في يوم العدالة الاجتماعية .. غزة تغيب عن حسابات العالم
تاريخ النشر: 20th, February 2024 GMT
سرايا - يستذكر العالم الثلاثاء، اليوم العالمي للعدالة الاجتماعية من أجل التَّذكير بأبسط حقوق الإنسان، لكنَّ أهل غزَّة من شمال القطاع الى جنوبه شهود على أنَّ العدالة التي يتغنى بها العالم ليست إلا حبرا على ورق وشعارات عديمة الفائدة لا تسمن ولا تغني عن جوع يفتك بآلاف الأطفال والنساء والشيوخ في ذاك الجزء من الجغرافيا الفلسطينية التي اسُتشهد فيها نحو 30 ألف إنسان منذ 139 يومًا أمعنت قوات جيش الاحتلال الصهيوني خلالها بقتلهم والتَّنكيل بهم وإبادتهم بشكل جماعي.
حين يتحدث العالم عن العدالة ينبغي أن يتوقف كثيرا عند المأساة الإنسانية العظيمة في غزَّة التي حولتها آلة الحرب الصهيونية إلى جحيم بعد أن حُرم الناس هناك أمام نظر العالم من كل مقومات الحياة وقطعت عنهم كل وسائل العيش، وتوقف تطبيق القانون الدَّولي، وغابت عدالة القوى الكُبرى من أجل وقف إطلاق النَّار حماية للأطفال والنساء والشباب وكبار السِّن والفئات الأكثر هشاشة وضعفاً. في غزة يبدو أن لا مكان يتسع لمفهوم العدالة كما أراده العالم.
مهتمون ومراقبون قالوا بمناسبة اليوم العالمي للعدالة الاجتماعية والذي أقرت الجمعية العامة للأمم المتحدة الاحتفال به كيوم عالمي في العشرين من 20 شباط كلِّ عام، إن هذا اليوم يهدف إلى إشعار العالم بأنَّه لا يمكن تحقيق العدالة الاجتماعية دون أن يسود السَّلام والأمن وإشاعة احترام حقوق الإنسان والحريات الأساسية.
فالعدالة الاجتماعية تشكل جوهر حقوق الإنسان والهدف الذي تسعى الى تحقيقه جميع الدول من خلال ترسيخ الحقوق والحريات المختلفة، تقول الخبيرة في مجال حقوق الانسان الدكتورة نهلا المومني.
وأضافت ألمومني، إنَّ أهمية العدالة الاجتماعية تكمن بأنها تشكل الأداة اللازمة لتقليص الفجوة بين افراد المجتمع الواحد على اختلاف مستوياته وفي الوقت ذاته تقليص التفاوت بين الدول على المستوى العالمي في المجالات المختلفة.
وبينت أنَّ العهد الدولي الخاص بالحقوق الاقتصادية والاجتماعية والثقافية يُشكل المظلة الكبرى لحقوق الانسان في هذه المجالات وبما يضمن تحقيق العدالة بين الافراد، مشيرة الى أن اعلان منظمة العمل الدولية بشأن العدالة الاجتماعية يعد وثيقة دولية هامة في اطار وضع مبادئ تكفل هذه العدالة في العمل.
وأوضحت أنَّ اهداف التنمية المستدامة 2030 تُعد من أبرز المكنات الدولية التي جاءت تحت شعار "عدم ترك أحد بالخلف" من خلال 17 هدفا تسعى للقضاء على الفقر وتوفير الصحة الجيدة والرفاه والتعليم والصحة والمياه والعمل اللائق والصناعة والابتكار والحد من أوجه عدم المساواة انتهاء بإقامة مجتمعات مسالمة لا يهمش فيها أحد.
"إلا ان هذا اليوم يأتي هذا العام في ظل انتهاكات جسيمة للعدالة بكافة اشكالها في ظل ما يشهده قطاع غزة من عدوان يرتكز بصورة أساسية على تدمير مقومات الحياة وإحداث خلل وفجوة بعناصر التنمية المستدامة التي من شأنها تحقيق اطر العدالة الاجتماعية وهي أفعال مقصودة لذاتها ينتهجها الكيان المحتل في اطار سلسلة من جرائم الحرب التي ما يزال يمعن في ارتكابها" كما تقول المومني.
