في ذكرى رحيل كارل ماركس
تاريخ النشر: 13th, March 2024 GMT
تاج السر عثمان بابو
ف يوم ١٤ مارس ذكرى رحيل ماركس الذي غادر دنيانا في ١٤ مارس ١٨٨٣، ويعتبر ماركس من أعظم المفكرين في العالم، ولا غرو أن اعتبر ماركس الشخصية الأولى في الألفية الثانية، باعتراف أعداء ماركس والماركسية، مما يؤكد حيوية الماركسية ومنهجها الناقد للرأسمالية، والتي تعمقت أزماتها بأكثر من أي وقت مضى.
قال عنه رفيق دربه وصديقه إنجلز في خطاب على قبره: (مثلما اكتشف دارون قانون تطور الكائنات العضوية بالانتخاب الطبيعي، اكتشف ماركس قانون تطور التاريخ البشري.
أولا: – ولد كارل هانريك ماركس في “ترير ” بألمانيا في 5 مايو 1818 من أسرة ميسورة الحال، كان والده محاميا من أصل يهودي واعتنق المسيحية، وكان مستنيرا وعقلانيا متأثرا بأفكار عصر النهضة.
– أنهى ماركس المدرسة الثانوية في العام 1830م، حيث تعلم الفرنسية والإغريقية وشيئا من العبرية.
– بعد ذلك التحق بجامعة بون ثم جامعة برلين، ونال درجة الدكتوراه في الفلسفة من جامعة يينا، وكان موضوعها: (الاختلاف بين فلسفة ديمقرطيس الطبيعية وفلسفة أبيقور الطبيعية، 1841م).
نتوقف هنا عند أهم صفات وشخصية ماركس المبكرة التي شكلت حياته ليصبح من أعظم المفكرين الثوريين في العالم..
أورد جاك أتالي ي مؤلفه “كارل ماركس أو فكر العالم: سيرة ذاتية، ترجمة محمد صبيح، دار كنعان للنشر 2008، نصا كتبه ماركس وهو في سن 17 سنة يقول فيه ” على الشاب الذي يتهيأ لاختيار مهنة أن يضع نصب عينيه “الواجب، التضحية بالنفس، ير البشرية، مّ الكمال الذاتي”، ص 30. كان له شخصيته المستقلة، على عكس رغبة والده أصرّ ماركس على دراسة الفلسفة بدلا عن القانون في جامعة بون “والده كان محاميا”. كانت له حوارات ومناقشات مع والده الذي كان مستنيرا ومتأثرا بأفكار فولتير وكانط. من سماته عدم اعتبار أي مخطوط أو عمل يقوم به ليس نهائيا، بل قابل للإضافة والتعديل. أول أعماله الأدبية كانت أشعارا، كان يرسل منها لرفيقته جيني ويستفالن. تزوج جيني ويستفالن التي تنحدر من أسرة ميسورة الحال عام 1843، وأنجب منها ستة أطفال: ايلانور ، لورا ، ادغار ، هنريك ، جيني وإيفلين. التقى ماركس إنجلز في باريس، ونشأت صداقة بينهما دامت طيلة حياتهما. كان يطلق عليه لقب “المغربي ” في برلين نسبة لشكله ولونه القريب من لون المغاربة. تميز ماركس بدقة الفكر وقوة منهجه الديالكتيكي المادي وبمتانة محاكمته العقلية ، ووضوح تحليلاته وشراسة انتقاداته ، ووضوح تصوراته.بعد إكمال دراسته ومنحه درجة الدكتوراه من جامعة يينا، رفضت هيئة التدريس قبوله أستاذا بالجامعة لنشاطه السياسي .
*عمل بميدان الصحافة حيث عمل في صحيفة ” لانماريت رينان” محررا ورئيسا للتحرير ، واقترح ماركس عنوانا للصحيفة الشهرية ” الحوليات الفرنسية الألمانية” لعقد الصلة بين الفلسفة الألمانية والممارسة الثورية الفرنسية.
