كتاب جديد: إشكالية الموت لا تزال مطروحة في جميع الأزمنة والأمكنة
تاريخ النشر: 22nd, March 2024 GMT
الكتاب: الموت بين المجتمع والثقافة
المؤلف: أحمد زين الدين
الناشر: المركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات ـ الدوحة ـ 2024
صدر عن المركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات كتاب "الموت بين المجتمع والثقافة"، وهو من تأليف الباحث اللبناني أحمد زين الدين.
يعرض الكتاب موضوع العرض لواحد من أهم القضايا تعقيدا في حياة الإنسان، والتي لا تزال عصية عن الفهم علميا، وهي الموت.
"عربي21" تنشر جزءا من العرض الذي نشره "المركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات"، عن الكتاب الذي يلامس واحدا من أهم القضايا التي ظلت مجالا خصبا للتأويلات الفلسفية والفكرية، وبالقطع الدينية.
احتوى الكتاب على ثلاثة أقسام: ناقش الأول التحديق في الموت وهاجس الحديث عنه، وطقوس الوداع، وطرائق الدفن المتعددة. أما الثاني فقد تناول مظاهر العبادات المحلية التي تمارَس في المقامات الدينية، وتقوم على تعظيم الأولياء الموتى، والتماس المدد الروحي من زيارتهم، وإقامة الولائم على شرفهم. في حين كُرِّس الثالث للحديث عن العنف الدموي ذي المرجعية الدينية، حيث شهدت أقطار العالم الحديث تفاقم النزاعات الدينية القتالية تحت مسميات عدّة، على رأسها الجهادية والعمل الاستشهادي.
توزعت الأقسام الثلاثة على أربعة وعشرين فصلًا، تتمحور جميعًا حول تيمة الموت ومعناه لدى الأمم والشعوب وطرائق التعامل معه ومساهمة المعتقدات حوله في بناء الميثولوجيات، ومساهمة الموروثَين الإسلامي والمسيحي والفلسفة الإغريقية خلال مراحلها كافة في بناء تصور عن الموت. ويقع في 224 صفحة، شاملةً ببليوغرافيا وفهرسًا عامًّا.
ينفر معظم الناس من الموت، لِما يُحدثه من اضطرابٍ نفسي وهواجسَ مقلقة وانطباعات سلبية، إذ هو "المجهول" المتجاوِزُ كلَّ مقاربة مفاهيمية، وكلَّ محاولة لاستيعابه عقلًا وواقعًا. وقد عاين الأحياء أشخاصًا يموتون، واقتحم الموت بيوتهم مختطِفًا أحد أفراد أُسَرهم فأَمَرَّهم بتجارب قاسية ولَّدت في بعضهم مشاعر حادّة تقارب الشعور بالرهبة، خشية الانفصال عن حبيب والحرمان من عزيز، وغير هذا.
ويحيِّر الموتُ الأحياءَ ويذرهم بلا إجابة تروي الغليل أمام مروحة واسعة من الأسئلة عن الموت: موت الحامل وهي تضع مولودها، وموت المحارب في ساحة الوغى، وموت المتعرض لحادث عرضي، وموت مَن بلغ من العمر عِتِيًّا فتعطَّلت وظائفه الحيوية، وموت المنتحِر بقرار ذاتي، وغيرها كثير من الأسباب؛ فالموت في أيٍّ من حالاتٍ لا تقبل العدَّ لا يُقاربه البشر معنويًّا بالطريقة عينها، وكذلك الأمر في التعامل ماديًّا مع الجثمان، سواء بالدفن أو الحرق أو التحنيط أو جعله طُعمةً لحيوان جارح أو طير كاسر، وكذا بالنسبة إلى مصير المتبقّي من العظام أو الأشلاء أو الرماد، وإلى فترة الحِداد، ومدة الفصل بين الحيّ والميّت، ومصير المتوفّين بعد موتهم، وأشكال وجودهم في العالم السماوي.
بخلاف الحيوانات، التي لا تقلق أو لا تتألم لمصير غيرها من ذوات جنسها، وإنْ ذهب بعضُهم إلى تصنيف حركاتٍ وأصواتٍ لديها في خانة التأثّر، يقع بنو آدم في اليأس فيخترعون قصصًا تُعينهم على موضعة حياتهم داخل محيط كوني أوسع، لكشف انتظامه واكتساب شعور مضادٍّ للاكتئاب وباعث على الشعور بأن للحياة قيمةً ومعنًى، ولجعل أذهانهم تولِّد أفكارًا وتجارب لا يمكن تفسيرها منطقيًّا، فيشطحون بخيالهم ليستحضروا شيئًا غير شاخص أمامهم، ولا يوجد موضوعيًّا، فينتِج الخيالُ عندهم الدينَ والميثولوجيا.
