استطلاع ـ فيصل بن سعيد العلوي

تبدو العلاقة بين الأدب والتاريخ واحدة من أكثر الثنائيات التباسا في الوعي الثقافي العربي؛ إذ يتجاور فيها التوثيق بالخيال والعلم بالسرد، والذاكرة بالوجدان. فالتاريخ في بعده الأكاديمي يسعى إلى الحقيقة من خلال الوثائق والشواهد أو الدلائل بينما تميل الرواية إلى إعادة تأويل الحدث الإنساني بما يتجاوز حدود الزمن والمكان.

ومن هذا التماس بين الرواية والتاريخ يعود للواجهة سؤال متجدد مع كل نتاج: هل يمكن للأدب أن يكون مصدرا من مصادر المعرفة التاريخية، أم أن مهمته تقتصر على إعادة تشكيل الماضي برؤية فنية تخيلية؟ في هذا الاستطلاع تتعدد الرؤى وقد تتقاطع أحيانا بين مؤرخين وروائيين من العالم العربي؛ حيث تقدم الدكتورة حياة قطاط القرمازي قراءة علمية تؤكد استقلالية التاريخ ومنهجه الصارم بينما يرى ممدوح أبارو أن الرواية والتاريخ يتبادلان الأدوار في فهم الإنسان لماضيه. ويذهب الدكتور علي عفيفي إلى أن الوعي بالحقيقة هو ما يجمع بين المؤرخ والروائي رغم اختلاف أدواتهما في حين يعيد عبدالله مكسور الاعتبار للأصوات المهمّشة التي لم يوثّقها المؤرخون بينما تنهي الدكتورة نورة فرج الجدل مؤكدة أن الكتابة ضدّ اليقين المطلق هي السبيل لإحياء التاريخ في الوجدان وليس في الأرشيف.

بداية تقول الباحثة التونسية الدكتورة حياة قطاط القرمازي أستاذة التاريخ والانثروبولوجيا إنها تُقدّر الأدب ودوره في تقريب التاريخ إلى الوعي العام، لكنها تختلف مع القول إنّ الرواية التاريخية يمكن أن تُعدّ مصدرا للتاريخ مؤكدة أنّها تُعين المؤرخ وتساعده، لكنها ليست في ذاتها مصدرا من مصادر التوثيق التاريخي.

وقالت «القرمازي»: الرواية شأنها شأن العلوم المساعدة للتاريخ مثل الأنثروبولوجيا والسوسيولوجيا؛ ترفد المؤرخ برؤية إضافية لفهم المجتمع والإنسان، لكنها لا تقوم مقام الوثيقة ولا تحلّ محلّ الأثر. واستعادت قول ابن خلدون الذي يردده المؤرخون دائما: «التاريخ في ظاهره إخبار، وفي باطنه نظر وتحقيق» مشيرة إلى أن هذه المقولة تضع الأساس المنهجي لكل بحث تاريخي علمي يقوم على التدقيق والمقارنة وقراءة الحيثيات بتأنٍ، لا على الانفعال، ولا على إعادة البناء الخيالي.

وأوضحت أنّ المؤرخ حين يدرس ظاهرة تاريخية أو حقبة محددة لا يكتفي بالنصوص المكتوبة، بل يعود إلى القراءات المتقاطعة بين الوثائق والشواهد الأثرية والمرويات الشفوية مستندا إلى منهج دقيق في التحليل والنقد. وضربت الباحثة مثالا من تجربتها في دراسة الفترة الانتقالية بين نهاية العهد الجلولي وبداية الدولة العثمانية؛ حيث استخدمت منهجا وصفته بـ«المنهج الرجعي» أو المنهج الرتروسبيكي الذي يقوم على قراءة المصادر اللاحقة للحدث من أجل استنباط الحقائق المتعلقة به مشيرة إلى أنّ هذا النوع من البحث يتطلب توظيف المصادر المتنوعة من الشعر الجاهلي إلى النصوص الدينية، ومن النقوش إلى الوثائق التجارية؛ لفهم الصورة الكاملة مؤكدة أنه لا يمكن للمؤرخ أن يعتمد على نص واحد مهما كان أدبيا أو جماليا؛ لأنّ التاريخ يحتاج إلى توثيق متكامل تتقاطع فيه المصادر، أما الرواية فهي تقوم على انتقاء زوايا محددة، وتعبّر في جوهرها عن رؤية مؤلفها الذاتية.

