لا يخفي الفلاسفة شعورهم بالتـميـز وبالتـمايـز عـن أقرانـهم من دارسـي السـياسـة من المشتـغليـن بالعلـوم الاجتماعيـة؛ إذ هـم يـكيـلـون معـارفهـم عنها بمكـيال نـظـري تحتـل فيه المعـرفـة التـجريـديـة أعلى المراتب في سلـم المعـارف؛ وهي المعرفة التي بها خصـوا وعليها درجـوا. وسـواء صـح لهم ما يـزعـمـونه لأنـفسـهم من تميـز، ومـن اقـتـدار على إنتاج نفيـس القـول في السياسة، أم كان تـبجيـلهم لبضاعتـهم الفلسفـيـة في جملة أزعـوماتهـم، فإن الذي لا مـرية فيه أن صلاتهم بمسائـل السياسة اتـصلت لعـهـد من الـزمـن مـديـد يمتـد على قـريب من ألفـيـن ونصـف الألف من الأعـوام.
والحـق أن الـتـفـكير في السياسـة نـشـأ في بيـئـة الفلاسفـة منـذ جـنـح سـقراط بالفلسـفـة من الانشـغـال بأسئـلـة الطبيـعة والمعـرفـة Gnose إلى الـتـفـكـير في المجتمع والإنسـان: في الأخـلاق والسياسـة وتدبيـر الاجتمـاع. ولقد كان ذلك، حـقـاً، انـعـطافـاً هـائـلاً في تاريـخ الفلسـفة؛ حيث بات الإنسان والاجتمـاع الإنساني والاجتماع السـياسي في بـؤرة تـفـكيرها. ومع أن المعلـوم عن تعاليـم سـقراط في السياسـة قـليل، لا يـعدو نـتـفاً ممـا دونـه تلميـذه أفـلاطـون في المحـاورات، إلا أنـه مع الأخيـر (أفـلاطـون)، ومع تـلمـيذه أرسطـو سيشـهـد الـتـفكيـر الفـلسفـي على ميـلاد فـلسفـة سياسيـة نظيـر فلـسفـات الطـبيعـة وما بعـد الطبيـعة والمعـرفـة في البـناء والـتـأصيل الـنـظريـيـن... وفي الـتـأثـير العميق في اللاحـقيـن تـأثـيراً أظـهـرنـا على حقيقـة الوضـع الاعـتباري المرجعـي لنصـوص تلك الفلسـفـة - خاصـةً لكـتابـي الجمهـوريـة لأفـلاطـون والسـياسيـات لأرسـطو- إلى الحـد الذي تبيـن معـه أن أساسات فلسـفـة السياسـة وخطوطـها العريضـة وضـعت، ولمـدة واحـدة، في تلك الفتـرة الـزمنـيـة القصيرة التي تفصـل بين الكتابـيـن. ويعلـم كـل دارس للـفلسـفـة السياسيـة أنـه على هـذيـن الكـتابيـن ونظـرة كـل مـن صاحبيـهـمـا إلى السياسـة، وعلى حدودهـما المعـرفيـة سـينـقـسـم الفلاسفـة اللاحـقـون، في الثـقـافات جميـعـها، إلى فـسطـاطـيـن.
ولـم يتـأثـر سلطـان الفلسـفـة في الـنظـر العـقـلي إلى السـياسـة حتى مع ميلاد الحقبـة الهيـلنـستـيـة الممتـدة لألـف عـام؛ أعـني - في ما نحـن فيـه - حتـى بدخـول الديـن وتعاليـمـه ميـدان الهندسـة السـياسيـة للمجتمعات التي تـعـتـنـقـه، مثـل المجتـمـعات المسيـحيـة والإسلامـيـة، وصـيرورتـه من مصادر الـتـفـكير فيها. لـقـد وقـع ما يشبـه الـتـداخل بين الفلـسـفي والديـني في تـفكير تلك المجتمعات، فبـدت ثـقافـاتـها مزيـجـًا مـن العـقـل والـتسليـم الإيـمانـي، في الاتـجاه العام، لكنـها ما منـعـت من قيـام فـلـسفـات فيها؛ أكانت فـلسـفـات في السـياسـة والأخـلاق أو فـلسفـات في الطـبيـعة وما بعـد الطبيـعة: على الرغـم ممـا يثـيره وجـود هـذه من مشـكـلات في مجتـمعـات مبـناها على الوحـي وتعاليـم الديـن ، وبالتـالي، على رؤيـة أنطـولـوجيـة مخالـفـة للمسـلـمات الماديـة اليـونانيـة. في الأثـناء لم يـكـد عـلـمٌ من العلوم الـدينيـة، في الـثـقافـتـيـن المسيحيـة والإسلاميـة، أن يـعـرى من تـأثـير الفلسـفـة فيه بـدءاً من اللاهـوت المسيحي والكـلام الإسلامـي إلى الـتصـوف وتـفسيـر النصـوص الديـنيـة. وهـذه، وغيرها الكـثيـر، تـشـهـد بما كـان للفـلسفـة مـن عظيـم الأثـر في ثـقـافـات مجتـمـعات كـان الوحـي ومعـطياتـه أهـم مصادرهـا المـرجعيـة. وإن نحـن اقـتـصرنـا على الـثـقـافـة العربيـة الإسلاميـة وبحثـنا في آثـار الفلسـفـة السـياسيـة فيها، سنجـدنا أمـام لحظـتـيـن معرفـيـتـيـن كبيـرتـيـن فيها، على هـذا الصـعيـد، مثـلتـهـما كـل من الفلسـفـة السـياسيـة وعلـم العمـران الخـلدونـي:
مع أن تـراث الإسلام اتـسع لأجـناس من القـول والـتـأليف في السـياسـة متعـددة ومختـلفة (الإمـامـة في علـم الكـلام، فـقـه السياسـة الشـرعيـة، الآداب السـلطانـيـة)، إلا أنـه لم يـعـدم وجـود لحـظـة معرفـيـة فيه أخـرى متـميـزة في النـظـر إلى السـياسـة مثـلـتـها الفلسـفـة (فـلسفة السياسـة مع الفارابي، وابن سيـنا، وابن باجـة، وابن طفـيل، وابـن رشـد). وليس يـخـفى أن أثـر أفـلاطـون وأرسطو في فـلاسفـة الإسلام ما مـنـع الأخيـريـن من أن يشـقـوا لأنـفسهم سبيـلاً في النـظـر إلى السياسـة والمـدينـة (= الدولـة) لا يحيـدون فيه عن مرجعـهم الفلسـفي (الأفلاطـوني خاصـةً)، من جـهة، ولا يتجـاهلون فيه، في الوقـت عيـنـه، واقـع السـياسـة والـدولـة في اجتماعـهم الإسـلامي من جهـة أخـرى. ولـكـم كـان دالاً أن يـلجـأ اثـنان من كبـار هـؤلاء الفـلاسفـة إلى أفـلوطيـن ونظـريـتـه في فـيوضات المـوجودات ليستـدخـلوا بعض مبادئـها في بنـاء تصـورهم للمديـنة العـقـليـة التي ينـشـدهـا الفيـلسـوف؛ بحسـبان نظـريـة الفيـض تـلتـف على فكـرة ماديـة العالـم في الفلسـفـة اليونانـيـة (وهي، بذلك، أقـرب إلى مسـلمات الوجـود في الإسلام مـن تلك الفلسـفـة). ولكـن، كان عليهم، أيـضاً، اللـجوء إليها للقـول إن الـنظـام التـراتبـي الذي ينـتـظـم العالـم الكـوسـمي - من المـوجود الأول إلى عـالم ما تحـت القـمـر- هـو عيـنـه الذي ينـتظـم المدينـة أو الدولـة. وحتـى الذيـن لـم يتـطـلعوا من فـلاسـفـتنا إلى مـدينـة فاضلـة تـناظـر جمهـوريـة أفلاطـون، مثـل ابن باجـة وابن طـفيـل، انسحبوا إلى ذواتهم وهجـروا العالم كـي يـدبـروا أنـفسـهم بالعـقـل، أو كـي يقيـموا تلك المديـنـة في دواخـلهـم.
