لجريدة عمان:
2025-06-25@03:54:46 GMT

ساموراي معاصر

تاريخ النشر: 19th, March 2024 GMT

ساموراي معاصر

لا يزال الأدب الياباني يملك سحره الخارق لممارسته على ذائقتنا (بالنسبة إليّ على الأقل)، حيث يأخذنا في رحلته المدهشة، عبر أسماء جديدة تتواتر إلينا كلّ فترة، بفضل الترجمات، أكانت بلغة أجنبية أم عبر العربية التي أصبحت مكتبتها تضم أسماء كثيرة، منذ ثمانينات القرن الماضي، وهي الفترة التي شهدنا فيها نقل العديد من كتّاب تلك البلاد إلى لغتنا.

قد تكون دار الآداب (بيروت)، هي من فتحت أمامنا تلك الطريق، حين قدمت لنا ذاك الأدب الذي كان مجهولا، لنكتشف فيه قارة كاملة من حيث أساليبه ومناخاته وفضاءاته، كما من حيث موضوعاته المتنوعة المتراوحة من أقصى التقاليد إلى أقصى الحداثة. وحين أقول دار الآداب، لا لألغي دُورًا أخرى -أبدًا- بل لكي أشير إلى أنها الدار التي دأبت -ولا تزال- على تقديم، بشكل منهجي ومستمر، أبرز أصوات الأدب الروائي الياباني. فرحلتها مستمرة في التنقيب وفي الترجمة بطبيعة الحال.

من الأسماء الجديدة التي نكتشفها اليوم، الكاتبة مييكو كاواكامي (مواليد 1976) مع روايتها «الجنّة» (الصادرة حديثًا عن دار الآداب، بترجمة زوينة آل تويه، وهي الرواية التي وصلت إلى اللائحة القصيرة لجائزة البوكر الدولية عام 2022)، حيث تطرح فيها مسألة الهُوية والعلاقة بين الذات والعالم الخارجي، عبر صداقة مراهقين يواجهان عملية إقصاء، لتحمل الرواية بذلك، وبقوة، موضوعات غنيّة جدا حول القيم اليابانية التي تحل مكان التفسير الفكري الغربي.

لا أبالغ لو قلت: إنه اكتشاف منفرد، ومذهل، ويحبس الأنفاس، تقدمه لنا هذه الكاتبة اليابانية التي تكتب «نصًا مؤثرًا»، حول أحلك المواضيع: التحرش، والتنمر والإساءة التي يعاني منها اثنان من المراهقين، صبي صغير (لا نعرف اسمه، بل فقط الألقاب التي تطلق عليه من مثل: ذو النظارتين وغيرها) وفتاة صغيرة (كوجيما)؛ الأول بسبب حَوَل حادّ في عينيه، والثانية بسبب إهمالها المتعمد لمظهرها إثر صدمة وفاة والدها.

يتعرض هذان التلميذان، بشكل دائم، لسوء المعاملة من قبل زملائهما في الفصل الدراسي، لذا «يتعرفان» على نفسيهما، في حياتهما اليومية، على أنهما «ضحايا للمضايقة». إلا أنهما لا يستسلمان للأمر، بل يساعدان ويدعمان بعضهما البعض، من خلال كتابة ملاحظات ورسائل صغيرة لبعضهما، كما من خلال لقائهما المستمر خارج المدرسة.. لقد ساعدتهما هذه اللقاءات -كما الثقة المتبادلة بينهما- على تحمُّل عنف رفاقهما لهما كما الإهانات المستمرة من قبلهم، ليساهم ذلك، في نهاية الأمر، في بنائهما مجدداـ وإعادة تشكيل حياتهما، وجعلهما أقوى بفضل صداقتهما وتواطئهما (بالمعنى الجميل للكلمة)، كي يواجها هذه الحياة بكلّ ما تحمله من مصائب ومصاعب لدرجة أن أحد المراهقين كان قد فكر بالانتحار.

ثمة قراءة مؤثرة في عمل كاواكامي هذا، وعلى الرغم من «صعوبته» (وأقصد أنه لا ينتمي إلى الكتب التي تُؤلَّف لتمضية الوقت والتسلية)، تكمن ميزته في تواجده حول موضوع وواقع قاسيين للغاية. لذا نذهب في خيالنا، مع القراءة، إلى تصور تعاسة المراهقين المحاصرين في شرطهما الاجتماعي والإنساني، حصار الاضطهادات الشتى التي يتعرضان لها، ما يدفعهما إلى الشعور الدائم بالخجل من المعاناة، وهو خجل مضاعف، لا يستطيعان أمامه سوى تبني الصمت.