وأشارت الأكاديمية إلى أنّ الرواية التاريخية رغم بعدها الجمالي يمكن أن تكون مفيدة للمؤرخ في بعض الجوانب الوصفية والاجتماعية، مثل استحضار مفردات اللغة اليومية أو ملامح البيئة التي كُتبت فيها الرواية؛ فهي بذلك تعكس روح العصر الذي كُتبت فيه أكثر مما تعكس العصر الذي تتحدث عنه.

وقالت الباحثة التونسية الدكتورة حياة قطاط القرمازي: الرواية تعبّر عن وعي زمن كتابتها لا عن زمن أحداثها؛ ولذلك يمكن قراءتها كونها مرجعا ثقافيا لا وثيقة تاريخية. فالقيمة ليست «تاريخية» بالمعنى الدقيق، بل أنثروبولوجية وثقافية تساعد على بناء تصور أشمل للعصر. فالمؤرخ في نهاية المطاف يعمل ضمن منهجٍ علميٍ صارم لا يسمح له بالاستغراق في الخيال أو الذاتية بينما يمتلك الروائي حرية التعبير والتأويل. ومع ذلك فالتاريخ والأدب يلتقيان في خدمة الوعي الإنساني؛ فالأول يسعى إلى الحقيقة عبر التوثيق، والثاني يسعى إليها عبر التخييل، وكلاهما يسهم في فهم الإنسان لتاريخه، لكن يجب أن يبقى لكل منهما مجاله وحدوده.

عملية تبادل أدوار

من جانبه يرى الروائي والكاتب في التاريخ ممدوح أبارو أن العلاقة بين الرواية والتاريخ لا يمكن اختزالها في حدود التوثيق أو الخيال، بل هي تبادل في الأدوار والمعاني؛ فالتاريخ حين يُروى يصبح «مغامرة سردية استقبالية» لا مجرد وقائع جامدة، بل عملية تحويل مستمرة للواقع والماضي إلى حكاية تُروى وتُستعاد. ويؤكد أن الرواية التاريخية تمثل الوجه الآخر للتاريخ؛ لأنها تتعامل مع ما كان يمكن أن يحدث، لا مع ما حدث فقط.

ويشير إلى أن هذا التداخل بين السرد والتاريخ هو ما جعل النقاد يتساءلون عمّا إذا كان التاريخ نوعا من الأدب، والعكس مستشهدا بمقولة رمزية مفادها أن «الرواية تاريخ كان يمكن أن يقع بينما التاريخ رواية وقعت بالفعل». ويرى أن هذا الفهم يعيد الاعتبار للخيال؛ كونه شريكا في صياغة الوعي الإنساني بالتاريخ؛ لأن السرد ـ سواء أكان أدبيا أم تأريخيا ـ هو في جوهره إعادة بناء للحدث من وجهة نظر الراوي.

ويستعرض «أبارو» مسار الرواية التاريخية منذ بداياتها الأوروبية مع والتر سكوت وألكسندر دوماس وفيكتور هوغو إلى نماذجها العربية مع فرح أنطون وسليم بطرس وجرجي زيدان وصولا إلى جيل نجيب محفوظ ورضوى عاشور وكتّاب معاصرين مثل نورة فرج وعبدالله مكسور؛ ليرى أن هذا الامتداد الزمني يثبت أن التاريخ ظلّ ملهِم الرواية ومادتها الأولى. ويؤكد أن الرواية المعاصرة في العالم العربي لم تعد مجرد استعادة للماضي، بل أصبحت صناعة معرفية قائمة على البحث والتمحيص والتجريب، وأن الروائي الحديث بات يقترب في أدواته من الباحث والمؤرخ، من حيث العودة إلى المصادر، وزيارة الأمكنة، واستنطاق الوثائق، ولكن مع بقاء الخيال «الطاقة التي تحيي النص وتمنحه روحه».

