الجزيرة:
2025-10-19@00:48:53 GMT

نظرية المؤامرة.. استغراب يفصل بين الحقيقة والخرافة

تاريخ النشر: 19th, October 2025 GMT

فمن اغتيال كينيدي إلى أحداث الـ11 سبتمبر/أيلول، وصولا إلى جائحة كورونا، يتكرر التفسير ذاته بصيغ مختلفة، مما يطرح تساؤلا محوريا: هل نعيش حقا في عالم من المؤامرات، أم أن الأمر تضخم أكثر مما ينبغي؟

تناولت حلقة (2025/10/18) من برنامج "استغراب" -يمكن متابعتها كاملة من خلال هذا الرابط– مفهوم المؤامرة ونظرية المؤامرة، في محاولة لرسم خط فاصل بين الحقيقة والخرافة، معتمدة على تعريفات فلسفية وأمثلة تاريخية وأبحاث نفسية.

اقرأ أيضا list of 4 itemslist 1 of 4نظرية المؤامرة.. سيكولوجيا الوَهْم الذي يلاحق الضعفاء والمهزومينlist 2 of 4نظرية المؤامرة.. كيف ساهمت في تأخر العرب والمسلمين؟list 3 of 4نظرية المؤامرة.. هي مؤامرة بذاتهاlist 4 of 4"مفارقة الشفافية".. هل تزيد ثقة الناس في العلم عبر الكذب؟end of list

وتشير الحلقة إلى أن كلمة "المؤامرة" ليست مفهوما جديدا، فهي موجودة في القواميس منذ مئات السنين وتعني تخطيطا سريا غير قانوني لتحقيق هدف معين، لكن حين تضاف كلمة "نظرية" يصبح الأمر أخطر وأوسع نطاقا، إذ تتحول إلى عدسة تُرى من خلالها كل أحداث التاريخ على أنها مخططات سرية.

ويعرّف الفيلسوف النمساوي البريطاني كارل بوبر، أحد أبرز من ناقشوا هذه الفكرة في القرن العشرين، نظرية المؤامرة بأنها "الاعتقاد الخاطئ بأن الظواهر الاجتماعية الكبرى يمكن فهمها على أنها نتيجة تصميم من فاعلين متآمرين وليست تفاعلات معقدة أكثر".

وهو ما يعني -حسب هذا التصور- أن المؤامرة الحقيقية قد تكون موجودة ومثبتة بالأدلة، بينما نظرية المؤامرة هي عقلية ترى كل حدث كبير أو صغير مؤامرة.

وتستعرض الحلقة نماذج من مؤامرات حقيقية مثبتة بالأدلة، أبرزها فضيحة ووترغيت في سبعينيات القرن الماضي، حين اقتحم عملاء من الحزب الجمهوري مقر الحزب الديمقراطي وسرقوا وثائق مهمة.

وتم التستر على الأمر من البيت الأبيض قبل أن يكشفه صحفيان من صحيفة واشنطن بوست، ما أدى لمحاكمات واضطر الرئيس ريتشارد نيكسون للاستقالة عام 1974.

مثال صادم

ومن الأمثلة الصادمة أيضا "مؤامرة توسكيجي" التي امتدت من 1932 إلى 1972، حين أجرت خدمة الصحة العامة الأميركية تجربة على مئات الرجال السود المصابين بمرض الزهري، وأوهمتهم بتلقي العلاج بينما حُرموا منه حتى بعد اكتشاف البنسلين.

إعلان

وأدى ذلك لوفاة المئات وانتقال المرض لعائلاتهم، قبل أن تنكشف الفضيحة بعد 40 عاما وتستدعي اعتذارا رسميا من الرئيس بيل كلينتون عام 1997.

وتتطرق الحلقة أيضا إلى "عملية نورث وودز" عام 1962، وهي وثيقة أميركية تقترح تنفيذ هجمات وهمية ضد مدنيين أميركيين لإلصاق التهمة بكوبا وتبرير غزوها.

ورغم أن الخطة لم تُنفذ، لكن كُشفت الوثائق عام 1997، كما تشير إلى فضيحة الدم الملوث في فرنسا خلال الثمانينيات، حين استمرت مراكز نقل الدم باستخدام دم ملوث بفيروس الإيدز رغم علمها بذلك، ما أصاب آلاف المرضى بالفيروس قبل أن تنكشف القصة وتجري محاكمات للمسؤولين.

