القياس الخاطئ للفساد يتيح الإفلات من العقاب
تاريخ النشر: 26th, March 2024 GMT
أفاد تقرير اللجنة المعنية بقياس الأداء الاقتصادي لعام 2008 أنه في مجتمع يزداد تركيزًا على الأداء، تشكل المقاييس أهميةً كبيرةً؛ وأن ما نقيسه يؤثر على ما نقوم به. فإذا أخطأنا في القياس، سنخطئ في مساعينا.
وكانت اللجنة ترفض أن يكون الناتج المحلي الإجمالي المقياس الرئيسي للتنمية. وترفض أن يكون الفساد، الذي عادة ما يُقاس -وبصورة مضللة- على أنه مشكلة ذات بعد واحد.
كيف إذن صنف مؤشر مدركات الفساد المملكة المتحدة في المرتبة العشرين بين الدول الأقل فسادًا؟ إن النتيجة لا تعتمد على استطلاعات الرأي التي تجريها منظمة الشفافية الدولية على المستوى المحلي، بل على مجموعة من استطلاعات الرأي المختلفة التي تجريها أطراف ثالثة. وتصدر كل هذه التقارير تقريبًا عن منظمات غربية مثل وحدة الاستخبارات الاقتصادية، وهي غالبًا ما تعتمد إلى حد بعيد على ردود رجال الأعمال الغربيين.
وفضلا على ذلك، فإن صياغة هذه الاستطلاعات غالبًا ما تكون غامضة. فعلى سبيل المثال، يقدم الكتاب السنوي للقدرة التنافسية العالمية، وهو أحد مصادر مؤشر مدركات الفساد، لرجال الأعمال خيارًا ثنائيًا بسيطًا: «الرشوة والفساد: إما أنهما موجودان أو غير موجودين». فلا عجب إذن أن يُظهر مؤشر مدركات الفساد أن الدول الغنية «نظيفة للغاية» وذلك عامًا بعد عام، حتى وإن لم يتفق مواطنوها العاديون مع هذا الرأي. ومع إدراكي لعدم وجود بدائل لهذه المقاييس التقليدية، مع أنها تعرضت لانتقادات عديدة (بما في ذلك من منشئ مؤشر مدركات الفساد)، فقد اختبرتُ مؤشر الفساد المجزأ.
وعلى غرار مؤشر مدركات الفساد، فإن مؤشر الفساد المجزأ هو مقياس للفساد قائم على التصورات، ويعتمد على استطلاعات الخبراء. ومع ذلك، فهو يقسم الفساد إلى أربعة أنواع مختلفة: السرقة البسيطة (الابتزاز الذي يقوم به الموظفون الذين يزاولون مهامهم في الشارع)، والسرقة الكبرى (الاختلاس من جانب السياسيين)، وتقديم الأموال لتسريع الإجراءات (تقديم رشاوى صغيرة للتغلب على العقبات البيروقراطية أو المضايقات)، والحصول على الأموال (رشاوى بمبالغ كبيرة في مقابل الحصول على امتيازات حصرية ومربحة مثل العقود والإعانات).
وفي حين أن الأشكال الثلاثة الأولى من الفساد -تلك المستوطنة في البلدان الفقيرة- تنتهك القانون انتهاكًا صارخًا وتسبب أضرارًا مباشرةً، فإن الوصول إلى الأموال قد يكون غير قانوني (شأنه في ذلك شأن الرشوة) أو يتسم بالشرعية (كما هو الحال مع تمويل الحملات الانتخابية). وقد تشمل الأساليب المتطورة لشراء الامتيازات مؤسسات بأكملها لا يوجد فيها أي فرد فاسد.
فعلى سبيل المثال، يمكن لغسل الأموال، أن يشمل نقل الأموال بسلاسة عبر الحدود عن طريق مؤسسات مالية تحظى باحترام واسع النطاق. وفي الولايات المتحدة، أنفقت البنوك بصورة جماعية المليارات لممارسة الضغوط من أجل فرض قيود تنظيمية متراخية، الأمر الذي أدى إلى اندلاع الأزمة المالية في عام 2008، ومع ذلك وُجهت أصابع الاتهام إلى مصرفي واحد فقط. ويستخدم مؤشر الفساد المجزأ استبيانًا أصليًا للخبراء لتقييم جميع أنواع الفساد الأربعة. ولتحسين جودة القياس، أستخدمُ سيناريوهات قصيرة منمقة أطلب فيها من المجيبين تقييم مدى انتشار سيناريوهات تمثيلية محددة بدلًا من مستويات الفساد الإجمالية. وأوضحت أدناه النموذج الأولي الخاص بي، الذي يشمل 15 دولة. ويَظهر إجمالي نقاط مؤشر الفساد المجزأ لكل دولة في الأعلى، وقُسم إلى فئات الفساد الأربع، ويمثل المربع الملون النوع الأكثر انتشارًا. والآن يمكننا أن نقارن ليس فقط بين المستويات الإجمالية للفساد المتصور، ولكن أيضًا بين أنواع الفساد وبنيتها عبر البلدان.
