لسائل أن يسأل ما علاقة ما يحدث في غزة باتفاقية سايكس بيكو التي مضى عليها أكثر من قرن من الزمان ؟ لكن المتأمل في ظاهرتي الحصار المضروبة على غزة من جهة وعجز الشعوب العربية عن نصرتها من جهة ثانية يؤكد أن الحديث عن هذه الاتفاقية التي قسّمت بلاد العرب إلى قطع متباينة يأخذ اليوم أهم معانيه.
تستدعي اتفاقية التقسيم ثلاثة معطيات أساسية : أولها ما يسمى الدولة الوطنية وثانيها المؤسسات التابعة لها والمعبرة عنها وعلى رأسها جامعة الدول العربية وثالثها وهو المعطى الأهم فيتمثل في الثقافة الجماعية والوعي الفردي بالوطن والدولة.
غزة تُباد وحيدة
هي المرة الأولى التي تنقل فيها وسائل التواصل الاجتماعي حرب إبادة مباشرة على الشاشات. وهي المرة الأولى التي تُقصف فيها المنطقة الأكثر كثافة سكانية في العالم وسط حصار خانق برا وبحرا وجوا. وهي المرة الأولى التي تتحدّ فيها جيوش أقوى الدول من أجل قتل أكبر عدد ممكن من المدنيين والأطفال لكنها ليست المرة الأولى التي يقف فيها العالم العربي سلطة وشعوبا موقف المتفرج والمشارك في المذبحة.
اليوم تقترب الدولة الوطنية من نهايتها بعد أن حوّلت البلاد العربية إلى أطلال من الخراب والفشل والهزيمة وهي النهاية التي ستعلن عن مخاض المنطقة الجديد المسلّح بالوعي بشراسة الاستبداد وتحالفه العضوي مع المحتل وبأن شرط شروط البقاء لا يكون إلا بالتحام أجزاء الجسد الواحد أو الفناء.سلوك الإبادة الصهيونية ليس جديدا ومشاركة القوى العسكرية الغربية ليس جديدا أيضا وكذا تآمر الأنظمة العربية لكنّ الفاجعة الأكبر إنما تتمثل في الصمت الشعبي المريع داخل الشارع العربي. أحكم الجيش المصري قبضته على المجتمع وأغلق الحدود مع غزة بقبضة من حديد وكذا فعل الجيش الأردني مانعا الجماهير من التقدم نحو المعابر وفك الحصار عن الشعب.
أما بقية الشعوب فإن القلة القليلة فيها والمدركة لخطورة الصمت عن المجزرة تقف عاجزة هي الأخرى عن تحريك الجموع التي أثقلتها سنوات من تجريف الوعي ومسح الذاكرة والإلهاء. لم تخرج في كل الدول العربية مظاهرة كبيرة واحدة بل شاهدنا كيف خرج الملايين في عواصم العالم الغربي نصرة لغزة وكيف سيطر الجمود والصمت على الشارع العربي.
لم يعد خافيا مشاركة الأنظمة العربية في المجزرة عبر الحصار من جهة وعبر الجسور البرية التي وضعت خصيصا لضمان تدفق الخضروات والغلال وكل حاجيات دولة الاحتلال عبر الإمارات والسعودية والأردن أو حتى بحرا من تركيا الإسلامية.
أما المؤسسات الرسمية كجامعة الدول وغيرها من نوادي الاستبداد فلا تزال تلازم الصمت منذ بداية المجزرة وكأن الجريمة تحدث في قارة أخرى. هذا الصمت هو السلاح الذي تحتاجه الصهيونية لمواصلة جرائمها في حق المدنيين لأنه بمثابة الضوء الأخضر للإجهاز على المقاومة.
وعي سايكس بيكو وثقافته
وهو أخطر الأسلحة التي مكّنت جيش الاحتلال من غزة ومن فلسطين فإذا كان الصمت والتواطؤ العربي الرسمي مبررا بالدور الوظيفي للكيانات العربية فإن الشلل الشعبي عصيّ على التبرير. كيف نفهم عجز أكثر من مائة مليون مصري على فرض دخول شاحنات الغذاء والدواء لشعب يموت جوعا على الحدود ؟ وكيف نفهم احتفالات كرة القدم والدم يسيل أنهارا في غزة؟ وكيف نفهم تبريرات أذرع الاستبداد ونخبه بأن محرقة غزة مسألة فلسطينية لا دخل لنا بها؟
الدولة الوطنية هي في الحقيقة تكريس مؤسساتي شعبي وثقافي لاتفاقيات التقسيم حيث منح المحتل البريطاني والفرنسي كل مجموعة أو عائلة حكم منطقة من المناطق العربية بناء على مصالحه ومشاريعه. وفي نفس الوقت زرع الكيان المحتل في قلب المنطقة العربية فاصلا بين الخليج والشام والعراق وشمال أفريقيا.
