الغناء في زمن الحرب.. حوار موسيقي سوداني والدبكة الفلسطينية حاضرة
تاريخ النشر: 1st, February 2024 GMT
تحت وقع أصوات المدافع وقصف الطيران، غابت مظاهر الاحتفالات عن العواصم العربية، وتراجعت الموسيقى والأغنية إلى مؤخرة المشهد، فمنذ السابع من أكتوبر/تشرين الأول الماضي، ملأت رائحة الحزن والغضب سماء المسارح في أغلب المدن بالمنطقة، نظرا لما تشهده غزة من إبادة.
وألغت عدة دول عربية وفي مقدمتها الكويت، وسلطنة عمان، والإمارات، وقطر، والأردن، العديدَ من الحفلات الموسيقية والغنائية والمهرجانات السينمائية، كما غابت احتفالات رأس السنة الميلادية، وتسابق الفنانون العرب لإلغاء ارتباطاتهم الفنية السابقة، تضامنا مع الشعب الفلسطيني.
وعلى الجانب الآخر في السودان، اندلعت حرب أخرى، فطالت الدماء جدران المسارح الغنائية، وغطى صوت الرصاص على أصوات المطربين، وساد البلاد حزن لا يحتمل الموسيقى، خاصة بعد أن أشارت تقديرات الأمم المتحدة إلى نزوح 7.1 ملايين نازح في أقاليم السودان ولجوء 1.5 مليون لاجئ في دول الجوار وسقوط أكثر من 12 ألف قتيل.
ورغم الغضب والحزن، عاد الغناء والموسيقى؛ فاستدعت أغنية المقاوم الفلسطيني تراثها الذي يقترب من 100 عام، وعادت روح إلى الفن السوداني والموسيقى الصريحة بسلّمها الخماسي الرائق، فتحولت الأغنيات إلى جزء من مشهد الحرب في المنطقة.
أناشيد المقاومةظهرت أناشيد المقاومة بعد اندلاع الثورة الفلسطينية، وشكلت لونا جديدا من الفن، وركزت في البداية على الطابع العسكري، قبل أن تشمل مختلف أوجه الحياة الاجتماعية والثقافية للفلسطينيين.
وتعد المرأة الفلسطينية هي المبدع الأول لفن الأغنية الشعبية الفلسطينية، حيث كانت ترعى الدار والأطفال وتخيط الثياب وتعصر الزيتون، وكانت تفعل كل ذلك وهي تغني وتؤلف الأغاني.
يقول عازف العود والمؤلف الموسيقي الفلسطيني إياد ستيتي، للجزيرة نت، حول حال الغناء في زمن الحرب في الدول العربية: إن "الموسيقى هي أحد أهم أشكال التعبير الثقافي والأكثر جمالا ورقة، وبنفس الوقت هي الأقوى من حيث قدرتها على العبور من خلال ملامسة أحاسيس الناس، وأرى أن هناك أهمية فائقة لدور الثقافة والأغنية في زمن الحرب، وهي أداة توثيق مهمة، فلكل مرحلة زمنية أغنيتها التي تتشكل طبقا لما اتسمت به المرحلة".
وينتقل ستيتي للتعبير عن الحالة الفلسطينية، قائلا: "بعضنا لديه فهم خاطئ للفنون بشكل عام، ويعتبر الموسيقى والأغنية وسيلة ترفيه ولهو، وهو ما يساهم في غيابها أحيانا في زمن الحروب بالتحديد".
ويستدرك عازف العود الفلسطيني: "من الضروري التعامل مع الأغنية والفنون باعتبارها وسيلة أو أداة من أدوات التعبير والتحرر من الاحتلال بغض النظر عن شكل أو قالب الأغنية في ظل الحرب، ونحن الفلسطينيون الوحيدون الذين ننفرد بمصطلحات معتمدة في الجانب الأكاديمي تحت عناوين (أغاني الثورة، والأدب المقاوم)، والأغنية كانت وستبقى وسيلتنا للتعبير والتواصل وحوارنا مع جميع شعوب العالم".
الفلكلور الفلسطينيويرى مثقفون أن مهمة التراث والفلكلور تكمن، بشكل خاص، في إبقاء التقاليد والقيم والملامح التي تميز الشعب الفلسطيني حية باقية، ليتذكر المحتل والعالم كله أن هناك شعبا يتم التآمر على وجوده وثقافته وهويته لطمسها.
