأمر قد تجد فيه بعض القوى الخارجية فرصة لتعزيز حضورها في الملف اليمني.
6- إضعاف إمكانية بناء دولة المؤسسات:
بما أن أحد أسباب هذا التباين هو المحاصصة وتقاسم النفوذ، بعيدًا عن الكفاءة أحيانًا، فإن الانعكاس الطبيعي لهذه الحالة هو ضعف قدرة الدولة على بناء مؤسسات قوية وفعالة قادرة على تقديم الخدمات وتحقيق الاستقرار، وترسيخ ثقافة عدم المساءلة، وهذا الأمر يقوض أي محاولات جادة لإرساء سيادة القانون، وبناء حكم رشيد.
خاتمة:
إن التباين الحالي داخل مجلس القيادة الرئاسي ليس مجرد خلاف عابر أو تنازع على مناصب، بل هو انعكاس عميق لعدم استقرار البنية السياسية للمجلس، وتأكيد على أن المشكلة أبعد مِن مجرد إعادة توزيع للأدوار والمناصب، بل تتعلق بطبيعة وجود المجلس نفسه، والآليات المنظمة لأدائه؛ وأي فشل لمجلس القيادة الرئاسي في التوحد ومعالجة خلافاته عبر آليات واضحة ومؤسسية سيؤخر عملية استعادة الدولة، ويدفع اليمن نحو مزيد مِن التشظي والفوضى التي ستكون لها تداعيات كارثية على مستقبل المجلس، ومستقبل اليمن بكله، كدولة موحدة ومستقرة. وهذه المآلات السلبية تتطلب جهودًا حقيقية لتجاوز هذه التباينات.