السؤال الكبير الذي تطرحه الرواية وتظهره، والذي لا يمكن الاستهانة به، هو إلى أي حدّ لا يمكن اعتبار فترة المراهقة، الفترة الأكثر بهجة في حياتنا.. فهذه الفترة الفريدة من البناء والصيرورة هي فترة مركزية وأساسية، لذا يجب أن نكون منتبهين قدر ما نستطيع، إذ يمكن لذلك أن يدفع بالمراهق إلى أن يحبس نفسه في الصمت ويدمر نفسه ببطء ما يقوده في النهاية إلى العزلة المطلقة.

ثمة أسئلة تربوية، بالطبع، لكن هناك أيضا أسئلة فلسفية تطرحها الكاتبة اليابانية (وهي بالمناسبة خريجة قسم الفلسفة، وموسيقية). أسئلة يطرحها الصديقان من كل جانب: وجود الخير والشر، والقوي ضد الضعيف، وتفاهة الشر والعنف وعبثيته، والضحايا والجلادون، وما إلى ذلك.

موضوع صعب تتناوله مييكو كاواكامي، والذي، من دون الوقوع في العاطفة، يوضح لنا إلى أي مدى لا يُغفر لك كونك مختلفًا، سواء كان هذا الاختلاف مرغوبًا أم لا، وبخاصة خلال فترة المراهقة وربما أكثر من ذلك في بلد مثل اليابان. وعلى الرغم من هذا الموضوع الشائك، تُلقّح كاواكامي روايتها بتيّار شعري نشعر بأنفاسه في كل صفحة؛ تيّار حزين لكنه جميل أيضا. فبرغم العنف والاشمئزاز اللذين يواجههما البطلان، فإن ثمة غنائية تسود كما هو الحال في كثير من الأحيان في هذا النوع من الأدب الياباني.

ثمة شيء في هذه الصداقة «المضحكة» التي تربط الشخصيات، الغموض، القبول بمصير لا يكاد يفكر فيه أحد. مصير يتغير في هذه النهاية المفتوحة التي تُظهر مكان كل شخص في عالم يحدث فيه أننا لا نجد فيه مكاننا «اللعين» هذا: إذ من الصعب أن تكون على طبيعتك، وأن تكون بسيطا في بعض الأحيان، وأن تعطي الأولوية دائمًا للمظهر على حساب كل شيء آخر. ليس ذلك كله سوى تأثير الآخرين الخبيث عليك، الحاضرين في حياتك، والذين لا يبدو أنهم بحاجة إلى موافقتك أبدًا ليكونوا ما يريدون.

هناك رائحة خاصة جدًا تطفو حول هذا الكتاب، بين الصفاء والعنف، ورؤية مقلقة للخير والشر والبحث عن هُوية الفرد في هذه الفترة من الحياة التي تحدّد مستقبل الجميع. بهذا المعنى، من خلال رغبتهما في عدم الاستسلام أخلاقيًا مع عدم المقاومة جسديًا، فإن بطلي «الجنّة» الصغيرين هما «ساموراي» حقيقيان في التقاليد الثقافية والاجتماعية اليابانية التي تستمر بمرور الوقت.

لكن ما هي «الجنّة» إذن (في العنوان)؟ من أين تأتي؟ هل هي ما بعد الموت (إذ لا بدّ أن يفكر القارئ، وبشكل عفوي، حين يقرأ كلمة الغلاف الأخير، أن المراهقين سينتحران)؟ لا. إنها لوحة كوجيما المفضلة، والتي أطلقت عليها اسم «الجنة». توضح تعريفها للراوي بمثال، عندما يكونان في متحف الفنون: «الجنة لوحة تصور حبيبين يأكلان كعكا في غرفة بها سجاد أحمر وطاولة... وما يبهج حقا هو أنه باستطاعتهما مدّ عنقيهما كيفما أرادا. أينما ذهبا، أيّا ما كان يفعلانه... لا شيء يفرق بينهما»... وتضيف بعد أسطر: «... شيء مؤلم جدا وقع لهما، محزن جدا. لكن أتعرف ماذا؟ لقد تخطيا ذلك، وعاشا في توافق تام».

