كتاب جديد: إشكالية الموت لا تزال مطروحة في جميع الأزمنة والأمكنة
تاريخ النشر: 22nd, March 2024 GMT
الكتاب: الموت بين المجتمع والثقافة
المؤلف: أحمد زين الدين
الناشر: المركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات ـ الدوحة ـ 2024
صدر عن المركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات كتاب "الموت بين المجتمع والثقافة"، وهو من تأليف الباحث اللبناني أحمد زين الدين.
يعرض الكتاب موضوع العرض لواحد من أهم القضايا تعقيدا في حياة الإنسان، والتي لا تزال عصية عن الفهم علميا، وهي الموت.
"عربي21" تنشر جزءا من العرض الذي نشره "المركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات"، عن الكتاب الذي يلامس واحدا من أهم القضايا التي ظلت مجالا خصبا للتأويلات الفلسفية والفكرية، وبالقطع الدينية.
احتوى الكتاب على ثلاثة أقسام: ناقش الأول التحديق في الموت وهاجس الحديث عنه، وطقوس الوداع، وطرائق الدفن المتعددة. أما الثاني فقد تناول مظاهر العبادات المحلية التي تمارَس في المقامات الدينية، وتقوم على تعظيم الأولياء الموتى، والتماس المدد الروحي من زيارتهم، وإقامة الولائم على شرفهم. في حين كُرِّس الثالث للحديث عن العنف الدموي ذي المرجعية الدينية، حيث شهدت أقطار العالم الحديث تفاقم النزاعات الدينية القتالية تحت مسميات عدّة، على رأسها الجهادية والعمل الاستشهادي.
توزعت الأقسام الثلاثة على أربعة وعشرين فصلًا، تتمحور جميعًا حول تيمة الموت ومعناه لدى الأمم والشعوب وطرائق التعامل معه ومساهمة المعتقدات حوله في بناء الميثولوجيات، ومساهمة الموروثَين الإسلامي والمسيحي والفلسفة الإغريقية خلال مراحلها كافة في بناء تصور عن الموت. ويقع في 224 صفحة، شاملةً ببليوغرافيا وفهرسًا عامًّا.
ينفر معظم الناس من الموت، لِما يُحدثه من اضطرابٍ نفسي وهواجسَ مقلقة وانطباعات سلبية، إذ هو "المجهول" المتجاوِزُ كلَّ مقاربة مفاهيمية، وكلَّ محاولة لاستيعابه عقلًا وواقعًا. وقد عاين الأحياء أشخاصًا يموتون، واقتحم الموت بيوتهم مختطِفًا أحد أفراد أُسَرهم فأَمَرَّهم بتجارب قاسية ولَّدت في بعضهم مشاعر حادّة تقارب الشعور بالرهبة، خشية الانفصال عن حبيب والحرمان من عزيز، وغير هذا.
ويحيِّر الموتُ الأحياءَ ويذرهم بلا إجابة تروي الغليل أمام مروحة واسعة من الأسئلة عن الموت: موت الحامل وهي تضع مولودها، وموت المحارب في ساحة الوغى، وموت المتعرض لحادث عرضي، وموت مَن بلغ من العمر عِتِيًّا فتعطَّلت وظائفه الحيوية، وموت المنتحِر بقرار ذاتي، وغيرها كثير من الأسباب؛ فالموت في أيٍّ من حالاتٍ لا تقبل العدَّ لا يُقاربه البشر معنويًّا بالطريقة عينها، وكذلك الأمر في التعامل ماديًّا مع الجثمان، سواء بالدفن أو الحرق أو التحنيط أو جعله طُعمةً لحيوان جارح أو طير كاسر، وكذا بالنسبة إلى مصير المتبقّي من العظام أو الأشلاء أو الرماد، وإلى فترة الحِداد، ومدة الفصل بين الحيّ والميّت، ومصير المتوفّين بعد موتهم، وأشكال وجودهم في العالم السماوي.
