بعد أن قلب 7 أكتوبر خرائط الشرق الأوسط.. الحركات غير الحكومية تتصدر المشهد الدولي
تاريخ النشر: 9th, December 2023 GMT
في وقت من الأوقات أعطى علماء العلاقات الدولية ومخططو السياسة الخارجية اهتمامًا وافرا لما يسمى بالمنظمات والحركات غير الحكومية NON-STATE ACTOR كفاعل دولي شديد التأثير على مجرى الأحداث وعلى صنع أزمات إقليمية ودولية كانت تتفوق بها أحيانا على تأثير دول صغيرة وأحيانا متوسطة.
وبين السبعينات والتسعينات من القرن الماضي كانت حركات تحرر وطني مشروعة مثل منظمة التحرير الفلسطينية في الشرق الأوسط ومنظمة المؤتمر الإفريقي في إفريقيا الجنوبية وحركة الشين فين في أوروبا نماذج حاضرة باستمرار.
سلّمت هذه الحركات أسلحتها وتخلّت عن البندقية بعد أن حققت أهداف نضالها. حصلت جنوب إفريقيا على حريتها ووقّعت شين فين على اتفاق سلام جعلها جزءا من حكومة إيرلندا الشمالية.
وتخلّت منظمة التحرير الفلسطينية عن المقاومة وبدأت تفقد رمزيتها العالمية في النضال بعد أن وقّعت على اتفاقية أوسلو المجحفة عام ١٩٩٣.
في مطلع الألفية الجديدة وفي غياب حركات التحرر ورموزها المضيئة نشطت في فراغها الحركات الإرهابية وهي أيضا من الناحية النظرية البحتة فاعل دولي غير حكومي ولكن بلا قضية مشروعة ولا علاقة لها بقواعد العدالة في القانون الدولي. نشطت القاعدة وداعش وحركة الشباب الصومالي وحركات التفوق العرقي الأبيض التي أحياها صعود الشعبوية اليمينية المتطرفة في الغرب.
انتقل الاهتمام البحثي في العلاقات الدولية بهذا من تثمين دور الفاعل الدولي غير الحكومي إلى دراسة ما بات يعرف بفرع علم مكافحة الإرهاب وبنيت جهود التفكيك التحليلي وبناء الاستراتيجيات على مواجهة التطرف ومراقبة حركة الأموال واستثمار وسائل التواصل الاجتماعي في تجنيد الشباب للحركات الإرهابية.
وحدها حركات المقاومة الفلسطينية واللبنانية كفاعلين غير حكوميين في السياسة والعلاقات الدولية تمكنت تدريجيا بصبر شديد من إعادة الألق لمفهوم حركات التحرر الوطني حتى حسمت ذلك تاريخيا في هجوم حماس في السابع من أكتوبر على جيش ومستوطنات الاحتلال الإسرائيلي. فالحدث كان كبيرا وتاريخيا حتى إن استراتيجيين أمريكيين من مؤسسة الأمن القومي النافذة يعتبرونه أكبر تهديد تواجهه الولايات المتحدة منذ الحرب العالمية الثانية. الحدث اعتبر في السياق الأطلسي والغربي الذي يشمل أيضا اليابان وأستراليا ونيوزيلندا أكبر هدية استراتيجية حصلت عليها الصين وروسيا.
على مستوى الشرق الأوسط اعتبر محلل بوزن توماس فريدمان أنها قادت إسرائيل لغضب انتقام أعمى قد يدمر الهندسة التي أقامها كيسنجر للشرق الأوسط منذ محادثات قصر الطاهرة مع السادات عام 1973.
يعلم الجميع ويصمت عن أن هذه الهندسة قضت على مفهوم العالم العربي وحولت معظمه لدول قُطرية متنازعة متنافسة فيما بينها أو ممزقة داخليا بحروب أيديولوجية أو طائفية أو عرقية ممهدة الطريق لما عاصرنا من نمط هيمنة خانق لواشنطن ووكيل مصالحها إسرائيل على كامل المنطقة العربية.
عندما يقوم فاعل غير حكومي مثل المقاومة الفلسطينية بقلب كل التوازنات وتجميد رسم الخرائط المشبوهة لشرق أوسط عرضها نتانياهو بكل غرور وتفاخر على منبر الجمعية العامة للأمم المتحدة قائلا إنها ستغير الشرق الأوسط إلى الأبد. عندما يوقظه طوفان الأقصى مما يصفه المعلقون الإسرائيليون من خدر أحلامه الوردية على كابوس أصدر فعليا حكم الإعدام على مستقبله السياسي وبات أمر تنفيذه ينتظر فقط نهاية الحرب الجارية في غزة يفرض نفسه ذلك على كل العلوم الاجتماعية. تبدت قدرة حماس والجهاد على خلق أزمة دولية إقليمية غير مسبوقة لم تحدث منذ حرب أكتوبر ٧٣ عندما يصف الأمريكيون أن حدث السابع من أكتوبر الذي باغتت حماسُ به الموساد والشاباك وأمان و«السي آي أيه» بأنها أحلك ليال عاشها بايدن منذ دخل البيت الأبيض.
