أزمة فنزويلا – غويانا .. صراع جغرافيا أم دعاية انتخابية؟
تاريخ النشر: 12th, December 2023 GMT
بشكل مفاجئ للرأي العام العالمي، والعربي على وجه الخصوص، طفا اسم دُويلة غويانا على سطح أخبار أميركا الجنوبية، مصحوبًا بمؤشرات اجتياح عسكري في الأفق، أعلنته جارتها الغربية فنزويلا، التي لوّحت بنيّتها ضمَّ منطقة إيسيكيبو المتنازع عليها مع غويانا.
ونظرًا للزخم الذي فرضه الخبر، عرّج مجلس الأمن، الجمعة الماضية، على الموضوع في قائمة نقاشاته.
قبل التعرّف على النزاع التاريخي بين فنزويلا وجارتها الشرقية غويانا، ومدى وجاهة حجج كل طرف في إثبات ملكيته لمنطقة إيسيكيبو، الواقعة بينهما، من الضروري التعرف على جغرافيّة المنطقة.
تمثل دويلة غويانا البريطانية- كما تُعرّف- مع سورينامي وغويانا الفرنسية، ثلاث دويلات صغيرة، تقع بالترتيب في شمال شرقي نصف القارة الأميركي الجنوبي، وتداولت على ثلاثتها قوى استعمارية، بعد الغزو الإسباني، من أهمها: هولندا، وفرنسا، والسويد، والمملكة المتحدة بالنسبة لغويانا موضوع حديثنا، والمعروفة بثرواتها المعدنية والزراعية سابقًا، والنفطية مؤخرًا. مع العلم أن غويانا، تندرج حاليًا مع بلدان أخرى تحت مجموعة "دول الكومنولث"، الناطقة بالإنجليزية.
أمّا بالنسبة لمنطقة إيسيكيبو، محلّ النزاع بين فنزويلا وغويانا البريطانية، فيأتي اسمها من اسم أطول نهر في غويانا، يصب في المحيط الأطلسي شمالًا، ويشقّ البلاد بشكل عمودي، ليجعل ثُلثَ مساحتها يقع شرقه، وثلثَيها يقعان غربه، وهذه المنطقة الأخيرة هي المساحة التي مثّلت موضوع الخلاف في ملكيتها منذ قرون، وتجددت الآن.
تعتبر فنزويلا المنطقة امتدادًا لمساحتها، منذ 1777 م؛ امتثالًا للحدود التي رسمها الحُكم الإسباني في تلك الفترة.
في المقابل، تعتبرها غويانا ملكها، استنادًا للحدود التي رسمها البريطانيون، بعد أن توغلوا في منطقة الإيسيكيبو واستغلوا ثرواتها المنجمية الطائلة، وفرضوا الحدود الحالية، أثناء انشغال فنزويلا في بداية القرن التاسع عشر بالتحرر من الحكم الإسباني.
وتجدد النزاع مع اكتشاف البريطانيين مناجم ذهب وفضة في المنطقة، لكن التحكيم الدولي، أفضى إلى إصدار حكم لفائدة الجانب البريطاني، يُعرف بقرار "باريس للتحكيم الدولي" في 1899م.
غير أن فنزويلا في 1949 م، حصلت على وثائق تثبت انصياع أحد أعضاء المحكمة الخمسة- والذي يعتبر المحايد الوحيد- للتصويت لصالح الجانب البريطاني، وهو ما أدى إلى لجوء فنزويلا للأمم المتحدة. واستمر النزاع السلمي بين الجانبين، دون جدوى، حتى استقلال غويانا في 1966 م، عندما تمسّكت بملكيتها للإيسيكيبو، على اعتبار أن المفاوضات كانت مع البريطانيين.
وفي الحقيقة، لم تُفلح محاولات الحكومات الفنزويلية المتعاقبة- باستثناء حكومة الزعيم الراحل تشافيز التي كانت منشغلة بأهداف توسّعية أيديولوجية مختلفة تمامًا- في حلحلة موقف غويانا، التي اشتد ساعدها في المعركة، مع استمرار اكتشاف موارد طبيعية في المنطقة، بشكل كبير، على غرار الألماس ومزيد من الذهب والفضة في أدغال الإيسيكيبو.
ثروات متدفقةلكن ومع بداية اكتشاف غويانا كميات خيالية من النفط والغاز في مياه الإيسيكيبو الإقليمية- على المحيط الأطلسي، في 2015 م – فقد لجأت، بشكل أحادي، إلى محكمة العدل الدولية، وتعاقدت على إثر ذلك مع شركة أميركية نفطية، وبدأت في التنقيب عن النفط مع شركات أجنبية أخرى.
