تأملات في الصمت العربي والهتاف الغربي لغزة
تاريخ النشر: 27th, May 2025 GMT
هل تُفسَّر مظاهر الاحتجاج فـي المجتمعات الأوروبية بوصفها نتيجة حتمية لسياق ثقافـي مدني راسخ؟
يُطرح هذا السؤال فـي ظل المشهد المأساوي الذي انزلقت إليه غزة تحت حرب إبادة لا ترحم، ولا تلوح لها نهاية فـي الأفق. ومنذ السابع من أكتوبر، لم تكتف المجتمعات الأوروبية بالمراقبة أو الصمت، بل بادرت إلى فعل احتجاجي تفاوت فـي شدّته لكنه يعكس فـي جوهره مفارقة إنسانية: الغريب يحتج، فـيما القريب يكتفـي بالشجب أو يلوذ بالصمت.
هذه المفارقة لا يمكن قراءتها فقط من زاوية السياسة أو الإعلام، بل تستدعي تفكيكا أعمق فـي البنى السوسيوثقافـية التي تشكّل علاقة الأفراد بالعدالة، وبالحرية، وبالمسؤولية الأخلاقية فـي الفضاء العام. فهل كان المثقف العربي عاجزا؟ أم مأخوذا بحدود الممكن فـي مجتمعات لم تتعود بعد على ثقافة الفعل الاحتجاجي كحق وكواجب؟
فـي مشهدٍ مقلق من المفارقة الإنسانية، تنبثق فـي عواصم أوروبا احتجاجات سلمية حاشدة دفاعا عن الحق الفلسطيني، بينما تتخذ معظم المجتمعات العربية والإسلامية موقف المتفرج الصامت أو العاجز. هذه الاحتجاجات لا تقتصر على النخب السياسية أو الدوائر اليسارية، بل تشمل طلابا ومواطنين عاديين يرون فـي دعمهم لفلسطين التزاما أخلاقيا وحقوقيا، يتجاوز حدود الجغرافـيا والدين. فـي المقابل، يندر أن نشهد هذا الشكل من الفعل الجماعي فـي المدن العربية، حيث الغضب متراكم، لكن سُبُل التعبير عنه مشلولة أو مؤجلة. هذا التفاوت فـي الاستجابة يدفع إلى تساؤل جوهري: هل المشكلة فـي الإرادة؟ أم فـي البنية العميقة للثقافة الاجتماعية والسياسية فـي العالم العربي؟ هنا يأتي دور التحليل السوسيوثقافـي لتفكيك هذه المفارقة.
بين الحضور والغياب
ترتكز المجتمعات الأوروبية على إرث طويل من الاحتجاج المدني والمشاركة السياسية. التظاهر، بالنسبة للمواطن الأوروبي، ليس عملا مُعيبا أو مخاطرة، بل هو ممارسة ديمقراطية مشروعة، بل واجبة فـي بعض الأحيان. الطالب الجامعي الذي يرفع لافتة «الحرية لفلسطين» فـي باريس، أو العامل الذي يشارك فـي مسيرة تضامن فـي برلين، يفعل ذلك فـي إطار ثقافة عامة تعزز الحرية السياسية والتضامن الكوني. فـي المقابل، نشأت المجتمعات العربية فـي ظل أنظمة شمولية أو أبوية تُضيق على الحريات العامة، وتربط بين الاحتجاج والفتنة أو التمرد. وهكذا ترسخت فـي اللاوعي الجمعي نظرة سلبية إلى الفعل الاحتجاجي، مقرونة بالخوف من العقاب أو الاتهام. كما أسهم غياب التربية المدنية وغياب النقابات الفاعلة فـي ضعف الحس بالمواطنة النشطة.
