تعيش كل الشعوب في مأزق حضاري بامتياز، وعلى امتداد عمر الإنسانية، وكما يبدو، فإن هذا المأزق يتمثل في تأخر الوعي، ولذلك فهناك الكثير ممن كتب وقارن بين تأخُّر الوعي، وتقدُّم العلم، وهو تقدم كبير، وفارق واسع، ويبدو أنه لا تلاقي بين الطرفين، ولا توازي، فما ينتجه العلم لا يعمق في ذات مستواه الوعي، وهما -أي العلم والوعي- في هذه الصورة لا يعيشان صراعا جدليا، فقواسمهما ليست مشتركة، وإن التقيا عند هذا الإنسان؛ لأنه الفاعل الحقيقي لكليهما، هل هناك تعمُّد من قبل هذا الإنسان فيعمل على تقدم أحدهما وتأخر الثاني أم أن المسألة تعيش في سياقاتها الطبيعية؟ مع أن هذا البون الشاسع بين الطرفين في تقدم أحدهما وتأخر الثاني؛ يُحدثان مفارقات كثيرة في النتائج، وهذه النتائج مهمة جدا، وتسبب أرقًا غير منكور، لوجود خلل بنيوي في تشكيل تفاعلات الصورة الإنسانية فيما بينها، وهذا الخلل واقع، وبدرجة وضوح ساطعة لا يمكن تجاوزها، أو عدم إدراكها، ولكنها تسبب إشكاليات كثيرة.
فالإنتاج العلمي كميا ونوعيا يشمل كل أوجه الحياة، ولأن الوعي يحتاج إلى رصيد زمني، فإن التعامل مع هذا الكمي والنوعي للإنتاج العلمي يشوبه الكثير من الترهل، وعدم القدرة على السيطرة عليه، أو التوافق معه، ولنضرب مثالا بسيطا على حياتنا اليومية، ولتكن المركبة التي يمتلكها الجميع منا، إلا الاستثناء؛ فهذه المركبة هي أحد المنتجات العلمية الكمية والنوعية، فهل توظيفنا في استعمالاتها المختلفة يعبر عن وعي كمي لدينا، فضلا عن الوعي النوعي؟ ومن خلال تجربة شخصية لا أرى أن توظيفنا في استخداماتها الكثيرة معبرة عن أي درجة من الوعي، إلا الاستثناء، وهذا الاستثناء يحتاج إلى كثير من الاستحقاقات المادية والمعنوية، من حيث تجربة الحياة، وتحقق العمر التراكمي، والوعي الكامل بأهمية هذه المركبة، واستحضار المسافة الفاصلة بين من يمتلك مركبة، وبين من لا يمتلكها على الإطلاق، وبين من يفتقدها في لحظة زمنية؛ تكاد تكون لحظة من شأنها أن تصنع فارقا مهما لإنجاز أي شأن من شؤون الحياة اليومية.
ولعل لنا أن نقرأ في أحداث الصورة المتهورة عند حدوث ظاهرة «التفحيط» عند فئة المراهقين، والتداعيات المتوقعة من نتائج هذا السلوك، ومن خلالها يمكن استيعاب المسافة الفاصلة بين الوعي والتقدم العلمي، فمركبة بعشرات الآلاف من الريالات يمكن أن يخرجها صاحبها من الخدمة، وتصبح في قيمة «الخردة» نتيجة سلوك طائش؛ يقينا؛ لا يعكس وعيا، بقدر ما يعكس تهورا، وسوء تقدير للموقف، وهدر للمالين العام والخاص على حد سواء، وهذه الصورة المبسطة للمقارنة بين تأخر الوعي، وتقدم العلم، هي الصورة ذاتها التي يقف فيها الإنسان بجبروته، ونرجسيته، وتسلطه بقوة المادة فيبيد شعبا بأكمله، بمجرد ضغطة زر بأصبعه السبابة، فليتخيل أحدنا الموقف، بهذه الإصبع البسيطة يستطيع أن يزهق أرواحا كان لها حق الحياة، كحال حق الحياة لهذه الإصبع لأن تكون مؤازرة لأصابع اليد الأخرى، حتى تؤدي اليد وظيفتها الكاملة لهذا الإنسان المتمرد بجهله، وبعنجهيته المعتادة.