الميثولوجيا والموت
لا يزال الخيال الملَكة التي تمكّن العلماء من إخراج معارف جديدة إلى الضوء، على الرغم من سوء سمعة التفكير الميثولوجي في زماننا، التي دفعتنا إلى استبعاده بحجة لاعقليته وقلة دقته. وترتِّبُ الميثولوجيا، من خلال إدخال معنى ونظام، العالمَ عميقًا وهرميًّا، وهي تسنّ التاريخ الأصلي للجماعة البشرية، وتروي ولادة الآلهة والبشر والحيوانات، وكذلك عناصر الطبيعة والأحداث العظيمة. وقد ظهرت الإشارات الأولى لمأسسة دين الأصول مع الإنسان العاقل، وكذا تجذّرت معه الممارسات الشعائرية والطقوس الجنائزية، وتبلورت فكرة المقدّس، وطقوس التنظيم الاجتماعي قبل عصر الحداثة .
كرَّست الثقافاتُ الكونية استراتيجياتٍ للتعايش مع حتمية الفناء تمثلت بتقاليدَ ورموزٍ اجتماعية وسرديات وأساطيرَ وطقوسٍ لاستيعاب الانفعالات الناجمة عن انتزاع أحد أفراد الجماعة، محوّلة إياها تضامنًا قويًّا بين جميع أعضائها، وهنا تدخل الديانات لتُسيِّج الموت بأجوبة مبرمة عن مصير الأرواح والأجساد تجعل المرء يرى في الموت أمرًا معقولًا لا عبث فيهتُخبرنا قبور إنسان نياندرتال البدائي أمورًا مهمة حول الأسطورة، منها أنّ أصولها مستندة إلى تجربة الخوف من الفناء، بسبب عظام الحيوانات بالقرب منها، ما يدلّ على تقديم أضحية عند الدفن. إنّ ارتباط الموت بقضايا المجتمع والتنمية كان ولا يزال مجالًا لدراسات غربية معمّقة في تاريخ العقليات، وقد نشأ في العقود الأخيرة وتطوَّرَ "علم دراسة الموت والاحتضار" Thanatologie، أما المساهمة العربية، فموقوفة على تواريخ ومناطق ومعتقدات دينية محدّدة، لا على الأدوات الإناسية، فالرّحالةُ العرب وصفوا مشاهداتهم طقوس الموت من دون تحليل أو وقوف على أبعادها الدقيقة، والكتب العربية نَحَتْ إلى الوعظ بالاستعداد للموت وإن كان بعضُها لم يَعدم النظرة إلى فوارق طبقية واجتماعية وثقافية بين المتوفّين، التي تمثلت بالحضور الكثيف لجنائز رجال السياسة والأعيان والفقهاء والمتصوّفة والإقبال على حمل نعوشهم، بينما كان الحضور في جنائز العوام والناس العاديين يقتصر على الأهل والجيران، وبالأخص في المغرب العربي، نظرًا إلى شدة اهتمام المنطقة بالأولياء وبناء مراقد لهم بعد موتهم. وقد استندت دراسات الغربيين لموضوع الموت إلى وثائق مكتوبة وشفوية وإيقونوغرافية Iconographie (الرسوم واللوحات)، أمّا ما كُتب باللغة العربية فقد اهتم بالطقوس والبِدع وأحوال القبور وأهوال يوم القيامة.
مواجهة متخيَّلة
الموت "المختفي في وضح النهار"، في نظر زيغمونت باومان، يخوض مع الحياة مواجهة دائمة وصعبة لا تضع أوزارها، تُجبر البشر على ألّا يديروا ظهورهم له أو ألّا يحاولوا نزع وصمة "الهول" عنه، إذ إن الحياة بذاتها متشبِّعةٌ بأشكال مختلفة منه، ومن رعب الإنسان من إقصاء جسده الذي لا يرتوي من منابع الحياة، رغم أن الأوبانيشاد (جزء في مجموعة كتابات تسمّى فيدات هي جزء أساسي من مصادر الديانة الهندوسية) وصفت الجسد بأنه "منتن، منعدم الأهمية، عرَضي، كتلة من جلد وعضلات ونخاع ولحم ومني ومخاط ودموع وبول وريح وصفراء ولمفا" (بلازما وصفائح دموية). ومع إخفاق تقنيات العصر الحديث في استئصال المخاوف، سادت المصالحة والتطبيع مع الموت، وحُوِّلت المجابهة إبقاءً على إرادة الحياة وتأقلمًا معها.