بخلاف الحيوانات، التي لا تقلق أو لا تتألم لمصير غيرها من ذوات جنسها، وإنْ ذهب بعضُهم إلى تصنيف حركاتٍ وأصواتٍ لديها في خانة التأثّر، يقع بنو آدم في اليأس فيخترعون قصصًا تُعينهم على موضعة حياتهم داخل محيط كوني أوسع، لكشف انتظامه واكتساب شعور مضادٍّ للاكتئاب وباعث على الشعور بأن للحياة قيمةً ومعنًى، ولجعل أذهانهم تولِّد أفكارًا وتجارب لا يمكن تفسيرها منطقيًّا، فيشطحون بخيالهم ليستحضروا شيئًا غير شاخص أمامهم، ولا يوجد موضوعيًّا، فينتِج الخيالُ عندهم الدينَ والميثولوجيا.
الميثولوجيا والموت
لا يزال الخيال الملَكة التي تمكّن العلماء من إخراج معارف جديدة إلى الضوء، على الرغم من سوء سمعة التفكير الميثولوجي في زماننا، التي دفعتنا إلى استبعاده بحجة لاعقليته وقلة دقته. وترتِّبُ الميثولوجيا، من خلال إدخال معنى ونظام، العالمَ عميقًا وهرميًّا، وهي تسنّ التاريخ الأصلي للجماعة البشرية، وتروي ولادة الآلهة والبشر والحيوانات، وكذلك عناصر الطبيعة والأحداث العظيمة. وقد ظهرت الإشارات الأولى لمأسسة دين الأصول مع الإنسان العاقل، وكذا تجذّرت معه الممارسات الشعائرية والطقوس الجنائزية، وتبلورت فكرة المقدّس، وطقوس التنظيم الاجتماعي قبل عصر الحداثة .
كرَّست الثقافاتُ الكونية استراتيجياتٍ للتعايش مع حتمية الفناء تمثلت بتقاليدَ ورموزٍ اجتماعية وسرديات وأساطيرَ وطقوسٍ لاستيعاب الانفعالات الناجمة عن انتزاع أحد أفراد الجماعة، محوّلة إياها تضامنًا قويًّا بين جميع أعضائها، وهنا تدخل الديانات لتُسيِّج الموت بأجوبة مبرمة عن مصير الأرواح والأجساد تجعل المرء يرى في الموت أمرًا معقولًا لا عبث فيهتُخبرنا قبور إنسان نياندرتال البدائي أمورًا مهمة حول الأسطورة، منها أنّ أصولها مستندة إلى تجربة الخوف من الفناء، بسبب عظام الحيوانات بالقرب منها، ما يدلّ على تقديم أضحية عند الدفن. إنّ ارتباط الموت بقضايا المجتمع والتنمية كان ولا يزال مجالًا لدراسات غربية معمّقة في تاريخ العقليات، وقد نشأ في العقود الأخيرة وتطوَّرَ "علم دراسة الموت والاحتضار" Thanatologie، أما المساهمة العربية، فموقوفة على تواريخ ومناطق ومعتقدات دينية محدّدة، لا على الأدوات الإناسية، فالرّحالةُ العرب وصفوا مشاهداتهم طقوس الموت من دون تحليل أو وقوف على أبعادها الدقيقة، والكتب العربية نَحَتْ إلى الوعظ بالاستعداد للموت وإن كان بعضُها لم يَعدم النظرة إلى فوارق طبقية واجتماعية وثقافية بين المتوفّين، التي تمثلت بالحضور الكثيف لجنائز رجال السياسة والأعيان والفقهاء والمتصوّفة والإقبال على حمل نعوشهم، بينما كان الحضور في جنائز العوام والناس العاديين يقتصر على الأهل والجيران، وبالأخص في المغرب العربي، نظرًا إلى شدة اهتمام المنطقة بالأولياء وبناء مراقد لهم بعد موتهم. وقد استندت دراسات الغربيين لموضوع الموت إلى وثائق مكتوبة وشفوية وإيقونوغرافية Iconographie (الرسوم واللوحات)، أمّا ما كُتب باللغة العربية فقد اهتم بالطقوس والبِدع وأحوال القبور وأهوال يوم القيامة.