وتنتقل الحلقة لاستعراض نماذج من نظريات المؤامرة التي ثبت زيفها لكنها ما زالت حية، أبرزها "بروتوكولات حكماء صهيون"، الوثيقة التي ظهرت في روسيا القيصرية عام 1903 وزعمت أنها محاضر سرية لاجتماع زعماء يهود يخططون للسيطرة على العالم.

وانتشرت هذه الوثيقة بسرعة خاصة في أوقات التوترات السياسية والثورات، قبل أن تكشف صحيفة التايمز البريطانية عام 1921 أنها مزيفة ومأخوذة من عمل ساخر فرنسي قديم.

ويشير الباحث الدكتور عبد الوهاب المسيري، بعد 25 عاما من البحث في الفكر اليهودي، إلى أن البروتوكولات خرافة وأخطر ما فيها أنها تعفي الإنسان من مواجهة مشاكله الحقيقية بإلقاء اللوم على عدو غامض، كما أنها تضخم حجم الكيان الإسرائيلي وتصوره على أنه يدير العالم، ورغم انكشاف زيفها منذ قرن، فإنها ما زالت حية.

الفكر التنويري

أما "المتنورون" أو "الألومناتي"، فهي أشهر كلمة مرتبطة بنظريات المؤامرة، وبدأت القصة عام 1776 في جنوب ألمانيا حين أسس أستاذ القانون آدم فايسهاوبت جمعية سرية صغيرة هدفها مقاومة سلطة الكنيسة ونشر الفكر التنويري.

لكنّ رجل دين مسيحيا ادعى أنها وراء الثورة الفرنسية، ومع مرور الوقت صار أي حدث كبير يُربط بهذا الاسم، رغم أن الحقيقة الوحيدة الواضحة أن الجمعية انتهت قبل 200 عام، والموجود اليوم مجرد رمز تُسقط عليه أحداث مجهولة.

وتطرح الحلقة تساؤلا محوريا: لماذا يصدق الناس نظريات المؤامرة رغم عدم صحتها؟ وتجيب بأن الأمر ليس قلة عقل أو سذاجة، بل له دوافع نفسية مدعومة بأبحاث واسعة.

أول تلك الدوافع معرفي، حيث يحتاج الإنسان لنموذج تفسيري واضح عند مواجهة التعقيد، وثانيها وجودي؛ يجعله يبحث عن تفسير يُطمئنه ويجعل العالم منطقيا، وثالثها اجتماعي، يمنحه شعورا بالانتماء لقلة تعرف الحقيقة.

وتشير الحلقة إلى أن العصر الرقمي ضاعف تأثير نظريات المؤامرة بدلا من تقليله، خاصة مع ظهور الذكاء الاصطناعي القادر على إنتاج تسجيلات مزيفة مقنعة.

وتستشهد بإحصائية من عام 2013 تظهر أن 4% من الأميركيين، أي أكثر من 12 مليون شخص، يصدقون أن زواحف متنكرة تتحكم بالعالم، ما يوضح إلى أين يمكن أن تصل هذه النظريات بالأشخاص.

وتحذر الحلقة من عواقب تصديق نظريات المؤامرة، مستشهدة بحادثة "بيتزا غيت" عام 2016 حين اقتحم شخص مسلح مطعما في واشنطن معتقدا وجود شبكة تجارة أطفال فيه، قبل أن يتضح عدم وجود أي دليل.

كما تشير إلى خطورة الخلط بين الحقيقة والتزييف لأنه يضيع المسؤولية ويزرع الانهزامية ويفقد الثقة بالمؤسسات والعلم، كما حدث مع رفض اللقاحات خلال جائحة كورونا.

إعلان Published On 18/10/202518/10/2025|آخر تحديث: 23:18 (توقيت مكة)آخر تحديث: 23:18 (توقيت مكة)انقر هنا للمشاركة على وسائل التواصل الاجتماعيshare2

شارِكْ

facebooktwitterwhatsappcopylink

حفظ

المصدر: الجزيرة

كلمات دلالية: غوث حريات دراسات نظریات المؤامرة نظریة المؤامرة قبل أن

إقرأ أيضاً:

الرواية والتاريخ... تعدد في السرد واختلاف في الحقيقة!