ويرى باومان أنّ الثقافات كافة أدواتٌ عبقرية لإخفاء وجه الموت، أو تزيينه لإتاحة احتمال التعايش معه، إذ لا يمكن طرده من حياة البشر مع أنه يبقى على الدوام النموذج الأوّلي لجميع أشكال الخوف الأخرى، التي لم يلطِّفها تطور العناية الطبية والنفسية والمؤسسات الاستشفائية، الذي كان جلُّ ما حقّقه تقليص المعاناة وتلطيف الآلام وإيصال المرء إلى "الموت الجميل"، الذي تُستعاد عنده الصور التخييلية الطفولية، وموضوعات متأرجحة بين الحياة والموت، مثل: النفق المظلم، والضوء، والكائن النوراني، والعرْض البانورامي للحياة، ورؤية الأقارب المتوفّين، والخروج من الجسد، وغيرها؛ فخلال هجمة الخوف عند الموت "يفصل اللاوعيُ الجسدَ عن الوعي، ويمنح شعورًا بالهروب المكاني من الزمن، فتُطرد حقيقة الموت خارج الوعي، ويتلقى المحتضرُ رسالةَ حياة"، بآليات بيولوجية واضطرابات تنفّسية وتفريغات عصبية.
ولا يزال الموت الحقيقي غير المتصوَّر بمنأى عنّا، ولا تزال الفجوةُ ماثلةً بين مشهد "موت" شخص أمام امرئ وبين فهْمِه موتَه هو وكيف سيكون، فالمسألة في عمقها ليست موت الآخر، بل موته هو، ليست في المشاهدة بل في التوقّع الدائم والمواجهة مع الذات ومعاناة هذا اللغز المحيّر المضني، الذي يفلت في النهاية من كل تفسير؛ فالتمعّن في الموت باعتباره إعدامًا للجسد غيرُ قابل للتصور، بل ثمة استحالة لفهم الوعي البشري عدمه، أو لاوجوده، أو كونه لا شيء، فوعي الموت مستحيل؛ لأنّه يتعارض مع الكوجيتو "أنا أفكّر إذًا أنا موجود"، إذ إنّ العالم هو الأنا، ونحن نعجز عن تصوّره بعد عدمنا بالموت.
استراتيجيات الثقافات والأديان مع الموت
الموت أكثر الظواهر البيولوجية "ميتافيزيقيةً"، لما يثيره في أذهان الأحياء من تساؤل؛ ونظرًا إلى تباين هؤلاء الأحياء بشدة كان النظر إليه متباينًا بمقدارهم. وقد كرَّست الثقافاتُ الكونية استراتيجياتٍ للتعايش مع حتمية الفناء تمثلت بتقاليدَ ورموزٍ اجتماعية وسرديات وأساطيرَ وطقوسٍ لاستيعاب الانفعالات الناجمة عن انتزاع أحد أفراد الجماعة، محوّلة إياها تضامنًا قويًّا بين جميع أعضائها، وهنا تدخل الديانات لتُسيِّج الموت بأجوبة مبرمة عن مصير الأرواح والأجساد تجعل المرء يرى في الموت أمرًا معقولًا لا عبث فيه، ففكرة الحياة الأخرى أجبرت الإنسان على ابتكار ممارسات جنائزية تضمن مرور الميت إلى زمنٍ ووضعٍ آخرَين يُطَمْئنان مقرّبيه الأحياء ويهدِّئان من روعهم.
يسعى كتاب الموت بين المجتمع والثقافة إلى مقاربة إشكالية الموت الشائكة عبر الأدوات الإناسية التي بلورتها جهود الدوائر الأكاديمية الغربية، وإلى رصد الظواهر الاجتماعية السابقة والمواكبة للموت وحمولاتها العاطفية والوجدانيةلا تزال إشكالية الموت مطروحة في جميع الأزمنة والأمكنة، وما انفكّ الباحثون يُنشئون شبكة معقدة من التفسيرات الأسطورية أو العقلانية أو الفلسفات لقراءة شفرة الموت فلا يفلحون؛ فمنذ بزوغ العقل الفلسفي ما قبل اليوناني إلى العصر الحديث، طغت ثنائية شهيرة تقرن الروح بالجسد ليثمرا الحياة، ثم يفترقان بعدها بالموت، وحتى الفكر اليوناني العقلاني سلك هذه الثنائية بتشرُّبه الفكر المسيحي مع الوقت، في حين نحت فلسفات أخرى إلى اعتبار الأرواح آلهة ذات أصل سماوي تنزّلت في أجساد قابلة للتلف وتناسخت في أدوار عدّة تتعرّض فيها للإغواء، وفي أجساد قابلة للخطايا، لتتحرر بعد ذلك بموت الأجساد.