مواجهة متخيَّلة
الموت "المختفي في وضح النهار"، في نظر زيغمونت باومان، يخوض مع الحياة مواجهة دائمة وصعبة لا تضع أوزارها، تُجبر البشر على ألّا يديروا ظهورهم له أو ألّا يحاولوا نزع وصمة "الهول" عنه، إذ إن الحياة بذاتها متشبِّعةٌ بأشكال مختلفة منه، ومن رعب الإنسان من إقصاء جسده الذي لا يرتوي من منابع الحياة، رغم أن الأوبانيشاد (جزء في مجموعة كتابات تسمّى فيدات هي جزء أساسي من مصادر الديانة الهندوسية) وصفت الجسد بأنه "منتن، منعدم الأهمية، عرَضي، كتلة من جلد وعضلات ونخاع ولحم ومني ومخاط ودموع وبول وريح وصفراء ولمفا" (بلازما وصفائح دموية). ومع إخفاق تقنيات العصر الحديث في استئصال المخاوف، سادت المصالحة والتطبيع مع الموت، وحُوِّلت المجابهة إبقاءً على إرادة الحياة وتأقلمًا معها.
ويرى باومان أنّ الثقافات كافة أدواتٌ عبقرية لإخفاء وجه الموت، أو تزيينه لإتاحة احتمال التعايش معه، إذ لا يمكن طرده من حياة البشر مع أنه يبقى على الدوام النموذج الأوّلي لجميع أشكال الخوف الأخرى، التي لم يلطِّفها تطور العناية الطبية والنفسية والمؤسسات الاستشفائية، الذي كان جلُّ ما حقّقه تقليص المعاناة وتلطيف الآلام وإيصال المرء إلى "الموت الجميل"، الذي تُستعاد عنده الصور التخييلية الطفولية، وموضوعات متأرجحة بين الحياة والموت، مثل: النفق المظلم، والضوء، والكائن النوراني، والعرْض البانورامي للحياة، ورؤية الأقارب المتوفّين، والخروج من الجسد، وغيرها؛ فخلال هجمة الخوف عند الموت "يفصل اللاوعيُ الجسدَ عن الوعي، ويمنح شعورًا بالهروب المكاني من الزمن، فتُطرد حقيقة الموت خارج الوعي، ويتلقى المحتضرُ رسالةَ حياة"، بآليات بيولوجية واضطرابات تنفّسية وتفريغات عصبية.
ولا يزال الموت الحقيقي غير المتصوَّر بمنأى عنّا، ولا تزال الفجوةُ ماثلةً بين مشهد "موت" شخص أمام امرئ وبين فهْمِه موتَه هو وكيف سيكون، فالمسألة في عمقها ليست موت الآخر، بل موته هو، ليست في المشاهدة بل في التوقّع الدائم والمواجهة مع الذات ومعاناة هذا اللغز المحيّر المضني، الذي يفلت في النهاية من كل تفسير؛ فالتمعّن في الموت باعتباره إعدامًا للجسد غيرُ قابل للتصور، بل ثمة استحالة لفهم الوعي البشري عدمه، أو لاوجوده، أو كونه لا شيء، فوعي الموت مستحيل؛ لأنّه يتعارض مع الكوجيتو "أنا أفكّر إذًا أنا موجود"، إذ إنّ العالم هو الأنا، ونحن نعجز عن تصوّره بعد عدمنا بالموت.
استراتيجيات الثقافات والأديان مع الموت
الموت أكثر الظواهر البيولوجية "ميتافيزيقيةً"، لما يثيره في أذهان الأحياء من تساؤل؛ ونظرًا إلى تباين هؤلاء الأحياء بشدة كان النظر إليه متباينًا بمقدارهم. وقد كرَّست الثقافاتُ الكونية استراتيجياتٍ للتعايش مع حتمية الفناء تمثلت بتقاليدَ ورموزٍ اجتماعية وسرديات وأساطيرَ وطقوسٍ لاستيعاب الانفعالات الناجمة عن انتزاع أحد أفراد الجماعة، محوّلة إياها تضامنًا قويًّا بين جميع أعضائها، وهنا تدخل الديانات لتُسيِّج الموت بأجوبة مبرمة عن مصير الأرواح والأجساد تجعل المرء يرى في الموت أمرًا معقولًا لا عبث فيه، ففكرة الحياة الأخرى أجبرت الإنسان على ابتكار ممارسات جنائزية تضمن مرور الميت إلى زمنٍ ووضعٍ آخرَين يُطَمْئنان مقرّبيه الأحياء ويهدِّئان من روعهم.