فتأخر الوعي إلى درجة تعمق الجهل، وتضخمه في مختلف السلوكيات، تظل مهينة للتاريخ الإنساني، وهي بلا شك، تعكس تباينا نوعيا عميقا، مع المنجز العلمي، والذي هو لم يقدم بديلا لتهذيب النفس الإنسانية وجعلها متوافقه مع تقدمه، هل لأن العلم حالة ميكانيكية يمكن السيطرة عليها، ومأسستها، بينما الوعي حالة نفسية يصعب مأسسة إدارتها؟
المصدر: لجريدة عمان
إقرأ أيضاً:
هل يمكن أن تصبح دبي عاصمة الويب 3 العالمية؟
لطالما قدمت دبي نفسها كمدينة المستقبل، منارة لامعة للطموح، والتوق إلى الابتكار، والسعي المتواصل نحو الريادة العالمية. وبينما يتجه العالم تدريجيًا نحو تبني تكنولوجيا البلوكشين، والعملات الرقمية، والإنترنت اللامركزي المعروف باسم Web3، تلعب دبي مرة أخرى دورًا محوريًا. هذه المرة، تسعى لأن تصبح المركز العالمي الأول للعملات الرقمية الحديثة والمتقدمة.
كجزء من هذا التحول الكبير، لا تكتفي دبي باستضافة شركات الكريبتو، بل تحتضن النظام المالي الكامل والمتنوع للاقتصاد الرقمي. من العقارات المرمّزة، إلى بنية التمويل اللامركزي (DeFi)، وتحويل الأموال الرقمية الدولية، وغيرها من الابتكارات التكنولوجية، تتيح للمدينة أن تصبح عقدة مركزية ومؤثرة في تدفقات قيمة الأصول الرقمية.
يتعرف المتداولون والمؤسسات على الأدوات والبورصات المتقدمة التي تسمح لهم بالتحويل الفوري إلى عملات دولية بطريقة أكثر موثوقية، مثل التحويل من USDT إلى الدولار الأمريكي، من خلال نظام شفاف ومنظم. هذه الآليات الأساسية هي التي تمهد الطريق للنجاح الحقيقي والمستدام في هذا القطاع المتسارع.
البنية التحتية الملهمة للابتكارلا تقتصر طموحات دبي على السياسات الورقية فقط، بل تعمل بجد على تطوير البنية التحتية الضرورية لدعم اقتصاد ويب 3 صحي وواعد.يجري إعداد النظام بسرعة كبيرة، مع مناطق حرة مثل مركز دبي للسلع المتعددة (DMCC) التي تقدم نظام تصاريح مخصص للكريبتو، وجهود داخل مركز دبي المالي العالمي (DIFC) لدعم الابتكار في التكنولوجيا المالية المتقدمة.
علاوة على ذلك، تتماشى طموحات دبي في Web3 مع بنيتها التحتية المادية والرقمية. فالسكان يتمتعون بمهارات ومعرفة قوية في استخدام التكنولوجيا، مع وجود خدمات الإنترنت الممتازة، والسحابية، التي تقدمها الحكومة، مما يسهل تطوير حلول بلوكشين محلية واختبارها وتوسيع نطاقها بشكل فعّال.
تعمل المدينة أيضًا على اختبار تبني البلوكشين على المستوى الحكومي. تسعى مبادرات مثل استراتيجية دبي للبلوكشين ومشروع "دبي الذكية" لتحويل كل مستند قانوني إلى سجل عقاري يتم تخزينه في دفتر أصول لامركزي. وهذا يبعث برسالة واضحة للمستثمرين والمبتكرين: دبي لا تفتح أبوابها فقط لشركات الكريبتو، بل تدمج التكنولوجيا في صميم هويتها المؤسسية.
جاذبية المواهب في الصحراءيُعد استقطاب المواهب والاحتفاظ بها أحد العناصر الحاسمة في نمو أي مركز تكنولوجي واقتصادي. وفي هذا السياق، أصبحت دبي أكثر تنافسية من أي وقت مضى. بفضل إجراءات التأشيرات المبسطة، والمزايا الضريبية، ونمط الحياة العصري المتعدد الثقافات، أصبحت المدينة وجهة جذابة للمطورين، والمستثمرين، ومؤسسي مشاريع Web3 من أوروبا، وآسيا، والأمريكيتين.
ومع انتقال الشركات إلى دبي، تصطحب معها نخبة عالمية من المبرمجين، وخبراء التمويل، والمبدعين. وتمتد جاذبية دبي المهنية إلى ما هو أبعد من الحوافز التقليدية، لتشمل عناصر مثل التنوع، والأمان، والفخامة، والجودة المعيشية. كما أصبحت فعاليات مثل الهاكاثونات، وقمم Web3، والمؤتمرات جزءًا أساسيًا من تقويم دبي السنوي، مما يساهم في بناء خلفية ثقافية وفكرية لازمة لنمو بيئة تكنولوجية مزدهرة.
والأهم من ذلك، أن دبي تستثمر بشكل مباشر في تطوير المواهب المحلية. توفر الجامعات الكبرى وبرامج التدريب المهني الآن محتوى أكاديمي متخصص في تكنولوجيا البلوكشين والعملات الرقمية، في حين تقوم مسرعات الأعمال مثل DIFC FinTech Hive بربط الشركات الناشئة برأس المال، والدعم الاستشاري، والتوجيه العملي.