وقالت المديرة التنفيذية لجمعية "تمكين" للمساعدة القانونية وحقوق الإنسان ليندا كلش تشير الى أن العدالة الاجتماعيّة هي أحد النظم الاجتماعيّة التي يتم من خلالها تحقيق المساوة بين جميع أفراد المجتمع من حيث المساوة في الفرص، وتوزيع الثروات، والامتيازات، والحقوق السياسيّة، وفرص التعليم، والرعاية الصحيّة، لكنها أكدت أنه لا يمكن تحقيق العدالة الاجتماعية دون أن يسود السلام والأمن ويشيع احترام جميع حقوق الإنسان والحريات الأساسية.
"في قطاع غزة لا وجود للعدالة والسلام" تؤكد لكش؛ فالحصار الكامل مستمر عليها منذ أكثر من 16 عامًا، والآن هناك حرب بشعة يشنها الاحتلال الصهيوني على القطاع للشهر الخامس أسفرت عن إبادة جماعية لعشرات الآلاف من الأبرياء وتدمير وسائل الحياة والعيش والنزوح القسري، وأصبح جميع سكان غزة تقريباً يعيشون في فقر متعدد الأبعاد وبنسبة وصلت إلى 96%.
وأضافت، نظراً لحجم الدمار، وضعف القدرة على الوصول إلى الموارد بما في ذلك المواد والمعدّات بفعل الحصار الكامل على غزة يُستبعد أن يتعافى الاقتصاد في المدى المنظور بعد انتهاء العدوان. إن أي جهود لتحقيق التعافي الاقتصادي في غزة ستبقى عاجزة عن تحقيق هذا الهدف ما يعني غياب العدالة الاجتماعية والحرمان من الحصول على العديد من الحقوق منها العمل والصحة والتعليم والعيش الكريم.
ويؤكد الاستاذ المشارك في علم الاجتماع بجامعة مؤتة الدكتور زيد محمود الشمايلة أن العدالة الاجتماعية هي القاعدة الأساسية لاستمرار وتيرة الحياة واستمرار العلاقات الناجحة بين أي طرفين لأنها محور أساسي في الاخلاق والقانون والعلاقات الابتدائي، مشيرا الى أن الله أمر الملائكة بالسجود لآدم وعندما عصى ابليس الأمر كانت العدالة الإلهية هي الطرد من رحمة الله.
وأشار الى أن معظم الفلاسفة القدماء كتبوا عن العدالة الاجتماعية باعتبارها "الحكمة والفضيلة التي يجب أن تشمل كل الناس" كما ذهب الى ذلك أرسطو، فبالعدالة تتحقق للإنسان السعادة التي يحلم بها أما أفلاطون فقد قال إنه "يتعين على الحكام فرض نظام اجتماعي للسيطرة على أفعال وسلوكيات المحكومين بما يحقق لهم الأمن والاستقرار الاجتماعي من خلال فرض القانون على الجميع وفرض العقوبات فذلك ما يضمن تنفيذ العقد الاجتماعي الذي يبحث عنه الجميع".
وأضاف، لقد حثت الديانات السماوية كلها على ضرورة تكريس العدالة الاجتماعية لأهميتها في تعزز حقوق الأفراد وتحقيق التوازن في توزيع الثروات وتحسين مستوى المعيشة وضمان تكافؤ الفرص، وتعزيز المواطنة والانتماء وإحداث التناغم بين المصالح الفردية والمصالح الكلية.
وقال، في القرن الحالي أصبحت العدالة الاجتماعية متطلبا اجباريا تلتزم به كل الدول وتنادي يها جميع المنظمات الأممية الدولية والوطنية، مشيرا الى أن غياب العدالة الاجتماعية يعني فشل الدول والمنظمات في تحقيق بيئة نزيهة تضمن العدالة بين الأفراد في أي بقعة جغرافية.
