بعد غدٍ، ستمتلئ الدنيا بصور «كيوبيد»، حاملًا قوسَه وسهامَه التى يضربُ بها القلوب. «كيوبيد» هو أكبرُ طفلٍ فى الوجود. عمره ٣٠٠٠ عام. الطفلُ الأبدىّ الذى لا يكبُرُ ولا يشيخ؛ شأنه شأن الحب!، عابرٌ للزمن؛ شأنه شأن الحبِّ، معصوبُ العينين؛ شأن الحبِّ. ويصيبُ القلوبَ من دون إنذارٍ ولا مَنطقٍ، شأنه شأن الحبِّ أيضًا.
ينبهرُ بجمال «سايكى» ويقعُ فى هواها، ويرمى قدمَه بسهم الحب. ولأنه إلهٌ وهى إنسانٌ، كان ممنوعًا عليها أن تراه. شيّد لها قصرًا منيفًا وعاشا معًا أيامًا جميلة: يراها، ولا تراه. وذات يوم، وبتحريض من شقيقتيها، نظرت إليه، فغضب «كيوبيد» واختفى. واختفى معه قصرهما المنيفُ بحدائقه. ضربها الحزنُ وهامتْ على وجهها شاردةً، حتى دخلت هيكلَ «فينوس» لكى تتوسّل إليها أن تُعيدَ إليها «كيوبيد»، فأمرتها «فينوس» أن تحملَ صندوقًا صغيرًا وتذهبَ به إلى العالم السُّفلى لتعبئه من جمال زوجة «بلوتو»، وتعود إليها بالصندوق شريطة ألّا تفتحَه. وفى طريق العودة، ضربها الفضولُ وفتحت الصندوقَ لكنها لم تجد الجمالَ. بل وجدت النومَ الذى يشبه الموات، فوقعت فى نومٍ طويل. ولمّا وجدها «كيوبيد» ملقاةً فى الصحراء نائمةً كالموتى، رقَّ قلبُه وانتزعَ منها النومَ وأعاده للصندوق، ثم تزوجها، فمَنَّ عليها «جوبيتر» بالألوهية لتصيرَ «ربّةَ الروح». ومنها اشْتُقَّ اسم علمُ النفس Psychology.
بعد غدٍ ١٤ فبراير، بدايةُ فصل الربيع عند قدامى الرومان. حيث مهرجان الخصب والنقاء. كانوا يكنسون البيوتَ وينثرون القمحَ والمِلحَ. ثم يذهبُ الكهنةُ إلى الكهف المقدس، حيث يعيشُ الطفلان: «روميلوس» و«ريميس»؛ مؤسِسا الدولة الرومانية، تحت رعاية أنثى الذئب. يذبحون القرابين: عنزةً، رمزًا للخصوبة، وكلبًا، رمزًا للنقاء والوفاء. ثم يُقطّعون جلدَ العنزة شرائحَ صغيرةً يغمسونها فى الدم، يجوبُ بها الأولادُ الطرقاتِ ليمسحوا وجوهَ النساء، والحقول؛ فيعمَّ الخصبُ: إنجابًا، ومحاصيلَ. وعند المساء، تُلقى الفتياتُ أسماءهن فى جَرّة، ويأتى شبابُ الرومان يلتقطُ كلٌّ ورقةً، فيتزوجُ صاحبتَها. هذه قصة عيد الحب، كما روتها أساطيرُ ما قبل الميلاد. أما الحكايا الأحدثُ فتقول إن قدّيسًا اسمه «فالنتين» عاش فى عهد الإمبراطور «كلاوديس»، الذى جَرّم الزواجَ على الشباب؛ لاعتقاده أن الزواجَ يُضعِفُ لياقةَ الجنود القتالية. لكن القديسَ الطيبَ رأى القانونَ مُجحفًا وغيرَ شرعىّ، فتحدّى الإمبراطورَ، وراح يزوّجُ العاشقين فى كنيسته سِرًّا. ولما اكتُشفَ أمرُه أُعدم يوم ١٤ فبراير، فصارَ أيقونةً للمحبّين. أما الحقيقة الفلكية فتقول إن (١٤ فبراير) بدايةُ موسم تزاوج الطيور، لهذا صارَ رمزًا للرومانسية، يتبادلُ فيه العشاقُ، والأصدقاءُ أيضًا، بطاقاتِ التهنئة والهدايا. وفى مكتبة لندن، ترقدُ أقدمُ تهنئة فى التاريخ بعيد الحب. وكانت من «تشارلز»، دوق أورليانز، لزوجته حين كان سجينًا فى برج لندن فى القرن الـ١٥.
