مهما كانت المنطلقات النظرية التي انطلق منها (بوشي هيرو فرانسيس فوكو ياما) في كتابه الموسوم :(نهاية التاريخ- والإنسان الأخير) الذي صدر عام 1992، ذهب فيه إلى أن انتشار الديمقراطيات الليبرالية والرأسمالية والسوق الحرة في العالم قد يشير إلى نقطة نهاية التطور الاجتماعي والثقافي والسياسي للإنسان، هذا الكتاب أحدث من ردود الأفعال ما أحدث شأنه شأن كل نظرية أو كتاب تتناول أو يتناول موضوعاً حساساً مضمونه العام الادعاء بانتهاء التاريخ أي انتهاء الحياة! وأن النظرية الرأسمالية هي نقطة النهاية المزعومة، ولست هنا في معرض المناقشة النقدية لهذه النظرية لأن مساحة يومية كهذه لا تسمح بذلك وفي هذا الحيز أقول:
فوكو ياما وقع كما وقع غيره من الكتاب والمنظرين في مأزق ادعاء امتلاك الحقيقة المطلقة وهذه الدعوى وباء يصيب كل متعصب لفكر أو نظرية أو دين أو مذهب، وهي دعوى لا يكمن بطلانها في مجرد الادعاء النظري للأفكار والعقائد وإنما في ما تؤدي إليه من تعصب قاتل يدفع بعض المتعصبين المتهورين إلى اتخاذ النظريات والأفكار والعقائد أصناما يحشد ويجند لها الطاقات الفردية والاجتماعية مدعومة بالسلطة بما تمتلكه من أدوات إلزام مادية ومعنوية قد تستخدم في إزهاق الأرواح وسفك الدماء دفاعاً عنها وقمع الآراء المخالفة والناقدة لها وتخوين وتكفير أصحابها والزج بهم في السجون والتضييق عليهم حد ملاحقتهم في المنافي وأماكن اللجوء وأحياناً كثيرة تصفيتهم جسدياً والأمثلة على ذلك كثيرة من الشرق والغرب، أبرزها في العصر الحديث ما قام به هتلر وستالين وموسو ليني ضد معارضيهم، ومحاكم التفتيش المسيحية في أوروبا، وما صنعته المنظمات الإرهابية التي رفعت وترفع شعارات الإسلام السياسي، ومن طبائع المستبد فردا كان أم آيديولوجيا استخدام السلطة في قمع أصحاب الرأي المخالف ومحاولة تعطيل منظمات المجتمع المدني أو توظيفها في الاتجاه الخطأ، وغالبا ما يكون القمع باسم المجتمع والمصلحة العليا أو العامة التي يحتكر المستبدون ادعاء تمثيلها ليكتشف ولو بعد حين أن الناقد أو صاحب الرأي المخالف هو الأقرب للحقيقة والصواب وفق المعايير المتغيرة بتغير الأوضاع والأحوال في الزمان والمكان لأن الحياة في حالة صيرورة وحركة مستمرة وبتدافع الآراء وتجاذبها وتساندها تنتعش الحياة وتتجدد، ( وَلَوْلاَ دَفْعُ اللّهِ النَّاسَ بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لَّفَسَدَتِ الأَرْضُ ) والاستبداد دائما مناقض لإعمال العقل، ووفقا لقانون الصيرورة فإن تحصيل الإنسان العلمي في كل مرحلة عمرية تنطبق عليه الحكمة القرآنية الداعية للتواضع والاقرار بالحاجة المستمرة لزيادة التحصيل العلمي والمعرفي (وَمَا أُوتِيتُم مِّن الْعِلْمِ إِلاَّ قَلِيلاً)، وطبقاً لاستمرارية الحياة وسعة عمر الكون فإن الغيب أوسع من أن يحاط به (قُل لَّوْ كَانَ الْبَحْرُ مِدَادًا لِّكَلِمَاتِ رَبِّي لَنَفِدَ الْبَحْرُ قَبْلَ أَن تَنفَدَ كَلِمَاتُ رَبِّي وَلَوْ جِئْنَا بِمِثْلِهِ مَدَدًا) وكل بني البشر متساوون في التكوين مختلفين في قدراتهم العقلية وبهذا يثمر التفاعل بينهم بالحرص على الإحسان وتوخي إجادة العمل (قلْ إِنَّمَا أَنَا بَشَرٌ مِّثْلُكُمْ يُوحَى إِلَيَّ أَنَّمَا إِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ فَمَن كَانَ يَرْجُو لِقَاء رَبِّهِ فَلْيَعْمَلْ عَمَلًا صَالِحًا وَلَا يُشْرِكْ بِعِبَادَةِ رَبِّهِ أَحَدًا).
إن الدعوة إلى الحرية في الاختيار وإعمال العقل من أجل البحث عن الحقيقة تكمن في عدم الشرك بالله بتقديس غيره والأنبياء حكمهم حكم البشر لا يجوز إشراكهم مع الله، (قلْ إِنَّمَا أَنَا بَشَرٌ مِّثْلُكُمْ)، وبعض المستبدين يمارسون الشرك معتقدين أنهم يمارسون الايمان، لأن عملهم يناقض التوحيد القائم على حرية الاختيار، ولا يدركون أهمية إبقاء باب الاجتهاد مفتوحاً في الإسلام لبقاء البيئة العلمية حية، ومن المؤسف أن بعض من يتشدق باسم العلمانية يسمي الاجتهاد في التأويل “ترقيع” متجاهلاً كون الترقيع جزءاً من الحياة، والتعصب باسم الدين والعلم سواء!.
