مثقفون وعسكر وحرامية في دولة 23 يوليو المجيدة!
تاريخ النشر: 29th, February 2024 GMT
حال المثقّفين المصريين أصبح لا يسرُّ عدوًا ولا حبيبًا، فتحوّل "الكتّاب" إلى مجرد" كَتَبة " في دولاب الحكومة.
ومن حاول أن يكون كاتبًا جرى تهميشه، واغتياله معنويًا وماديًا، والنماذج كثيرة، والضحايا كُثر، منذ "23 يوليو 1952" التي انتهت ـ رسميًا وظلت سياسيًا وثقافيًا بتجلياتها حتى اليوم – في السادس من أكتوبر/تشرين الأول 1981 باغتيال "الضابط الحر، عضو مجلس القيادة" أنور السادات، على أيدي "الحليف الإسلامي "، وهو " الرئيس المؤمن " الذي فتح السجون، وأخرج "الإسلاميين "، وجعلهم ينعمون بالحرية، فقتلوه باعتباره "كافرًا"، وهو الرئيس الذي كان يقرأ القرآن، ويقيم الصلوات في أوقاتها.
وقصّة المثقّفين مع دولة "23 يوليو" مركّبة، تبدأ من قبول "فتحي رضوان " المحامي والكاتب الصحفي وعضو" الحزب الوطني " القديم ـ حزب مصطفى كامل ومحمد فريد ـ منصبَ وزير الإرشاد القومي، وكانت وزارة "دعاية " للدولة العسكرية الوليدة، ومن بين إداراتها، مصلحة الفنون، وألغيت المصلحة.
وخرج فتحي رضوان من الحكومة، وجاء "ثروت عكاشة" الضابط بسلاح الفرسان "المدرعات"، وهو مثقف، وكان يهوى الكتابة والترجمة، وهو صاحب فكرتين: إحداهما تأثر فيها بتجربة "يوغوسلافيا"، والأخرى تأثر فيها بالمخابرات الأميركية والسوفياتية.
أما الفكرة ـ اليوغوسلافية ـ فهي "هيئة قصور الثقافة "، وهي الهيئة المسؤولة عن "جيش المثقفين " في المدن والقرى. والفكرة الأميركية ـ السوفياتية، هي "خلق جيش من المفكرين والمبدعين " تكون مهمته "التفكير وضخ الرؤى " التي تطيل عمر النظام.
وهذا الجيش كان من رموزه أساتذةُ الجامعات، والباحثون في المجالات الصناعية والزراعية، وكان الجميع يخضع للمباحث العامة "أمن الدولة "، والمخابرات العامة؛ لأن دولة "23 يوليو" لم تكن تؤمن بالجماهير، ولا تثق فيها، هي فقط تستخدمها، وتوظّفها، وتجعل منها " خاتم الشعار" الشعبي.
وهذا التوسع في توظيف "طواقم منتجي الأفكار" احتاج إلى منافذ وقنوات يصبّ فيها "جيش المثقفين " إنتاجه الفكري والإبداعي، وكانت المنافذ المناسبة لزمن ـ خمسينيات وستينيات القرن العشرين ـ هي الإذاعة، والمجلات الثقافية، والتلفزيون "قيل عنه آنذاك إنه ولد عملاقًا!".
وهذه المنافذ مقسمة إلى "درجات مالية "، فهذا "الروائي "، على سبيل المثال، له منتج طيب مفيد، فتكون "درجته الوظيفية "أعلى من غيره، وبالتالي تكون مستحقاته المالية أكبر، وطريقة تسليمه مستحقاته المالية تأخذ صورة "المسلسل الإذاعي "، حيث يتم تحويل رواياته إلى مسلسل تذيعه الإذاعة، ويقبض "المكافأة " من خزينة الإذاعة التي كانت لها أهمية كبرى في تشكيل الرأي العام والوجدان الجمعي للجماهير.
احتكار المناصبوهذا "الكاتب الصحفي "، يمتلك القدرة على ضخ الأفكار والرؤى، وبالتالي يستحق الجلوس فوق مقعد "رئيس التحرير"، وهذا المقعد سيطرت عليه "أجهزة الأمن " بعد العام 1960، وهو عام تحويل المؤسسات الصحفية إلى مرفق من مرافق الحكومة، يتولاه ضابط كبير في "مباحث الصحافة "، التي تمثل إدارة من إدارات جهاز " المباحث العامة "، وهو جهاز "الرعب" والتحطيم المعنوي، الذي تدرب ضباطه على أيدي ضباط المخابرات الأميركية في دورات تدريبية حصلوا عليها في واشنطن في خمسينيات القرن العشرين.