لكن للأسف، يقول الشمالية، فإن مبادئ العدالة الاجتماعية في كل دساتير وقوانين العالم سواء المستندة على الفكر الديني أو الدساتير المستندة للفكر العلماني والتي يتغنى العالم بها ويضع القوانين والتشريعات لها إلا أنها كلها وقفت وقفت عاجزة في مواجهة الاعتداء الذي تقوم به إسرائيل ضد سكان غزة وكأن ما يحدث في غزة لا يتعلق بالإنسانية وبالأطفال والنساء وكبار السن وأصبحت كل القوانين الدلوية بهذا الشأن مجرد حبر على ورق في أرشيف الدول المسؤولة عن العدالة العالمية.
لماذا هذا السكوت عما يحدث في غزة؟ يتساءل الشمالية؛ وكأن القاعدة أصبحت "اللهم نفسي وكأن ما يحصل عند جارك لن يصل لبيتك والكل يبرر تقصيره وعجزه عن احقاق الحق وفرض العدالة الإنسانية في غزة التي يعاني أهلها القهر منذ عقود ويواجهون الآن الموت الذي يلاحقهم كل لحظة".
المصدر: وكالة أنباء سرايا الإخبارية
كلمات دلالية: العدالة الاجتماعیة العدالة الاجتماعی حقوق الإنسان ة التی فی غزة الى أن
إقرأ أيضاً:
الانتهاكات في اليمن.. إرث ينتظر العدالة
في ظل حرب طاحنة مستمرة منذ عقد في اليمن، لم تعد العدالة مطلباً قانونياً فحسب، بل صارت ضرورة إنسانية لمئات الآلاف من الضحايا الذين فقدوا أحبتهم، أو عانوا الإخفاء القسري، أو عاشوا تحت القصف ومروا بتجارب نزوح مريرة، وعصف بهم الجوع وحُرموا من الحقوق الأساسية. هؤلاء الضحايا لا يبحثون عن الانتقام، بل عن اعتراف حقيقي بآلامهم، وضمانات بعدم تكرار المأساة.
هذا ما كشفته دراسة ميدانية حديثة بعنوان «الطريق نحو السلام»، أصدرتها خلال الأيام الماضية منظمة سام للحقوق والحريات، ورابطة أمهات المختطفين، وميثاق العدالة لليمن، لرصد رؤية المجتمع المحلي حول آليات تنفيذ العدالة الانتقالية والمصالحة الوطنية كمدخل ضروري لتحقيق السلام في البلاد.
الدراسة المشار إليها، استندت إلى أسلوب العينة القصدية، واختيار الضحايا من مختلف شرائح المجتمع من ست محافظات يمنية هي: صنعاء، عدن، تعز، الحديدة، مأرب، حضرموت، وشملت العينة: 109 مقابلات فردية، و13 مقابلة مع خبراء، و20 جلسة نقاش جماعي، اختار نحو 64.3% من الضحايا والمشاركين خيار المصالحة وإنهاء الحرب كأولوية لإنجاح العدالة الانتقالية، مقابل 35.7% يدعمون محاسبة المنتهكين قبل أي تسوية.
هذه النتيجة تكشف عن حالة الإنهاك التي وصل إليها اليمنيون؛ بمقدار ما توجه نداءً إلى الضمير الإنساني بأن بناء السلام في اليمن لا يتم بدون كشف الحقيقة، وإنصاف الضحايا، واستعادة كرامتهم كشرط للسلام الدائم في بلد مثقلة بإرث من الانتهاكات التي تنتظر العدالة.
وطبقاً لمفهوم العدالة الانتقالية، لا يمكن الحديث عن مصالحة مستدامة دون المرور بمحطة الحقيقة والمحاسبة، كما فعلت دول مثل جنوب إفريقيا، سنة 1995، إثر تشكيل لجنة الحقيقة والمصالحة التي استمرت أعمالها ثلاث سنوات استمعت خلالها إلى شهادات آلاف من ضحايا نظام التمييز العنصري الأبارتايد، وطبقت مبدأ العفو المشروط مقابل الاعتراف بالجريمة.