الحرية المسؤولة هي منطلق التجديد والبحث المستمر عن الحقيقة والحكمة الضالة أو المفقودة، وكل دعوى بامتلاكها والسعي لإيقاف عجلة التاريخ أو إعادتها إلى الوراء عمل تخريبي مرفوض لأنه ضد سنن الكون ومنطق الحياة!.
بالبساطة الممكنة كل محطة أو مرحلة تاريخية بداية لتاريخ جديد غير منقطعة ولا منفصلة عن بقية حلقاته الزمكانية، ولدت من رحم الماضي وستنضم إليه في يوم من الأيام مفسحة المجال لبداية جديدة شأنها شأن كل النظريات والأفكار والفرضيات التي استفاد منها الناس في أوقاتها وظروفها أو تضرروا منها، وبمرور الزمن تجاوزوها أو أضافوا إليها فلكل زمان ومكان ظروفهما التي تتغير بتغير الأحوال والثقافات ومستوى الإبداع وتقلب الأوضاع السياسية والاجتماعية والاقتصادية الفكرية. إن التعامل مع الأفكار بمنطق التقديس شكل من أشكال عبادة الأصنام تفوق عبادة الأصنام المادية لأنها تعطل الإنسان من داخله وتحول الناس إلى قطعان يعبدون الفراغ وتسيرهم آلهة من لحم ودم.
المصدر: الثورة نت
إقرأ أيضاً:
سلامة داود: بلاغة النبي صلى الله عليه وسلم تكشف عن أسرار دقيقة في إسناد الأفعال بين الحقيقة والمجاز
قال الدكتور سلامة داود، رئيس جامعة الأزهر الشريف، إن التدبر في أساليب النبي صلى الله عليه وسلم وكلامه الشريف يكشف عن دقائق ولطائف بلاغية ومعانٍ عميقة، تجمع بين البيان والإعجاز، وتفتح أمام الباحثين أبوابًا واسعة للتأمل في العلاقة بين اللغة والشرع والمعنى.
وأوضح الدكتور سلامة، خلال حلقة برنامج "بلاغة القرآن والسنة"، اليوم السبت، أن قول النبي صلى الله عليه وسلم: «إذا رأيتم من يبيع أو يبتاع في المسجد فقولوا لا أربح الله تجارتك، وإذا رأيتم من ينشد الضالة فيه فقولوا لا رد الله عليك»، يحمل دقة بالغة في اختيار الألفاظ، فالنبي صلى الله عليه وسلم قال: «لا أربح الله تجارتك»، فجعل فعل "أربح" مسندًا إلى فاعله الحقيقي وهو الله سبحانه وتعالى، بينما في قوله تعالى: «فما ربحت تجارتهم وما كانوا مهتدين» أُسند الفعل مجازًا إلى التجارة نفسها، مع أن الذي يخلق الربح في الحقيقة هو الله تعالى.
وأضاف أن هذا التفاوت في الأسلوب بين الآية والحديث الشريف يحمل أسرارًا بلاغية عظيمة؛ ففي الآية جاء الإسناد المجازي لتدل على أن التجارة سبب من أسباب الربح في العادة، بينما جاء في الحديث الإسناد الحقيقي إلى الله جل جلاله ليدل على أن من باع واشترى في المسجد فقد وضع تجارته في غير موضعها، وأن الله سبحانه وتعالى هو الذي يتولى بنفسه كسادها وعدم ربحها.
وبيّن رئيس جامعة الأزهر أن هذا التمييز بين الإسناد الحقيقي والمجازي يحتاج إلى بصيرة وتأنٍّ من العلماء والدارسين، لأن النظر في الأساليب التي وردت في القرآن الكريم ونظائرها في كلام النبي صلى الله عليه وسلم يفتح بابًا واسعًا من المعرفة البلاغية والدينية، ويكشف سرّ اختيار اللفظ وسياقه ومناسبته للمقام، وهو كنز من كنوز العلم ينبغي التوقف عنده والبحث فيه بعمق وتأمل.
وأشار الدكتور سلامة داود إلى أن من لطائف الأسلوب النبوي أيضًا ما جاء في قوله صلى الله عليه وسلم: «من أطعمه الله الطعام فليقل اللهم بارك لنا فيه وأطعمنا خيرًا منه، ومن سقاه الله لبنًا فليقل اللهم بارك لنا فيه وزدنا منه»، ففي هذا الحديث نلحظ أن النبي صلى الله عليه وسلم لم يقل "من أكل طعامًا أو شرب لبنًا"، بل قال «من أطعمه الله» و«من سقاه الله»، ليغرس في النفس أن كل نعمة، مهما صغرت، هي من عند الله وحده.
وأكد رئيس جامعة الأزهر، أن النبي صلى الله عليه وسلم أراد بهذا الأسلوب أن يعلّم الأمة أدبًا راقيًا في استحضار المنعم سبحانه في كل لحظة من لحظات الحياة، وأن يربط العبد بخالقه في طعامه وشرابه ومعيشته كلها، حتى يدرك أن الفضل لله وحده، وأن كل ما يجري في الكون إنما هو بقدرته وتوفيقه جل جلاله.