ويتساءل عن إمكانية اعتبار الرواية التاريخية مصدرا من مصادر التاريخ معتبرا أن هذا السؤال «يفتح مساحة التفكير في حدود كل من الأدب والتاريخ»، وأن كليهما يسعى ـ وإن بطرائق متعددة ـ إلى فهم الإنسان في علاقته بالماضي كما يرى أن المؤرخ يدوّن الوقائع الكبرى التي صنعتها النخب والسلطة بينما يلتقط الروائي القصص الصغيرة والهوامش التي تكشف نبض الحياة اليومية.

وشدد الكاتب ممدوح أبارو على أن الرواية التاريخية ليست ضربا من الخيال الحرّ، بل هي بنية معرفية تستند إلى تأمل التاريخ، وأنها تتيح للكاتب أن يطرح الأسئلة التي لا يجرؤ المؤرخ على طرحها؛ لأنها لا تُقاس بميزان الصواب والخطأ، بل بميزان الصدق الإنساني والتعبير الفني، وأن من مهمات الرواية التاريخية اليوم أن تعيد إلى التاريخ صوته الإنساني، وأن تذكّرنا بأن خلف الوثائق وقائع منسية وحكايات لم تُروَ بعد؛ فهي ـ أي الرواية التاريخية ـ أصبحت في زمننا المعاصر شكلا من أشكال المقاومة ضد النسيان، وضد احتكار السرد من قبل السلطة أو المؤرخ الواحد؛ لأنها تفتح المجال لتعدد الروايات وتداخل الأزمنة، وتمنح القارئ فرصة أن يقرأ التاريخ «بعيون البشر لا بعين الحاكم.

وعي بالحقيقة

يؤكد الباحث في التاريخ والآثار المصرية والإسلامية الدكتور علي عفيفي أن العلاقة بين المؤرخ والروائي هي علاقة تكامل واختلاف في آن واحد؛ فكلٌّ منهما يتعامل مع الماضي من زاوية مختلفة وبأدوات مغايرة؛ حيث إن هناك مفهومين جوهريين في هذا السياق رواية التاريخ والرواية التاريخية. فرواية التاريخ ـ كما يوضح ـ هي عمل المؤرخ الذي يعود إلى الماضي بسؤال إشكالي نابع من الحاضر محاولا الإجابة عنه في ضوء الوثائق والمعطيات المتاحة ساعيا إلى الوصول إلى الحقيقة التاريخية النسبية؛ إذ لا وجود لحقيقة مطلقة في التاريخ؛ فهي تتغير بتغير الوثائق وزوايا النظر. أما «الرواية التاريخية» فهي عمل الروائي الذي يعود إلى التاريخ، ليس ليصل إلى الحقيقة كما هي، بل ليعيد طرح الأسئلة من خلال بنية سردية تتخذ من الماضي إطارا زمانيا ومكانيا، فتقدم تأملا فنيا في الحدث التاريخي، وتضيء المناطق المعتمة والمسكوت عنها، خصوصا تلك التي تجاهلها المؤرخون التقليديون.

ويشير «عفيفي» إلى أن المؤرخ يكتب برؤية واقعية محكومة بالمنهج والوثيقة والحياد قدر الإمكان بينما يكتب الروائي التاريخ بخياله وذاتيته. فالمؤرخ -كما يؤكد- يحاول أن يجمّد ذاته أثناء الكتابة ملتزما بالمصادر والشواهد والأسانيد في حين أن الروائي لا يستطيع الانفصال عن ذاته، بل يجعلها جزءا من النص حاضرة في اللغة وفي اختيار الأحداث وطريقة بناء الشخصيات؛ لأن الرواية التاريخية بطبيعتها «مزيج من الخيال والذاتي والتاريخي».

ويضيف الباحث أن المؤرخين الكلاسيكيين أمثال الطبري وابن الأثير ركّزوا على تاريخ الملوك والخلفاء في حين أعادت الرواية النظر في هذا المفهوم لتجعل من تاريخ الناس العاديين والشارع والمشاعر الإنسانية محورا أساسيا مستشهدا بروايات نجيب محفوظ التي أرّخت لثورة 1919 من منظور الناس البسطاء، وبرواية «في بيتنا رج» لإحسان عبد القدوس التي مزجت الحدث التاريخي بالعاطفة الفردية، ويرى أن الحقيقة التاريخية في الرواية نسبية دائما؛ لأنها تنبع من زاوية الكاتب وخياله، لكنها مع ذلك «تنتج وعيا بالحقيقة»، وتسهم في نقدها وتأويلها.