وقد تزامن ذلك مع الأزمة الاقتصادية التي مرت بها فنزويلا، وشدة وطأة الحصار الأميركي عليها، وهو ما دفع الرئيس مادورو، في ذلك الوقت، إلى التنديد لدى الأمم المتحدة بعدم مشروعية عمليات التنقيب التي تقوم بها غويانا، لكن ذلك لم يغير شيئًا من الواقع، واستمر الأمر على ما هو عليه.
ومن الواضح أن الإحباط من الموقف الدولي، الذي تعيشه حكومة فنزويلا، جعل ردة فعلها تشهد تصعيدًا ملحوظًا في الأسبوعين الأخيرين، حيث قام الرئيس مادورو بدعوة شعبه إلى التصويت على استفتاء يوم الأحد قبل الماضي، وافق من خلاله 95% من المصوتين على ضمّ الإيسيكيبو لفنزويلا.
كما أمر الرئيس بتغيير خريطة البلاد في كل الإدارات والمناهج الدراسية، وبدْء منح تراخيص استغلال النفط والغاز واستخراج المعادن لشركة النفط الحكومية الفنزويلية، إضافة إلى حشد قوات عسكرية خاصة بهدف الانتشار في المنطقة. وهو ما اعتبره رئيس غويانا عرفان علي، (المسلم الديانة) تهديدًا مباشرًا لسيادة بلده واستقلالها.
غضب شعبيفي الحقيقة، هناك سياقات لهذه التطورات، تستحق الذكر من أجل توضيح المشهد في الجانبين. فاقتصاد غويانا شهد قفزة نوعية مع اكتشاف النفط في المياه الإقليمية لمنطقة الإيسيكيبو، ما جعل ناتجها المحلي الإجمالي يصل إلى 58% السنة الماضية. كما من المنتظر أن يصل إنتاجها من النفط في 2027 م، إلى حجم إنتاج فنزويلا الحالي، علمًا أن عدد سكانها لا يتخطى 800 ألف نسمة. وتحسبًا لهذه المرحلة من التوتر، كشفت مصادر أميركية، أنّ غويانا تُسارع في التنسيق مع واشنطن لتركيز قاعدة عسكرية أميركية في منطقة الإيسيكيبو، وهو ما دفع حكومة فنزويلا إلى تقديم شكوى لدى الأمم المتحدة منذ شهرَين.
أمّا فيما يخصّ السياق الفنزويلي الداخلي، فيبدو أنَّ حكومة الرئيس مادورو، واعية بصعوبة تحقيق نتيجة الاستفتاء، من خلال مظلة الحماية التي وفرتها الإدارة الأميركية ونظيرتها البريطانية لغويانا.
لكن مستجدات المشهد الانتخابي في صفوف المعارضة، جعلت الرئيس مادورو يحرّك ورقة الذود عن السيادة، لمغازلة الشعور الوطني لدى الرأي العام، واستمالتهم لدعمه وحكومته من أجل الدفاع عن حقوق البلد من الثروة الخيالية التي تفرّدت بها غويانا، جورًا.
تجدر الإشارة إلى أن الزعيم الراحل تشافيز، حكم فنزويلا من 1999 م إلى 2013 م، وخلفه مباشرة، رفيقه الرئيس الحالي مادورو، الذي ينوي الترشح لفترة ثالثة في أكتوبر/ تشرين الأول القادم.
ورغم ما شهده الرئيس مادورو من مضايقات من المعارضة في المحطات الانتخابية السابقة، فإنه ورموز حزبه تمكنوا من التمسك بالسلطة ودحر المعارضة، لاسيما في 2019 م.
لكن الغضب الشعبي المتنامي مؤخرًا، وتوصّل المعارضة للاتفاق على ماريا كورينا ماتشادو، كمرشحة وحيدة تواجه الرئيس مادورو في 2024 م، جعلا تحريك ورقة ضمّ الإيسيكيبو- التي لا يختلف عليها فنزويليان اثنان- ضرورةً للالتفاف حول حكومة قائمة وقوية، ما يستبعد المغامرة بالتصويت لتولي المعارضة زمام الحكم.
قد يكون هذا الرأي غير صائب، لكن الأشهر القادمة ستكشف بالتأكيد إن كانت تهديدات الرئيس مادورو جادّة أم لا.