إشكالية الانتماء
تتشكل الهُوية فـي المجتمعات العربية غالبا من خلال انتماءات فوق وطنية أو تحت وطنية، مثل الطائفة، العشيرة، أو الجماعة الدينية. وهذا يجعل من التضامن فعلا انتقائيا، محكوما بمنطق القرب أو التشابه. أما فـي المجتمعات الغربية، فالفردانية الأخلاقية تتيح للناس الانخراط فـي قضايا لا تمسهم مباشرة، انطلاقا من وعي كوني بالعدالة. لذلك لا يُستغرب أن يتصدر نشطاء غير مسلمين ولا عرب مشهد التنديد بالإبادة فـي غزة. أما المواطن العربي، فغالبا ما يُحاصر بسؤال: هل يحق لي الاحتجاج؟ هل سيُوَظَّف موقفـي لصالح جهة معينة؟ هذه الأسئلة تعكس أزمة ثقة عميقة فـي المجال العام، وغياب مفهوم المواطنة المسؤولة التي تتجاوز الانتماءات الضيقة.
ثقافة العجز
يمكن الحديث هنا عما يُعرف فـي علم النفس الجمعي بـالعجز المكتسب، أي الحالة التي يفقد فـيها الأفراد الشعور بقدرتهم على التغيير؛ بسبب تكرار الفشل أو القمع. وقد أسهمت العقود الطويلة من الاستبداد، والحروب، والخذلان السياسي فـي تكريس مشاعر الإحباط لدى المواطن العربي، بحيث أصبحت الاستجابة العاطفـية للقضايا الكبرى تقتصر على الدعاء أو الغضب الصامت. لا يعني ذلك أن الشعوب غير مبالية، بل أن قدرتها على الفعل قد قُيِّدَت داخليا وخارجيا. وفـي الوقت الذي تتحول فـيه الجامعات الأوروبية إلى بؤر للمقاومة الرمزية، نجد الجامعات العربية منكفئة على الذات، تخشى أي حراك يتجاوز أسوار السلطة أو المعايير الرسمية.
من الاحتجاج إلى المقاومة
ثمة مفارقة محزنة فـي أن يصبح الغريب أكثر قدرة على تمثيل صوت الضحية من القريب. ففـي الوقت الذي يهتف فـيه الأوروبيون فـي ميادينهم دعما لغزة، يخيّم الصمت على معظم العواصم العربية، باستثناء بعض المبادرات الفردية أو الخجولة. تُفسَّر هذه المفارقة أحيانا على أنها دليل على موت الضمير العربي، لكن القراءة السوسيوثقافـية تكشف أن السبب أعمق: يتعلق بغياب البنية التحتية للفعل المدني، والخوف من تسييس القضايا الحقوقية، وارتباط التضامن بالولاءات السياسية. لقد أصبحت المسافة بين المواطن العربي وقضايا أمته تزداد، ليس لانعدام الحسّ، بل لانعدام الوسائل المشروعة للتعبير عنه. ولذلك نرى صمتا معلّقا، ممتلئا بالخذلان، يعكس أزمة تمثيل أكثر من كونه دليلا على البرود.
نحو ثقافة تعبير
ما تحتاجه المجتمعات العربية ليس فقط فضاء مفتوحا، بل بناء ثقافـي طويل الأمد يعيد للمواطن شعوره بالمسؤولية الجماعية، والقدرة على الفعل. إن التضامن مع غزة ليس فعلا سياسيا فقط، بل اختبار أخلاقي لمدى جاهزية المجتمع للدفاع عن المبادئ الكونية للعدالة وحقوق الإنسان. الاحتجاجات الغربية، رغم بعدها الجغرافـي، تفضح صمتا عربيا مدويا، وتكشف هشاشة المنظومة السوسيوثقافـية التي فشلت فـي إنتاج مواطن فاعل. ولذلك، فإن الخروج من هذا الصمت لا يتم بمجرد كسر الخوف، بل ببناء منظومة جديدة تعيد للمواطن العربي ثقته بصوته، وفـي جدوى أن يهتف، لا كفعل رمزي فقط، بل كحق تأسيسي فـي أن يكون جزءا من الضمير الإنساني العالمي.
