حينما بدأت أكتب هذا المقال، احترت هل أبدأ من الإنجاز أم أبدأ من الصعاب التي أحاطت وتحيط بالاقتصاد المصري، ليكون القرار هو أن أبدأ بالتحية لكل الأبطال الذين أنجزوا عملية رأس الحكمة، ففي الوقت الذي تكالبت فيه على الاقتصاد المصري كافة أنواع الصعاب، ظهرت بارقة الأمل الاستثماري لتعيد لنا الحياة، نعم الحياة، فقوة الاقتصاد القومي حياة للجميع، والاستثمار هو الروح التي تعكس تلك الحياة.
فتخيل اقتصاد دولة تهرب منه الاستثمارات المحلية والأجنبية، وبسبب أو بدون سبب تنهار عملته الوطنية، لتصبح المضاربة على خفض قيمة العملة الوطنية غاية الكثيرين من ضعاف النفوس، لينعكس الامر على الأسعار بصورة ملحوظة لترتفع بصورة تدعو للدهشة، ويرتفع معها معدلات التضخم، لتقابل برفع لمعدلات الفائدة، لندخل في دائرة مغلقة تنتهي بهروب لرؤوس الأموال نتيجة للضعف الاقتصادي للدولة.
وبين تلك الصعاب الاقتصادية ومحاولات تخطيها، تطفو صفقة رأس الحكمة لتنقذ الاقتصاد المصري وتزن الأمور.
حيث تقع منطقة “رأس الحكمة” شرق مدينة العلمين، وغرب مرسى مطروح ضمن النطاق الجغرافي لمحافظة مرسى مطروح وهي عبارة عن خليج يتواجد على ساحل البحر الأبيض في الساحل الشمالي ليمتد بطول 50 كيلو مترا على أحد الشواطئ الرملية الناعمة، ويمتد خليج رأس الحكمة من منطقة الضبعة الواقعة في الكيلو 170 على طريق الساحل الغربي وصولا إلى الكيلو 220 في مطروح، ومن شدة جمال تلك البقعة الجغرافية اختارها الملك فاروق لنفسه ليكون مقرا لاستراحته، وأطلق عليها اسم “رأس الحكمة” تيمنا بحكمة الله وجمال صنعه، وهذه الاستراحة انتقلت بين الرؤساء بعد ذلك، كما تقع “رأس الحكمة” على مقربة من عدة أماكن حيوية واستراتيجية عديدة منه: مطار العلمين الدولي، وسيدي عبد الرحمن، وميناء الحمراء، بالإضافة إلى العديد من المشاريع السياحية الكبرى.
لتستكمل تلك السلسلة من المشاريع التنموية والسياحية بصفقة استثمارية كبرى من خلال شراكة استثمارية مع كيانات كبرى، وذلك في ضوء جهود الدولة حالياً لجذب الاستثمار الأجنبي المباشر، وزيادة موارد الدولة من النقد الأجنبي. لتدخل الدولة المصرية مشاركاً بالأرض، وتجتذب الجانب الإماراتي كمستثمر أجنبي ممولاً لمشروعات منطقة رأس الحكمة، على أن تنفذ تلك المشروعات التنموية عدد من الشركات المصرية وبأيادي من العمالة المصرية، لتصبح تلك الصفقة أكبر صفقة استثمار أجنبي مباشر في تاريخ البلاد، حيثستدر على مصر 150 مليار دولار استثمارات إجمالية سيضخها الجانب الإماراتي على مدار عمر المشروع. ليبدأ الجانب الإماراتي في ضخ تلك الاستثمارات والتي تصل قيمة أول دفعة منها إلى 35 مليار دولارخلال شهرين، على أن يحق لمصر الحصول على نسبة 35% من أرباح المشروع على مدار عمره.