استطلاع ـ فيصل بن سعيد العلوي

تبدو العلاقة بين الأدب والتاريخ واحدة من أكثر الثنائيات التباسا في الوعي الثقافي العربي؛ إذ يتجاور فيها التوثيق بالخيال والعلم بالسرد، والذاكرة بالوجدان. فالتاريخ في بعده الأكاديمي يسعى إلى الحقيقة من خلال الوثائق والشواهد أو الدلائل بينما تميل الرواية إلى إعادة تأويل الحدث الإنساني بما يتجاوز حدود الزمن والمكان. ومن هذا التماس بين الرواية والتاريخ يعود للواجهة سؤال متجدد مع كل نتاج: هل يمكن للأدب أن يكون مصدرا من مصادر المعرفة التاريخية، أم أن مهمته تقتصر على إعادة تشكيل الماضي برؤية فنية تخيلية؟ في هذا الاستطلاع تتعدد الرؤى وقد تتقاطع أحيانا بين مؤرخين وروائيين من العالم العربي؛ حيث تقدم الدكتورة حياة قطاط القرمازي قراءة علمية تؤكد استقلالية التاريخ ومنهجه الصارم بينما يرى ممدوح أبارو أن الرواية والتاريخ يتبادلان الأدوار في فهم الإنسان لماضيه. ويذهب الدكتور علي عفيفي إلى أن الوعي بالحقيقة هو ما يجمع بين المؤرخ والروائي رغم اختلاف أدواتهما في حين يعيد عبدالله مكسور الاعتبار للأصوات المهمّشة التي لم يوثّقها المؤرخون بينما تنهي الدكتورة نورة فرج الجدل مؤكدة أن الكتابة ضدّ اليقين المطلق هي السبيل لإحياء التاريخ في الوجدان وليس في الأرشيف.

بداية تقول الباحثة التونسية الدكتورة حياة قطاط القرمازي أستاذة التاريخ والانثروبولوجيا إنها تُقدّر الأدب ودوره في تقريب التاريخ إلى الوعي العام، لكنها تختلف مع القول إنّ الرواية التاريخية يمكن أن تُعدّ مصدرا للتاريخ مؤكدة أنّها تُعين المؤرخ وتساعده، لكنها ليست في ذاتها مصدرا من مصادر التوثيق التاريخي.

وقالت «القرمازي»: الرواية شأنها شأن العلوم المساعدة للتاريخ مثل الأنثروبولوجيا والسوسيولوجيا؛ ترفد المؤرخ برؤية إضافية لفهم المجتمع والإنسان، لكنها لا تقوم مقام الوثيقة ولا تحلّ محلّ الأثر. واستعادت قول ابن خلدون الذي يردده المؤرخون دائما: «التاريخ في ظاهره إخبار، وفي باطنه نظر وتحقيق» مشيرة إلى أن هذه المقولة تضع الأساس المنهجي لكل بحث تاريخي علمي يقوم على التدقيق والمقارنة وقراءة الحيثيات بتأنٍ، لا على الانفعال، ولا على إعادة البناء الخيالي.

وأوضحت أنّ المؤرخ حين يدرس ظاهرة تاريخية أو حقبة محددة لا يكتفي بالنصوص المكتوبة، بل يعود إلى القراءات المتقاطعة بين الوثائق والشواهد الأثرية والمرويات الشفوية مستندا إلى منهج دقيق في التحليل والنقد. وضربت الباحثة مثالا من تجربتها في دراسة الفترة الانتقالية بين نهاية العهد الجلولي وبداية الدولة العثمانية؛ حيث استخدمت منهجا وصفته بـ«المنهج الرجعي» أو المنهج الرتروسبيكي الذي يقوم على قراءة المصادر اللاحقة للحدث من أجل استنباط الحقائق المتعلقة به مشيرة إلى أنّ هذا النوع من البحث يتطلب توظيف المصادر المتنوعة من الشعر الجاهلي إلى النصوص الدينية، ومن النقوش إلى الوثائق التجارية؛ لفهم الصورة الكاملة مؤكدة أنه لا يمكن للمؤرخ أن يعتمد على نص واحد مهما كان أدبيا أو جماليا؛ لأنّ التاريخ يحتاج إلى توثيق متكامل تتقاطع فيه المصادر، أما الرواية فهي تقوم على انتقاء زوايا محددة، وتعبّر في جوهرها عن رؤية مؤلفها الذاتية.