البدء بالمعنى
تمثل العدالة الانتقالية، إطارًا قانونيًا وأخلاقيًا لمعالجة الانتهاكات، وضمان مساءلة المسؤولين عنها، وجبر الضرر، سمعنا عنها سنة 2011، بحسب اتفاق آلية تنفيذ العملية الانتقالية في اليمن وفقاً لمبادرة مجلس التعاون الخليجي، فإن الهدف من مؤتمر الحوار الوطني هو «تحقيق المصالحة الوطنية والعدالة الانتقالية، والتدابير اللازمة لضمان عدم حدوث انتهاكات لحقوق الإنسان والقانون الإنساني مستقبلاً» وفقاً للمادة 21 من الآلية، وإثر ذلك قدمت وزارة الشؤون القانونية قانون العدالة الانتقالية والمصالحة الوطنية، بصيغته الأولى، سنة 2012، لكن النقاشات المحتدمة والخلافات بين مكونات مؤتمر الحوار الوطني حول العدالة الانتقالية، أفضت إلى رؤية جامعة، وقد نصت وثيقة مخرجات مؤتمر الحوار 2013، على إنشاء لجنة للعدالة الانتقالية، وبعدها عملت وزارة الشؤون القانونية على تعديل مسودة قانون العدالة الانتقالية والمصالحة الوطنية سنة 2014، لاستيعاب نتائج الحوار، التي تضمنت تعويض القتلى والجرحى، المعتقلين والمخفيين قسراً، النازحين والمشردين، الأموال المنهوبة والأراضي المنهوبة، المسرحين والمفصولين، المتضررين من الألغام والذخائر المتفجرة، وكل من تعرض لانتهاك بأي فترة زمنية ومازال الضرر قائماً، كان سيقف أمام لجان العدالة الانتقالية لإنصافه.
وقبل أن يصل معنى العدالة الانتقالية إلى الوعي اليمني العام وينعم اليمنيون بها، انقلبت جماعة الحوثي وأغلقت باب العدالة، وفتحت للانتهاكات ألف باب.
حالياً، يعد الحديث عن العدالة الانتقالية وتبسيط معناها، ودراسة التجارب في البلدان المختلفة، بمثابة الضوء الذي ينير للوعي العام، الطريق إلى مرحلة جديدة، تبدأ بالاعتراف بحقوق الضحايا المستلبة.
يشير مصطلح العدالة الانتقالية/ آليات العدالة الانتقالية، إلى الجهود المبذولة لمعالجة إرث انتهاكات حقوق الإنسان واسعة النطاق التي لا يمكن للهياكل القضائية وغير القضائية معالجتها بالكامل، بحسب تعريف الأمم المتحدة. الذي يوضح أن العدالة الانتقالية تغطي «المجموعة الكاملة للعمليات والآليات المرتبطة بمحاولة المجتمع التصالح مع إرث متفشٍّ على نطاق واسع خلّفه نزاع ماضٍ أو قمع أو انتهاكات أو تجاوزات»، بهدف ضمان المساءلة والاعتراف بالضحايا وتخليد ذكراهم، وجبر الضرر وإعادة الثقة بين المواطنين ومؤسسات الدولة، وتحقيق المصالحة. وهي بذلك تهدف إلى أن تشكل حلاً أساسياً يساهم في بناء المرحلة الجديدة وإحداث تغيير للأفضل، من خلال آليات العدالة التي تعمل على تعويض ضحايا الانتهاكات في الماضي/ المرحلة القديمة، ومنع تكرار تلك الانتهاكات في المستقبل.
وبحسب دراسة الطريق نحو السلام، التي أجرتها المنظمات اليمنية، فإن 51% فقط من المشاركين كانوا على دراية بمفهوم العدالة الانتقالية، بينما لم يسمع به الآخرون من قبل.