يسعى كتاب الموت بين المجتمع والثقافة إلى مقاربة إشكالية الموت الشائكة عبر الأدوات الإناسية التي بلورتها جهود الدوائر الأكاديمية الغربية، وإلى رصد الظواهر الاجتماعية السابقة والمواكبة للموت وحمولاتها العاطفية والوجدانيةلا تزال إشكالية الموت مطروحة في جميع الأزمنة والأمكنة، وما انفكّ الباحثون يُنشئون شبكة معقدة من التفسيرات الأسطورية أو العقلانية أو الفلسفات لقراءة شفرة الموت فلا يفلحون؛ فمنذ بزوغ العقل الفلسفي ما قبل اليوناني إلى العصر الحديث، طغت ثنائية شهيرة تقرن الروح بالجسد ليثمرا الحياة، ثم يفترقان بعدها بالموت، وحتى الفكر اليوناني العقلاني سلك هذه الثنائية بتشرُّبه الفكر المسيحي مع الوقت، في حين نحت فلسفات أخرى إلى اعتبار الأرواح آلهة ذات أصل سماوي تنزّلت في أجساد قابلة للتلف وتناسخت في أدوار عدّة تتعرّض فيها للإغواء، وفي أجساد قابلة للخطايا، لتتحرر بعد ذلك بموت الأجساد.
ثم أرسى فيلون الإسكندري (حوالى عام 20 ق.م) دعائم فكر توفيقي بين اليهودية والفلسفة الإغريقية ولَّد "الأفلاطونية المحدثة" التي تبنّاها آباء الكنيسة الشرقية في ما بعد، فاستُبدلت ثنائية "روح – جسد" باتحادهما، فلم يعد الجسد موضع شبهة بتمثيله عالم الأحاسيس والرغائب أو بكونه قالبًا أرضيًّا لسقوط الروح العلوية، بل غدا الإنسان كُلًّا تتواشج فيه النشاطات البيولوجية بالنفسية، وغدا الموت إيقافًا لعمل الآلة المُنتجة بسبب فساد الأعضاء التي تحرّك الجسد، أما الروح المخلوقة من جوهر رباني فبقيت بلا تغيير يُفقدها ماهيتها.
ومع انحسار التأثير الكنسي في العصور الوسطى تراجعت فكرة الوحدة الجوهرية الأرسطية، حيث أفادت الكشوفات الطبية باستحالة تصور جسد مستقل تُشعل روحٌ إلهية فيه الحياة، وغدت الروح تشكّل مع الجسد وحدةً غير قابلة للتجزئة، وبات ما يُحدث الموت ليس انفصال الروح عن الجسد بل ما ينتاب الجسد من قصور يؤدي إلى تلاشيهما معًا.
موضوع البحث وأهميته
يسعى كتاب الموت بين المجتمع والثقافة إلى مقاربة إشكالية الموت الشائكة عبر الأدوات الإناسية التي بلورتها جهود الدوائر الأكاديمية الغربية، وإلى رصد الظواهر الاجتماعية السابقة والمواكبة للموت وحمولاتها العاطفية والوجدانية، مستفيدًا من ثمرة أعمال باحثين عرب، على ندرتهم، وأجانب عايشوا الظواهر الاجتماعية التي تخص موضوع الموت وكشفوا عن العادات والسلوكات المتّبعة في هذا الشأن، ولا سيما طقوس الحِداد المقنّنة وطرائق إظهار علامات الجزع والحزن والبكاء على المتوفين من أقارب وأصدقاء.
واعتمد الكتاب على أطروحات جامعية ساهمت في إظهار معطيات ميدانية وجمْعِها وتحليلها واستخلاص العِبر منها، في وصف أشكال وصور وفنون غنائية ومرثيات تراثية محفوظة منذ القدم. ومن هنا، تتأتى أهمية البحث، الذي نظر إلى الموت ضمن سياقاته الاجتماعية والثقافية والحضارية من بيئة إلى أخرى، ومن مكانة متوفّى إلى مكانةِ آخَر، ومن ابن بيئته إلى الغريب الذي عاش فيها، وغيرها، وقد ظهر هذا في مقارنة أجراها الكتاب بين مظاهر الموت في المجتمعات الغربية والشرقية، وكيف أنها تنحسر في الغرب عن الفضاء العام إلى المستشفى أو العائلة، بينما تنتشر في الشرق الطقوس الجنائزية والشعائرية المأتمية الكبرى وذات الأبعاد المسرحية.