يقول إنجلز: وكان عمله في الصحافة: حيث عمل على سبيل المثال: في الجريدة الرينانية الاولي(1842)، وفي صحيفة: إلى الأمام الباريسية (1844)، وفي صحيفة البروكسالي الألمانية (1847)، وفي التربيون النيويوركية (1861- 1852)..الخ.
قدم ماركس التضحيات الجسام من أجل مبادئه حيث تعرض للتشريد والنفي، وشظف العيش والطرد من السكن بسبب عدم التمكن من تسديد الإيجار، وتوفي أربعة من أبنائه قبل سن البلوغ، عانى الأمراض “الكبد، الروماتيزم، الصداع المتكرر، التهاب الأسنان، ونوبات من الأرق” مما أدى إلى وفاته في 14 مارس 1883، رغم ذلك كان متفائلا، ويعمل بنشاط وحيوية حتى أنجز مؤلفه “رأس المال” وبقية أعماله التي تصل إلى 100 مجلد.
ثانيا: مصادر فكر ماركس:
تطور فكر ماركس من الاتجاه اليساري في فلسفة هيغل إلى النظرة المادية الفلسفية، والتي جاءت نتيجة للدراسة الناقدة لفلسفة هيغل، وكان هيغل يرى أن “الديالكتيك هو القوانين العامة لحركة الفكر”، أما ماركس فقد وسع من مفهوم الديالكتيك، والذي صار عنده ” القوانين العامة لحركة الطبيعة والمجتمع والفكر”، وبذا تم وقوف ديالكتيك هيغل على أرجله بعد أن كان واقفا على رأسه.
كما تأثر ماركس بمادية فيورباخ، وانتقد منهجه الميكانيكي، وعبر عن ذلك المفهوم الجديد في مؤلفه الذي نشر عام 1844م بعنوان (في نقد فلسفة الحقوق عند هيغل)، والذي أشار فيه إلى أن “مهمة الفلسفة ليست تفسير العالم، بل تغييره”، ومن خلال نشاطه العملي ودراسته الناقدة للاقتصاد السياسي وأفكار الاشتراكية الخيالية، بدأ ماركس يضع يده على المعالم الأساسية للدور التاريخي للطبقة العاملة، وضرورة توحيدها حول نظرة عامة علمية إلى العالم.
درس ماركس نقديا التراث اليهودي والمسيحي ومنجزات عصر النهضة، واستخلص من التراث اليهودي : أن الفقر لا يطاق وأن الحياة لا قيمة لها بدون تحسين حياة الشعوب، ومن المسيحية حلم مستقبل متحرر يحب الناس فيه بعضهم البعض، ومن عصر النهضة العقلانية والحرية وحقوق الإنسان ، ومن ألمانيا التراث الفلسفي الذي وصل قمته في فلسفة هيغل الذي درسه انتقاديا كما أشرنا سابقا ، ومن فرنسا النضال والممارسة الثورية لتغيير المجتمع كما حدث في الثورة الفرنسية، وكومونة باريس، ومن إنجلترا دراسة الاقتصاد السياسي الذي درسه انتقاديا، وتوصل إلى القانون الأساسي الذي تحكم المجتمع الرأسمالي فائض القيمة الذي فسر سر الاستغلال الرأسمالي. وهو بهذا الميراث كما قال جاك أتلي يكون المفكر العالمي المولع بالحرية والمناضل السياسي المدافع عن مصالح الطبقة العاملة والكادحين.
ثالثا : – ما هما أهم اكتشافين لماركس؟
أهم الاكتشافين، والذين أطلق عليهما الماركسية فيما بعد هما:
1- المفهوم المادي للتاريخ والذي كان نقطة تحول مهمة في دراسة علم التاريخ، فقد انطلق ماركس من الحقيقة البسيطة، أن الناس قبل أن يمارسوا السياسة والفن والدين والحقوق..الخ، عليهم توفير احتياجاتهم الأساسية من: مأكل ومشرب ومأوى وملبس..إلخ، ولكي يتم ذلك لابد أن ينتجوا، ولكي تتم عملية الإنتاج، لا بد من توفير وسائل الإنتاج التي تتكون من أدوات الإنتاج ومواضيع العمل، وقوى الإنتاج التي تتكون من وسائل الإنتاج والعمل البشري.