ثم أرسى فيلون الإسكندري (حوالى عام 20 ق.م) دعائم فكر توفيقي بين اليهودية والفلسفة الإغريقية ولَّد "الأفلاطونية المحدثة" التي تبنّاها آباء الكنيسة الشرقية في ما بعد، فاستُبدلت ثنائية "روح – جسد" باتحادهما، فلم يعد الجسد موضع شبهة بتمثيله عالم الأحاسيس والرغائب أو بكونه قالبًا أرضيًّا لسقوط الروح العلوية، بل غدا الإنسان كُلًّا تتواشج فيه النشاطات البيولوجية بالنفسية، وغدا الموت إيقافًا لعمل الآلة المُنتجة بسبب فساد الأعضاء التي تحرّك الجسد، أما الروح المخلوقة من جوهر رباني فبقيت بلا تغيير يُفقدها ماهيتها.
ومع انحسار التأثير الكنسي في العصور الوسطى تراجعت فكرة الوحدة الجوهرية الأرسطية، حيث أفادت الكشوفات الطبية باستحالة تصور جسد مستقل تُشعل روحٌ إلهية فيه الحياة، وغدت الروح تشكّل مع الجسد وحدةً غير قابلة للتجزئة، وبات ما يُحدث الموت ليس انفصال الروح عن الجسد بل ما ينتاب الجسد من قصور يؤدي إلى تلاشيهما معًا.
موضوع البحث وأهميته
يسعى كتاب الموت بين المجتمع والثقافة إلى مقاربة إشكالية الموت الشائكة عبر الأدوات الإناسية التي بلورتها جهود الدوائر الأكاديمية الغربية، وإلى رصد الظواهر الاجتماعية السابقة والمواكبة للموت وحمولاتها العاطفية والوجدانية، مستفيدًا من ثمرة أعمال باحثين عرب، على ندرتهم، وأجانب عايشوا الظواهر الاجتماعية التي تخص موضوع الموت وكشفوا عن العادات والسلوكات المتّبعة في هذا الشأن، ولا سيما طقوس الحِداد المقنّنة وطرائق إظهار علامات الجزع والحزن والبكاء على المتوفين من أقارب وأصدقاء.
واعتمد الكتاب على أطروحات جامعية ساهمت في إظهار معطيات ميدانية وجمْعِها وتحليلها واستخلاص العِبر منها، في وصف أشكال وصور وفنون غنائية ومرثيات تراثية محفوظة منذ القدم. ومن هنا، تتأتى أهمية البحث، الذي نظر إلى الموت ضمن سياقاته الاجتماعية والثقافية والحضارية من بيئة إلى أخرى، ومن مكانة متوفّى إلى مكانةِ آخَر، ومن ابن بيئته إلى الغريب الذي عاش فيها، وغيرها، وقد ظهر هذا في مقارنة أجراها الكتاب بين مظاهر الموت في المجتمعات الغربية والشرقية، وكيف أنها تنحسر في الغرب عن الفضاء العام إلى المستشفى أو العائلة، بينما تنتشر في الشرق الطقوس الجنائزية والشعائرية المأتمية الكبرى وذات الأبعاد المسرحية.
المصدر: عربي21
كلمات دلالية: سياسة اقتصاد رياضة مقالات صحافة أفكار عالم الفن تكنولوجيا صحة تفاعلي سياسة اقتصاد رياضة مقالات صحافة أفكار عالم الفن تكنولوجيا صحة تفاعلي أفكار كتب تقارير كتب الكتاب العرض نشره قطر كتاب عرض نشر كتب كتب كتب كتب كتب كتب أفكار أفكار أفكار سياسة سياسة أفكار أفكار أفكار أفكار أفكار أفكار أفكار أفكار أفكار سياسة اقتصاد رياضة صحافة أفكار عالم الفن تكنولوجيا صحة فی الموت لا تزال ی الموت الموت ا
إقرأ أيضاً:
علماء يابانيون يحولون أعضاء الجسد البشري إلى حاسوب
في وقت تزداد فيه سيطرة التكنولوجيا على كل جوانب حياتنا ووجود الأجهزة حولنا طوال الوقت، قد يبدو غريبا أن يتجه العلم لاستخدام الجسم البشري نفسه كأداة للحوسبة.