aj-logoaj-logoaj-logoمن نحناعرض المزيدمن نحنالأحكام والشروطسياسة الخصوصيةسياسة ملفات تعريف الارتباطتفضيلات ملفات تعريف الارتباطخريطة الموقعتواصل معنااعرض المزيدتواصل معناأعلن معنارابط بديلترددات البثبيانات صحفيةشبكتنااعرض المزيدمركز الجزيرة للدراساتمعهد الجزيرة للإعلامتعلم العربيةمركز الجزيرة للحريات العامة وحقوق الإنسانقنواتنااعرض المزيدالجزيرة الإخباريةالجزيرة الإنجليزيالجزيرة مباشرالجزيرة الوثائقيةالجزيرة البلقانعربي AJ+
تابع الجزيرة نت على:
facebooktwitteryoutubeinstagram-colored-outlinerssالمصدر: الجزيرة
كلمات دلالية: الرئیس مادورو وهو ما
إقرأ أيضاً:
صراع المال الذي سيشكل مستقبل أوروبا
كارل بيلت -
«المال هو الذي يجعل العالم يستمر في الدوران»، هكذا تغنّي فتاة الاستعراض سالي بولز في مسرحية «كباريه»، المسرحية الموسيقية الشهيرة التي تدور أحداثها على خلفية انحطاط جمهورية فايمار. من المؤكد أن المال سيشكل مستقبل أوروبا، حيث يضطر القادة السياسيون في مختلف أنحاء القارة إلى اتخاذ قرارات مؤلمة حول كيفية تخصيص الأموال العامة في عالم متقلقل على نحو متزايد.
من المنتظر أن تعمل ثلاث أولويات عاجلة على إرهاق الموارد المالية العامة في أوروبا خلال السنوات القليلة المقبلة. الأولى -والأكثر وضوحا- هي الدفاع. الواقع أن القوة الدافعة نحو زيادة الإنفاق العسكري تتمثل في المقام الأول في الرغبة في الرد على الرئيس الروسي فلاديمير بوتين، فضلا عن انتقاد الرئيس الأمريكي دونالد ترمب المستمر لحلفاء أمريكا في حلف شمال الأطلسي (الناتو). وقد جعلت هذه الضغوط مجتمعة من تعزيز موقف أوروبا الدفاعي ضرورة استراتيجية.
الأولوية الثانية والأكثر إلحاحا هي دعم أوكرانيا في معركتها ضد روسيا. إذا انهارت دفاعات أوكرانيا، فمن المرجح أن تنفجر روسيا في نوبة هياج انتقامية. وضمان قدرة أوكرانيا على الاستمرار في الدفاع عن نفسها يتطلب أن تتجاوز الحكومات الأوروبية التزامات الإنفاق الدفاعي الحالية.
وأخيرا، هناك العملية المطولة المتمثلة في إعداد ميزانية الاتحاد الأوروبي القادمة المتعددة السنوات، والتي ستغطي الفترة من 2028 إلى 2034. وقد قدمت المفوضية الأوروبية اقتراحها بالفعل، لكن التحدي الحقيقي يكمن في المستقبل، حيث يتعين على البلدان الأعضاء والبرلمان الأوروبي إجراء مفاوضات داخلية قبل الاتفاق على الأرقام النهائية. يتضمن اقتراح المفوضية زيادة تمويل الأمن، والالتزامات العالمية، والقدرة التنافسية، فضلا عن تقديم دعم إضافي لأوكرانيا.
ورغم أن هذه الأولويات حظيت بتأييد واسع الانتشار، فإن إعادة تخصيص الموارد اللازمة لتمويلها كانت موضع جدال حاد. من المأمون أن نقول إن اللجنة تتجه نحو مواجهة سياسية مريرة قبل التوصل إلى الإجماع. على الرغم من حدة هذه المعارك المرتبطة بالميزانية، فإن الميزانية التي تقترحها المفوضية تبلغ 1.26% فقط من الدخل الوطني الإجمالي في بلدان الاتحاد الأوروبي السبعة والعشرين. وبينما تزيد هذه النسبة عن الحالية (1.13%)، فإن الزيادة الصافية متواضعة نسبيا بمجرد احتساب تكاليف خدمة الديون الناتجة عن فورة الاقتراض التي أعقبت جائحة كوفيد-19.
ولكن عندما يتعلق الأمر بالدفاع، تصبح الأرقام أكثر أهمية بدرجة كبيرة. فقد تنامت ميزانيات الدفاع في مختلف أنحاء أوروبا في السنوات الأخيرة بنسبة الثلث تقريبا، حيث تنفق معظم الدول الأوروبية الأعضاء في الناتو حوالي 2% من ناتجها المحلي الإجمالي أو تقترب من هذا المعيار.