وأثناء عملية الإنتاج تنشأ علاقات تتعلق بالملكية والتوزيع، أطلق عليها ماركس علاقات الإنتاج، ثم استنبط ماركس مفهوم البنية التحتية للمجتمع التي تتكون من قوى الإنتاج وعلاقات الإنتاج، والبنية الفوقية التي تتكون من آراء الناس السياسية والحقوقية والدينية والفلسفية والفنية..الخ. ووحدة البنية التحتية والفوقية هي ما أطلق عليه ماركس التشكيلة الاجتماعية أو أسلوب الإنتاج المعين. واستقرأ ماركس تطور التاريخ الأوربي نتيجة للتناقض بين قوى الإنتاج وعلاقات الإنتاج والذي يشكل المفتاح لفهم التغيير الاجتماعي، أشار الي اللوحة الخماسية التي تتكون من: المشاعية البدائية، الرق، الإقطاع، الرأسمالية، الاشتراكية.
كما رفض ماركس تعميم اللوحة الخماسية الخاصة بتطور التاريخ الأوربي، على كل المجتمع البشري، بل أشار إلى ضرورة الدراسة المستقلة لكل مجتمع، أي أن ماركس رفض تحويل اللوحة الخماسية إلى نظرية فلسفية تشمل كل بلدان العالم، وباعتبار أن الماركسية منهج لدراسة الواقع، وليست عقيدة جامدة.
2- اكتشف ماركس أيضا القانون الذي يحكم نمط الإنتاج الرأسمالي والمجتمع البورجوازي الذي خلقه هذا النمط من الإنتاج، وهو قانون فائض القيمة الذي كشف جوهر وسر الاستغلال الرأسمالي.
وفي خطاب إنجلز على قبر ماركس أشار إنجلز إلى أن: ماركس لم يكتف بهذين الاكتشافين، رغم أن المرء سوف يكون سعيدا لو تسنى له تحقيق واحد من هذين الاكتشافين.
أشار إنجلز أيضا إلى أن ماركس: كان يتسم بالعمق في كل حقل بحث فيه، حتى في حقل علم الرياضيات قام ماركس بأبحاث مستقلة.
يواصل إنجلز ويقول: هكذا كان ماركس رجل علم، لقد كان العلم بالنسبة لماركس حركة ديناميكية- تاريخية وقوة ثورية، وكان سروره عظيما بأي اكتشاف جديد في حقل العلوم النظرية، وإن كانت مستحيلة التطبيق، ويزداد سروره عندما يشمل الاكتشاف الجديد تغييرا ثوريا مباشرا في الصناعة، وفي التطور التاريخي عموما. فعلى سبيل المثال: كان ماركس متابعا من كثب لتطور الاكتشافات المحققة في مجال الكهرباء وآخرها تلك لمارسال دوبري.
لم يكن ماركس رجل علم فقط، بل كان مناضلا من أجل تغيير المجتمع الرأسمالي ومؤسسات الدولة التي جلبها معه، وكذلك ساهم ماركس في تحرير الطبقة العاملة الحديثة، والذي كان أول من جعلها تعي بموقعها وحاجاتها، وتعي بشروط تحررها.
كما أشرف ماركس على إصدار نشرات نضالية خلال عمله في منظمات في باريس وبروكسل ولندن ، حتى توج ذلك بتكوين تنظيم الشيوعيين الذي كان عبارة عن جمعية أممية للعاملين، وهذا وقد كلفت الجمعية الأممية للعاملين ماركس وإنجلز بإصدار بيان يوضح رؤى وأهداف الشيوعيين، وقد أصدر ماركس وإنجلز بالفعل (البيان الشيوعي) والذي صدر عام 1848م.