ضرورة التعبئة
تُعدّ مشكلة ضعف الوعي العام بمفهوم العدالة الانتقالية انعكاسًا لقصور أعمق في الوعي القانوني لدى عامة الناس. فمنذ أكثر من عقد، واليمن يرزح تحت صراع مدمّر أطاح بالبنية التحتية، وخلف آلاف الضحايا، وتسبب في واحدة من أسوأ الأزمات الإنسانية في العالم. وتشير الدراسة إلى أن آلاف الضحايا لم يُبلّغوا عن الانتهاكات التي تعرضوا لها، لأسباب متعددة، أبرزها: الخوف من الجناة والانتقام، أو الافتقار إلى الموارد المالية لتغطية تكاليف التقاضي، إضافة إلى الخوف من الوصمة، خصوصًا في الانتهاكات التي تتعرض لها النساء. كما أن ضعف الوعي القانوني، خاصة بما يتعلق بالانتهاكات المرتبطة بالنزاع، ساهم في صمت الضحايا، إلى جانب الشعور بانعدام فرص المحاسبة، إما بسبب وجود المنتهكين في مراكز السلطة، أو قربهم من دوائر النفوذ في المناطق الخاضعة لسيطرة أطراف الصراع المختلفة.
هذا الواقع الحقوقي في اليمن يعيد إلى الأذهان تجربة الأرجنتين في الثمانينيات، عندما شهدت البلاد بين عامي 1976 و1983 موجة قمع واستبداد راح ضحيتها 15 ألف قتيل، واختفى نحو 30 ألف شخص، واضطر أكثر من مليون ونصف إلى مغادرة البلاد. وقد أطلقت منظمات حقوقية وناشطون حملة تعبئة واسعة لتشجيع الضحايا على المطالبة بحقوقهم وكشف الانتهاكات. وتكللت تلك الجهود بتأسيس لجنة وطنية شملت حقوقيين وممثلين عن الكنيسة ومنظمات مجتمع مدني، للتحقيق في الجرائم، وتحديد المسؤولين عنها، وكشف الحقيقة، وضمان عدم تكرارها.
رغم اختلاف السياقين السياسي والجغرافي، تُظهر التجربتان اليمنية والأرجنتينية تقاطعًا لافتًا في التحديات التي تعرقل تحقيق العدالة الانتقالية، وعلى رأسها الخوف، وضعف الوعي، واستمرار نفوذ الجناة. ففي كلا الحالتين، ساد الصمت لفترة طويلة بسبب الرعب من العقاب أو الانتقام، إلى جانب شعور واسع بانعدام جدوى المحاسبة. إلا أن التجربة الأرجنتينية أثبتت أن التعبئة الحقوقية، وتوثيق الجرائم، وبناء الثقة المجتمعية، قادرة على كسر دائرة الخوف وإجبار الدولة على التحرك، حتى بعد سنوات من القمع. واليمن، وهو يواجه تحديات مركبة في ظل غياب الاستقرار السياسي واستمرار النزاع، يمكنه الاستفادة من تلك التجربة ببناء تحالفات مدنية وإعلامية تقود حملات توعوية، وتضع حجر الأساس لمطالبات قريبة من العدالة التصالحية التي تبني السلام وتمنع تكرار المأساة.
مخاوف الماضي
تطرقت الدراسة المشار إليها إلى مواقف المكونات السياسية والأطراف المختلفة من العدالة الانتقالية، وهي مواقف تستدعي الانتباه عند بناء نموذج مرن وفعّال لآليات العدالة الانتقالية في اليمن. فعلى سبيل المثال، يُظهر حزب المؤتمر الشعبي العام – بجناحيه – ميلاً إلى خيار المصالحة، ويتخوّف من مسار المحاسبة، خشية تحميله مسؤولية الانتهاكات التي وقعت في الماضي. هذا يعيدنا إلى ديسمبر 2013، حين فشل فريق العدالة الانتقالية في مؤتمر الحوار الوطني في تمرير التقرير النهائي، نتيجة اعتراض ممثلي الحزب على مواد تتعلق بقانون العزل السياسي، من بينها مادة تقترح إلغاء الحصانة الممنوحة للرئيس الراحل علي عبدالله صالح وكبار مساعديه. ورغم حذف تلك المواد المختلف عليها، واصل ممثلو الحزب اعتراضهم، بل واعتدوا جسديًا على رئيس الفريق.