ويقول ستيتي: "أرى أن الغناء الفلسطيني هو جزء لا يتجزأ من الهوية الثقافية للمنطقة العربية، مثلا الأغنية الشعبية (الفلكورية) الفلسطينية بمختلف قوالبها تتشابه مع الأغنية السورية أو الأردنية أو اللبنانية، لكنها الأكثر قدرة على التعبير عن الحالة الفلسطينية وعكس صورتها أمام العالم، وخاصة إذا ترافقت مع الدبكة الشعبية وارتداء الكوفية".
ويبرهن الموسيقي الفلسطيني على الأمر قائلا: "الفلسطينيون المهجرون قسرا عن أرضهم في المنافي يلمسون ويشمون تراب فلسطين من خلال إنشادهم أغنيات، لأن الأغنية تنبت من الأرض مثل الشجرة والعشب والحنون".
حرب الأغاني في السودانارتبط الغناء تاريخيا بمظاهر الحياة التي تسود المجتمع الزراعي والرعوي. وكانت الأغاني تؤلف وتُغنى جماعيا خلال مواسم الزراعة والحصاد والحرب والموت وتصاحبها طقوس الرقص التعبيري، لكن المشهد الحالي يشهد حربا على المستويين العسكري والغنائي أيضا.
يقول الباحث والموسيقي السوداني الدكتور كمال يوسف للجزيرة نت عن الانحياز للشرعية أو للدعم السريع في الغناء: "في أوقات الأزمات والحروب تكون هناك عين رقابية مسلطة من أهل الأدب والفكر والإعلام والثقافة ومن كل المشتغلين بضروب الفنون على الغناء، ومن ضمنهم بالضرورة المغنون أنفسهم، وهنا يأتي دور كل مغنٍ والزاوية التي ينظر منها لأمر الحرب، وهنا تحدث المناصرة لفريق دون آخر".
ويضيف يوسف: "منذ بدء الحرب، كان الخلاف الأساسي يدور بين طائفتين، الأولى هي الداعية لوقف الحرب في مقابل طائفة أخرى تدعو لاستمرارها إلى أن تحسم بنصر، وتم توظيف الغناء في هذين المحورين. وبين الطرفين، كانت هناك نظرة ثالثة ثاقبة، أشارت لأضرار الحرب وانتهاكاتها، ونادت بضرورة وقفها من خلال أعمال غنائية وموسيقية".
المشهد المهاجرويوضح الباحث والأكاديمي السوداني موقف السودانيين المهاجرين قائلا: "دار لغط كثيف حول ما يدور من أنماط غنائية في المهاجر. نال العديدون من الشريحة السابقة نقدا وتقريعا، فالبعض يصفهم بأنهم يقدمون نمطا غنائيا لا يتناسب مع مرحلة الحرب الحالية، فهم يغنون وكأنما الأوضاع عادية ولا توجد أزمة حرب ونزوح وفقدان ديار، وهنالك شريحة أخرى التزمت جانب ترديد الغناء الوطني القديم، الذي يربطهم بالوطن الذي فقدوه".
ويرى يوسف أن "هناك العديد من المطربين ذهبوا في هذا الاتجاه مثل الفنان والشاعر نزار فتحي الذي بدأ منذ اليوم الثاني للحرب في نشر قصيدة يوميا على صفحته الشخصية تحمل مضامين فقدان الوطن وحلم العودة. أيضا تم التعبير عن نفس المضامين في التشكيل والتمثيل والشعر، وهناك الكثير ممن يعبّرون عن وضعهم النفسي بشكل إيجابي ويدعون للتفاؤل بوقف الحرب.
وختم الباحث والموسيقي السوداني بالحديث عن مبادرة الموسيقيين، "وهي مبادرة قام بها عدد من الموسيقيين السودانيين في الداخل وفي المهاجر، لدعم الموسيقيين الذين لا يزالون داخل السودان، وتم تنظيم حفلات جماهيرية في كندا وبريطانيا وفي أميركا أيضا، وذهب ريع تلك الحفلات لصالح دعم الموسيقيين في الداخل".
وشهدت الآونة الأخيرة إصدار عدد من الأغنيات المتعلقة بالأحداث الدموية التي تشهدها المنطقة؛ ففي السودان طرحت المطربة الأبنوسة فدوى فريد أغنية "خيوط العنكبوت"، وميادة قمر الدين أغنية "ملوك القل"، وطارق أبو عبيدة أغنية "أنا وابن عمي والغريب". أما ما يخص فلسطين، فطرح الفنان الكويتي حمود الخضر أغنية "فلسطين بلادي"، وطرحت فرقة "كايروكي" المصرية أغنية "تلك قضية"، وأصدر مجموعة من الفنانين العرب أغنية "راجعين".