وإذا ما نظرنا إلى العوائد التي تكتسبها مصر من تلك الصفقة فسنجدها متعددة، فعلى سبيل المثال لا الحصر يمكن الحديث عن العوائد الاقتصادية والتي تتمثل في كسر الحلقة المفرغة لهروب الاستثمارات من الدولة، لتعيد الثقة في الاقتصاد المصري بصورة سريعة، وتغير من المنظور العالمي إلى الاقتصاد المصري فهو مازال قادر على اجتذاب رؤوس الأموال، ومازال يحمل العديد من الطاقات الكامنة، كما أن تلك الصفقة جاءت لتصحح الجموح الدولاري لتلجم ارتفاعات أسعاره وتجبره على تصحيح مساره التصاعدي بالتراجع التدريجي في قيمته مقابل الجنيه المصري، ومن ثم انخفاض تدريجي في أسعار الذهب، كما أن تلك الصفقة من شأنها زيادة قيمة الاحتياطي من النقدي الأجنبي، ومن ثم توفير احتياجات الدولة من النقد الأجنبي والتي تستلزمها سداد أقساط الديون والإفراجات الجمركية للسلع الغذائية والأدوية وأعلاف الدواجن.
وإذا ما نظرنا إلى العوائد الاجتماعية فإن تلك الصفقة ستوفر العديد من فرص العمل للعديد من الفئات المجتمعية من خلال العمل على المشروعات التي سيتم تشييدها في تلك المنطقة، بالإضافة إلى خلق مسارات ومناطق عمرانية جديدة من شأنها زيادة المساحة المعمورة على الأراضي المصرية ومن ثم استيعاب الكثافات السكانية.
أما إذا ما نظرنا إلى الاحتياج الفعلي إلى الاقتصاد المصري، فيمكن أن أقول إننا في حاجة إلى على الأقل من خمسة إلى عشرة صفقات استثمارية مماثلة في القيمة في كافة ربوع مصر كي نستطيع أن نقول إن الاقتصاد المصري بدأ التعافي الحقيقي وفي طريقه إلى النمو دون تراجع إلى الخلف، ويفضل أن تكون تلك الصفقات متنوعة ليحتل الجانب الإنتاجي المرتبط بالتصدير الوزن النسبي الأعلى منها، وبتحقق ذلك يمكن أن نقول أننا قد سلكنا الطريق الذي لا خيار بديل فيه عن تحقق التنمية، وفي كل الأحوال كل التقدير لأبطال صفقة رأس الحكمة وننتظر منهم المزيد من الضربات الاستثمارية.
د. شيماء سراج الدين عمارة – بوابة الأهرام
المصدر: موقع النيلين
كلمات دلالية: الاقتصاد المصری رأس الحکمة تلک الصفقة
إقرأ أيضاً:
النسيج المصري.. هل تتخلى الدولة عن صناعة الأجداد بعد عقود من الريادة؟
القاهرة– تتفاوض الحكومة المصرية مع مستثمرين أجانب لإدارة وتشغيل مصانع الغزل والنسيج عقب الانتهاء من تطويرها، يأتي ذلك بعد عقود من تدهور في ما كان يعتبر أحد أهم القطاعات الصناعية في البلاد.
عانت تلك القلعة الصناعية من تراجع كبير، فقد كانت في يوم من الأيام تمثل 40% من قوة الاقتصاد المصري في ذروتها. وقبل انطلاق خطة التطوير، انخفضت هذه النسبة إلى ما بين 2.5 و3% فقط.
وأعلنت وزارة قطاع الأعمال العام عن تطوير ما يقرب من 30 مصنعًا موزعة على 7 شركات تابعة، وبمساحة تطوير تصل إلى مليون متر مربع، في خطوة تثير تساؤلات عن مستقبل "صناعة الأجداد" التي تصدرتها مصر لعقود.