وأشارت الأكاديمية إلى أنّ الرواية التاريخية رغم بعدها الجمالي يمكن أن تكون مفيدة للمؤرخ في بعض الجوانب الوصفية والاجتماعية، مثل استحضار مفردات اللغة اليومية أو ملامح البيئة التي كُتبت فيها الرواية؛ فهي بذلك تعكس روح العصر الذي كُتبت فيه أكثر مما تعكس العصر الذي تتحدث عنه.

وقالت الباحثة التونسية الدكتورة حياة قطاط القرمازي: الرواية تعبّر عن وعي زمن كتابتها لا عن زمن أحداثها؛ ولذلك يمكن قراءتها كونها مرجعا ثقافيا لا وثيقة تاريخية. فالقيمة ليست «تاريخية» بالمعنى الدقيق، بل أنثروبولوجية وثقافية تساعد على بناء تصور أشمل للعصر. فالمؤرخ في نهاية المطاف يعمل ضمن منهجٍ علميٍ صارم لا يسمح له بالاستغراق في الخيال أو الذاتية بينما يمتلك الروائي حرية التعبير والتأويل. ومع ذلك فالتاريخ والأدب يلتقيان في خدمة الوعي الإنساني؛ فالأول يسعى إلى الحقيقة عبر التوثيق، والثاني يسعى إليها عبر التخييل، وكلاهما يسهم في فهم الإنسان لتاريخه، لكن يجب أن يبقى لكل منهما مجاله وحدوده.

عملية تبادل أدوار

من جانبه يرى الروائي والكاتب في التاريخ ممدوح أبارو أن العلاقة بين الرواية والتاريخ لا يمكن اختزالها في حدود التوثيق أو الخيال، بل هي تبادل في الأدوار والمعاني؛ فالتاريخ حين يُروى يصبح «مغامرة سردية استقبالية» لا مجرد وقائع جامدة، بل عملية تحويل مستمرة للواقع والماضي إلى حكاية تُروى وتُستعاد. ويؤكد أن الرواية التاريخية تمثل الوجه الآخر للتاريخ؛ لأنها تتعامل مع ما كان يمكن أن يحدث، لا مع ما حدث فقط.

ويشير إلى أن هذا التداخل بين السرد والتاريخ هو ما جعل النقاد يتساءلون عمّا إذا كان التاريخ نوعا من الأدب، والعكس مستشهدا بمقولة رمزية مفادها أن «الرواية تاريخ كان يمكن أن يقع بينما التاريخ رواية وقعت بالفعل». ويرى أن هذا الفهم يعيد الاعتبار للخيال؛ كونه شريكا في صياغة الوعي الإنساني بالتاريخ؛ لأن السرد ـ سواء أكان أدبيا أم تأريخيا ـ هو في جوهره إعادة بناء للحدث من وجهة نظر الراوي.

ويستعرض «أبارو» مسار الرواية التاريخية منذ بداياتها الأوروبية مع والتر سكوت وألكسندر دوماس وفيكتور هوغو إلى نماذجها العربية مع فرح أنطون وسليم بطرس وجرجي زيدان وصولا إلى جيل نجيب محفوظ ورضوى عاشور وكتّاب معاصرين مثل نورة فرج وعبدالله مكسور؛ ليرى أن هذا الامتداد الزمني يثبت أن التاريخ ظلّ ملهِم الرواية ومادتها الأولى. ويؤكد أن الرواية المعاصرة في العالم العربي لم تعد مجرد استعادة للماضي، بل أصبحت صناعة معرفية قائمة على البحث والتمحيص والتجريب، وأن الروائي الحديث بات يقترب في أدواته من الباحث والمؤرخ، من حيث العودة إلى المصادر، وزيارة الأمكنة، واستنطاق الوثائق، ولكن مع بقاء الخيال «الطاقة التي تحيي النص وتمنحه روحه».

ويتساءل عن إمكانية اعتبار الرواية التاريخية مصدرا من مصادر التاريخ معتبرا أن هذا السؤال «يفتح مساحة التفكير في حدود كل من الأدب والتاريخ»، وأن كليهما يسعى ـ وإن بطرائق متعددة ـ إلى فهم الإنسان في علاقته بالماضي كما يرى أن المؤرخ يدوّن الوقائع الكبرى التي صنعتها النخب والسلطة بينما يلتقط الروائي القصص الصغيرة والهوامش التي تكشف نبض الحياة اليومية.