وهؤلاء هم من تولوا تدمير "الشيوعيين الذين تم القبض عليهم، في ليلة رأس السنة "1959"، وكان "العسكري" الذي يحتكر منصب رئيس التحرير، ومنصب " الروائي " هو "يوسف السباعي"، عضو تنظيم "الضباط الأحرار" ـ فرع سلاح الفرسان ـ وتولى مناصب صحفية كبرى، وتحوَّلت رواياته إلى أفلام من أشهرها "رد قلبي " الذي تحول إلى أيقونة من أيقونات دولة "23 يوليو المجيدة".
ولما وجد الشيوعيون المعتقلون في "معتقل المحاريق " في الصحراء الغربية، أنهم أحيلوا للتقاعد السياسي، قرروا إقامة "معهد ثقافي " في المعتقل، تعلم فيه الشيوعيون من أصحاب المواهب، فن الإخراج الصحفي، وفن المسرح، وفن الغناء.
وهؤلاء تم إلحاقهم "بالجيش الفكري " للنظام، عقب المصالحة التي تمت بين الشيوعيين وعبدالناصر في العام 1964، فحصل الشيوعيون على الحرية، وحلوا "الحزب الشيوعي "، وطلبت منهم قيادة الحزب التقدم إلى مقرات " الاتحاد الاشتراكي " والانضمام له، وهو الحزب الحاكم آنذاك.
وتم تسكين الكبار من قيادات الحزب الشيوعي "المنحل " في المؤسسات الصحفية ووزارة الثقافة، وكان "الفساد الثقافي " مقننًا، فالمثقف النظامي، أو "المثقف العميل" يتقاضى المكافآت المالية من الجريدة والإذاعة والمجلة التابعة لوزارة الثقافة، ثم يمنح جائزة الدولة التشجيعية أو التقديرية، حسب نشاطه وإخلاصه وقوة "التقارير المباحثيّة " التي يرفعها للجهاز الأمني المكلف بمراقبة هذا القطاع أو ذاك.
فأصبح المشهد عجيبًا، جعل المثقفَ (عسكري)، وجعل (العسكري) يفتي في الثقافة والإعلام والفنون، ويعلم الناس معنى حب الوطن، باعتباره يدافع عن الأرض، ويحمل السلاح ويجيد مهنة "القتل " في ميادين القتال.
وأضيف إلى هؤلاء شريحة أخرى، هي شريحة "الحرامية " أو اللصوص، الذين ينهبون المال العام باسم "العمل الثقافي"، وتحوَّلت وزارة الثقافة وشقيقتها وزارة الإعلام إلى وزارتَي "نهب منظم" للمال العام.
مثقفون متسولونوكانت الحلقة الأخطر، هي حلقة "مبارك"، وهي التي أغلقت قوس "23 يوليو المجيدة"، وطالت فامتدّت لمدة ثلاثين عامًا، واستدعت من المخازن ـ الناصرية والساداتية ـ كل القيادات والعقول التي تربت في أحضان "جيش الفكر" الثوري الناصري التقليدي، والساداتي أيضًا، حتى تتمكن من مواجهة الغضب الإسلامي المسلح الذي شهدته مصر في سنوات الثمانينيات والتسعينيات من القرن العشرين.
وهي سنوات طرحت على الناس هذا السؤال: "هل أنت مع الدولة العِلمانية أم مع الدولة الدينية؟" وترجمة هذا السؤال على أرض الواقع، خلقت فريقين: فريق "حظيرة وزارة الثقافة"، وفريق "الجماعات الإسلامية والإخوان "، والعجيب أن الشيوعيين انحازوا إلى "حلقة مبارك"، واعتبروا أنفسهم في مهمة مقدسة، ورأوا أن "الوقوفَ مع مبارك" وقوفٌ مع "الديمقراطية والعِلمانية والوطنية ".
وانتهى نموذج "المثقف المستقل، الذي ينبغي له أن يدافع عن الحرية والعدل والقيم النبيلة، وظل الوضع قائمًا ـ حتى يومنا هذا ـ ونسي المثقفون المصريون كلمة "الاستقلال"، وتحولوا إلى "باعة متجولين" يطرقون أبواب "البيوت الطابخة"، ويتسوّلون "اللقمة "، ويبيعون عقولهم وأقلامهم لمن يدفع حسب ما قاله نجيب سرور: " وقوافل الجوعى تهيم من الرصيف إلى الرصيف، حَيرى تفتش عن رغيف".