كما يبرز تساؤل جوهري: لماذا تتجه مصر نحو تسليم إدارة هذا القطاع الحيوي لمستثمرين أجانب بعد كل هذا التطوير؟ وهل يعكس هذا القرار تخلّيًا عن دور الدولة في قيادة هذه الصناعة، أم هو محاولة أخيرة لإنقاذ قطاع عانى طويلا؟
تدهور زراعة القطنفي غضون ذلك، شهدت زراعة القطن في مصر تراجعا تاريخيا على مدى عقود، إذ انخفضت المساحات المزروعة من أكثر من مليوني فدان خلال خمسينيات وستينيات القرن الماضي إلى أقل من 300 ألف فدان في الوقت الراهن.
وكان القطن المصري رمزا قويا للاقتصاد الزراعي، وكانت مصر من أكبر منتجي القطن على مستوى العالم، ولكنه تراجع بسبب تحديات تسويقية خطيرة أدت إلى عزوف الفلاحين وتقلص المساحة المزروعة تقلصا بالغا.
وكشف وزير قطاع الأعمال العام محمد شيمي عن أن من بين الجهات المتفاوض معها مستثمرين صينيين وأتراكا، إلى جانب كيانات أخرى تملك خبرة واسعة في مجالات التشغيل والإنتاج والتصدير بهذا القطاع.
وأرجع الوزير المصري هذا التحرك إلى أنه "يأتي في إطار خطة الدولة لاستعادة الدور المحوري لهذه الصناعة، بما يؤدي إلى تطوير وتوطين صناعة الغزل والنسيج والملابس، وكذا جذب الاستثمارات".
إعلان مشروع إحياء صناعة الغزل والنسيجوأطلقت مصر مشروعا قوميا ضخما لتطوير صناعة الغزل والنسيج عام 2023، بهدف إحيائها بعد عقود من التدهور. ووصف رئيس الوزراء مصطفى مدبولي هذا المشروع، الذي يهدف لإعادة أمجاد صناعة القطن المصري، بأنه "ملحمة عظيمة" بتكلفة تتجاوز 56 مليار جنيه (22 مليار جنيه للمنشآت و640 مليون يورو للمعدات).
يُنفذ المشروع على 3 مراحل:
المرحلة الأولى: انتهت بالفعل وبدأ تشغيل مصانع مثل "غزل 4″، "غزل 1". المرحلة الثانية: بلغت نسبة التنفيذ فيها 70%، ومن المقرر الانتهاء منها منتصف 2025. المرحلة الثالثة: تم تنفيذ 54% منها، ويُتوقع الانتهاء منها بها بحلول أبريل/نيسان 2026.ولمواجهة أزمة تسويق القطن وتراجع مساحات زراعته إلى مستويات غير مسبوقة، تعوّل مصر على انتهاء تطوير "القلعة الصناعية" للغزل والنسيج العام القادم.
فمع تشغيل المصانع المطورة بكامل طاقتها، سيصبح هناك احتياج لكل ما يُزرع من القطن المصري لاستخدامه في الصناعة، بدلا من تصديره خاما.
تطوير متعثر وتحديات معقدةأشاد أحمد عياد، رئيس الشعبة العامة للأقطان بالاتحاد العام للغرف التجارية وعضو اتحاد مصدّري الأقطان، بأي خطوات حكومية تهدف إلى إحياء صناعة الغزل والنسيج، لكنه انتقد تباطؤ عملية التطوير التي أُعلن عنها أكثر من مرة خلال العقد الأخير من دون تحقيق نتائج ملموسة.
وأوضح، في تصريح للجزيرة نت، أن مصر كانت تزرع في السابق نحو 17 مليون قنطار من القطن، بينما لا يتجاوز الإنتاج الحالي مليوني قنطار، نتيجة عزوف كثير من المستثمرين المصريين عن دخول هذا القطاع، رغم أن صناعة الملابس الجاهزة لا تزال في حال أفضل نسبيًا.
وأشار عياد إلى أن من بين أبرز أسباب هذا التراجع هو التوسع في استيراد الأقطان من الخارج بأسعار أرخص وجودة أقل، مما أثر سلبا على مكانة القطن المصري الممتاز، مضيفا أن ارتفاع تكاليف زراعة وتصنيع القطن يدفع المنتجين للبحث عن بدائل أقل تكلفة، مما يؤدي إلى تقليل الاعتماد على الإنتاج المحلي.