المصدر: الجزيرة
كلمات دلالية: فی زمن
إقرأ أيضاً:
الإمارات.. جهود بارزة لدعم القطاع الزراعي في السودان
أحمد مراد، أحمد عاطف (أبوظبي)
أخبار ذات صلةعصفت الحرب الدائرة في السودان، منذ أبريل 2023، بغالبية القطاعات الحيوية، حيث يُعد القطاع الزراعي الأكثر تضرراً، في ظل تعرض البنية التحتية الزراعية للتدمير الكامل، جراء تصاعد العمليات العسكرية في المناطق التي تمثل القلب النابض للإنتاج الزراعي، خصوصاً الجزيرة وسنار ودارفور وكردفان، ما فاقم معاناة السكان.
وتسببت الحرب في تداعيات كارثية طالت معظم جوانب القطاع الزراعي السوداني، إذ تُشير بعض التقديرات إلى خروج نحو 60 % من مساحة الأراضي المستخدمة عن دائرة الإنتاج. علماً بأن السودان يمتلك 170 مليون فدان صالحة للزراعة، وكان المستخدم منها قبل الحرب 40 مليوناً فقط.
ويُعد مشروع الجزيرة الذي يمتد على مساحة 2.3 مليون فدان واحداً من أكثر المشاريع الزراعية تضرراً من الحرب، مما تسبب في خسائر اقتصادية واجتماعية فادحة، نظراً لكونه أكبر مشروع في العالم يروى بنظام الري الانسيابي، ويشكل مصدر الدخل الأساسي لأكثر من مليون أسرة سودانية.
وفي دارفور، تبدو الأوضاع أكثر كارثية، وأكثر تعقيداً، حيث يعتمد نحو 85 % من سكان الإقليم على الزراعة، وقد أجبرت العمليات العسكرية غالبيتهم إلى الفرار والنزوح بعيداً عن أراضيهم الزراعية.
كما تُعد سنار والنيل الأزرق وشمال وغرب كردفان أكثر الولايات المتضررة من الحرب، حيث شهدت انخفاضاً ملحوظاً في المساحات المزروعة، ولم تسجل ولايتا شمال وغرب كردفان أي إنتاج زراعي في موسم المحاصيل الصيفي لعام 2023.
وبحسب تقديرات منظمة الأغذية والزراعة العالمية «الفاو»، فإن إنتاج السودان من الحبوب تراجع بنسبة تزيد على 60%، موضحة أن أكثر من 1.8 مليون أسرة سودانية تعمل في الزراعة والرعي، وبات غالبية المزارعين يجدوا صعوبة في الوصول إلى الأراضي والمواد الأولية.
وتسبب اتساع رقعة الحرب على امتداد نحو 70% من مناطق السودان في تعطيل عجلة الإنتاج الزراعي والصناعي، لا سيما مع فقدان 85% من قدرات شبكات الري.
دعم الإمارات
منذ اندلاع النزاع في السودان، في أبريل 2023، تحرص دولة الإمارات على دعم جميع القطاعات الحيوية في البلاد، ومن بينها القطاع الزراعي، حيث وقعت اتفاقية مع منظمة الأغذية والزراعة «الفاو» لتقديم تمويلاً قدره 5 ملايين دولار يوجه لمشروع تخفيف المجاعة ودعم أصحاب المشروعات الزراعية الصغيرة والأسر الرعوية المتأثرة بالحرب.
ويوفر المشروع مساعدات طارئة في مجال المحاصيل والماشية والخدمات البيطرية لنحو 275 ألف أسرة من صغار المزارعين والرعاة الضعفاء، ويستفيد منه نحو مليون و375 ألف شخص.
كما يهدف إلى الحد من الخسائر في الثروة الحيوانية من خلال التطعيم الوقائي ضد الأمراض العابرة للحدود، ويستهدف مليوني رأس من الحيوانات، ويستفيد منه نحو 600 ألف شخص، 25% منهم من الأسر التي تعيلها النساء.
تراجع حاد
شددت الباحثة في الشؤون الأفريقية، نسرين الصباحي، على أن تداعيات الحرب في السودان لم تقتصر على المشهدين السياسي والإنساني فحسب، بل امتدت لتضرب بشدة القطاع الزراعي الذي يُعد أحد أهم ركائز الاقتصاد السوداني، إذ يعتمد عليه ملايين السكان في حياتهم اليومية.
