الأخلاق: إذا كانتِ الفطرةُ البشريةُ فى صورتِها السليمةِ تُميّزُ الخيرَ مِن الشرِّ، وتدركُ الخُلُقَ السليمَ مِن غيره، فإنَّ الإسلامَ لم يقفْ عندَ هذا المشترَكِ البشريِّ العامِّ، وإنما جعلَ الأخلاقَ مِن الدينِ فهىَ أحدُ مُقوّماتِه الثلاثةِ؛ العقيدةِ والأحكامِ والأخلاقِ، بل إنَّ سيدَنا رسولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم جعَلَ غايةَ بعثتِهِ تَتميمَ محاسِنِ الأخلاقِ فقالَ: «إنَّما بُعثتُ لأُتممَ صالحَ الأخلاقِ» [رواه أحمد].
والأخلاقُ ثمرةٌ للمقوّمَيْنِ الآخريْنِ، وبالتالى فهىَ دلالةٌ على كمالِهِما بحيثُ يُثمرانِ ثمرةً طيبةً.
أما بالنسبةِ للجانبِ العَقَديِّ المتمثّلِ فى الإيمانِ فيقولُ صلى الله عليه وسلم: «أكمَلُ المؤمنين إيماناً أحسنُهُم خُلُقاً» [أبو داود]، وهذا صريحٌ فى أنَّ الأخلاقَ ثمرةٌ للإيمان ودليلٌ على كمالِهِ، ومِن هذا أيضاً قولُه صلى الله عليه وسلم: «لَا إِيمَانَ لِمَنْ لَا أَمَانَةَ لَهُ، وَلَا دِينَ لِمَنْ لَا عَهْدَ لَهُ» [أحمد]، فغيرُ الأمينِ ناقصُ الإيمانِ، والغادرُ ناقصُ الدين، وقولُه صلى الله عليه وسلم: «لاَ يُؤْمِنُ أَحَدُكُمْ [أى: لا يؤمنُ إيماناً كاملاً] حَتَّى يُحِبَّ لِأَخِيهِ مَا يُحِبُّ لِنَفْسِهِ» [متفق عليه]، ومثلُه حديث: «وَاللَّهِ لاَ يُؤْمِنُ، وَاللَّهِ لاَ يُؤْمِنُ، وَاللَّهِ لاَ يُؤْمِنُ» قِيلَ: وَمَنْ يَا رَسُولَ اللَّهِ؟ قَالَ: «الَّذِى لاَ يَأْمَنُ جَارهُ بَوَائِقَهُ [أى: شُرورهُ]» [البخارى].
وأما بالنسبةِ لجانبِ الأحكامِ فالعباداتُ تربَأُ بصاحبِهَا عن الدنايا وتُرقّيهِ، فالصلاةُ تَنْهى صاحبَها عن ارتكابِ القبائحِ والمنكراتِ {إِنَّ الصَّلَاةَ تَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ}، والصدقةُ تطهرُ النفوسَ من الشُّحِّ والبخلِ والطمعِ، {خُذْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ صَدَقَةً تُطَهِّرُهُمْ وَتُزَكِّيهِمْ بِهَا}، والصيامُ يجعلُ النفسَ تقيةً {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ}، والحجُّ يُبعدُ الحجيجَ عن معاصى القولِ والفعلِ {الْحَجُّ أَشْهُرٌ مَعْلُومَاتٌ فَمَنْ فَرَضَ فِيهِنَّ الْحَجَّ فَلَا رَفَثَ وَلَا فُسُوقَ وَلَا جِدَالَ فِى الْحَجِّ}، فالمسلمُ منهيٌ فى كلِّ حينٍ عن الكلامِ الفاحشِ، والمعاصى، والجدالِ، والنهيُ عن ذلكَ أشدُّ عندَ التلبسِ بعبادةِ الحجِّ.
والمعاملاتُ تقومُ على الأخلاقِ الحسنةِ كما تقومُ على الأحكامِ قال الله تعالى: {إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالْإِحْسَانِ}، فجمَعَ سبحانه بينَ الأمرِ (بالعدلِ) الذى تضبطُهُ الأحكامُ، و(الإحسانِ) النابتِ من التزكيةِ والأخلاقِ، وقال سيدُنا رسولُ الله صلى الله عليه وسلم: «رَحِمَ اللَّهُ رَجُلاً سَمْحاً إِذَا بَاعَ، وَإِذَا اشْتَرَى، وَإِذَا اقْتَضَى» [البخارى]، فالتعاملاتُ ينبغى ألَّا تنفكَّ عن الأخلاقِ الحسنَةِ، وإذا كانتِ الشريعةُ تحفظُ الدينَ والنفسَ والعقلَ والعِرضَ والمالَ، فأحكامُها إذنْ تقومُ على الأخلاقِ التى بها يُراعِى المسلمُ هذا فيمَنْ حولَهُ.