وشدد الكاتب ممدوح أبارو على أن الرواية التاريخية ليست ضربا من الخيال الحرّ، بل هي بنية معرفية تستند إلى تأمل التاريخ، وأنها تتيح للكاتب أن يطرح الأسئلة التي لا يجرؤ المؤرخ على طرحها؛ لأنها لا تُقاس بميزان الصواب والخطأ، بل بميزان الصدق الإنساني والتعبير الفني، وأن من مهمات الرواية التاريخية اليوم أن تعيد إلى التاريخ صوته الإنساني، وأن تذكّرنا بأن خلف الوثائق وقائع منسية وحكايات لم تُروَ بعد؛ فهي ـ أي الرواية التاريخية ـ أصبحت في زمننا المعاصر شكلا من أشكال المقاومة ضد النسيان، وضد احتكار السرد من قبل السلطة أو المؤرخ الواحد؛ لأنها تفتح المجال لتعدد الروايات وتداخل الأزمنة، وتمنح القارئ فرصة أن يقرأ التاريخ «بعيون البشر لا بعين الحاكم.

وعي بالحقيقة

يؤكد الباحث في التاريخ والآثار المصرية والإسلامية الدكتور علي عفيفي أن العلاقة بين المؤرخ والروائي هي علاقة تكامل واختلاف في آن واحد؛ فكلٌّ منهما يتعامل مع الماضي من زاوية مختلفة وبأدوات مغايرة؛ حيث إن هناك مفهومين جوهريين في هذا السياق رواية التاريخ والرواية التاريخية. فرواية التاريخ ـ كما يوضح ـ هي عمل المؤرخ الذي يعود إلى الماضي بسؤال إشكالي نابع من الحاضر محاولا الإجابة عنه في ضوء الوثائق والمعطيات المتاحة ساعيا إلى الوصول إلى الحقيقة التاريخية النسبية؛ إذ لا وجود لحقيقة مطلقة في التاريخ؛ فهي تتغير بتغير الوثائق وزوايا النظر. أما «الرواية التاريخية» فهي عمل الروائي الذي يعود إلى التاريخ، ليس ليصل إلى الحقيقة كما هي، بل ليعيد طرح الأسئلة من خلال بنية سردية تتخذ من الماضي إطارا زمانيا ومكانيا، فتقدم تأملا فنيا في الحدث التاريخي، وتضيء المناطق المعتمة والمسكوت عنها، خصوصا تلك التي تجاهلها المؤرخون التقليديون.

ويشير «عفيفي» إلى أن المؤرخ يكتب برؤية واقعية محكومة بالمنهج والوثيقة والحياد قدر الإمكان بينما يكتب الروائي التاريخ بخياله وذاتيته. فالمؤرخ -كما يؤكد- يحاول أن يجمّد ذاته أثناء الكتابة ملتزما بالمصادر والشواهد والأسانيد في حين أن الروائي لا يستطيع الانفصال عن ذاته، بل يجعلها جزءا من النص حاضرة في اللغة وفي اختيار الأحداث وطريقة بناء الشخصيات؛ لأن الرواية التاريخية بطبيعتها «مزيج من الخيال والذاتي والتاريخي».

ويضيف الباحث أن المؤرخين الكلاسيكيين أمثال الطبري وابن الأثير ركّزوا على تاريخ الملوك والخلفاء في حين أعادت الرواية النظر في هذا المفهوم لتجعل من تاريخ الناس العاديين والشارع والمشاعر الإنسانية محورا أساسيا مستشهدا بروايات نجيب محفوظ التي أرّخت لثورة 1919 من منظور الناس البسطاء، وبرواية «في بيتنا رج» لإحسان عبد القدوس التي مزجت الحدث التاريخي بالعاطفة الفردية، ويرى أن الحقيقة التاريخية في الرواية نسبية دائما؛ لأنها تنبع من زاوية الكاتب وخياله، لكنها مع ذلك «تنتج وعيا بالحقيقة»، وتسهم في نقدها وتأويلها.