وأوضحت الصباحي، في تصريح لـ«الاتحاد»، أن تدهور القطاع الزراعي في السودان جاء نتيجة مباشرة لعدة عوامل تراكمية أفرزها النزاع المسلح، أبرزها موجات النزوح الجماعي التي ضربت المجتمعات الريفية، والتي تُعد الحاضنة الأساسية للنشاط الزراعي في البلاد.
وأشارت إلى أن النساء والفتيات اللاتي يُمثلن عماد القوة العاملة الزراعية في كثير من مناطق السودان، هن الأكثر تضرراً من النزاع، ليس فقط بفعل العنف والنزوح، بل أيضاً نتيجة تحملهن لأعباء جديدة، أبرزها محاولة تأمين الغذاء في بيئات صارت غير صالحة للإنتاج الزراعي بفعل الدمار وانعدام الأمن.
وقالت الباحثة في الشؤن الأفريقية، إن التقارير الأممية تُظهر أرقاماً مرعبة، إذ بلغ عدد النساء والفتيات النازحات داخل السودان نحو 5.8 مليون، ضمن أكثر من 12 مليون نازح داخل السودان وخارجه، وكثير من هؤلاء كانوا في الأصل من سكان المناطق الزراعية، مما يعني فقداناً جماعياً للأيدي العاملة، وانهياراً للقدرة الإنتاجية في قطاعات الزراعة والرعي، لا سيما في مناطق مثل دارفور وكردفان والنيل الأزرق.
وأضافت أن المرأة السودانية في الأرياف أصبحت مضطرة للعب أدوار متعددة، في ظل غياب الرجال بسبب الحرب أو النزوح أو القتل، من الزراعة والرعي إلى رعاية الأطفال وتأمين الغذاء والمأوى، وهو ما يجعل النساء يتحملن العبء الأكبر في مجتمع منهك أصلاً اقتصادياً واجتماعياً.
ونوهت الصباحي بأن استمرار النزاع وتصاعد المعارك، خصوصاً في مناطق الإنتاج الزراعي الأساسية، يُهددان بإدخال السودان في مرحلة انعدام أمن غذائي غير مسبوق، مشددة على أهمية تقديم الدعم الإنساني والإغاثي العاجل، وإعادة التفكير في سبل تأهيل المجتمعات الزراعية المتضررة، مع التركيز على خدمات الدعم النفسي والصحي للنساء اللواتي تحولن من ضحايا مباشرة للحرب إلى خط الدفاع الأول في مواجهة الجوع والانهيار الاقتصادي.
ضربة قاصمة
قالت الباحثة في الشؤون الأفريقية، نورهان شرارة، إن القطاع الزراعي السوداني كان يمثل ما بين 30 و%35 من الناتج المحلي الإجمالي، ويُعد مصدر رزق لنحو %60 من القوى العاملة. ومنذ اندلاع الحرب، تلقى القطاع ضربة قاصمة، حيث تشير التقارير الدولية والمحلية إلى أن السودان فقد معظم موارده الطبيعية والبشرية، مع نزوح نحو 12 مليون شخص داخل وخارج البلاد، كثير منهم من المزارعين الذين كانوا يشكلون العمود الفقري للمواسم الزراعية.
وأضافت شرارة، في تصريح لـ«الاتحاد»، أن البيانات تشير إلى أن البنية التحتية الزراعية تعرضت لانهيار شبه كامل، مما أدى إلى انخفاض الإنتاج الوطني من الحبوب بنسبة لا تقل عن %60، في ظل انقطاع الإمدادات الأساسية من بذور وأسمدة، بسبب تفاقم الأوضاع الأمنية في مناطق الزراعة الأساسية مثل الجزيرة والنيل الأزرق وكردفان.
وأكدت أن السودان يقف على حافة المجاعة، وفقاً لتصنيف الأمن الغذائي المتكامل (IPC)، حيث يعاني نحو 18 مليون شخص من انعدام الأمن الغذائي الحاد، ورغم وصول بعض المساعدات الإغاثية، فإن المستقبل يبدو قاتماً، مشيرة إلى أن معالجة الانهيار الكارثي للقطاع الزراعي لن تكون سريعة أو سهلة، بل ستتطلب سنوات من العمل، وتمويلاً دولياً ضخماً، وأهم من كل ذلك استقراراً سياسياً حقيقياً يؤسس لإعادة بناء ما دمرته الحرب في الريف السوداني.