وفي المقابل يوضح «عفيفي» أن المؤرخ حين يقترب من السرد الأدبي أو من الحكاية يفقد شيئا من صرامته الأكاديمية؛ ولذلك يؤكد أن ميلاد التاريخ نفسه خرج من رحم الأسطورة، فالأسطورة كانت أول أشكال السرد التاريخي، ومنها نشأت محاولات التوثيق الأولى؛ لذلك فإن التقاطع بين الرواية والتاريخ أمر طبيعي وقديم في آن واحد.

ومن وجهة نظره يرى «عفيفي» أن الرواية التاريخية يمكن أن تكون مصدرا من مصادر التاريخ إذا تم التعامل معها بوعي نقدي، أي إذا جرى تجريدها من ذاتية المؤلف ومن بنيتها السردية، وتحليلها كمرآة للوعي الجمعي أو للعادات الاجتماعية أو لتمثلات الحقبة التي كُتبت فيها، لا لكونها وثيقة لما حدث فعلا. فهي لا تقدم الحقيقة التاريخية المجردة، لكنها تعكس الوعي بها؛ ولهذا فإن قيمتها تكمن في المعرفة الشعورية والثقافية التي تضيفها إلى السرد التاريخي.

ويستشهد الباحث برواية «غُصن أعوج» للكاتب القطري أحمد عبد الملك التي تعود بالقارئ إلى القرن السادس الميلادي، وتتخذ من مدينة إفشنة في بخارى فضاء للأحداث، لتؤكد أن الرواية يمكن أن تضيء لحظات من التاريخ الإسلامي المبكر بعيون فنية لا توثيقية. كما يشير إلى رواية «اسمي أحمر» للروائي التركي أورهان باموق التي تدور في مطلع الألفية الهجرية داخل النقّاشخانة العثمانية، وتكشف الصراع النفسي والفني الذي عاشه النقاشون وهم يرسمون صورة السلطان. ويقول: المؤرخ لا يمكنه أن يلتقط هذه التفاصيل النفسية الدقيقة كما فعل باموق، فهو يسعى إلى الحقيقة بينما يسعى الروائي إلى المعنى. وفي سياق آخر يؤكد أن الأحداث المعاصرة يمكن أن تُعامل تاريخيا متى ما ابتعدنا عنها بمسافة زمنية كافية تسمح بظهور الوثائق وتعدد الرؤى. فما حدث بالأمس يصبح «تاريخا»، لكن لا يمكن للمؤرخ أن يكتبه فورا قبل أن تتضح معالمه بعكس الروائي الذي يستطيع أن يتفاعل معه لحظة وقوعه، ويمنحه بعدا إنسانيا وجماليا.

ويختم الباحث الدكتور علي عفيفي رؤيته بالتأكيد على أن الرواية التاريخية ليست بديلا عن التاريخ، لكنها شريك فاعل في توسيع فهمنا للماضي عبر الأدب؛ لأنها تطرح الأسئلة التي لا يجرؤ المؤرخ على طرحها، وتعيد إلى التاريخ وجهه الإنساني والوجداني، فتحوله من مجرد حكاية عمّا حدث إلى تأملٍ في معنى ما حدث، ومن تسجيل للوقائع إلى وعيٍ بالذاكرة الجمعية التي تصنع هوية الأمم.

إعادة الاعتبار

وحول وجهة نظره يرى الروائي والصحفي عبدالله مكسور أن التاريخ كما نعرفه هو ما «قيل لنا إنه حدث»، أما ما لم يُدوَّن ولم يُروَ رسميا فهو التاريخ الحقيقي الذي ما يزال مجهولا في الذاكرة الإنسانية؛ حيث إن الرواية التاريخية هي محاولة من الأدب لفهم هذا الغياب، واستعادة أصوات الذين غُيِّبوا عن السرد الرسمي. فالأدب يحاول أن يفهم الحدث التاريخي ويعيد تأثيره على البشر الذين عاشوه بينما يكتفي التاريخ المدوَّن بسرد الأسباب والنتائج والأرقام دون النفاذ إلى جوهر التجربة الإنسانية.