وكونُ الأخلاقِ مِن الدِّينِ وثمرةً لعقيدتِهِ وأحكامِهِ هذا يضمنُ أنْ تكونَ الأخلاقُ ثابتةً منضطبةً مطلقةً لا نِسبيةَ فيها، ولا تَغيّرَ يَعترِيها.
فالمسلمُ أخلاقُهُ واحدةٌ مَع أوليائِهِ وأعدائِهِ، معَ البشَرِ وغيرِهِم، وها هو قاضى القضاةِ تاجُ الدينِ السبكىُّ يقول: كنتُ يوماً فى دهليزِ دارِنا فى جماعةٍ، فمرَّ بنا كلبٌ يَقطُرُ ماءً يَكادُ يمسُّ ثيابَنا، فنَهرتُهُ وقلتُ: يا كلب يا ابنَ الكلبِ، وإذا بالشيخِ الإمامِ -يعنى والدهُ الشيخَ تقىَّ الدينِ السبكى- يسمعُنا مِن داخلٍ، فلمَّا خرجَ قال: لِمَ شتمتَهُ؟! فقلتُ: ما قلتُ إِلَّا حقاً، أليسَ هو بكلبٍ ابنِ كلبٍ؟ فقال: هوَ كذلكَ إِلَّا أَنَّكَ أخرجتَ الكلامَ فى مخرجِ الشتمِ والإهانةِ، ولا يَنبغى ذلكَ!
المصدر: الوطن
كلمات دلالية: الإسلام صلى الله علیه وسلم
إقرأ أيضاً:
هل قصة الحمامتين والعنكبوت في الهجرة صحيحة؟ اعرف حقيقتها
ورد إلى دار الإفتاء المصرية، سؤال يقول (هل ذكر العنكبوت والحمامتين في هجرة النبي صلى الله عليه وآله وسلم صحيح؟
وقالت دار الإفتاء في إجابتها على السؤال، إن قصة نسج العنكبوت على الغار ووقوف الحمامتين على بابه في حادثة الهجرة الشريفة قصةٌ ثابتةٌ برواياتٍ صحيحةٍ من طرقٍ كثيرةٍ في كتب السنة والسيرة، ولا مطعن على مضامينها بوجه من الوجوه.
ووردت قصة نسج العنكبوت على الغار ووقوف الحمامتين عليه وقت الهجرة النبوية الشريفة في كتب السنة المشرفة والسيرة المطهرة برواياتٍ صحيحةٍ مشهورةٍ مروية من طُرق كثيرة.
فقد أخرج الإمام أحمد في "مسنده" عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ رضي الله عنهما فِي قَوْلِهِ تعالى: ﴿وَإِذْ يَمْكُرُ بِكَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِيُثْبِتُوك﴾ [الأنفال: 30] قَالَ: "تَشَاوَرَتْ قُرَيْشٌ لَيْلَةً بِمَكَّةَ، فَقَالَ بَعْضُهُمْ: إِذَا أَصْبَحَ فَأَثْبِتُوهُ بِالْوَثَاقِ، يُرِيدُونَ النَّبِيَّ صلى الله عليه وآله وسلم، وَقَالَ بَعْضُهُمْ: بَلِ اقْتُلُوهُ، وَقَالَ بَعْضُهُمْ: بَلْ أَخْرِجُوهُ، فَأَطْلَعَ اللهُ عَزَّ وَجَلَّ نَبِيَّهُ عَلَى ذَلِكَ، فَبَاتَ عَلِيٌّ رضي الله عنه عَلَى فِرَاشِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وآله وسلم تِلْكَ اللَّيْلَةَ، وَخَرَجَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وآله وسلم حَتَّى لَحِقَ بِالْغَارِ، وَبَاتَ الْمُشْرِكُونَ يَحْرُسُونَ عَلِيًّا رضي الله عنه يَحْسَبُونَهُ النَّبِيَّ صلى الله عليه وآله وسلم، فَلَمَّا أَصْبَحُوا ثَارُوا إِلَيْهِ، فَلَمَّا رَأَوْا عَلِيًّا رضي الله عنه رَدَّ اللهُ مَكْرَهُمْ فَقَالُوا: أَيْنَ صَاحِبُكَ هَذَا؟ قَالَ: لَا أَدْرِي. فَاقْتَصُّوا أَثَرَهُ، فَلَمَّا بَلَغُوا الْجَبَلَ خُلِطَ عَلَيْهِمْ، فَصَعِدُوا فِي الْجَبَلِ فَمَرُّوا بِالْغَارِ، فَرَأَوْا عَلَى بَابِهِ نَسْجَ الْعَنْكَبُوتِ، فَقَالُوا: لَوْ دَخَلَ هَاهُنَا لَمْ يَكُنْ نَسْجُ الْعَنْكَبُوتِ عَلَى بَابِهِ، فَمَكَثَ فِيهِ ثَلَاثَ لَيَالٍ".