أما حزب التجمع اليمني للإصلاح، فرغم أنه سيكون أقل حماسة للعدالة الانتقالية في بعض الفترات – خصوصًا فترة ما بعد حرب صيف 1994 – إلا أنه يُتوقع أن يدعم المسار القائم على المساءلة وجبر الضرر بعد عام 2014، لكونه من أكثر الأطراف تضررًا من النزاع في هذه المرحلة. في المقابل، يُبدي الحزب الاشتراكي اليمني حماسة واضحة لمسار العدالة الانتقالية، لا سيما فيما يخص معالجة الانتهاكات المرتبطة بالقضية الجنوبية. وتجدر الإشارة إلى أن أغلب الإشكالات المتعلقة بالانتهاكات السابقة لعام 2011، تم التوافق على آليات معالجتها ضمن مشروع العدالة الانتقالية الذي تم إقراره في مؤتمر الحوار الوطني.
لكن المشكلة الراهنة، تفرضها المرحلة التي تشكلت بعد 2014 بسبب الحرب. وبهذا الصدد من المهم الإشارة، إلى جزئية ذكرتها الدراسة، تتمثل في ظهور مكونات استطاعت إنشاء قوات عسكرية، مثل المجلس الانتقالي الجنوبي، الذي ينطلق من رؤيته للحلول بالعودة إلى ما قبل 1990، أي انفصال الجنوب عن الشمال، وبالتالي الاصطدام ببقية المكونات، ومنها المكونات السياسية داخل الجنوب نفسه.
وتكشف هذه التباينات، عن غياب التوافق الحقيقي بين المكونات السياسية حول مبادئ المساءلة والإنصاف ما يهدد بتحويل مسار العدالة الانتقالية إلى أداة للمناورة السياسية بدلاً من أن يكون وسيلة لمعالجة المظالم، وهذا يستدعي من جميع الأطراف السياسية تبني مقاربة شجاعة تقبل بمبدأ الحقيقة والمصالحة، وتتجاوز مخاوف الماضي، وتدخل في حوار جاد حوال آليات الإنصاف بعيداً عن الحسابات السياسية الضيقة.
المعطل الأكبر
اللافت في الدراسة أن أكثر المشاركين تشاؤمًا بشأن إمكانية انخراط الحوثيين في نقاشات العدالة الانتقالية، كانوا من محافظة صنعاء. وقد أكد أحد الصحفيين المقرّبين من الجماعة هذه النظرة التشاؤمية، إذ أكد في مشاركته، أن العدالة الانتقالية، من وجهة نظر جماعته، مشروطة بتخلّي جميع الأطراف عن الارتباط بالقوى الأجنبية، مؤكدًا أن مقومات العدالة، وفق رؤيتهم، تقوم على “تعويض عادل للضحايا”، وأضاف أن لديهم “رؤية وطنية” قد تكون الأنسب.
لكن تاريخيًا، لم يكن الحوثيون جزءًا من أي توافق وطني حقيقي. ففي عام 2014، كان مؤتمر الحوار الوطني قد أرسى أسس مشروع شامل للعدالة الانتقالية، إلا أن الحوثيين أجهضوا هذا المشروع بانقلابهم واقتحامهم لمؤسسات الدولية.
في الواقع يدرك اليمنيون، أن البنية الفكرية للجماعة الحوثية تتناقض جوهريًا مع مبادئ العدالة الانتقالية، فهي جماعة تقوم على التمايز الطبقي والعنصري. فكيف يمكن لقائد حوثي يؤمن بأحقيته في الحكم وفق اصطفاء إلهي، أن يعترف بارتكابه انتهاكات بحق ضحايا يعتبرهم خلقاً من الدرجة الثالثة وربما أقل؟
هذا التناقض العميق بين الفكر الحوثي القائم على التفوق السلالي، ومبادئ العدالة الانتقالية التي ترتكز على المساواة والاعتراف والانصاف، يضع تحديًا استثنائيًا أمام أي تسوية سياسية شاملة في اليمن.