فشلت كل الجهود الأمريكية والإسرائيلية لدمغ حماس بالإرهاب أو لربط عمليتها المشروعة بعمليات القاعدة وداعش. ونجحت صحافة المواطن ووسائل التواصل الاجتماعي في تكذيب كل ادعاءات قطع رؤوس الأطفال واغتصاب النساء ومواجهة السيل العرم من عملية التضليل الإعلامي الذي مارسته مؤسسات الإعلام الغربية الكبرى التقليدية من تلفزيون وإذاعة وصحافة.
وانفجرت المظاهرات الحاشدة في العواصم الغربية ضد وحشية العدوان الإسرائيلي ومؤيدة لحرية فلسطين وشرعية مقاومة النظام العنصري الاستيطاني الوحيد الباقي على الكرة الأرضية.
وضاعف الصمود الأسطوري للمقاومة من حماس والجهاد والشعبية وغيرهم على عدوان إسرائيلي - أمريكي مستمر بخلل فادح في توازن القوى من حيث الأعداد ونوع التسليح في زيادة مزيد من تقدير واهتمام باحثي العلاقات الدولية في قدرة الفاعل غير الحكومي على ممارسة صراع عسكري وإدارة مفاوضات هدنة ورهائن بقدرات وخبرات تفوق ما لدى بعض الدول. دليل آخر على تنامي الدور الفاعل غير الحكومي في تحديد مصائر الإقليم تمثّل فيما قامت به الولايات المتحدة وحشدت له كل زعماء الغرب وزعماء المنطقة من ترغيب لدرجة التوسل وترهيب لدرجة الصدمة والرعب وذلك فقط للضغط على إيران لكي تضغط على حزب الله اللبناني وهو فاعل آخر بارز غير حكومي لعدم الدخول مع إسرائيل في حرب شاملة. الولايات المتحدة تريد أن تنقذ إسرائيل وهي تعلم أنها كمجتمع ودولة لا يقويان على حرب طويلة على عدة جبهات في وقت واحد.
على أنه من الإنصاف القول إن تنامي دور حزب الله وحماس والجهاد وبعض الفصائل المسلحة القريبة من التوجه السياسي الإقليمي لإيران كفاعلين غير حكوميين إنما يعود في جزء مهم منه لمبالغة وتجبر الهندسة الأمريكية للشرق الأوسط في نصف القرن الأخير في تقييد حرية السياسة الخارجية للدول العربية وجعل قدرتها على المناورة واتخاذ قرارات ذات طبيعة استقلالية تتعارض ولو بقدر ضئيل مع المصالح والتوجهات الأمريكية عملا شديد الخطورة. يقول وربما يفاخر المحللون الأمريكيون والإسرائيليون في خلاصات متكررة إن فشل أغلب العرب في اتخاذ موقف موحد لصالح الفلسطينيين وارتعابهم من استخدام أي ورقة ضغط من أوراق الضغط العديدة لديهم على إسرائيل والولايات المتحدة لفرض وقف فوري لإطلاق النار.. هو دليل جديد على عجز العرب المستمر منذ عقود على ممارسة رد الفعل المناسب حتى في القضايا التي تهدد زمنهم ووجودهم كجماعة قومية وثقافية.
نكوص الدولة الوطنية العربية عن القيام بمبادرات في السياسة الخارجية وانسحاب مصر من القيادة التقليدية للعالم العربي إلى شؤونها الداخلية منذ زيارة السادات للقدس وعدم تقدم أحد لتحمل تكاليف وتضحيات دور القيادة بعدها وكذلك عجز السلطة الفلسطينية بعد وفاة عرفات كرمز جامع عن حماية شعبها وحماية حقوقه ترك فراغا سياسيا هائلا تقدمت إلى ملئه منظمات وحركات المقاومة خاصة مع وجود حليف إقليمي مثل الجمهورية الإسلامية الإيرانية. فمصالح الأمن القومي ومقتضيات تحقيق نفوذ في دوائر سياستها الخارجية تمر عبر كبح الهيمنة الإسرائيلية على المنطقة وكيلا عن المصالح الإمبريالية أو ما تسميه هي الاستكبار الأكبر.
حسين عبد الغني إعلامي وكاتب مصري
المصدر: لجريدة عمان
كلمات دلالية: الشرق الأوسط
إقرأ أيضاً:
من إسرائيل وحماس والولايات المتحدة.. رسائل متضاربة عن الهدنة
يسعى الوسطاء إلى التوصل بشكل عاجل لوقف إطلاق النار في غزة وتحرير الرهائن المتبقين هناك، وسط تهديدات إسرائيلية بشن هجوم كاسح على كامل القطاع.