ورغم هجمات أعداء ماركس عليه، إلا أنه لم يرد إلا عندما تقتضيه الضرورة.
يقول إنجلز أن ماركس مات محبوبا ممجدا، ونعته الملايين من العمال الثوريين: من مناجم سيبريا إلى كليفورنيا، وفي أنحاء أوربا وأمريكا كافة.
ويختتم إنجلز خطابه على قبر ماركس بقوله:
(ولعله من المهم القول إنه برغم خصوم ماركس الكثيرين، الا أنه لم يكن له عدو شخصي واحد. وسيخلد اسمه للأبد، وكذلك أعماله.
رابعا: – ا هي أهم أعمال ماركس؟:
أهم أعمال ماركس مع اإنجلز، والتي تشكل محطات مهمة في تطور فكره الفلسفي والاقتصادي والاجتماعي والسياسي هي:
– المخطوطات الاقتصادية والفلسفية (1844).
– العائلة المقدسة (1845).
– الأيديولوجية الألمانية (1846)، والذي أنجزه مع إنجلز، والذي تم فيه اكتشاف المفهوم المادي للتاريخ.
– بؤس الفلسفة (1847).
– البيان الشيوعي (1848)، والذي وضعه مع إنجلز.
– الحرب الأهلية في فرنسا (1871)، الذي أجري فيه تحليلاً عميقاً لتجربة كومونة باريس وأشاد ببسالة العمال وتضحياتهم وأسباب الهزيمة، رغم أنه حذر قادة الثوار قبل الانتفاضة من التسرع في استلام السلطة دون توفر الظروف الموضوعية والذاتية.
– نقد برنامج غوتا (1875) الذي أكد فيه ضرورة الواقعية في صياغة البرنامج الذي يقوم على دراسة الواقع لا الرغبات الذاتية، ودافع فيه عن حرية المعتقد.
– رأس المال، والذي اكتشف فيه القانون الأساسي للمجتمع الرأسمالي، نظرية فائض القيمة، ونشر المجلد الأول منه عام 1867م، والثاني نشره إنجلز عام 1885م، والثالث في عام 1894م.
وبعد وفاة ماركس حدثت متغيرات كثيرة في العالم، وظواهر جديدة مثل تحول الرأسمالية الي مرحلة الاحتكار، والتي تناولها لينين في مؤلفه (الإمبريالية أعلى مراحل الرأسمالية 1916)،
كما حدثت تطورات فلسفية وعلمية تناولها المفكرون الماركسيون بالدراسة والتحليل، وقامت وسقطت التجارب في الاتحاد السوفيتي وشرق أوربا، كما حدثت الثورة العلمية التقنية، والتي أحدثت متغيرات هائلة في العمل البشري وفي القوى المنتجة، وفي تركيب الطبقة العاملة، وزادت شدة الاستغلال الرأسمالي وامتصاص فائض القيمة. واشتد نهب موارد البلدان المتخلفة؛ مما زادها تخلفا وبؤسا، وزادت حدة الفوارق الطبقية والتناقضات بين مراكز الرأسمالية لنهب موارد الدول المتخلفة والبحث عن أسواق جديدة، واشتداد حدة الحروب وكل مآسي النظام الرأسمالي العالمي التي نعيشها الآن.
الوسومتاج السر عثمان بابوالمصدر: صحيفة التغيير السودانية
كلمات دلالية: تطور التاریخ الذی کان
إقرأ أيضاً:
10 سنوات على مجزرة نُقُم.. ذكرى مثقلةٌ بالألم
يمانيون../
في الحادي عشر من مايو عام 2015م، قبيل ساعات من هُدنةٍ كانت منتظرةَ، قبل عشرة أعوام من اليوم، اهتزت العاصمة اليمنية صنعاء على وقع ثمانِي غارات جوية متتالية لطيران العدوان السعوديّ الأمريكي، استهدفت حيَّ (نقم) المزدحم بالسكان.