وإضافة إلى هذه العوائق، هناك تحدٍ آخر، يتمثل بعدم هزيمة الطرف الأبرز المتهم بارتكاب انتهاكات واسعة النطاق. فبالنظر إلى تجربتي الارجنتين وجنوب افريقيا، يمكن تأمل حالة رواندا، التي شهدت سنة 1994، مجازر إبادة جماعية نفذها متطرفو الهوتو ضد أقلية التوتسي، راح ضحيتها نحو 800 ألف شخص خلال 100 يوم فقط، وتعرضت آلاف النساء للعنف الجنسي، وسط تحريض إعلامي واسع النطاق. كان الاستعمار البلجيكي قد ساهم في تغذية الصراع الطبقي بين الهوتو والتوتسي، من خلال بطاقات هوية منحت التوتسي امتيازًا عرقيًا على حساب الهوتو الذين اعتبروا أنفسهم لاحقًا “شعبًا مغلوبًا”. وأثناء المجازر، استُخدمت هذه البطاقات كأداة للتصفية العرقية.
أنهت الجبهة الوطنية الرواندية هذه المجازر بسيطرتها على العاصمة، ما دفع مئات الآلاف من الهوتو إلى الفرار خوفًا من الانتقام. وفي عام 2002، أنشأت رواندا محاكم “غاتشاتشا” الشعبية كآلية بديلة للعدالة، لتعويض عجز النظام القضائي الرسمي في بلد مزقته الكراهية والانقسامات. وقد زاوجت هذه المحاكم بين العدالة والمصالحة، حيث نظرت في أكثر من مليون قضية خلال عشر سنوات.
والشاهد من الحالة الرواندية، أو الأرجنتينية، وكذلك الجنوب افريقيا، أن أحد العوامل الجوهرية التي تُسهّل تطبيق العدالة الانتقالية هو هزيمة الطرف الأبرز المتورط في ارتكاب الانتهاكات، ما ساهم في تمهيد الطريق أمام الاعتراف بالضحايا وتحقيق العدالة الانتقالية. وكأن الهزيمة، في هذه السياقات، لا تعني فقط خسارة عسكرية أو سياسية، بل تعني انهيار الفكر القائم على القمع، لتحين اللحظة التي تُتيح للمجتمعات البدء في إعادة بناء ذاتها على أسس العدالة.
ومن هنا، فإن أي مسار للعدالة الانتقالية في اليمن، لا يمكن أن يُكتب له النجاح ما لم يسع لتفكيك الفكر المؤسِس لجماعة الحوثي، وهدم بنيتها السلطوية، بمعنى الالتزام بالانتماء الوطني على أسس المواطنة المتساوية، وإزالة الامتيازات التي تمنح جماعة فوقية على غيرها.
وهذا يتطلب ـ لتصميم مسار عدالة انتقالية فاعل ـ شجاعة سياسية وإرادة دولية ضامنة، وإجماعاً لا يفرط بالحقوق ولا يسمح بتدوير الاستبداد باسم المصالحة والعدالة الانتقالية.
نموذج مرن
ما كشفته دراسة “الطريق نحو السلام” يسلط الضوء على تطلع اليمنيين إلى إنهاء الحرب أولاً كخيار للمصالحة وإنجاح العدالة الانتقالية، مع الأخذ في الحسبان أن المصالحة لا تعني النسيان، بل تبدأ عند كشف الحقيقة، والاعتراف بالانتهاكات، وبناء مؤسسات قائمة على سيادة القانون.
وبالنظر إلى الحالة اليمنية، فإن العدالة الانتقالية، تحتاج إلى تصميم نموذج مرن، كما تؤكد الدراسة، تصميم قادر على إعادة الثقة بين المواطن ومؤسسات الدولة وتحويل الألم إلى ذاكرة فاعلة تساهم في بناء مستقبل جديد، لا عبء صامت يُكدس في الصدور أكوام الظلم وضغائنه.
وفي هذه المرحلة، تتمثل مسؤولية الفاعلين السياسيين، والمجتمع المدني، والشركاء الدوليين، في نشر الوعي العام بالعدالة الانتقالية وإعلاء صوت الضحايا، وبناء إرادة سياسية لا تساوم على كرامة الإنسان، وصولاً إلى تصميم آليات للعدالة الانتقالية لا تُفرّط بحق، ولا تُخضع العدالة لأية حسابات.
*تم إنتاج هذا المقال ضمن مشروع سبارك، الذي تنظمه منظمة سام للحقوق والحريات و رابطة أمهات المختطفين، بدعم من معهد DT