المصدر: عربي21
كلمات دلالية: سياسة اقتصاد رياضة مقالات صحافة أفكار عالم الفن تكنولوجيا صحة تفاعلي سياسة اقتصاد رياضة مقالات صحافة أفكار عالم الفن تكنولوجيا صحة تفاعلي أفكار كتب تقارير كتب الكتاب العرض نشره قطر كتاب عرض نشر كتب كتب كتب كتب كتب كتب أفكار أفكار أفكار سياسة سياسة أفكار أفكار أفكار أفكار أفكار أفكار أفكار أفكار أفكار سياسة اقتصاد رياضة صحافة أفكار عالم الفن تكنولوجيا صحة فی الموت لا تزال ی الموت الموت ا
إقرأ أيضاً:
هل لا تزال إيران قوية بعد الحرب؟
في مقالنا الأخير المنشور هنا قبل أسبوع، كان العنوان (لا تنتظروا نعى إيران)، وكانت الحرب الأمريكية على إيران تصعد إلى ذروتها، وكان مضى أكثر من أسبوع قصف إسرائيلي متصل بمئات القاذفات الأمريكية، وكنا بانتظار دور القاذفات الأمريكية الشبحية الأضخم من طراز «بي 2 «، وأطلق الرئيس الأمريكي دونالد ترامب الهجوم الأكثر ترويعا في التاريخ، واستخدم أغلب مخزون أمريكا من أم القنابل «جي. بي . يو 57»، سقطت 14 قنبلة منها على منشآت إيران النووية العلنية في «نطنز» وأصفهان» و»فوردو» بالذات، أضيف إليها 30 صاروخ كرروز من نوع «توماهوك» أطلقت من البحر، وفي الهجوم الأقسى تاريخيا، شاركت سبع قاذفات «بي 2»، ومعها حشد هائل من 125 طائرة حماية وطائرات تزود بالوقود في الجو.
وبعد انجلاء غبار الهول الجحيمي، بدا أن شيئا جوهريا لم يتغير، لا في إيران ولا في منشآتها النووية، فقد كانت إيران على علم بالضربة الأمريكية غير المسبوقة، تماما كما كانت واشنطن على علم مسبق بالضربة الإيرانية الرمزية على «العديد» أكبر قواعد أمريكا الجوية في المنطقة، بعدها كانت نهاية الحرب إلى حين، وقد أعلنها ترامب على طريقة «حفظ الله إسرائيل وحفظ الله إيران» ، والتزم بنيامين نتنياهو، رئيس الوزراء الإسرائيلي بقرار ترامب وقف النار، بعد توجيه إيران لصاروخها الأخير إلى «بير سبع» ، ثم إعلانها هي الأخرى التوقف عن قصف الكيان المحتل.
وبعد المشاهد الأخيرة المفرطة في عبثيتها وهزليتها، كان ترامب، كما نتنياهو يواصلان معزوفة النصر البائس، كان نتنياهو يكرر مزاعمه عن النجاح المدوي لعملية «الأسد الصاعد»، لكنه اضطر بعدها بقليل لصناعة «فيديو» حزين، كان سببه عملية «كتائب القسام» جنوب خان يونس، التي أودت بحياة سبعة من ضباط وجنود جيش الاحتلال، وجرحت أضعافهم في كمين عبقري مركب، كانت الصدمة كاشفة لخواء تباهي نتنياهو بالنصر على إيران وحلفائها، وكما كان بؤسه، كان معلمه ترامب يتلقى الصفعات بدوره.
وكانت تقارير أجهزة المخابرات الأمريكية تتسرب وتفسد عليه متعة حركاته وأقواله البهلوانية الاستعراضية، وتؤكد خطأ مزاعمه في النجاح الساحق للضربة الأمريكية، وأنها قضت تماما على البرنامج النووي الإيراني إلى الأبد، بينما كانت شبكة «سي.إن.إن» الأمريكية تنقل عن تقارير جهاز مخابرات الدفاع، أن الضربة الأمريكية لم تدمر المكونات الأساسية للبرنامج النووي الإيراني، وأنها قد تكون عطلته فقط لأسابيع أو لشهور على الأكثر، مما زاد من غضب ترامب، الذي اندفع إلى وصلة شتائم وبذاءات صاخبة ضد تقارير المخابرات والإعلام الأمريكي.