إسكندر حبش كاتب وصحفي من لبنان

المصدر: لجريدة عمان

إقرأ أيضاً:

المملكة تختتم مشاركتها في معرض سيئول للكتاب.. الثقافة السعودية تعزز حضورها عالمياً

البلاد (سيئول)

اختتمت المملكة مشاركتها في معرض سيئول الدولي للكتاب 2025، الذي أُقيم خلال الفترة من 18 إلى 22 يونيو، في مركز كويكس للمؤتمرات والمعارض بالعاصمة الكورية سيئول، بمشاركة وفد رسمي تقوده هيئة الأدب والنشر والترجمة، وممثلين عن عدد من الجهات الثقافية السعودية.
وشهد الجناح السعودي طوال أيام المعرض حضورًا لافتًا من الزوّار والمهنيين في مجالات النشر والترجمة وصناعة الكتاب، حيث قدّم برنامجًا ثقافيًا شاملًا، تضمّن ندوات حوارية، ولقاءات مهنية، إلى جانب عرض مجموعة من الإصدارات الأدبية المترجمة، التي تُبرز تطورات المشهد الأدبي في المملكة.
وأكد الرئيس التنفيذي لهيئة الأدب والنشر والترجمة الدكتور عبداللطيف بن عبدالعزيز الواصل، أن هذه المشاركة عكست التحوّل الذي يشهده القطاع الثقافي السعودي، وما يحمله من محتوى نوعي، يعزز من الحضور الأدبي للمملكة في الأسواق العالمية، لا سيما في قارة آسيا، ويسهم في فتح آفاق جديدة للتعاون الثقافي والمعرفي.
وأشار إلى أن الهيئة تعمل- من خلال مشاركاتها الدولية- على تمكين صناعة النشر المحلية، وتحفيز حركة الترجمة، وتوسيع نطاق الشراكات المهنية مع دور النشر والمؤسسات الثقافية في مختلف الدول؛ تأكيدًا لمكانة المملكة كمركز ثقافي متجدد ومؤثر.
وضم الجناح السعودي عددًا من الجهات الثقافية، التي عكست التنوع الثقافي في المملكة، بقيادة هيئة الأدب والنشر والترجمة، وبمشاركة مكتبة الملك عبدالعزيز العامة، ومكتبة الملك فهد الوطنية، وجمعية النشر السعودية، ومجمع الملك سلمان العالمي للغة العربية، وجامعة الأمير سطام بن عبدالعزيز، وشركة ناشر للنشر والتوزيع، إلى جانب عدد من دور النشر المحلية.
تأتي مشاركة المملكة في معرض سيئول الدولي للكتاب في سياق التوجّه الإستراتيجي لتعزيز حضورها في المحافل الثقافية الدولية، والتعريف بالهوية الأدبية المتجددة للمملكة، والتفاعل مع التجارب العالمية في مجالات الأدب والنشر والترجمة، وذلك ضمن مستهدفات رؤية السعودية 2030 الرامية إلى بناء قطاع ثقافي مزدهر ومستدام.
يُذكر أن المملكة حلّت ضيف شرف في معرض سيئول الدولي للكتاب 2024، في مشاركة متميزة جسّدت من خلالها هيئة الأدب والنشر والترجمة ثراء الثقافة السعودية وتنوعها، وقدّمت برنامجًا ثقافيًا متكاملًا ضمّ ندوات، وعروضًا فنية، وأنشطة تفاعلية، حظيت بإقبال لافت من الجمهور الكوري، وأسهمت المشاركة في تعزيز حضور الأدب السعودي في كوريا الجنوبية، وتوطيد جسور التعاون الثقافي والمعرفي بين المملكة وكوريا الجنوبية.

مقالات مشابهة

  • طلاب الثانوية الأزهرية يؤدون اليوم امتحان مادة الأدب والنصوص
  • هيئة الأدب والنشر والترجمة تطلق برنامج التدريب الدولي للوكلاء الأدبيين والوكالات الأدبية
  • ميسلون فاخر.. روائية عراقية تُنقّب عن الهوية في عوالم الغربة والخذلان
  • التعبيرية في الأدب.. من صرخة الإنسان إلى عالم جديد مثالي
  • المملكة تختتم مشاركتها في معرض بكين الدولي للكتاب 2025
  • ستر ناسفة وألغام معدة للتفجير ودراجة نارية مفخخة ضُبطت خلال العملية الأمنية النوعية التي نفذتها وحدات وزارة الداخلية وجهاز الاستخبارات العامة ضد خلايا تابعة لتنظيم داعش الإرهابي بمحافظة ريف دمشق
  • تجارب تشكيلية لـ21 فنانًا معاصرًا في المعرض الصيفي بحاليري بيكاسو إيست.. الأربعاء
  • المملكة تختتم مشاركتها في معرض سيئول للكتاب.. الثقافة السعودية تعزز حضورها عالمياً
  • المملكة تختتم مشاركتها في معرض سيئول الدولي للكتاب 2025
  • الزمن المفقود.. الموجة الإنسانية في أدب التنين الصيني