شعبيا نجحت منظومات الاستبداد في تكريس فكرة الدولة الوطنية المنفصلة عن الجسد الأم وانتصرت في حربها على فكرة الوحدة أو حتى الفدرالية التي لم تنجح سياسيا بل واصل الجسد العربي طريقه نحو التحلل والتفكك في السودان واليمن والعراق. وهو النجاح الذي يظهر في استيعاب الشعوب فكرة الدولة المختلفة ومبدأ الانتماء باعتباره محددا بحدود الدولة الوطنية وجواز سفرها وجنسيتها وعلمها الوطني وشعاراتها المختلفة.
إن العجز القاتل عن نصرة فلسطين وإيقاف حمامات الدم في سوريا والعراق مثلا يؤكد زيف المقولة الوطنية وأنها لم تكن غير تكريس سياسي لاتفاقيات التقسيم الاستعماري.هذا الوعي والتمثّل هو الذي كرّس لدى الشعوب مفهوم الوطن باعتباره كيانا سياسيا وإداريا وعسكريا منفصلا عن بقية مكونات الجسد الأمّ. وهو الوعي الذي يظهر أثره اليوم في الصمت المخجل تجاه ما يحدث في غزة من مذابح ومجازر لا تتوقف.
بناء عليه يكون الحديث عن رابطة العروبة أو الإسلام خارج حدود الدولة الوطنية ضربا من الوهم لأنه لا قيمة إجرائية له فلا العملة ولا الجوازات ولا الحدود ولا الجيوش تعبر عن هذا الانتماء المشترك اليوم باستثناء اللغة والدين تقريبا. لكن من جهة أخرى نجحت الدولة الوطنية بفشلها الذريع في تحقيق شروط السيادة والاستقلال في إقناع الشعوب بأن مقولة الوطنية ضرب من الوهم.
نحن إذن أمام فشلين: أما الأول فيتمثل في فرض الدولة الوطنية نفسها ضامنا للسيادة والاستقلال وكرامة الشعب وحريته وذلك في كل الأقطار العربية تقريبا. وأما الفشل الثاني فيتمثل في وعي جزء هام من الشعوب والنخب العربية بأن الانتماء العربي يبقى قائما رغم شراسة الدولة الوطنية في فرض منوالها السياسي والثقافي الحضاري عامة.
ما أحدثه طوفان الأقصى اليوم وقبله سوريا والعراق هو اليقين التام بأن الدولة الوطنية العربية ليست إلا محمية استعمارية بالوكالة تحكمها منظومات النهب والفساد والقمع. إن العجز القاتل عن نصرة فلسطين وإيقاف حمامات الدم في سوريا والعراق مثلا يؤكد زيف المقولة الوطنية وأنها لم تكن غير تكريس سياسي لاتفاقيات التقسيم الاستعماري.
اليوم تقترب الدولة الوطنية من نهايتها بعد أن حوّلت البلاد العربية إلى أطلال من الخراب والفشل والهزيمة وهي النهاية التي ستعلن عن مخاض المنطقة الجديد المسلّح بالوعي بشراسة الاستبداد وتحالفه العضوي مع المحتل وبأن شرط شروط البقاء لا يكون إلا بالتحام أجزاء الجسد الواحد أو الفناء.