فلم يعد المثقّف صوتًا للضمير، ولم يعد المثقف ضميرًا للوطن والأمة، انتهى هذا التصور، والفضل يرجع لدولة "23 يوليو" التي جعلت "المثقف" موظفًا يتقاضى راتبه مقابل بيع قلمه وفكره وعقله، وهذا أدى إلى المشهد الحالي، مشهد موات المثقفين العام، واختلال المفاهيم وضياع الحدود.
فالمثقفون الذين رفضوا "كامب ديفيد"، ورفضوا مشاركة إسرائيل في معرض القاهرة للكتاب، وحركوا "المظاهرات" الداعمة للقضية الفلسطينية، مشغولون في أيامنا هذه بالجوائز والتكريمات والسفريات والمنح والهبات، والمقاومة الفلسطينية تواجه جيوش أميركا وأوروبا وحدها.
ولم يحرّك المثقفون ساكنًا. الوحيد الذي بكى ودعم المقاومة ودعا لها بالنصر والقوة في صلواته هو "المواطن العادي" الذي يتعالى عليه المثقفون ويعتبرونه الأقل وعيًا والأدنى فكرًا، وهو الأرقى إنسانية والأنبل من كل مثقفي الغرف المكيفة والأستوديوهات المجهّزة.
الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.
aj-logoaj-logoaj-logoمن نحناعرض المزيدمن نحنالأحكام والشروطسياسة الخصوصيةسياسة ملفات تعريف الارتباطتفضيلات ملفات تعريف الارتباطخريطة الموقعتواصل معنااعرض المزيدتواصل معنااحصل على المساعدةأعلن معنارابط بديلترددات البثبيانات صحفيةشبكتنااعرض المزيدمركز الجزيرة للدراساتمعهد الجزيرة للإعلامتعلم العربيةمركز الجزيرة للحريات العامة وحقوق الإنسانقنواتنااعرض المزيدالجزيرة الإخباريةالجزيرة الإنجليزيالجزيرة مباشرالجزيرة الوثائقيةالجزيرة البلقانعربي AJ+تابع الجزيرة نت على:
facebooktwitteryoutubeinstagram-colored-outlinersswhatsapptelegramtiktok-colored-outlineالمصدر: الجزيرة
كلمات دلالية: وزارة الثقافة
إقرأ أيضاً:
مراسل الجزيرة على متن السفينة حنظلة: لم يبقَ إلا القليل
"لم يبقَ إلا القليل" يردد النشطاء على متن سفينة حنظلة وهم يتتبعون خط سير السفينة حنظلة.
"ما أقرب غزة" يقول أنطونيو الإيطالي، فيرد عليه سانتياغو من إسبانيا: بل ما أبعدها، فبيننا وبينها بحرية وسلاح وجنود.
أما القبطان فيقول لنا في الاجتماع الصباحي: بقي 150 ميلا بحريا، وهذا يعني أننا قريبون جدا من المنطقة التي احتُجزت فيها السفينة مادلين.
ومعنى ذلك كله أننا سنعرف مصير السفينة خلال أقل من 20 ساعة، هل يسمح لها بالوصول أم يكون مصيرها مثل مصير عشرات قبلها في قبضة الجيش الإسرائيلي.
يفترض في من ينتظر مصيره أن يقلق.
لكن لا ألمح أي قلق على متن السفينة.
جايكوب بيرغر يواصل هوايته المفضلة، الحديث إلى مئات الآلاف من متابعيه عبر وسائل التواصل الاجتماعي. يحكي لهم قصص السفينة، وحنظلة وفلسطين ويغني أحيانا لهم. فهو مغني راب وممثل ولديه هوايات أخرى في أوقات الفراغ.
جايكوب يهودي أميركي من نيويورك يفضل تسميته بجاكوب الفلسطيني. لديه حب استثنائي لفلسطين، أسأله: كيف حدث التحول الكبير في حياتك يا جاكوب؟
يجيب: لم يحدث أي تحول، منذ البداية كنت مؤمنا بقيم العدالة، ويكفي ذلك كي تدافع عن فلسطين.
أما سيرجيو أو سيرخيو، فقصة أخرى.
هذا الرجل الإسباني من بلاد الباسك مهندس ميكانيكي مختص بالسفن، سافر على متن سفينة حنظلة قبل 40 يوما، وعندما رحل رفع دعوى ضد نتنياهو. وهو الآن هو عائد على متن حنظلة.
أسأله: ألا تخشى أن يضطهدوك يا سيريجيو؟ يجيبني بضحكته المجلجلة التي تسعد كل من على متن السفينة: نعم قليلا، لكن لا أفكر في الأمر.