لكن دراسة حديثة من جامعة أوساكا اليابانية منشورة في دورية "آي تريبل إي أكسيس" العلمية تقلب الموازين وتطرح السؤال الصعب، ماذا لو كانت العضلات قادرة على التفكير؟ وماذا لو استطعنا استخدام أجسامنا لأداء الحسابات؟
طرح يو كوباياشي، المؤلف الرئيسي والوحيد في الدراسة، فكرة ثورية ضمن ما يُعرف باسم "الحوسبة بخزانات الأنسجة البيولوجية". يستخدم في هذا النهج الأنسجة الرخوة داخل الجسم البشري، وبشكل خاص العضلات، كبيئة حيوية لمعالجة المعلومات، تشبه في عملها طريقة عمل نماذج تعلم الآلة المعروفة باسم الشبكات العصبية.
وتقول مي مبروك، أستاذة المعلوماتية الحيوية الطبية بجامعة النيل الأهلية المصرية، وغير المشاركة في الدراسة، في تصريحات حصرية للجزيرة نت: "نحن لا نتحدث عن حاسوب داخل الجسم، بل عن جسم يتحول نفسه إلى حاسوب. فمن الممكن أن تتفوق الحوسبة عبر العضلات في بعض المجالات، خصوصا في الأمور التي تتعلق بالجسم البشري أو التي تحتاج إلى استجابة طبيعية وسريعة".
الحوسبة بالخزّانات هي طريقة ذكية لمعالجة المعلومات، تقوم على مبدأ بسيط، بدلا من تصميم نظام يفهم البيانات خطوة بخطوة، نمرر البيانات من خلال "خزّان" مُعقد، مثل شبكة من العقد المتصلة عشوائيا.
إعلانويتفاعل هذا الخزان مع البيانات ويحفظ آثارا من الماضي، ثم يأتي دور طبقة بسيطة تُسمى "القراءة" لاستخراج النتيجة المطلوبة.
وتشرح مبروك: "العضلة ليست مجرد لحم، إنها عقل صغير! ففي هذه الدراسة، استخدم الباحثون عضلات اليد كأنها عقل صغير يقوم بعمليات حسابية. فعندما يحرك الإنسان يده، تتحرك العضلات بطريقة معقدة، وتُضغَط وتتمدد" وتضيف "هذه الحركات الدقيقة تمثل ‘لغة العضلة’ التي تُستخدم لمعالجة معلومات، وكأن العضلة تُفكّر من خلال حركتها!".
الحوسبة بالخزانات الفيزيائية تستخدم جسما فيزيائيا بدلا من شبكة إلكترونية، فيستقبل الجسم الإشارة ويتفاعل معها بطرق معقدة، مثل تفاعل سطح الماء بالتموجات عند رمي حجر فيه.
هذه التفاعلات تعالج البيانات بطريقة طبيعية، ثم تُقرأ النتائج باستخدام أدوات بسيطة. والفرق أن الخزان هنا ليس جزءا من برنامج حاسوبي، بل مادة أو جسم يتحرك ويستجيب فيزيائيا.
تستخدم أجهزة الحاسوب العادية أشياء مثل الأسلاك والرقائق لمعالجة المعلومات. ففي الدراسة، جرّب العلماء شيئا جديدا، حيث استخدموا أنسجة عضلية حقيقية (من خلايا حية) بدلا من الأسلاك والرقائق.
لماذا؟ تتفاعل أنسجة العضلات بشكل طبيعي مع الإشارات (مثل النبضات الكهربائية أو المواد الكيميائية)، ويمكن استخدام هذه التفاعلات لإجراء "حسابات" بسيطة، تماما مثل جهاز حاسوب عادي.
فمثلا يمكن أن يرسل العلماء إشارات كهربائية دقيقة إلى العضلة، ثم يقيسون رد فعل العضلة (كيف تنقبض أو تتغير)، ويمكن أن يمثل هذا التفاعل إجابات (مثل "نعم" أو "لا"، أو أرقاما).