وراح ينشر ضجة إعلامية معاكسة بفيديو موسيقى وأغنية على منصته الخاصة «تروث سوشيال»، عنوانها «اقصف إيران»، تقول كلماتها «اقصف إيران. سأخبر آية الله (يقصد خامنئى) بأنني سأضعه في صندوق. العم سام (رمز أمريكا) ساخن جدا. سيحول إيران إلى موقف سيارات» (!)، وهكذا بدا ترامب بطبع «البلياتشو» في تكوينه، وكأنه يعوض عن بؤس الوقائع المرئية، ويصطنع نصرا ساحقا في خياله وفيديوهاته وأغانيه، بينما الدنيا كلها، وفي أولها مخابرات بلاده وصور أقمارها الصناعية تثبت أن أضرارا حلت فعلا بمواقع البرنامج النووى الإيراني، لكنها لم تدمر البرنامج الإيراني قطعا، فقد نجحت إيران فى نقل 400 كيلوغرام يورانيوم مخصب بنسبة 60 في المئة بشاحنات قبل الضربة الأمريكية بثلاثة أيام، وبالذات من منشأة «فوردو» المحصنة تحت الجبل، كما نقلت إيران آلاف أجهزة الطرد المركزي من الجيل السادس.
وكانت إيران قد أبلغت الوكالة الدولية للطاقة الذرية قبل الحرب بعزمها إنشاء موقع تخصيب جديد لم تفصح عن مكانه، والمعنى ببساطة أن قصة البرنامج النووي الإيراني لا تزال على الطاولة، وأن حرب الأيام الإثنى عشر على ضراوتها الفتاكة، لم تحقق هدفها الأول المعلن في واشنطن وتل أبيب، بينما يؤكد الجانب الإيراني على لسان محمد إسلامي، رئيس هيئة الطاقة الذرية الإيرانية، أن إعادة تأهيل المواقع النووية الإيرانية تجري كما كان مخططا لها مسبقا، ولا تتحدث المصادر الإيرانية الرسمية طبعا عن مواقع البرنامج النووي الموازي، وإن كان الأرجح في ما نظن، أن يستمر البرنامج الإيراني في مواقع سرية جديدة وربما تتعامل إيران مع ما جرى من ضرر لمنشآتها النووية على نحو آخر، تستفيد فيه من مخزونها من اليورانيوم المخصب بنسبة الستين في المئة.
وربما تزيد نسبة التخصيب إلى 93 في المئة اللازمة لصنع نحو عشر قنابل ذرية سريعا، وتوقف العمل بالفتوى المحرمة لصناعة القنابل الذرية، وعلى قاعدة الضرورات التي تبيح المحظورات، ولو فعلت وعلقت التزامها بضمان التفتيش كما قرر البرلمان الإيراني، أو انسحبت من معاهدة حظر الانتشار النووي فقد تتم المفارقة التاريخية فصولها، ويكون لترامب فضل لم يقصده على إيران، فقد كان انسحاب ترامب من الاتفاق النووي عام 2018 مفيدا للبرنامج الإيراني.
وسمح برد إيراني زاد نسبة التخصيب من 3.67 في المئة المتفق عليها إلى نسبة الستين في المئة وأكثر، ثم قد تكون ضربة ترامب الاستعراضية للمنشآت النووية سببا دافعا لتسريع حيازة إيران للقنابل الذرية، بعد أن أدركت طهران أنه لا معنى للتلكؤ ولا للتفاوض، وأنه يمكنها السير على طريق الهند وباكستان وكوريا الشمالية وإسرائيل ذاتها، وكلها أطراف نووية باتت غير ملتزمة أو غير موقعة على معاهدة الحظر النووي، وقد لا تحتاج إيران إلى أي عون نووي من طرف آخر، فلديها معارفها وصناعاتها النووية المتقدمة، وعندها جيش هائل بعشرات الآلاف من العلماء والمهندسين والفنيين النوويين، ولا تؤثر فيها خسارة عشرات من أكبر العلماء النوويين، على نحو ما جرى فى الحرب الأخيرة وقبلها.