الحبُّ هو العاطفةُ الساحرة التى منحتنا كلَّ هذا الميراث الضخم من الأغنيات والأوبرات، والمسرحيات، والروايات، والقصائد، والمقطوعات الموسيقية. إنه القوةُ العجيبة التى دفعت الإنسانَ لإبداع القطع النحتية واللوحات التشكيلية والأساطير. الحبُّ هو الكيمياءُ السحرية التى تضربُ العقولَ، فتجلب السعادة القصوى فى لحظة، وفى اللحظة التالية تجلب اليأسَ والحَزَن؟. الحبُّ هو الريشةُ التى جَمَّلَت العالمَ ولوّنته بألوان الفرح.
فى «عيد الحب»، Valentine›s Day أهديكم قصيدتى هذه:
فتحتُ الصُّبحَ/ فدخلَ الصُّبحُ غرفتى/ من نافذتى الشرقية/ ودخلَ العيدُ وسربٌ من العصافير…
أخبرتنى العصافيرُ أن الرومانَ قالوا للطير: ادخلوا الشجرَ إنْ شاءَ اللهُ آمنين/ فإذا ما انتصفَ الشهرُ الثانى/ تزوّجوا…/ وانتصفَ الشهرُ/ ولم يتزوجِ الطيرُ…/ لأن الشجرَ كان مسافرًا/ ليبحثَ للشهرِ عن اسمٍ جديد
وقالوا إن القرنَ الثالثَ علّمَ قسّيسًا طيّبًا/ أن يُزوّجَ العاشقين الصِّغارَ/ فى قلاية الهيكلِ السِّريّة/ حتى تُشرق الشمسُ فوق هاماتِ البيوتِ والشجر…
لكنّكَم/ يوم ميلادى/ ألقيتم قطعَ الحلوى على الشعوب/ من فوق جبل «قاسيون»/ بعدما فصمْتم عُروتَنا…/ لأن بلادكَم تقولُ: «شباطَ»/ وبلادى تقولُ: «فبرايرَ»…/ رغم أن الاسمَ/ ليس إلا اسمًا/ مجردَ اسمٍ/ لا يعنى شيئًا/ ولا يُخمدُ رائحةَ الزهرةِ/ أو لونَها/ لو سميناها أىَّ اسم آخرَ/ عدا «زهرة»…/ هكذا أخبرتْ جولييتُ روميو الواقفَ تحت شرفتِها/ منذ عقودٍ…
سوف أخلعُ عباءةَ هذا القرنِ الضيّق/ وأركضُ صوبَ القرن البعيد/ أدخلُ كهفَ الطيبين/ وأتزوّجُ حبيبى/ رغمَ أنفِ اختلاف الأسماء/ والألسنِ/ وقطع الحلوى/ ورغمَ أنفِ حبيبى.
فاطمة ناعوت – المصري اليوم
المصدر: موقع النيلين
إقرأ أيضاً:
علي جمعة: البعض يرفض روح التعاون والإيثار بين أصحاب النبي فى الهجرة
قال الدكتور علي جمعة مفتى الجمهورية السابق وعضو هيئة كبار العلماء بالأزهر الشريف عبر صفحته الرسمية على فيس بوك: إن روح الحب سرت في المدينة بمجرد أن حل بها رسول الله ﷺ واتخذ كل أنصاري لنفسه أخا من المهاجرين يقوم على إيوائه ورعايته وضيافته.