لكن إسرائيل والولايات المتحدة وحركة حماس بعثت رسائل متضاربة في الأيام والساعات الأخيرة، بشأن التقدم المحرز في محادثات الهدنة، حتى في الوقت الذي بدا به الرئيس الأميركي دونالد ترامب وكأنه يكثف الضغوط لإنهاء الحرب.
ويبدو أن اقتراح وقف إطلاق النار قيد المناقشة حاليا مشابه بشكل عام لعروض سابقة، وفقا لمسؤولين تحدثوا لصحيفة "نيويورك تايمز" الأميركية، شريطة عدم الكشف عن هويتهم.
وبموجب العرض، توافق إسرائيل وحماس على هدنة أولية مدتها 60 يوما، تفرج خلالها الحركة عن حوالي 10 رهائن أحياء ونصف الجثث المتبقية، مقابل إطلاق سراح فلسطينيين في السجون الإسرائيلية، وفقا لمسؤولين إسرائيليين وثالث غربي وشخص مطلع على المفاوضات.
وقالت المصادر إنه "خلال وقف إطلاق النار الذي يستمر شهرين، ستتفاوض إسرائيل وحماس على شروط هدنة دائمة".
وتريد حماس ضمانات بأن تؤدي هذه المحادثات إلى إنهاء الحرب، وهي ضمانات لا ترغب إسرائيل في إدارجها بالاتفاق، وفقا لأحد المسؤولين الإسرائيليين والمسؤول الغربي.
وفي حين صرح رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو بأنه "مستعد لوقف إطلاق نار مؤقت"، فإن شروطه لإنهاء الحرب تتضمن بنودا "غير قابلة للتنفيذ أو حتى النقاش" بالنسبة لحماس، فقد طالب الحركة بإلقاء سلاحها ومغادرة قيادتها غزة.
وفي غضون ذلك، تهدد إسرائيل بشن هجوم بري على غزة، مما أثار انتقادات متزايدة حتى من حلفائها التقليديين مثل بريطانيا وفرنسا وألمانيا.
وكانت إسرائيل منعت دخول جميع المساعدات إلى القطاع، بما في ذلك الغذاء والوقود والأدوية، لأكثر من شهرين، قبل أن تسمح بدخول بعضها الأسبوع الماضي.
وتعهد نتنياهو بأن الهجوم البري "سيسحق حماس بشكل حاسم"، لكن في إسرائيل دعت عائلات الرهائن إلى وقف فوري لإطلاق النار لتحرير أقاربهم.
وأصدرت إسرائيل وحماس والولايات المتحدة سلسلة من التعليقات المتناقضة حول مفاوضات إنهاء الحرب، مما زاد من الالتباس حول وضع المحادثات.
ففي يوم الإثنين، ذكرت وسائل إعلام تابعة لحماس أن الحركة قبلت اقتراح وقف إطلاق النار من ستيف ويتكوف، مبعوث واشنطن إلى الشرق الأوسط، إلا أنه سارع إلى نفي هذا الموقف.
وقال لموقع "أكسيوس" الإخباري: "ما رأيته من حماس مخيب للآمال وغير مقبول على الإطلاق".
وفي وقت لاحق من مساء الإثنين، قال نتنياهو إنه يأمل في الإعلان عن تقدم في المحادثات قريبا، لكنه أشار لاحقا إلى أنه كان يتحدث "مجازيا"، وألقى باللوم على حماس في تعثر المفاوضات.
ويوم الثلاثاء، أكد المسؤول في حماس باسم نعيم ما أعلنته الحركة، وكتب على منصات التواصل الاجتماعي: "نعم، قبلت الحركة اقتراح ويتكوف"، مضيفا أنها تنتظر رد إسرائيل.
وبدا أن صبر ترامب بدأ ينفد بشكل متزايد إزاء الحرب الطويلة في غزة، وقال للصحفيين، الأحد: "تحدثنا مع إسرائيل، ونريد أن نرى ما إذا كان بإمكاننا وقف هذا الوضع برمته في أسرع وقت ممكن".
وفي وقت سابق من شهر مايو الجاري، تفاوضت الإدارة الأميركية بشكل منفصل مع حماس على إطلاق سراح عيدان ألكسندر، آخر رهينة إسرائيلي على قيد الحياة يحمل الجنسية الأميركية، متجاوزة إسرائيل.
وفي الأيام الأخيرة، سعى بشارة بحبح، وهو فلسطيني أميركي دعم ترامب خلال حملته الرئاسية، إلى التوسط في اتفاق جديد لوقف إطلاق النار نيابة عن ويتكوف، وفقا لمسؤولين إسرائيليين.
وبعد أن أعلنت حماس قبولها مقترح ويتكوف، صرح مسؤول إسرائيلي أن العرض الذي طرحه بحبح على حماس يختلف بشكل كبير عن الأطر السابقة المدعومة أميركيا والمقبولة لدى إسرائيل.