وفي المقابل يوضح «عفيفي» أن المؤرخ حين يقترب من السرد الأدبي أو من الحكاية يفقد شيئا من صرامته الأكاديمية؛ ولذلك يؤكد أن ميلاد التاريخ نفسه خرج من رحم الأسطورة، فالأسطورة كانت أول أشكال السرد التاريخي، ومنها نشأت محاولات التوثيق الأولى؛ لذلك فإن التقاطع بين الرواية والتاريخ أمر طبيعي وقديم في آن واحد.

ومن وجهة نظره يرى «عفيفي» أن الرواية التاريخية يمكن أن تكون مصدرا من مصادر التاريخ إذا تم التعامل معها بوعي نقدي، أي إذا جرى تجريدها من ذاتية المؤلف ومن بنيتها السردية، وتحليلها كمرآة للوعي الجمعي أو للعادات الاجتماعية أو لتمثلات الحقبة التي كُتبت فيها، لا لكونها وثيقة لما حدث فعلا. فهي لا تقدم الحقيقة التاريخية المجردة، لكنها تعكس الوعي بها؛ ولهذا فإن قيمتها تكمن في المعرفة الشعورية والثقافية التي تضيفها إلى السرد التاريخي.

ويستشهد الباحث برواية «غُصن أعوج» للكاتب القطري أحمد عبد الملك التي تعود بالقارئ إلى القرن السادس الميلادي، وتتخذ من مدينة إفشنة في بخارى فضاء للأحداث، لتؤكد أن الرواية يمكن أن تضيء لحظات من التاريخ الإسلامي المبكر بعيون فنية لا توثيقية. كما يشير إلى رواية «اسمي أحمر» للروائي التركي أورهان باموق التي تدور في مطلع الألفية الهجرية داخل النقّاشخانة العثمانية، وتكشف الصراع النفسي والفني الذي عاشه النقاشون وهم يرسمون صورة السلطان. ويقول: المؤرخ لا يمكنه أن يلتقط هذه التفاصيل النفسية الدقيقة كما فعل باموق، فهو يسعى إلى الحقيقة بينما يسعى الروائي إلى المعنى. وفي سياق آخر يؤكد أن الأحداث المعاصرة يمكن أن تُعامل تاريخيا متى ما ابتعدنا عنها بمسافة زمنية كافية تسمح بظهور الوثائق وتعدد الرؤى. فما حدث بالأمس يصبح «تاريخا»، لكن لا يمكن للمؤرخ أن يكتبه فورا قبل أن تتضح معالمه بعكس الروائي الذي يستطيع أن يتفاعل معه لحظة وقوعه، ويمنحه بعدا إنسانيا وجماليا.

ويختم الباحث الدكتور علي عفيفي رؤيته بالتأكيد على أن الرواية التاريخية ليست بديلا عن التاريخ، لكنها شريك فاعل في توسيع فهمنا للماضي عبر الأدب؛ لأنها تطرح الأسئلة التي لا يجرؤ المؤرخ على طرحها، وتعيد إلى التاريخ وجهه الإنساني والوجداني، فتحوله من مجرد حكاية عمّا حدث إلى تأملٍ في معنى ما حدث، ومن تسجيل للوقائع إلى وعيٍ بالذاكرة الجمعية التي تصنع هوية الأمم.

إعادة الاعتبار

وحول وجهة نظره يرى الروائي والصحفي عبدالله مكسور أن التاريخ كما نعرفه هو ما «قيل لنا إنه حدث»، أما ما لم يُدوَّن ولم يُروَ رسميا فهو التاريخ الحقيقي الذي ما يزال مجهولا في الذاكرة الإنسانية؛ حيث إن الرواية التاريخية هي محاولة من الأدب لفهم هذا الغياب، واستعادة أصوات الذين غُيِّبوا عن السرد الرسمي. فالأدب يحاول أن يفهم الحدث التاريخي ويعيد تأثيره على البشر الذين عاشوه بينما يكتفي التاريخ المدوَّن بسرد الأسباب والنتائج والأرقام دون النفاذ إلى جوهر التجربة الإنسانية.

ويؤكد «مكسور» أن المؤرخ يكتب التاريخ بلغة الأرقام والوثائق، فيقول مثلا: «اندلعت الحرب الفلانية، وشارك فيها ثلاثون ألف جندي»، أما الروائي فيختار حكاية واحدة من بين هؤلاء الجنود، ويغوص في تفاصيلها النفسية والاجتماعية ليكشف البعد الإنساني للحرب، وهذا هو ما يميز الرواية التاريخية؛ فهي تشتغل على ما وراء الأسباب على أثر الحدث في الوجدان الفردي والجماعي، وعلى إعادة قراءة الماضي بما يضيء الحاضر.