الهتاف المشروط
لكن لا بد من الاعتراف أيضا بأن الاحتجاج فـي المجتمعات الغربية ليس خاليا من التناقضات. فرغم ما تتشدق به بعض الحكومات والمؤسسات الأوروبية من قيم الديمقراطية وحرية التعبير، فإن حالات طرد أساتذة ومفكرين علمانيين ناصروا غزة أمثال: (كاثرين فرانكي- جامعة كولومبيا- التي أعلنت مؤخرا أنها «أُجبرت فعليا على التقاعد»، وأندرو روس وسونيا بوسمنتير- جامعة نيويورك؛ هما أستاذان دائمان مُنعا من دخول بعض مباني الجامعة بعد مشاركتهما فـي اعتصام داخل مكتبة الجامعة، مطالبين بالكشف عن استثمارات الجامعة فـي شركات مرتبطة بإسرائيل وإغلاق فرع الجامعة فـي تل أبيب، وبونوا هوو- جامعة تولوز أستاذ الرياضيات الذي أُوقِف عن العمل بعد أن عبّر فـي محاضرة عن رفضه للمجازر فـي غزة، واصفا ما يحدث بأنه إبادة جماعية، وانتقد صمت الغرب. سُجلت تصريحاته من قبل أحد الطلاب، مما أدى إلى اتخاذ إجراء تأديبي ضده، ونانسي فريزر- جامعة كولونيا الفـيلسوفة الأمريكية التي أُلْغِيَت دعوتها إلى تولي كرسي ألبيرتو ماغنوس فـي الجامعة، بعد توقيعها على بيان (الفلسفة من أجل فلسطين) الذي وصف إسرائيل بأنها دولة تفوّق عرقي. الجامعة بررت القرار بتعارض مواقفها مع شراكاتها مع مؤسسات إسرائيلية) هذه الحالات تكشف أن هذه الحريات مشروطة بما لا يُحرج المنظومة السياسية، أو يمسّ الثوابت الإستراتيجية للغرب! وما قرار ترامب الأخير بخصوص جامعة هارفارد سوى مثال صارخ على قابلية المؤسسات الليبرالية ذاتها لاستخدام أدوات الدولة لقمع المختلف، حين يتعلق الأمر بفلسطين. وبذلك، فإن المفارقة تتعقد؛ فحتى الغريب الذي يهتف، قد يُسكت إذا تجاوز الخط الأحمر غير المُعلن.
المصدر: لجريدة عمان
كلمات دلالية: المجتمعات العربیة فـی المجتمعات
إقرأ أيضاً:
مدير فتوى الأزهر يخطب من لندن عن دور الشريعة في استقرار المجتمعات
ألقى الدكتور أسامة هاشم الحديدي، مدير عام مركز الأزهر العالمي للفتوى الإلكترونية خطبة الجمعة أمس ، من المركز الإسلامي بلندن، تناول فيها عددًا من القضايا الكبرى التي ترتبط بتعزيز القيم، وتحقيق التماسك المجتمعي، والتكامل الإنساني، في ضوء التعاليم الإسلامية السمحة، بحضور نخبة كبيرة من علماء المسلمين ومسؤلي المؤسسات الدينية في الشرق والغرب.
واستهل الحديدي خطبته، بالتأكيد على أن الإسلام ليس شعائر منعزلة عن واقع الإنسان، بل هو بناء تعبدي وقيمي وأخلاقي شامل يُعد أساسًا لتحقيق الاستخلاف والعمران الحضاري في الأرض، مشددًا على أن الأسرة هي لبنة بناء الإنسان الأولى وفق تعاليم الإسلام الشاملة، ومتى صلحت صلح المجتمع، وأن القرآن والسنة وضعا قواعد متينة لصيانة الأسرة وحمايتها.
وأكد أن تحقيق العبادة الحقيقية لا يكون إلا من خلال قيم تحكم السلوك وتضبط المعاملات، وأن الشريعة الإسلامية لا تنفصل عن الحياة، بل تتكامل مع الواقع في ضوء مقاصد سامية، على رأسها العدل، والرحمة، والكرامة، والعمران.