لم يكن هذا الحي السكني الهادئ يعلم أنه على موعد مع فصل جديد من فصول الإبادة الجماعية، فصلٍ خططته أقلامُ الحقد في واشنطن ونفذته أيادٍ عميلة من الرياض، لم ترعَ حرمة الدماء ولا قداسة الأرواح.
بصوت يملؤه الأسى، أهالي الضحايا ومعهم كُـلّ أبناء الشعب اليمني الذين شاهدوا عبر شاشات التلفاز مشاهد مجزرة وحشية وجريمة إبادة جماعية يندى لها جبين الإنسانية، يتحدثون عن تلك اللحظات السوداء، وكأنها لا تزال حاضرة في ذاكرتهم المثقلة بالوجع.
عند الساعة الخامسة قبل المغرب، توقف الزمن، لكنه لم يكن إيذانًا ببدء هُدنة منتظرة، كما أعلن يومَها فحسب، بل كانت خاتمةً داميةً لحياة أكثر من 89 شهيدًا، وجرح ما يقارب 300 آخرين، غالبيتهم نساء وأطفال، استباح الطيران السعوديّ أرواحَهم ودماءَهم وحقَّهم في الحياة، محوِّلًا حياتهم إلى ورقة ضغط على طاولة المفاوضات مع القيادة السياسية بصنعاء.
وجاءت الجريمة، بالتزامن مع إعلان عن هُدنة هشَّة، كانت عدسة الكاميرا ترسم بالصوت والصورة ملامح جريمة حرب من ضمن عشرات الجرائم الكبرى بحق الإنسانية في اليمن.. أطفال رُضَّعٌ ونساء وكبار سن وأطفال من مختلف الأعمار حوَّلتهم الغارات إلى أكوام من اللحوم البشرية والأشلاء المتناثرة، والأجساد الممزقة، أشباح بلا بصيرة يفرون من الجحيم. من نجا منهم لا يعرف في أي اتّجاه، الكبير يتفقد الصغير ولا يكاد يراه في كثافة الدخان، وتصاعد النيران، وسماع أصوات الصراخ والاستغاثة من بين أنقاض لمنازل مدمّـرة بشكل كامل وأُخرى جزئية، أَو قائمة لكنها لم تعد آمنة.
العدسة تنقل مشهدًا للموت الجماعي المحتضر بأرواح سكان حي بكامل أركانه وأطرافه، بثماني غارات استخدم فيها العدوّ المجرم قنبلة شبه ذرية ملأ شُعاعُها السماء وكادت أن ترسمَ علامةَ يوم القيامة حين تغرب الشمس من مشرقها، ومن حولها أذيال مشعة بصفار نار تكوي الناظرين صوبها، وتخيف من لمح وهجها.
أنقاض وذكريات وأرواح بريئة، ورائحة الدم والموت والبارود تتصاعد من وسط أعمدة الدخان واللهب والغبار، وصيحات ألم وبكاء الفاقدين تمتزج بأصوات سيارات الإسعاف.
طفل صغير، لم تتجاوز سنوات عمره أصابع اليد، يمسك بقطعة قماش مشبعة بدماء والدته الشهيدة، غيَّر لونَها إلى الأحمر، يحرك يدَيه على جسد لم يعد يتحَرّك، عيناه الصغيرتان لا تصدقان ما يراه. امرأة مكلومة تجوبُ بين الركام، تنادي أسماءَ أطفالها كبارًا وصغارًا، وعلى بُعد أمتار يقع بصرها على جثة رضيعها، وجسد زوجها المحتضِن له قبل محاولة الخروج من المنزل بعد الغارة الرابعة، يعود لها طرفُها فتسقط على كومة المنزل فاقدة الوعي في مشهد أقربَ لكابوس، تتمناه أن يكون كذلك.