واعتبر عضو اتحاد مصدّري الأقطان أن البيروقراطية وضعف استغلال الكفاءات من أبرز المعوقات التي تواجه صناعة الغزل والنسيج، داعيًا إلى تفعيل دور الخبرات بعيدا عن الأداء الوظيفي الروتيني.
وفي ما يتعلق بطرح المصانع على المستثمرين الأجانب، أوضح أن هناك رغبة قوية من الشركات العالمية لتوسيع نشاطها من خلال مصر، نظرًا لما تمتلكه من موقع متميز واتفاقيات تجارية متعددة وعمالة رخيصة.
الملابس الجاهزة والغزل والنسيج: قراءة في الأرقامواستعرض مركز المعلومات التابع لمجلس الوزراء الوضع الحالي لقطاع الملابس الجاهزة في مصر، مسلطًا الضوء على أهميته البالغة وواقعه من خلال المؤشرات التالية:
مساهمة اقتصادية كبرى يُعد من أهم 5 صناعات رئيسية في الاقتصاد المصري. تبلغ مساهمته نحو 27% من الناتج الصناعي لمصر. يضيف نحو 3% من الناتج المحلي الإجمالي. حجم الشركات والعمالة يبلغ عدد الشركات نحو 6500 شركة. تضم هذه الشركات نحو 2.5 مليون عامل. نحو 352 شركة فقط تقوم بالتصدير، ما يعادل 5.4%. الصادرات سجلت الصادرات من الملابس الجاهزة 2.45 مليار دولار عام 2023. بلغت صادرات الغزل والمنسوجات 1.13 مليار دولار عام 2024.يقول رئيس المجلس الأعلى للقطن بوزارة الزراعة محمد عبد المجيد إن إنتاج مصر من القطن أصبح قليلا جدا مقارنة بالإنتاج العالمي (26 مليون طن)، ولم تعد مصر دولة منتجة للقطن بوصفه سلعة إستراتيجية.
إعلانرغم ذلك، فلا يزال القطن المصري يُصدَّر خامًا دون استغلاله كقيمة مضافة، بينما تستورده دول أخرى لخلطه بكميات كبيرة وكتابة "قطن مصري" على المنتج النهائي.
يضيف عبد المجيد، الذي عمل في مجال القطن لنحو 5 عقود، للجزيرة نت، أن الافتقار لإستراتيجية واضحة للنهوض بصناعة الغزل والنسيج، ووجود سياسات اقتصادية خطأ في ما مضى أديا إلى تراجع مكانة القطن المصري وقيمته إلى أدنى مستوى. لقد حان الوقت لاستنهاض هذه الصناعة التي كانت تُشكل عصب الاقتصاد المصري في القرن الماضي.
وأوضح عبد المجيد، المستشار السابق بوزارة الزراعة، أن صناعة الغزل والنسيج هي صناعة وطنية بالأساس تتطلب إمكانات ضخمة ودعما حكوميا وقرارا سياسيا، كما كانت الحال في عهد الرئيس الأسبق جمال عبد الناصر، لأنها دائرة من حلقات متصلة. لكنه يرى أنه تم التفريط في عديد من القلاع الصناعية والتخلي عن الصناعة بشكل درامي لصالح الاستيراد والكسب السريع.
كما استعرض المراحل الحيوية للصناعة، بدءًا من حلج القطن، مرورا بإنتاج الغزل والنسيج، ثم الصباغة والتجهيز، وصولًا إلى المنتج النهائي (ملابس أو منسوجات). وأشار إلى أن القطن هو المحصول الوحيد الذي لا يمكن تخزينه بسهولة أو استهلاكه كغذاء، مما يستلزم توافر منظومة متكاملة قادرة على التعامل معه صناعيا.