هناك أيضا بوب، وبوب هذا له قصة تستحق أن تُروى.
فهو يهودي أميركي ويحمل الجواز الإسرائيلي، مهدد بتهمة الخيانة، ورغم ذلك يواصل نشاطه من أجل فلسطين.
على امتداد أيام السفينة السبعة يلبس القميص نفسه، وعليه كتب "ليس باسمي"، الرسالة واضحة لا تكاد تحتاج إلى تأويل رغم ذلك أطلب رأيه، وهذا جوابه:
إعلان"اليوم تتم حرب الإبادة باسم اليهودية، وبدعم أميركي، وأنا يهودي وأميركي. أريد أن أقول لهم ليس باسمي".
انتظار وأمل
على ظهر السفينة انتظار وأمل.
كل شيء سيتبين خلال الساعات المقبلة، هل تصل السفينة إلى وجهتها أم يُحال بينها وبين ما تبغي؟
لا ضير، تقول كلوي أو شمس كما تحب أن نناديها أحيانا.
هي شابة في الثلاثين من عمرها، فرنسية أيرلندية. بدأت العمل في الأمانة العامة للأمم المتحدة قبل سنوات. قبيل أيام أرسلت رسالة لرئيستها "شكرا لكم على كل شيء، سأستقيل وألتحق بحنظلة".
وكذلك كان.
في استقالتها ما يشبه الصرخة في وجه نظام عاجز.
تقول لي "في الأمم المتحدة لدينا التقارير والمعطيات والمعلومات الموثقة. لكنه نظام عاجز عن فعل شيء. ببساطة لا أرغب في البقاء في نظام مثل هذا بصمْته وعجزه الفاضح، أريد أن أفعل شيئا ملموسا لذلك شاركت في حنظلة".
على متن السفينة 21 شخصا من 10 جنسيات مختلفة، كلهم يحملون جوازات أجنبية باستثنائي وحاتم من تونس الذي فعل كل شيء من أجل الالتحاق بهذه الرحلة.
ماذا سيفعلون بنا؟
الجميع يدرك مصاعب الرحلة ومخاطرها.
لكن ماذا يساوي ذلك أمام ما يواجهه أطفال غزة؟ تقول لنا جوستين الممرضة الفرنسية التي تحرص على تقديم الدواء، خاصة حبوب منع دوار البحر للمشاركين.
على ظهر السفينة شخصية محورية، لا يكاد يُسمَع صوتها.. والجميع يتساءل: ماذا كنا سنفعل بدونها؟
الجدة فيديكس من النرويج، في الخامسة والسبعين من عمرها ركبت البحر.
أتساءل كم تحتاج من العزم ومن الشجاعة كي تفعل هذا في سنها؟
فيدتكس والجميع يناديها بالجدة، تقضي معظم وقتها في المطبخ.
وهو أسوأ مكان يمكن أن يقضي فيه المرء وقته على متن هذه السفينة. مكان ضيق وحار وعندما توجد فيه يتضاعف إحساسك بتمايل المركب بسبب موقعه، لكن الجدة فيديكس تقضي جُل وقتها هناك.
لا تبدي فيديكس أي خوف أو توجس.
خلال التدريبات التي يجريها الفريق تم تحديد أماكن وجود كل شخص في حال تعرض السفينة للهجوم، كان موقعي جانبها تماما. قالت لي: ابق بجانبي سأحميك، وأنا أصدقها.
عند الحديث عن التدريب فهو يندرج ضمن ما يُسمى بالمقاومة السلمية، فهذه سفينة مدنية ومن عليها نشطاء وسياسيون وصحافيّون مسالمون. ولا أحد منهم يمثل تهديدا لأي أحد، كما تذكر بشكل مستمر هويدا عراف التي تخوض البحر للمرة الثامنة ضمن سفن أسطول الحرية.
يقوم التدريب على سرعة الاستجابة بارتداء سترات النجاة تحسبا لاحتمال انقلابها في البحر، واتخاذ كل شخص موقعه.
والأهم أنه يشجع على السكينة والهدوء في مواجهة لحظات التوتر استنادا للقيم التي من أجلها خرج هؤلاء النشطاء.
لا يخلو الأمر من صعوبات، في اليوم السابع بدأت السفينة تعاني من شح المياه.
أصبحنا نعتمد على البحر كليا في غير الشرب، منذ اليوم الأول قيل لنا تعاملوا مع الماء كأغلى ما عندكم.
لحسن الحظ بقي ما يكفي من ماء الشرب لبضعة أيام آخر، وحينها سنكون قد وصلنا إلى غزة أو دخلنا السجن.