وتطرق الحديدي، إلى أهمية التكامل الإنساني والتعارف بين الشعوب، معتبرًا أن الآية الكريمة: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُم مِّن ذَكَرٍ وَأُنثَىٰ وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا ۚ إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِندَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ ۚ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ} [الحجرات: 13] تشكل خطابًا عامًّا موجّهًا إلى البشرية جمعاء، وترسم أفقًا واسعًا للتواصل بين الحضارات، والتفاهم بين الثقافات، مضيفًا أن التفاضل الحقيقي إنما يكون بالتقوى والعمل الصالح، لا بالجنس أو العرق أو اللون.
وتابع: إن التمكين في الأرض وعد إلهي لا يتحقق إلا بالجمع بين الإيمان والعمل الصالح، كما جاء في قوله تعالى: {وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ فِي الْأَرْضِ كَمَا اسْتَخْلَفَ الَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ وَلَيُمَكِّنَنَّ لَهُمْ دِينَهُمُ الَّذِي ارْتَضَىٰ لَهُمْ وَلَيُبَدِّلَنَّهُم مِّن بَعْدِ خَوْفِهِمْ أَمْنًا ۚ يَعْبُدُونَنِي لَا يُشْرِكُونَ بِي شَيْئًا ۚ وَمَن كَفَرَ بَعْدَ ذَٰلِكَ فَأُولَٰئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ} [النور: 55]، مشيرًا إلى أن أصل التمكين نابع من العبادة الخالصة، والعمل الجاد المستند للقيم.
وفي سياق متصل، أوضح أن الإسلام لا يفصل بين الأخوة الدينية والأخوة الإنسانية، بل يجمع بينهما في تناغم فريد، وأن "وثيقة المدينة" التي أسسها سيدنا رسول الله في المدينة المنورة كانت أنموذجًا واقعيًّا متقدمًا للتعايش المشترك بين مختلف الأديان والأعراق داخل وطن واحد، وضمَّنها بنودًا حضارية تكفل الحقوق، وتعامل الجميع كأمة واحدة إلا من ظلم وغدر.
وعن الوحدة الإسلامية، أكد الدكتور الحديدي أنها ليست شعارًا سياسيًّا، بل أصل شرعي، ومبدأ قيمي، يجب أن يُبنى على العلم والتواصل والرحمة، مستدلًا بقول الله تعالى: {وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعًا وَلَا تَفَرَّقُوا} [آل عمران: 103]، مشيرًا إلى أن الفرقة والتمزق لا يخدمان إلا أعداء الأمة.
واختتم مدير عام مركز الأزهر العالمي للفتوى الإلكترونية خطبته بالتأكيد على أن "الوحدة العلمائية" بين علماء المسلمين من شتى البقاع، هي أساس الوصول إلى وحدة الأمة، وأن اجتماع العلماء اليوم في لندن لمناقشة قضايا الأسرة والتماسك المجتمعي في أجواء تسودها المحبة والتآخي، هو تجسيد عملي لمبدأ الوحدة العلمائية التي يسعى لها الأزهر الشريف عبر بعثاته وبرامجه العالمية.
بعد صلاة الجمعة، دار نقاش مثمر وحوار مفتوح بين الدكتور أسامة الحديدي وعدد من المصلين، الذين حرصوا على طرح تساؤلاتهم حول موضوع الخطبة وغيره من الموضوعات والقضايا التي تهم المسلمين في أوروبا عمومًا وبريطانيا خصوصًا، في أجواء تسودها المحبة والاحترام، وقد أبدى كثير من الحضور ثناءً عطرًا على جهود الأزهر الشريف في نشر الفكر الوسطي، وتصحيح المفاهيم، وتعزيز التواصل الحضاري، مؤكدين أن دور علماء الأزهر في المجتمعات الغربية ترك أثرًا إيجابيًّا كبيرًا في نفوس المسلمين، وعزز ثقتهم بهويتهم الدينية والثقافية.
وتأتي هذه الخطبة ضمن سلسلة أنشطة الأزهر الشريف في مختلف البلدان؛ اضطلاعا بأدواره العالمية، والتي تهدف إلى تعزيز الخطاب الديني المعتدل، ونشر القيم الإسلامية الأصيلة، وترسيخ التعايش السلمي بين أفراد المجتمعات.