ولكن حتى هذا لم يعد كافيا. ففي قمة الناتو في يونيو في لاهاي، تعهد الأعضاء بإنفاق 3.5% من الناتج المحلي الإجمالي على الدفاع بحلول عام 2035، مع تخصيص 1.5% إضافية للاستثمارات المرتبطة بالدفاع والأمن في عموم الأمر. ويبدو أن نسبة 1.5% الإضافية مصممة لاسترضاء ترامب، الذي دعا الحلفاء الأوروبيين مرارا وتكرارا إلى زيادة الإنفاق العسكري إلى 5% من الناتج المحلي الإجمالي. ومن المتوقع أن يعتمد جزء كبير من هذا الإنفاق الإضافي على المحاسبة الإبداعية بدلا من التمويل الجديد الحقيقي. كما يتطلب دعم أوكرانيا خلال الحرب وإعادة بناء البلاد في نهاية المطاف التزاما ماليا كبيرا. وبينما تتفاوت التقديرات، فإن مبلغ 100 مليار دولار سنويا، على سبيل المثال، سيعادل ما يزيد قليلا على 0.4% من مجموع الناتج المحلي الإجمالي في الاتحاد الأوروبي والمملكة المتحدة مجتمعين -وهو مبلغ كبير ولكن ليس من السهل على الإطلاق إدارته.
عند مرحلة ما خلال فترة الميزانية 2028- 2035، سيكون من اللازم معالجة تكلفة إعادة بناء أوكرانيا. تشير تقديرات بعض الدراسات إلى أن تكلفة إعادة البناء قد تبلغ نحو 500 مليار دولار، وإن كان هذا الرقم يشمل المناطق التي قد تبقى تحت السيطرة الروسية في المستقبل المنظور. وسوف يعتمد قدر كبير من الأمر أيضا على ما إذا كانت الضمانات الأمنية، واحتمالات انضمام أوكرانيا إلى الاتحاد الأوروبي، قد تعزز بيئة مواتية للاستثمار الخاص على نطاق ضخم.
بطبيعة الحال، قد تنشأ مطالب جديدة، وسوف يفرض هذا ضغطا إضافيا على موارد أوروبا المالية. على سبيل المثال، خفّضت عدة حكومات أوروبية بالفعل مساعدات التنمية أو حولت جزءا منها لدعم أوكرانيا. ورغم أن هذا قد يكون ردا ضروريا في الأمد القريب على الحرب الروسية - الأوكرانية، فإن عواقبه في الأمد البعيد تظل غير واضحة. في الوقت الراهن، تلبي النرويج والسويد والدنمارك فقط هدف الأمم المتحدة المتمثل في تخصيص 0.7% من الدخل الوطني الإجمالي لمساعدات التنمية. وبعد التخفيضات الكبيرة التي أجرتها إدارة ترامب على المساعدات الخارجية وإغلاق الوكالة الأمريكية للتنمية الدولية، تنشأ حجة قوية لصالح تركيز أوروبا على شغل هذا الفراغ. فالعالم الأكثر يأسا سيكون أشد تقلبا وأقل أمنا، وهذا كفيل بجعل التنمية ضرورة استراتيجية وأخلاقية في آن واحد.
لن يكون الوفاء بكل هذه الالتزامات سهلا، وخاصة بالنسبة للحكومات التي تعاني بالفعل من ارتفاع العجز وارتفاع الدين العام. وتخميني أن دول شمال أوروبا ستصل إلى هدف الإنفاق الدفاعي وفقا لحلف الناتو بنسبة 3.5% من الناتج المحلي الإجمالي قبل عام 2035، في حين ستفشل دول جنوب أوروبا -باستثناء اليونان- في الأرجح في تحقيقه.
مع توجه كل من فرنسا وإيطاليا وإسبانيا إلى الانتخابات بحلول عام 2027، من المرجح أن تظل الشهية السياسية لخفض الإنفاق اللازم لزيادة ميزانيات الدفاع محدودة. يتضح هذا الاتجاه بالفعل في توزيع المساعدات لأوكرانيا. في الأشهر الأربعة الأولى من عام 2025، ساهمت دول الشمال الأوروبي بمبلغ 6.8 مليار دولار، وقدمت المملكة المتحدة 5.3 مليار دولار، وقدمت ألمانيا نحو 760 مليون دولار، بينما لم تقدم إسبانيا وإيطاليا سوى جزء بسيط من هذه المبالغ. من عجيب المفارقات هنا أن بلدان الاتحاد الأوروبي التي توصف غالبا بأنها «مقتصدة» هي ذاتها الراغبة بالفعل في تقديم التمويل اللازم لتعزيز أولويات الاتحاد المتفق عليها.
من ناحية أخرى، تفضّل الدول الأقل اقتصادا الدعوة إلى مزيد من الاقتراض، حتى برغم أن المجال المتاح لها للقيام بذلك بنفسها محدود. هذه التوترات تحرك الآن المعركة المحتدمة حول موارد أوروبا المالية. والتناقض صارخ بين موافقة الناتو السريعة على تعهدات الإنفاق الضخمة، وجدال الاتحاد الأوروبي حول مبالغ أصغر كثيرا. مهما كانت النتيجة، فإن المعركة المالية القادمة ستختبر مدى قدرة قادة أوروبا واستعدادهم لمواجهة التحديات الأمنية الخطيرة المقبلة.