كما ارتـفـعت الفلسـفـة بالنـظـرة إلى السـياسـة إلى مـرتبـة من المعـرفـة عليـا - قيـاسـاً بغـيـرها من أجنـاس القـول السـياسـي في الإسلام - كذلك فعـلت الأنثـروپـولوجيـا الخـلـدونيـة في تحليل الـدولـة ذاهبـةً بالفـكـر السـياسي الإسـلامـي إلى ذراه العـلـميـة. لم تكـن مـقاربـة ابن خلـدون للسياسـة والسياسـي فـلسـفـيـةً ومجـردة، على طـريـقة الفـلاسفـة، لكنـها استـفادت من الفلسـفـة إلى حـد بعيـد تـفسـره أرسطـيـة ابـن خـلـدون وعـمق اطـلاعـه على التـراث الفـلسفـي. صحيحٌ أنـه نحـا في تحليلـه السـياسـة والـدولـة منـحًـى وضـعانـيـاً، نـائـيـاً بنفسـه، عـن أي نظـر معيـاري إليها؛ وصحيحٌ أن تحليـلـه كان واقـعيـاً تـناول الـدولـة في واقعـهـا القائـم ولم يـنـزلـق إلى التـأمـل التـجريـدي، لكن ذلك كـلـه ما كان ليـتـأتـى لابـن خـلدون لولا رياضـة تـفـكـيره على الـنـظـر الفلسـفي. آي ذلك اقـتـداره على إنتـاج ما لا حصـر لـه من المفاهيـم الـدائـرة على تحليل الاجتـماع السياسـي العـربي - وأخـص سمات الفلسـفـة أنـها تـنـتج المفاهيـم كمـا يقـول جـيل دولـوز-؛ فضـلاً عن أن إبـداع عـلم جديد، إبانـئـذ، هـو علـم العمـران، ما كان يمكن أن يكـون متاحـاً له لـولا تلك الـذخيـرة الغنـيـة من المعـرفـة الفلسفـيـة التي احـتـازها وأحـسـن إعـمالـها في النـظر إلى الاجـتـماع والسـياسـة مـعـاً.
المصدر: لجريدة عمان
إقرأ أيضاً:
متحدث الخارجية لـ فوربس: السياسة الخارجية المصرية تستند لمعايير أخلاقية وقانونية
كشف المتحدث الرسمي باسم وزارة الخارجية السفير تميم خلاف، في حوار شامل مع مجلة "فوربس"، ملامح توجهات مصر الدبلوماسية في مرحلة إعادة تشكيل المشهد الجيوسياسي، مستعرضا عقيدة السياسة الخارجية المصرية والمبادئ الحاكمة لتفاعلها مع الأزمات في الإقليم، وتفعيل الدبلوماسية الاقتصادية والتجارية كأحد المحاور الرئيسية فى السياسية الخارجية المصرية.
وحول السياسة الخارجية والجغرافيا السياسية في ظل حالة عدم الاستقرار الإقليمي، أوضح السفير تميم خلاف أن عقيدة السياسة الخارجية المصرية تستند إلى معايير أخلاقية وقانونية ثابتة لا تحيد عنها الدولة.
وأشار الى السياسة الخارجية المتعددة الأبعاد التي تتبناها مصر وترتكز على أولوية وقف إطلاق النار الفوري، وضمان تدفق المساعدات الإنسانية الحيوية إلى الفلسطينيين في غزة، إلى جانب حملة دبلوماسية عالمية تهدف إلى حشد الدعم الدولي لإقامة دولة فلسطينية، بالاضافة إلى الخطة التفصيلية المتعددة المراحل للتعافي المبكر وإعادة التأهيل وإعادة الإعمار في غزة، التي وضعتها مصر.
وخلاف على أن الاستراتيجية المصرية طويلة الأجل للسلام المستدام؛ تقوم على مجموعة من المبادئ الثابتة، تشمل دعم مؤسسات الدولة، واحترام سيادة الدول، والالتزام بالقانون الدولي، وتعزيز النظام الدولي القائم على القواعد، وتمكين الدولة القومية.
وأضاف أنه "في كل بؤرة توتر إقليمية أو دولية، سواء في ليبيا أو السودان أو لبنان أو سوريا أو غزة أو أوكرانيا؛ فإن سياستنا تتوافق تماماً مع هذه المبادئ".
وفيما يتعلق بالدبلوماسية الاقتصادية التي تحولت إلى ركيزة محورية في السياسة الخارجية المصرية، خصوصاً في جذب الاستثمار الأجنبي المباشر ودعم موقع مصر كمركز أعمال إقليمي، أشار خلاف إلى أن البعثات الدبلوماسية المصرية تعمل على توضيح الإصلاحات الاقتصادية وتحسين مناخ الأعمال للمستثمرين والحكومات ومجتمعات الأعمال، مع تسليط الضوء على القطاعات ذات الأولوية والفرص الواعدة.
ونوه بدعم وزارة الخارجية لجهود تشجيع الصادرات وتعزيز مشاركة مصر في المحافل التجارية الدولية، إلى جانب توسيع التعاون مع شبكات الأعمال المصرية والأجنبية؛ مؤكدا أن وزير الخارجية الدكتور بدر عبد العاطي يحرص - خلال زياراته الخارجية - على عقد منتديات اقتصادية لبناء شراكات أوسع وتشجيع التعاون بين الشركات.