وحول أخلاقية التاريخ فيقول «مكسور»: المؤرخ يسأل ماذا حدث؟ أما الروائي فيسأل: كيف حدث؟ فالتاريخ يقدّم رواية واحدة للحدث في حين أن الأدب يمنح تعددية الأصوات، ويضرب مثالا على ذلك برواية «ليلة سقوط غرناطة»؛ حيث يواجه الكاتب موقفا معقدا بين صوت المنتصر وصوت المهزوم موضحا أن الروائي الإسباني حين يكتب عن طرد العرب من الأندلس قد يشيطن الآخر ليبرّر لحظة التحرر بينما الروائي العربي يعيد كتابة الحدث من منظور الضحية. وهكذا تحدد زاوية الكاتب وانحيازه الأخلاقي شكل الرواية التاريخية وطبيعتها؛ ففي رواية «عائد إلى حيفا» لغسان كنفاني نموذج للتعامل الإنساني العميق مع التناقضات التاريخية؛ إذ تواجه الأسرة الفلسطينية ابنها الذي تربى في كنف عائلة إسرائيلية بعد تهجيرهم في مفارقة تمثل ذروة الصراع الوجداني بين الانتماء والهوية. كما أن رواية ألمانية بعنوان «ليكن قلبي سعيدا» لـ(ماكسيم ليو) فتناولت قصة عائلة من ألمانيا الشرقية وجدت نفسها فجأة داخل دولة جديدة بعد سقوط الجدار؛ ليرى فيها مثالا على كيف يتعامل الأدب مع التحول التاريخي الفجائي بعين إنسانية لا توثيقية.

اما عن سؤال التوازن بين الحقيقة التاريخية والتخييل فيشدد «مكسور» أن المؤرخ محكوم بالمنهج والوثيقة بينما الروائي يمتلك حرية الانطلاق من الحدث الواقعي إلى عالم المخيلة. فالأدب يستطيع أن يشتغل على الحدث المعاصر ـ حتى وإن لم تكتمل وثائقه ـ مثل تجربة اللاجئين السوريين بين عامي 2011 و2016؛ لأن الروائي قادر على سماع الشهادات وكتابتها بينما المؤرخ يحتاج إلى مسافة زمنية، ومنهج علمي لتدوينها.

ويؤكد الكاتب عبدالله مكسور أن الفضاء بين الحقيقة والخيال هو ما يسميه «المنطقة المشتركة بين الأدب والتاريخ»، وهي منطقة إنسانية تتيح الجمع بين رصانة البحث التاريخي وجمالية السرد، ويستشهد بالملاحم الكبرى مثل جلجامش، والمهابهارتا، والرامايانا، والشهنامة؛ كونها نصوصا تقع على الحدود بين التاريخ والأسطورة، ومع ذلك تؤرخ لشعوبها بعمق أكبر مما فعله المؤرخون؛ لأنها تمنح الحكاية روحها، لا وقائعها فحسب. فالتاريخ المدوّن يكتب تاريخ الملوك، أما الأدب فيكتب تاريخ الذين لم يُدوَّنوا. فالرواية صوت الذين لا صوت لهم، وهي التي تعيد إحياء الحكايات الصغيرة التي ضاعت بين دفاتر المؤرخين؛ لتؤكد أن الذين لم يسطرهم التاريخ كتبوا تاريخهم بأنفسهم عبر الأدب.

ضدّ الوثوقية

من جانبها ترى الكاتبة والأكاديمية القطرية الدكتورة نورة فرج أن العلاقة بين التاريخ والرواية ليست علاقة تبعية أو انعكاس، بل علاقة جدلية يتقاطع فيها الخيال مع الذاكرة، والبحث الأكاديمي مع الحسّ الإبداع. فالكتابة الروائية بالنسبة لها فعل تمرّد على الوثوقية التاريخية، ومحاولة لقراءة الماضي من زاوية إنسانية، لا من موقع المؤرخ الذي يبحث عن الحقيقة، بل من موقع الروائي الذي يسائلها ويعيد تأويلها؛ حيث إن الرواية التاريخية ليست نقلا للأحداث كما وقعت، بل هي تفكيك لسلطة الرواية الرسمية للتاريخ، واستعادة للأصوات التي أقصيت من السرد. لذلك جاءت تجربتها في رواية ماء الورق لتقدّم نموذجا أدبيا يتعامل مع التاريخ كمادة للتأمل الفني والفكري لا للتوثيق معتبرة أن الرواية تطرح سؤالا جوهريا حول من يملك حقّ سرد الماضي: المؤرخ الموثّق، أم الكاتب الذي يتلمّس في الخيال ما أغفلته الوثيقة؟