شهادات الناجين:
شهادات الناجين ترسم لوحة قاتمة للرعب، علاء كامل، بصوت يرتجف، يتساءل: “لو أن الذي أطلق الصاروخ سمع بكاء النساء وصراخ الأطفال لما أقدم على هذه الجريمة”.. كلمات تختزل قسوة اللحظة، وتدين صَمَمَ القلوب التي تجاهلت أنينَ الأبرياء.
إبراهيم المفتي يضيف بمرارة: “الغبار الكثيف والنيران المشتعلة والركام والشظايا جعلت النزوح صعبًا… الكثير من المواطنين لم يستوعبوا ما حدث، صدمة وحيرة، تجمُدُ الدماءُ في العروق أمام هول مشهد الجريمة”.
أحمد جبير، يروي قصةَ ابنته التي فقدت عقلَها من شدة الفزع، ليضيفَ جُرحًا آخر إلى قائمة الجراح النازفة: “بسبب اليوم المرعب جراء غارات عدوانية أُصيبت ابنتي بالجنون وقمت بربطها خشية أن تفر”. أية وحشية تلك التي تدفعُ طفلةً إلى الجنون وأبًا إلى تقييد فلذة كبده؟
ما بين مجزرتَي عطان ونقم تشابُهٌ في الآثار والسلاح:
التقاريرُ الطبيةُ والحقوقية تكشفُ عن بُعدٍ آخر مروِّعٍ للمجزرة، تشابُهُ الإصابات بين ضحايا مجزرة نقم وضحايا مجزرة حي عطان، حَيثُ ثبت استخدام أسلحة نيترونية محرَّمة دوليًّا، يثيرُ تساؤلاتٍ مقلقة حول طبيعة الأسلحة التي استهدفت المدنيين الآمنين، هل كانت هذه القنابل تحملُ الموت فقط، أم أنها زرعت سُمُومًا ستبقى آثارُها لعقود قادمة؟
تحت سفح جبل نقم، كانت تعيش أحياء شعبيّة آمنة، تحولت في لحظات إلى ساحة للموت والدمار، تقرير اللجنة الوطنية لتوثيق جرائم العدوان يصف كيف امتدت آثارُ التفجيرات الوحشية إلى مناطقَ بعيدة، وكيف غطَّى الجبل الرحيم على بعض السكان من الحمم والشظايا، لكنه لم يستطع حمايتهم من الرعب الذي خلَّفته “الأسلحةُ الفتاكة التي أُلقيت بحقدٍ بالغ”.
في حارة السد، حَيثُ تتلاصق البيوت وتتداخل الحكايات، وجد فريق التوثيق قصصًا تقشعر لها الأبدان، أبواب منازل مخلوعة كأنها أُصيبت بالرعب، وقلوب كانت تبكي وتصرخ بحثًا عن مخرج من جهنم التي أشعلها العدوان.
علاء حسين الكامل يروي كيف شاهد الصواريخ الأولى تهز الحي، وكيف تناثر الناس في خوف، وكيف كانت الطائرات تسقط أسلحة لم يرَ مثلها من قبل، أسلحة كبيرة الحجم تحمل الموت الشامل.
وجع علاء لم يكن على نفسه، بل على النساء والأطفال الذين أصابهم الرعب، كلماته البسيطة تحمل عتبًا عميقًا: “لو أن الذي فوق الطائرة المحملة بالصواريخ والقنابل سمع بكاء النساء وصراخ الأطفال وخوف الشيوخ… لربما رق قلبه وعاتبه دينه ومنعه قرآنه عن أن يفعل بنا ما فعله”.
حتى المدرسة، التي يُفترَضُ أن تكونَ ملاذًا آمنًا، لم تسلم من آثار الجريمة، أمام بوابة مدرسة غمدان، كان محسن صالح الضالعي يردّد بحسرة: “هنا ابني، لم نجد إلا بقايا دماء”. ابنه عبد الرحمن، طالب الصف التاسع، لم يبلغ السادسةَ عشرةَ، أُصيب بشظية بترت ساقَه وهو يحاول الهربَ مع أمه وأخواته من الغارات المتتالية، أمه أُصيبت هي الأُخرى، ورحلة البحث عن علاج تحوَّلت إلى معاناة مضاعفة؛ بسَببِ اكتظاظ المستشفياتِ بالجرحى.