وقد لا يجادل أحد في خسارات وضربات فادحة تلقتها إيران ، فقد تلقت ضربة «قطع رأس» في الدقائق الأولى للحرب الأخيرة، وفقدت العشرات من كبار القادة العسكريين والنوويين، وتبين أن الاختراق الأمني للداخل الإيراني بلغ حدودا مفزعة، وأن جيوش الجواسيس هربت وصنعت عشرات آلاف المسيرات في الداخل الإيراني، إضافة لاستخدام سلاح الجو الإسرائيلي لقواعد أمريكية في سوريا والعراق بالذات، لكن القيادة الإيرانية على كثرة صور معارضاتها العرقية والاجتماعية والثقافية، أثبتت صلابة مذهلة، وتمكنت من استعادة زمام المبادرة في الحرب بعد ساعات قليلة.
وبدأت ضرباتها الصاروخية على كيان الاحتلال في مساء يوم ضربة المفاجأة الأولى ونقلت حمم الدمار الواسع إلى قلب الكيان، ورغم كل ما قيل وهو صحيح عن ضعف الدفاعات الجوية الإيرانية، وانفتاح السماء الإيرانية لطائرات القصف الإسرائيلي الأمريكي ، وشن ضربات متوالية عنيفة على منشآت إيران النووية والعسكرية والمدنية، وارتقاء مئات الشهداء والمصابين الإيرانيين.
لكن الصمود الإيراني امتص كل الضربات المعادية، وبما فيها الغارة الأمريكية الأخطر في التاريخ، ونجح في نقل حرائق النار إلى قلب الكيان طولا وعرضا، من مستعمرة «المطلة» في الشمال إلى «بير سبع» و»إيلات» فى الجنوب، ووضع ملايين الإسرائيليين اليهود في الملاجئ طوال أيام الحرب، ودفع مئات الآلاف منهم إلى الهرب وشل كل جوانب الحياة في «إسرائيل»، وتحويل مناطق كثيرة في «تل أبيب» وما حولها، وفي «حيفا» نزولا إلى «أسدود» و»النقب» والقواعد الجوية ومصافي البترول ومعاهد البحث ومراكز المخابرات، حول القصف الإيراني الصاروخي أغلب هذه المناطق والمباني إلى مواقع منكوبة بالدمار.
وعلى نحو لم يحدث أبدا في سيرة كيان الاحتلال، وقد يكون العدو الأمريكي الإسرائيلي نجح في خداع ومفاجأة الضربة الأولى فجر 13 يونيو/حزيران 2025 ، لكن الرد الإيرانى جعل نجاح العدو مجرد سبق تكتيكي، زادت الاختراقات الأمنية الواسعة من خطورته، بينما بدا النجاح الإيراني استراتيجيا باهرا، قهر كل أنظمة الدفاع الجوي الإسرائيلي الأمريكي، وجعل من أنظمة «ثاد» و »مقلاع داود» و»حيتس» و»القبة الحديدية» أساطير مهشمة ومزحات ثقيلة، وكان تطور الصواريخ الإيرانية مفاجأة الحرب الكبرى، وقد جرى استخدام مدروس متدرج لها، وزادت نسبة اختراقها وإفشالها لما يوصف بأنه أفضل نظام دفاع جوي في العالم، وجعلت الصواريخ الإيرانية الأحدث سماء إسرائيل عارية، وحققت صواريخ إيران الفرط صوتية الدقيقة أثرا مرعبا، وصارت أسماء صواريخ إيران «فتاح» و»سجيل» و»خيبرشكن» و»خرمشهر» وغيرها، وبالذات الأجيال متعددة الرؤوس التفجيرية منها، صارت هذه الأسماء أبطال ونجوم الدرجة الأولى في الدراما الحربية المفتوحة، وبدت كأنها أكثر خطرا من صواريخ أمريكا وأم قنابلها «جى.بى.يو57» .
وبالجملة، فلم يحقق العدوان الأمريكي الإسرائيلي أي نصر مؤكد، لا في تفكيك البرنامج النووي ولا البرنامج الصاروخي، ولا في تهديد بقاء النظام الإيراني، ولم تهزم إيران طبعا، بل بدت في الوضع الأقوى بعد الحرب داخليا وإقليميا.
القدس العربي