ويؤكد «مكسور» أن المؤرخ يكتب التاريخ بلغة الأرقام والوثائق، فيقول مثلا: «اندلعت الحرب الفلانية، وشارك فيها ثلاثون ألف جندي»، أما الروائي فيختار حكاية واحدة من بين هؤلاء الجنود، ويغوص في تفاصيلها النفسية والاجتماعية ليكشف البعد الإنساني للحرب، وهذا هو ما يميز الرواية التاريخية؛ فهي تشتغل على ما وراء الأسباب على أثر الحدث في الوجدان الفردي والجماعي، وعلى إعادة قراءة الماضي بما يضيء الحاضر.

وحول أخلاقية التاريخ فيقول «مكسور»: المؤرخ يسأل ماذا حدث؟ أما الروائي فيسأل: كيف حدث؟ فالتاريخ يقدّم رواية واحدة للحدث في حين أن الأدب يمنح تعددية الأصوات، ويضرب مثالا على ذلك برواية «ليلة سقوط غرناطة»؛ حيث يواجه الكاتب موقفا معقدا بين صوت المنتصر وصوت المهزوم موضحا أن الروائي الإسباني حين يكتب عن طرد العرب من الأندلس قد يشيطن الآخر ليبرّر لحظة التحرر بينما الروائي العربي يعيد كتابة الحدث من منظور الضحية. وهكذا تحدد زاوية الكاتب وانحيازه الأخلاقي شكل الرواية التاريخية وطبيعتها؛ ففي رواية «عائد إلى حيفا» لغسان كنفاني نموذج للتعامل الإنساني العميق مع التناقضات التاريخية؛ إذ تواجه الأسرة الفلسطينية ابنها الذي تربى في كنف عائلة إسرائيلية بعد تهجيرهم في مفارقة تمثل ذروة الصراع الوجداني بين الانتماء والهوية. كما أن رواية ألمانية بعنوان «ليكن قلبي سعيدا» لـ(ماكسيم ليو) فتناولت قصة عائلة من ألمانيا الشرقية وجدت نفسها فجأة داخل دولة جديدة بعد سقوط الجدار؛ ليرى فيها مثالا على كيف يتعامل الأدب مع التحول التاريخي الفجائي بعين إنسانية لا توثيقية.

اما عن سؤال التوازن بين الحقيقة التاريخية والتخييل فيشدد «مكسور» أن المؤرخ محكوم بالمنهج والوثيقة بينما الروائي يمتلك حرية الانطلاق من الحدث الواقعي إلى عالم المخيلة. فالأدب يستطيع أن يشتغل على الحدث المعاصر ـ حتى وإن لم تكتمل وثائقه ـ مثل تجربة اللاجئين السوريين بين عامي 2011 و2016؛ لأن الروائي قادر على سماع الشهادات وكتابتها بينما المؤرخ يحتاج إلى مسافة زمنية، ومنهج علمي لتدوينها.

ويؤكد الكاتب عبدالله مكسور أن الفضاء بين الحقيقة والخيال هو ما يسميه «المنطقة المشتركة بين الأدب والتاريخ»، وهي منطقة إنسانية تتيح الجمع بين رصانة البحث التاريخي وجمالية السرد، ويستشهد بالملاحم الكبرى مثل جلجامش، والمهابهارتا، والرامايانا، والشهنامة؛ كونها نصوصا تقع على الحدود بين التاريخ والأسطورة، ومع ذلك تؤرخ لشعوبها بعمق أكبر مما فعله المؤرخون؛ لأنها تمنح الحكاية روحها، لا وقائعها فحسب. فالتاريخ المدوّن يكتب تاريخ الملوك، أما الأدب فيكتب تاريخ الذين لم يُدوَّنوا. فالرواية صوت الذين لا صوت لهم، وهي التي تعيد إحياء الحكايات الصغيرة التي ضاعت بين دفاتر المؤرخين؛ لتؤكد أن الذين لم يسطرهم التاريخ كتبوا تاريخهم بأنفسهم عبر الأدب.