المصدر: عربي21
كلمات دلالية: سياسة اقتصاد رياضة مقالات صحافة أفكار عالم الفن تكنولوجيا صحة تفاعلي سياسة اقتصاد رياضة مقالات صحافة أفكار عالم الفن تكنولوجيا صحة تفاعلي مقالات كاريكاتير بورتريه غزة حرب الاحتلال فلسطين احتلال فلسطين غزة رأي حرب مقالات مقالات مقالات سياسة سياسة صحافة سياسة سياسة سياسة سياسة سياسة سياسة سياسة اقتصاد رياضة صحافة أفكار عالم الفن تكنولوجيا صحة المرة الأولى التی الدولة الوطنیة فی غزة من جهة
إقرأ أيضاً:
إلياس رودريجز… صوت الغضب الفردي في زمن الصمت العربي
مايو 25, 2025آخر تحديث: مايو 25, 2025
ريم خليل
في عصرٍ بات فيه الدم الفلسطيني مستباحاً على شاشات العالم، خرج صوت من أقاصي الغرب من قلب شيكاغو، لا يحمل جنسية فلسطين، لكنه حمل وجعها وألمها في قلبه. إلياس رودريجز، المواطن الأميركي ذي الثلاثين عاماً ذو الأصول المكسيكية، ارتكب فعلاً صَدَم المؤسسة الصهيونية في عقر دارها – أمام متحف العاصمة اليهودي في واشنطن، مردداً: “من أجل غزة… الحرية لفلسطين”.
إلياس لم يُدرّب في معسكر، ولا تربّى في بيئة مقاومة، لكنه كغيره من أحرار هذا العالم، شاهد صور أشلاء الأطفال، وسقوط الأبراج، والصرخات الخارجة من رحم غزة المحاصرة. وحين ضاقت روحه، اختار أن يفعل شيئاً… أي شيء. وفي لحظة، صار خبراً عالمياً
إلياس رودريجز هو تجلٍّ جديد من تجليات المقاومة غير التقليدية، تلك التي لم تعد محصورة في بنادق المخيمات، بل صارت تسكن في صدور من لم يروا فلسطين قط، لكنها تسكن وجدانهم.
السلطات في الولايات المتحدة اعتقلته فوراً، وقد يحكم عليه، وقد يطمر اسمه تحت عناوين “الإرهاب” و”معادات السامية”. لكن ما لن يستطيعوا طمره هو السبب: غزة.
إنها ليست عملية منظمّة، ولا فعلاً مخططاً من جهة مقاومة، لكنها فعل احتجاجي فردي عنيف، يعكس مدى اتساع دوائر الغضب حول العالم من المجازر اليومية في غزة، من مذبحة الأطفال إلى محارق المستشفيات، إلى أنقاض البيوت فوق رؤوس ساكنيها الى تدمير المُدمر..
ما فعله رودريجز، سلّط الضوء على الحقيقة الأخلاقية التي يحاول العالم التهرب منها: أن فلسطين، لم تعد مجرد قضية عربية أو إسلامية، بل صارت صرخة إنسانية تتردد في صدور الأحرار، ولو كانوا على بعد آلاف الأميال.
الاحتلال، الذي يجيد صناعة الرواية وتضليل الرأي العام، يسارع اليوم لتصوير إلياس كمجرم وحيد، متطرف بلا قضية. لكن كلمات الرجل لحظة اعتقاله، وهتافه “من أجل غزة” و”الحرية لفلسطين”، تكفي لتقول إن القضية باتت ضميراً عالمياً، وإن نار العدوان تحرق القلوب قبل الأجساد.
إنه فعل فردي – نعم. لكنه أيضاً مؤشر عميق: أن الدم الفلسطيني صار عنوانًا للغضب الأممي، وأنه كلما زاد القتل، زادت ارتدادات الرفض، بأشكال قد لا ترضى عنها المؤسسات، لكنها لا تستطيع إنكار أنها بنت اللحظة، وأنها ابنٌ من أبناء الغضب.
إنه مرآة جديدة نُطل بها على عالمٍ بدأ يثور، فرداً فرداً، لأن آلة القتل الصهيونية بحق شعب فلسطين تجاوزت كل حدود الصمت الممكن. في زمنٍ خذلت فيه العواصمُ العربية فلسطين، ها هو الصوت يأتي من شيكاغو، ليذكّرنا: فلسطين ليست وحدها.
وليس بعيداً عن هذه الروح المقاوِمة، نتذكر الشهيد محمد حسن الحسيني، الشاب اللبناني من بلدة شمسطار البقاعية، الذي نفّذ في تموز 2012 عملية استشهادية استهدفت حافلة تقلّ سياحاً إسرائيليين في مطار بورغاس ببلغاريا. وظل جثمانه محتجزاً لأكثر من 13 عاماً قبل أن تسلم السلطات البلغارية رفاته إلى أهله في بيروت
هذه العملية لم تكن الأولى، ولا الأخيرة، بل هي جزء من مسيرة نضال مستمرة، تؤكد أن الدم المقاوم لن يذهب هدراً، وأن شعبنا ماضٍ في دربه مهما طال الزمن .