وأخرجها عددٌ كبيرٌ من أئمة الحديث؛ كالإمام عبد الرزاق في "مصنفه"، والحافظ أبو بكر المروزي في "مسند أبي بكر الصديق"، والإمام الطحاوي في "شرح مشكل الآثار"، والحافظ الطبراني في "المعجم الكبير"، وذكرها أيضًا الإمام جلال الدين السيوطي في "الدر المنثور"، والملا علي القاري في "مرقاة المفاتيح شرح مشكاة المصابيح"، وغيرهم، كما أوردها المؤرخون وأهل السير في أحداث الهجرة النبوية الشريفة من غير نكير، سيما أنه قد التزم جماعة منهم الصحة أو القبول فيما يذكرونه.
ولقد صحح جماعات من كبار المحدِّثين هذه القصة، وحسَّنوها؛ منهم الحافظ ابن كثير؛ حيث قال في "البداية والنهاية" (3/ 221، ط. دار إحياء التراث): [وهذا إسناد حسن وهو من أجود ما روي في قصة نسج العنكبوت على فم الغار، وذلك من حماية الله رسوله صلى الله عليه وآله وسلم] اهـ.
وقال الحافظ الهيثمي في "مجمع الزاوئد" (7/ 27، ط. مكتبة القدسي): [رواه أحمد والطبراني، وفيه عثمان بن عمرو الجزري، وثقه ابن حبان، وضعفه غيره، وبقية رجاله رجال الصحيح] اهـ.
وقال الحافظ ابن حجر في "فتح الباري" (7/ 236، ط. دار المعرفة، بتصرف): [وذكر أحمد من حديث ابن عباس رضي الله عنهما بإسناد حسن في قوله تعالى: ﴿وَإِذْ يَمْكُرُ بِكَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِيُثْبِتُوكَ أَوْ يَقْتُلُوكَ أَوْ يُخْرِجُوكَ وَيَمْكُرُونَ وَيَمْكُرُ اللهُ وَاللهُ خَيْرُ الْمَاكِرِينَ﴾ [الأنفال: 30]. وفي مسند أبي بكر الصديق لأبي بكر بن علي المروزي شيخ النسائي من مرسل الحسن في قصة نسج العنكبوت نحوه، وذكر الواقدي أن قريشا بعثوا في أثرهما قائفين أحدهما كرز بن علقمة، فرأى كرز بن علقمة على الغار نسج العنكبوت فقال: ها هنا انقطع الأثر] اهـ.
وقال شمس الدين السفيري في شرحه على صحيح البخاري المسمى "المجالس الوعظية" (1/ 140، ط. دار الكتب العلمية): [ففي هذه إشارةٌ إلى حماية النبي صلى الله عليه وآله وسلم من أعدائه من الكفار؛ وقعت بأضعف الأشياء مغنية عن أقوى الأشياء؛ وقعت بنسج العنكبوت وهو أضعف الأشياء؛ قال تعالى: ﴿وَإِنَّ أَوْهَنَ البُيُوتِ لَبَيْتُ العَنكَبُوتِ﴾ [العنكبوت: 41] مُغنِيَة عن الدروع التي قال الله عنها: ﴿وَعَلَّمْنَاهُ صَنْعَةَ لَبُوسٍ لَّكُمْ لِتُحْصِنَكُم مِّنْ بَأْسِكُم﴾ [الأنبياء: 80]] اهـ.
والخلاصة: أنَّ قصة نسج العنكبوت على الغار ووقوف الحمامتين على بابه في حادثة الهجرة الشريفة قصةٌ ثابتةٌ برواياتٍ صحيحةٍ من طرقٍ كثيرةٍ في كتب السنة والسيرة، ولا مطعن على مضامينها بوجه من الوجوه.