ضدّ الوثوقية

من جانبها ترى الكاتبة والأكاديمية القطرية الدكتورة نورة فرج أن العلاقة بين التاريخ والرواية ليست علاقة تبعية أو انعكاس، بل علاقة جدلية يتقاطع فيها الخيال مع الذاكرة، والبحث الأكاديمي مع الحسّ الإبداع. فالكتابة الروائية بالنسبة لها فعل تمرّد على الوثوقية التاريخية، ومحاولة لقراءة الماضي من زاوية إنسانية، لا من موقع المؤرخ الذي يبحث عن الحقيقة، بل من موقع الروائي الذي يسائلها ويعيد تأويلها؛ حيث إن الرواية التاريخية ليست نقلا للأحداث كما وقعت، بل هي تفكيك لسلطة الرواية الرسمية للتاريخ، واستعادة للأصوات التي أقصيت من السرد. لذلك جاءت تجربتها في رواية ماء الورق لتقدّم نموذجا أدبيا يتعامل مع التاريخ كمادة للتأمل الفني والفكري لا للتوثيق معتبرة أن الرواية تطرح سؤالا جوهريا حول من يملك حقّ سرد الماضي: المؤرخ الموثّق، أم الكاتب الذي يتلمّس في الخيال ما أغفلته الوثيقة؟

وترى الكاتبة أن الخيال في الرواية التاريخية لا يناقض الحقيقة، بل يكشفها من زاوية أخرى؛ لأنه يعبّر عن الوعي الإنساني بالحدث التاريخي، ويعيد تشكيله في ضوء التجربة الفردية. وتشير إلى أن كثيرا من النصوص التراثية ـ مثل أخبار بشار بن بُرد أو سير المؤرخين القدماء ـ مليئة بالتناقضات والمبالغات ما يطرح سؤالا حول مفهوم «الصدق الأدبي»: هل هو صدق الوقائع أم صدق المعنى؟ ومن هنا جاء اهتمامها بما تسميه «الكتابة ضدّ الوثوقية»، أي كتابة تسائل المصادر وتضعها موضع الشكّ، لتفتح أفقا تأويليا جديدا أمام القارئ.

وتضيف «فرج» أن الخيال ليس هروبا من الحقيقة بل طريق إليها؛ فالرواية تستطيع أن تنفذ إلى ما وراء النص التاريخي، وتكشف ما لا تقوله الوثائق: الانفعالات، والهواجس، والتمزقات الإنسانية التي تُخفيها السرديات الكبرى. وتشير إلى أن هذا ما جعلها توظّف في أعمالها عناصر فنية رمزية ـ مثل الغروتسك والرموز القوطية ـ ليس للتزيين، بل لفضح التناقض بين الظاهر والباطن، وللتعبير عن العنف والعبث الكامنين في قلب التاريخ الإنساني. وحين يلتزم الأكاديمي بالمنهج يصطدم غالبا بحدود المنطق والبرهان بينما يسمح الأدب بالتحرر من هذه القيود ليصل إلى ما هو أعمق من الحقيقة التاريخية، أي الحقيقة الجمالية والوجداني؛  فالمؤرخ يكتب الماضي كما حدث، أما الروائي فيعيد كتابته كما يمكن أن يُفهم؛ لأن الإبداع أداة لإحياء الذاكرة لا لتوثيقها.

وتختم الكاتبة والأكاديمية الدكتورة نورة فرج بالقول: الرواية التاريخية هي مختبر وعي مفتوح يتيح للمجتمع أن يراجع تاريخه بعيون جديدة، لا لتكرار ما كُتب، بل لإعادة النظر فيه؛ فالأدب يمكن أن يكون وسيطا معرفيا موازيا للتاريخ يعيد للذاكرة قدرتها على مساءلة نفسها، ويُظهر أن الخيال في نهاية الأمر أصدق من الوثيقة حين يضيء ما لا تُبصره الحقيقة الرسمية.

المصدر: لجريدة عمان

كلمات دلالية: الحقیقة التاریخیة الروایة والتاریخ الحدث التاریخی روایة التاریخ العلاقة بین إلى الحقیقة التاریخ فی أن الروائی فی التاریخ یمکن أن ی یمکن أن ت من زاویة لا یمکن لا على أن هذا ما حدث یرى أن التی ت فی حین إلى أن

إقرأ أيضاً:

القائد الذي لم ينحني .. الرواية الكاملة لاستشهاد رئيس هيئة الأركان اليمنية

في صباحٍ لم تعلنه الشمس، وعند مفترق نارٍ وسحاب، ترجل القائد. لا صوتٌ للوداع، لا صدى لخطوة أخيرة، فقط السماء تنفجُر على جسدٍ طالما مشى بثباتٍ في طرق لا يعرفها إلا أصحابُ العقيدة، وذوو البصائر، هناك، في ميدان المهمة المقدسة، خطّت دماؤه آخر سطرٍ في حكاية رجلٍ لم يكن مجرد اسمٍ في قائمة الشهداء، بل أسطورة صيغت من العزم والبصيرة، اسمه،  محمد عبد الكريم الغماري.