وترى الكاتبة أن الخيال في الرواية التاريخية لا يناقض الحقيقة، بل يكشفها من زاوية أخرى؛ لأنه يعبّر عن الوعي الإنساني بالحدث التاريخي، ويعيد تشكيله في ضوء التجربة الفردية. وتشير إلى أن كثيرا من النصوص التراثية ـ مثل أخبار بشار بن بُرد أو سير المؤرخين القدماء ـ مليئة بالتناقضات والمبالغات ما يطرح سؤالا حول مفهوم «الصدق الأدبي»: هل هو صدق الوقائع أم صدق المعنى؟ ومن هنا جاء اهتمامها بما تسميه «الكتابة ضدّ الوثوقية»، أي كتابة تسائل المصادر وتضعها موضع الشكّ، لتفتح أفقا تأويليا جديدا أمام القارئ.

وتضيف «فرج» أن الخيال ليس هروبا من الحقيقة بل طريق إليها؛ فالرواية تستطيع أن تنفذ إلى ما وراء النص التاريخي، وتكشف ما لا تقوله الوثائق: الانفعالات، والهواجس، والتمزقات الإنسانية التي تُخفيها السرديات الكبرى. وتشير إلى أن هذا ما جعلها توظّف في أعمالها عناصر فنية رمزية ـ مثل الغروتسك والرموز القوطية ـ ليس للتزيين، بل لفضح التناقض بين الظاهر والباطن، وللتعبير عن العنف والعبث الكامنين في قلب التاريخ الإنساني. وحين يلتزم الأكاديمي بالمنهج يصطدم غالبا بحدود المنطق والبرهان بينما يسمح الأدب بالتحرر من هذه القيود ليصل إلى ما هو أعمق من الحقيقة التاريخية، أي الحقيقة الجمالية والوجداني؛  فالمؤرخ يكتب الماضي كما حدث، أما الروائي فيعيد كتابته كما يمكن أن يُفهم؛ لأن الإبداع أداة لإحياء الذاكرة لا لتوثيقها.

وتختم الكاتبة والأكاديمية الدكتورة نورة فرج بالقول: الرواية التاريخية هي مختبر وعي مفتوح يتيح للمجتمع أن يراجع تاريخه بعيون جديدة، لا لتكرار ما كُتب، بل لإعادة النظر فيه؛ فالأدب يمكن أن يكون وسيطا معرفيا موازيا للتاريخ يعيد للذاكرة قدرتها على مساءلة نفسها، ويُظهر أن الخيال في نهاية الأمر أصدق من الوثيقة حين يضيء ما لا تُبصره الحقيقة الرسمية.

مقالات مشابهة

  • برج العقرب .. حظك اليوم الأحد 19 أكتوبر 2025: شارك الحقيقة بهدوء
  • مشكلة غريبة تضرب آيفون 17 برو ماكس.. تغيّر لون الجهاز يثير استغراب المستخدمين
  • الرواية والتاريخ... تعدد في السرد واختلاف في الحقيقة!
  • تحركات دولية وضغوط خارجية على البرهان لقبول تسوية صادمة.. أحلام المنكوبين والذين كسروا شوكة المؤامرة على المحك
  • الكون يمتلك 11 بُعدا.. إليك قصة نظرية الأوتار ببساطة
  • بعد جلاء الحقيقة... مَن يعوّض على تنورين؟
  • يديعوت: هذه هي الحقيقة بشأن غياب نتنياهو عن قمة شرم الشيخ
  • حالتها النفسية سيئة.. عزة سعيد تثيرتعاطف الجمهور بعد ظهورها مع إدوارد
  • رحلة التحوّل الأنثوي في ضوء نظرية يونغ: قراءة تحليلية في كتاب “حدّثتني الشمس”