ابتكار الاقتصاد المالي واقتصاد الرموزلا يقتصر تبني دبي للأصول الرقمية على بناء البنية التحتية أو جذب الأعمال فقط، بل يعكس رؤيتها المستقبلية الممتدة. وبينما يفكر المصرف المركزي الإماراتي في إطلاق درهم رقمي، تختبر مؤسسات مالية محلية، مثل ناسداك والبورصة المحلية، استخدام السندات المرمّزة بالتعاون مع العملات المستقرة. المنطقة في طريقها نحو ثورة اقتصادية رقمية شاملة.
ترحب دبي بفكرة العملات المستقرة والعملات الرقمية، ما يجعلها مركزًا عالميًا للنقاش حول الابتكار المالي المستقبلي. ويدل سعيها إلى دمج مدفوعات الكريبتو في الخدمات اليومية، مثل الفنادق أو وكالات السيارات، على استعدادها لتغيير جذري في طرق تبادل القيمة.
تدمج دبي نفسها تدريجيًا في شبكة الأصول الرقمية المربوطة، مثل USDT، والتي تُعد من أهم نقاط التداول والسيولة عالميًا. ومع انخفاض تكاليف المعاملات، وسهولة الوصول إلى عملات رقمية منظمة بمستوى مؤسسي، من المرجح أن تصبح دبي المنصة الطبيعية لدخول وخروج المعاملات الرقمية واسعة النطاق في آسيا، وأفريقيا، وأوروبا.
ثقافة التعاون التنافسييمكّن هذا النهج دبي من تصدر سباق الريادة في Web3، وربما تصبح الدولة الوحيدة في العالم التي تحقق توازنًا حقيقيًا بين التنافس والتعاون. وعلى الرغم من أن المدينة تستقطب العلامات التجارية العالمية، إلا أنها تعزز كذلك ثقافة المجتمعات المحلية، وتمنح الشركات الناشئة، والمؤثرين، والخبراء المحليين مكانًا بارزًا على الطاولة.
توفر مؤتمرات مثل "قمة البلوكشين المستقبلية" و"TOKEN2049 دبي" منصات للتواصل، والتمويل، وتبادل المعرفة مع أبرز العقول في هذا القطاع المتغير بسرعة. إن الجمع بين الابتكار المؤسسي واسع النطاق والإبداع المحلي يخلق نظامًا بيئيًا قويًا يصعب تكراره أو تقليده.
وتجدر الإشارة أيضًا إلى انفتاح المؤسسات الحكومية على التعاون الحقيقي مع قطاع الكريبتو. مثال على ذلك هو هيئة تنظيم الأصول الافتراضية (VARA)، التي تجري مشاورات دورية مع أصحاب المصلحة وتحدث إرشاداتها باستمرار لمواكبة أفضل الممارسات العالمية. يُعد هذا النموذج التكراري والشامل في الحوكمة عنصرًا بالغ الأهمية في قطاع تقني يتطور أسرع بكثير من أي تشريع.
الثروات والعقبات: تحديات وآفاق مستقبليةمن الطبيعي ألا يكون طريق دبي نحو أن تصبح عاصمة Web3 العالمية سلسًا تمامًا. فما زالت هناك تحديات تتعلق بالاستدامة المالية طويلة الأمد، والآثار البيئية لتعدين العملات الرقمية، وتحقيق الامتثال من دون كبح الابتكار. كما يجب على دبي الحفاظ على تفوقها التنافسي، خصوصًا مع اتجاه مدن مثل سنغافورة، وهونغ كونغ، وزيوريخ لتبني تشريعات أكثر تحررًا ودعمًا لصناعة الكريبتو.
مع ذلك، فإن انطلاقتها المبكرة، واتساق رؤيتها الاستراتيجية، ومرونتها العملية، منحتها ميزة واضحة تجعل من الصعب على المدن الأخرى منافستها. موقعها الجغرافي المركزي، وانفتاحها الاقتصادي، وقيادتها الطموحة، يجعل منها قوة عالمية مرشحة لقيادة اقتصاد رقمي لامركزي ومتجدد.
دبي لا تصنع المستقبل فقط، بل توجه دعوة صريحة للعالم بأسره للمشاركة في رسم ملامحه. بنيتها التحتية، سياساتها، وطموحاتها تجعل منها عاصمة واضحة لهذا العصر الجديد، حيث تتلاشى الحدود الوطنية، وتفسح المركزية المجال للتعاون الدولي الواسع.
اقرأ أيضاًريا أبي راشد تنشر صورا من افتتاح عمرو دياب ثالث فروع فندقه بدبي
محمد عبده «فنان العرب» والمايسترو هاني فرحات فى حفل غنائي ضخم بـ «دبي».. الليلة
بنك الإمارات دبي الوطني يخفض عوائد شهادات الادخار بنسبة 1%
«التضامن الاجتماعي» تنظم معرض «ديارنا للحرف اليدوية والتراثية» ببنك الإمارات دبي