يمانيون / خاص

 

أعلنت القوات المسلحة اليمنية، ببيان مليء بالفخر والاعتزاز، نبأ استشهاد رئيس هيئة الأركان العامة، الرجل الذي كان يوقّع بيانات الحرب بدمه، قبل أن يوقّعها بالحبر. غارة صهيونية استهدفت روحه، فارتقى كما يليق بالرجال العظماء، واقفًا في الميدان، باسلًا، لم ينكسر.

لكن مهلاً ..  من هو الغماري؟ من هذا الرجل الذي حين يذكره المجاهدون، تنكسر نبرة الصوت من المهابة لا من الحزن؟ من هذا القائد الذي إذا حضر في الجبهة، صمتت البنادق احترامًا قبل أن تشتعل نيرانها تحت إشارته؟

 

الولادة من رحم الدين والهوية

في قريةٍ وادعةٍ من عمران، عام 1983، وُلد محمد عبد الكريم الغماري، من أسرةٍ متدينةٍ، أنجبت قلوبًا مؤمنةً لا تنكسر، نشأ في بيتٍ يرى في القيم درعًا، وفي القرآن سلاحًا، وفي الكرامة قدَراً، ما إن بلغ العشرين من عمره، حتى استلّ تكبيرة الحق من حنجرته، وانضم إلى المشروع القرآني، مضى خلفه لا بدافع الحماسة، بل بيقين العارفين المؤمنين الواثقين بالله .

لم يكن الميدان حلمًا بعيدًا بالنسبة للغماري، بل دربًا مشى عليه منذ بدايات الحرب الظالمة على صعدة، قاتل في الطلائع، سُجن، خرج، وعاد، لم تثنه الزنازين، ولم تضعف عزيمته العواصف، سلاحه إيمانٌ لا يصدأ، وخطةٌ لا تُقرأ إلا بعيون من فهموا أن الجهاد ليس انفعالًا، بل مسارٌ ممتد.

 

من القائد الميداني إلى صانع الردع

شيئًا فشيئًا، تحوّل الغماري من مقاتلٍ في الجبهة إلى عقلٍ يدير الجبهة، عام 2016، عُيّن رئيسًا لهيئة الأركان العامة، لكن المنصب والرتبة لم تغيّره، ظلّ ذلك القائد الذي يضع قدمه حيث يسير جنوده، والذي يرى في كل جبهةٍ محرابًا للصلاة، وفي كل معركةٍ آيةً من آيات القرآن تُترجم على الأرض.

أعاد هيكلة القوات المسلحة، ليس بالمعايير التقليدية، بل بمنهجٍ إيماني عسكري فريد. دمج الصواريخ الباليستية بالطائرات المسيّرة، وربط البحر بالبر، والسماء بالأرض، والميدان بالهدف، كان يؤمن أن المعركة مع الاستكبار لا تُكسب بالعدة فقط، بل بالنية الصادقة والعقيدة الثابتة.

 

القدس في القلب 

حين اشتد العدوان على غزة، لم تكن فلسطين بالنسبة له نشرة أخبار، بل جزءٌ من القلب، من الهوية، من الايمان، فتح جبهات الرد من البحر الأحمر إلى باب المندب، وأدار المعارك بلغةٍ لا يفهمها العدو إلا حين تصله الصواريخ على ظهر بارجة، أو ترتطم به المسيّرات كأنها الغضب المجسد.

كان يؤمن أن الدفاع عن القدس لا يحتاج إلى جغرافيا، بل إلى قرار، وكان قراره واضحًا، خندق واحد من اليمن إلى فلسطين.