حتى بيوتُ الله لم تَسْلَمْ من هذا العدوان الغاشم. مسجد الذكر، الذي لجأت إليه النساءُ؛ ظنًا منهن أنه مكان آمن، أصابه صاروخ آخر، ليطيّر النساء هاربات من الشظايا وجبروت العدوان الذي لم يحترم حُرمةَ المكان.
في ثلاجة الموتى بمستشفى الثورة، رقدت ثماني جثث مجهولة الهُوية، بعضُها تفحَّم، وبعضها تناثر دماغُه، والبعض الآخر مفصول الرأس، احتاج الأهالي عددًا من الأيّام؛ للتأكّـد من جثامين أقرابهم المفقودة، صور مروِّعة تجسدُ وحشيةَ الجريمة وتنزع عن مرتكبيها أيةَ صفةٍ للإنسانية.
لقد صعّد العدوان السعوديّ الأمريكي من جرائم حرب، ليضيفَ إلى سجلِّه الأسود مجزرةً جديدةً في صنعاء، مستخدمًا أسلحةً محرَّمة دوليًّا للمرة الثانية، بحسب مصادرَ طبية ومحلية، جنون القوة يزدادُ قبل وقف إطلاق النار، بينما تتجهُ الأنظارُ إلى الحِراكِ الدبلوماسي الدولي الذي يعوَّل عليه في محاسبة مرتكِبي هذه الجرائم.
89 شهيدًا وأكثرُ من ثلاثمِئة جريح، هي الحصيلةُ لمجزرة جبل نقم النيترونية، أرقام تتجاوز كونَها إحصائياتٍ لتصبح دليلًا دامغًا على جريمة حرب مكتملة الأركان.
خبراءُ يشيرون إلى قرائنَ تدُلُّ على استخدام أسلحة محرَّمة، ربما كانت نيترونيةً، لتزيدَ من فتكِها وتترُكُ آثارًا مدمّـرة على المدى الطويل.
ناجون من المجزرة باتت أياديهم على الزناد:
بعد مرور عشر سنوات على مجزرة نقم النيترونية، ما زالت الذاكرة تحتفظُ بصور الجثث المتناثرة، والأشلاء الممزَّقة، والجرحى الملقَين بين الأنقاض، أطفال ناجون كبروا وعاشوا بلا أُمهات، بعضُهم هو اليوم في مقدمة صفوف مجاهدي الجيش اليمني، وأُمهاتٌ ثكالى بلا أبناء ولا أزواج.
الدماء التي سالت يومها ما زالت وصمةَ عار على جبين الإنسانية.
اليوم، ونحن نستحضرُ هذه الذكرى الأليمة، فَــإنَّنا لا نستعرضُ فصولًا من الماضي فحسب، بل نطالبُ المجتمعَ الدولي بأسره بتحمُّلِ مسؤولياته الأخلاقية والقانونية، نطالبُ بتقديم مرتكبي هذه الجرائم البشعة إلى محكمة الجنايات الدولية؛ لينالوا جزاءَهم العادل على ما اقترفت أيديهم من فظائع.
دماءُ شهداء نُقُم وكل ضحايا العدوان السعوديّ الأمريكي على اليمن لن تذهبَ سدى، وصوتُ العدالة سيظلُّ يلاحقُ الجناةَ حتى ينتصرَ الحقُّ وتُشفى الجراح، وحالةُ التهدئة بيننا وبين العدوّ مُستمرّة، وشعبنا وقيادتنا وجيشنا على أتمِّ الجهوزية لإنصاف أهالي الضحايا، وتوجيه بُوصلة العداء الحقيقي نحو الدافعِ والمشجِّع اليهودي الإسرائيلي الأمريكي الذي يرتكبُ المجازرَ ذاتها اليومَ بحق أهلنا في غزة واليمن.