واستشهد بقوله تعالى: (وَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِهِمْ لَوْ أَنْفَقْتَ مَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا مَا أَلَّفْتَ بَيْنَ قُلُوبِهِمْ وَلَكِنَّ اللَّهَ أَلَّفَ بَيْنَهُمْ إِنَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ (63) يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ حَسْبُكَ اللَّهُ وَمَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ)
قَالَ ابْنُ إسْحَاقَ: وَآخَى رَسُولُ اللّهِ ﷺ بَيْنَ أَصْحَابِهِ مِنْ الْمُهَاجِرِينَ وَالْأَنْصَارِ، فَقَالَ: "تَآخَوْا فِي اللّهِ أَخَوَيْنِ أَخَوَيْنِ".
ونوه ان رسول الله آخى بين سعد بن الربيع وعبد الرحمن بن عوف، رضي الله عنهما، فانطلق سعد إلى داره وقال له: يا عبد الرحمن، أنا أكثر أهل المدينة مالا وأقلهم عيالا، فانظر إلى أي شطر من مالي فخذه، ثم انظر إلى امرأتي هاتين أيتهما تعجبك حتى أطلقها فتتزوج بها. فقال عبد الرحمن بن عوف: بارك الله لك في أهلك ومالك، دلوني على السوق. فدلوه، فذهب إليه وباع واشترى حتى ربح ربحا وفيرا فأثرى واغتنى.
روح المحبة بين المهاجرين والانصار
وفي روح المحبة والإيثار التي سرت بين المهاجرين والأنصار نزل قوله تعالى: (وَالَّذِينَ تَبَوَّءُوا الدَّارَ وَالْإِيمَانَ مِنْ قَبْلِهِمْ يُحِبُّونَ مَنْ هَاجَرَ إِلَيْهِمْ وَلَا يَجِدُونَ فِي صُدُورِهِمْ حَاجَةً مِمَّا أُوتُوا وَيُؤْثِرُونَ عَلَى أَنْفُسِهِمْ وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ وَمَنْ يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ).
وأشار إلى أن الحديث عن روح التعاون والمشاركة والإيثار بين أصحاب رسول الله والتي وصلت إلى هذا الحد قد يرفضها أو يردها بعضهم، ممن خلع نظارة الحب ولبس مكانها نظارة العصبية وتحكيم المصالح والتقاليد التي تراكمت على قلوبهم، ويرون في مثل هذا الفعل سذاجة سعد بن الربيع الذي عرض على أخيه المهاجر أن يتنازل له عن شطر ماله وأهله، ويرون في عرضه لزوجتيه على أخيه حتى يختار من يرغب في الزواج بها حتى يطلقها له عدم نخوة منه وعدم رجولة، أو يحكمون على مثل هذا السلوك بأنه تحقير للمرأة ومعاملة الزوج لها معاملة الأشياء المملوكة.
ولفت الى ان كل هذا الفهم السقيم والنظر السيء مصدره وسببه عدم الإدراك للحب، وعدم النظر إلى الأشياء بنظارته، فإن سعد بن الربيع وزوجتيه وعبد الرحمن قد انصهروا جميعا في بوتقة حب الإسلام وحب رسول الله وحب بعضهم بعضا فصاروا جميعا كالشيء الواحد.
وما يمكنا أن نقوله لمن أساء فهم حوادث الحب بين الصحابة: حاكموا الحب وسائلوه.
فإنكم افتقدتم هذا الحب في حياتكم فصار عليكم غريبا عجيبا مستصعبا فهمه، وبفقدكم للحب فقدتم كل معنى للحياة وقست قلوبكم وتنطعت أفكاركم وتجمدت عقولكم وأرواحكم.