وفي معرض تأكيده على الاهتمام الذي توجهه مصر نحو الأسواق التي توفر أعلى إمكانات لتوسيع التجارة والاستثمار الأجنبي المباشر، وتشمل أوروبا وآسيا وإفريقيا، مستفيدة من موقعها الاستراتيجي ودور قناة السويس كأقصر وأكفأ طريق ملاحي عالمي، إضافة إلى قربها من الأسواق الناشئة في إفريقيا والشرق الأوسط.. قال المتحدث باسم وزارة الخارجية "نعمل على تعزيز التعاون مع الشركاء الرئيسيين في القطاعات ذات الأولوية مثل الذكاء الاصطناعي والصناعات الثقيلة والطاقة والإنتاجية الزراعية لجذب استثمارات أجنبية مباشرة عالية القيمة ودعم النمو الاقتصادي طويل الأجل".
وفيما يخص تعزيز مصر لشراكاتها مع التكتلات الدولية الكبرى، بما في ذلك الاتحاد الأوروبي ودول مجلس التعاون الخليجي والدول الإفريقية ومجموعة "بريكس"، أشار السفير خلاف إلى أن العلاقات مع الاتحاد الأوروبي شهدت تطوراً غير مسبوقاً خلال العامين الأخيرين؛ بدءاً من رفع مستوى الشراكة إلى علاقة شاملة واستراتيجية في مارس 2024؛ وصولاً إلى عقد القمة المصرية الأوروبية الأولى في بروكسل في أكتوبر 2025.
وأوضح أن هذه الخطوات تعكس التزاماً مشتركاً بتعزيز التجارة والاستثمار وتوسيع التعاون في قضايا المياه والهجرة والتنقل والأمن والتنمية البشرية.
وتناول السفير تميم خلاف العلاقات مع دول مجلس التعاون الخليجي؛ حيث تعمل القاهرة - بشكل وثيق - مع شركائها في الخليج لتعزيز التعاون في مجالات الاستثمار والتجارة والطاقة والبنية التحتية.. مشيرا إلى أن منتدى التجارة والاستثمار الذي استضافته القاهرة مؤخراً؛ يؤكد تنامي هذه الشراكة وتعميق الروابط بين مجتمع الأعمال في الجانبين.
وبالنسبة للعلاقات مع إفريقيا التي تحظى بأهمية خاصة في السياسة الخارجية المصرية.. شدد السفير خلاف على أن القاهرة تشجع الشركات المصرية على تعزيز استثماراتها في القارة عبر مختلف القطاعات، لافتاً إلى أن وزير الخارجية زار أكثر من 25 دولة إفريقية خلال الأشهر الـ 18 الماضية؛ بما يعكس الأولوية التي توليها مصر لهذه العلاقات.
وتطرق متحدث الخارجية إلى جهود مصر لزيادة حجم التبادل التجاري وجذب مزيد من الاستثمارات من دول "بريكس"، بعد انضمامها للمجموعة؛ حيث أكد أن التعاون يتوسع في مجالات تشمل التكنولوجيا والتنمية الصناعية والتحول الرقمي وبناء القدرات، في إطار دعم أجندة التعاون بين بلدان الجنوب.
من ناحية أخرى، شدد "خلاف" على أهمية الاستثمار في إعداد جيل جديد من الدبلوماسيين المصريين المجهزين بمهارات اتصال متقدمة تتناسب مع عالم سريع التطور، لافتًا إلى أن الكوادر الدبلوماسية الجديدة تسهم بفاعلية في الدبلوماسية العامة، مستفيدة من خبراتها في الاتصال الرقمي ومنصات التفاعل الحديثة.
ووصف السفير، هذا الجيل بأنه "واثق، ويتمتع بعقلية عالمية، ومتجذر في الهوية المصرية، ولديه دافع قوي لخدمة البلاد والدفاع عن مصالحها على الساحة الدولية".
وأبرزت "فوربس" - في ختام الحوار - المناصب التي شغلها السفير تميم خلاف الذى تولى منصب المتحدث الرسمي باسم وزارة الخارجية والمشرف على إدارة الدبلوماسية العامة في سبتمبر 2024، مضيفة أن السفير خلاف يتمتع بخبرة تمتد إلى 24 عاماً في وزارة الخارجية المصرية، وسبق وأن انتدب برئاسة الجمهورية لمدة عامين.
وشغل منصب نائب مساعد وزير الخارجية للشئون الأمريكية، وتضمنت مهامه السابقة العمل في سفارة مصر في واشنطن العاصمة، والبعثة الدائمة لدى الأمم المتحدة في جنيف، والسفارة المصرية في البرازيل.
وفي سن الـ 33، اختير خلاف عام 2011 ضمن قائمة القادة العالميين الشباب لدى المنتدى الاقتصاد