 

قيادة من نوعٍ آخر

الشهيد القائد الغماري لم يتخرّج من أي كلية عسكرية أجنبية، لكنه علّم جيوش الأرض كيف تُقاد الحروب بالإيمان وقوة العقيدة، لم يكن جنديًا نمطيًا، بل خبير تكتيك، يُفكك الجغرافيا، ويرتبها كما يرتب آيات الفتح في ذهنه، آمن أن الحرب علمٌ لكن نصرها من الله، وأن التخطيط سر، لكن التثبيت من فوق سبع سماوات.

القادة لم يهابوه، بل أحبوه، الجنود لم يخافوا منه، بل تأسوا به اتباعاً وتسليماً، لم يكن يعطي أمرًا إلا وكان هو أول من ينفذه، كان في مقدمة الصفوف، في عمق المعركة، عند مفترق الموت والحياة، لذلك حين سقط، لم يشعر أحدٌ أن الغياب قد وقع، بل أن البطولة تجلّت.

 

شهادة لا تُفني، بل تُخلِّد

حين جاءت الغارة، لم يفاجأ بها أحد، كثيرًا ما تنبأ العدو بمقتله، وكثيرًا ما صمت الغماري، كان يدير المعركة حتى في الغياب، وحتى في استشهاده اختار ألا يرحل بصخب، بل كأبٍ يُسلّم الراية ويختفي بهدوء، فجأة، صدر البيان .. استشهد الغماري،  ولم تنكسر الجبهة، بل انتفضت، واشتدّت عزيمتها.

خلفه يوسف المداني، كما لو أن الغماري كان يخطّط للرحيل بعين القائد، ويُسلّم المهمة بثقةٍ بمن اختارهم، فالمشروع القرآني لا يعرف الفراغ، ولا يؤمن بالانكسار.

 

الدم الذي كتب العهد

دم الغماري لم يُسفك، بل كتب وثيقة عهدٍ جديدٍ بين اليمن وفلسطين، دماءه كانت الحبر الذي وُقّع به ميثاق الأمة، لن نخذل غزة، ولو فنينا من الوجود، كلماتٌ تحوّلت إلى عقيدة، وصورةٌ له وهو يبتسم وسط الغبار، تحوّلت إلى راية.

رحل محمد عبد الكريم الغماري كما يرحل القادة الكبار، جسدٌ في التراب، وروح لا تموت، لم يكن رحيله خسارة، بل ولادة جديدة لقوةٍ لم تعد تعتمد على القادة، بل على مدرسةٍ كاملةٍ أسّسها الغماري بدمه وإيمانه.

 

من صنعاء إلى القدس

سلامٌ على الغماري، يوم صدّق، ويوم ثبت، ويوم ارتقى،  سلامٌ على روحه التي ما زالت تقاتل، وصورته التي لا تفارق الجبهات، واسمه الذي صار نشيدًا على ألسنة المجاهدين.

لقد علّمنا الغماري أن القادة لا يُصنعون في الكليات، بل في ساحات الإيمان، وأن الحرب ليست فعلًا عسكريًا فقط، بل عقيدة، ورسالة، وجهاد مستمر.

ولذلك كله .. ما زال محمد عبد الكريم الغماري حيًا،  لا تسألوا عن مرقده، بل فتشوا عن فكرته، عن مبدأه، عن دمٍ ما زال يرسم خارطة النصر.

مقالات مشابهة

  • إشكاليات السرد في الجنوب.. ندوة بمعرض الأقصر الرابع للكتاب
  • القائد الذي لم ينحني .. الرواية الكاملة لاستشهاد رئيس هيئة الأركان اليمنية
  • فلسفة التاريخ من جديد.. الطيب بوعزة يقترح تأسيسًا جديدًا يجاوز الحتمية.. كتاب جديد
  • الدورة الـ 13 من المؤتمر الخليجي للتراث والتاريخ الشفهي تختتم فعالياتها اليوم
  • بعد جلاء الحقيقة... مَن يعوّض على تنورين؟
  • انقلاب يقوده جنود.. رئيس مدغشقر يفر والتاريخ يعيد نفسه
  • فوز الروائي اليمني حميد الرقيمي بجائزة "كتارا" للرواية العربية
  • 50 ألف دولار للذهبية.. مهرجان الجونة يكشف قيمة الجوائز للفيلم الروائي الطويل
  • منظمة العالم الإسلامي للتربية والعلوم والثقافة تحتفي بأسبوع الرواية العالمي