وفي التجارب الحقيقية التي قام بها كوباياشي كان الأمر أكثر تعقيدا، حيث طلب من المشاركين تحريك معصمهم بزوايا مختلفة (20°، 40°، 60°). أثناء ذلك، استخدم جهاز موجات فوق صوتية، مثل السونار المستخدم في الكشف عن الأجنة، لتصوير العضلات أثناء الحركة، ثم استخرج الباحث ألف نقطة حركة مميزة من الصور باستخدام تقنيات رؤية حاسوبية متطورة.
إعلانوكل صورة عضلية أنتجت ما يُعرف باسم "مجال التشوه"، وهو الوضع المكاني للنقاط المميزة في لحظة معينة. هذا يشبه ما تفعله بعض الطبقات في الشبكات العصبية الحاسوبية ضمن نماذج تعلم الآلة، إذ تحول الإشارة إلى فضاء عالي الأبعاد.
تخيل أنك ترمي كرة مطاطية في غرفة مليئة بالجدران المائلة والوسائد، سترتد الكرة كل مرة بطريقة مختلفة حسب قوة الرمية واتجاهها. هنا، لم تحسب الجدران أي شيء، لكنها حوّلت الإشارة بطريقة مفيدة، وهذا هو "الحساب غير المباشر" الذي اعتمدت عليه هذه الطريقة.
وتوضح مبروك: "ربما تتفوق الحواسيب التقليدية في السرعة والدقة، لكنها لا تملك ما تملكه عضلاتنا من المرونة، والذاكرة القصيرة، والاستجابة الطبيعية للبيئة. الدراسة أثبتت أن العضلة يمكنها محاكاة نماذج رياضية معقدة وتقديم نتائج أدق من الطرق التقليدية في بعض الحالات".
الإنسان الآلةواحدة من أهم نتائج الدراسة أن الأنسجة الرخوة موجودة في جميع أنحاء الجسم، وهذا يعني إمكانية بناء أنظمة حوسبة "موزعة" داخل الجسد.
ويمكن لتلك الأجهزة أن تستفيد من الجسد نفسه كمورد حسابي، بدلا من تحميل الأجهزة الذكية بكميات ضخمة من الشرائح والمعالجات. لقد أصبح جسدك، دون أي جهاز إضافي، قادر على تحليل إشارات معقدة، ويتحكم في أجهزة طبية فقط من خلال حركته الطبيعية.
يوضح كوباياشي في دراسته أن استخدام هذه الفكرة قد يحسّن من أداء الأجهزة القابلة للارتداء، مثل الساعات الذكية أو الأجهزة الطبية التي تراقب الحالات الصحية، دون الحاجة لمعالجات ضخمة.
لكن العضلات ليست ثابتة، فهي تتحرك بحرية، تتمدد وتنقبض، وتتغير اتجاهاتها، مما يجعل تتبع النقطة نفسها بدقة عالية على مدى عدة ثوانٍ أمرا صعبا تقنيا، فأي انزياح بسيط أو ضياع لنقطة مميزة داخل العضلة قد يُفسد سلسلة البيانات المطلوبة للحوسبة.
كذلك، تختلف عضلات كل إنسان عن الآخر، فسُمك العضلة، ودرجة الليونة أو الصلابة، وشكل الألياف العضلية واتجاهها، وكمية الدهون تحت الجلد، قد تختلف من شخص لآخر. وبالتالي، فإن الوصول إلى مرحلة دمج هذه التقنية في أجهزة قابلة للارتداء يتطلب حلولا هندسية دقيقة تحترم طبيعة الجسم البشري وتضمن سلامته، بحسب مبروك.
إعلانوعند الوصول إلى هذا الحد من الدمج بين الجسم والتكنولوجيا، تقول مبروك: "من يملك البيانات التي تُولدها عضلاتنا؟ وهل يمكن التحكم في أجسامنا عن بُعد يومًا ما؟ مثل هذه الأسئلة الأخلاقية تزداد أهمية كلما اقتربنا من الدمج بين الإنسان والتكنولوجيا. عندما نبدأ باستخدام أجزاء من جسم الإنسان، مثل العضلات، للقيام بعمليات حسابية، قد يصبح من الصعب التفرقة بين ما هو بشري وما هو آلي".
هذه المخاوف لم تعد مجرد افتراضات بعيدة ورفاهية فكرية، بل قد تصبح قضايا فعلية في المستقبل القريب، مع تطور الذكاء الهجين الذي يمزج بين الإنسان والآلة.