إن إحدى المقارنات الواضحة هي بين الولايات المتحدة والصين. فالولايات المتحدة أقل فسادًا من الصين عمومًا، ولكن الفجوة بينهما أضيق فيما يتعلق بالوصول إلى المال، وهو نوع الفساد السائد في كلا البلدين. ومن الجدير بالذكر أن درجة القدرة على الوصول إلى المال في أمريكا أعلى من الدول ذات الدخل المنخفض مثل: تايلاند وغانا. وإذا اعتمدنا فقط على النتائج المجمعة، فسوف نَخلُص إلى أن الولايات المتحدة نظيفة. ولكن بمجرد تجزيء النتائج، يمكننا أن نفسر جاذبية الوعود الشعبوية بـ «تجفيف المستنقعات».
إن أكثر ما يثير الاهتمام هو أن أشكالًا مختلفة من الوصول إلى الأموال تسود في الولايات المتحدة والصين. وفي مقارنة مبنية على سيناريو قصير يصور تلقي الرشوة عن طريق الشبكات الشخصية للساسة، تبدو هيمنة الصين واضحة. ومع ذلك، عندما يتعلق الأمر بممارسات «الباب الدوار» والاستيلاء التنظيمي عن طريق ممارسة الضغوط، فإن الولايات المتحدة تحتل الصدارة.
إن سوء قياس الفساد ليس مجرد مسألة فنية. فهو في الأساس يعزز الرسالة الوهمية والمنافقة، التي غالبًا ما تركز على أوروبا، والتي مفادها أن البلدان ذات الدخل المرتفع حققت حالة دائمة من النقاء الأخلاقي. والواقع أن الفساد لم يختف بالضرورة مع ازدياد ثراء البلدان، بل تطور، وأصبح أكثر تعقيدًا وزادت صعوبة إدراكه. وعلينا أن نواصل مكافحة «فساد الفقراء». ولكن عن طريق تجزيء الفساد، تستطيع الديمقراطيات الرأسمالية أيضًا توجيه الاهتمام المطلوب بشدة نحو بعض مشاكلها الأكثر إلحاحًا، بما في ذلك اتساع فجوة التفاوت بين الناس، وتراجع ثقة عامة الناس في الحكومة، وما تسميه مديرة الوكالة الأمريكية للتنمية الدولية سامانثا باور بـ«الفساد الحديث» (مثل شبكات التمويل غير المشروعة العابرة للحدود الوطنية). ويتطلب التغلب على هذه التحديات قياسها بدقة، بدلا من التظاهر بعدم وجودها.
يوين يوين أنج أستاذة الاقتصاد السياسي بجامعة جونز هوبكنز، ومؤلفة كتاب «كيف أفلتت الصين من فخ الفقر» و«عصر الصين الذهبي».
خدمة بروجيكت سنديكيت
المصدر: لجريدة عمان
كلمات دلالية: مؤشر مدرکات الفساد الولایات المتحدة بما فی ذلک غالب ا ما عن طریق فساد ا
إقرأ أيضاً:
ما هو “مشروع إستير” الخطير الذي تبناه ترامب؟ وما علاقته بحماس؟
#سواليف
في 7 أكتوبر/ تشرين الأول 2024، بعد مرور عام كامل على #الإبادة_الجماعية التي تنفذها #إسرائيل في قطاع #غزة بدعم من الولايات المتحدة، والتي أودت بحياة أكثر من 53.000 فلسطيني، أصدرت مؤسسة “هيريتيج فاونديشن” (Heritage Foundation) ومقرها #واشنطن، ورقة سياسية بعنوان ” #مشروع_إستير: إستراتيجية وطنية لمكافحة معاداة السامية”.
هذه المؤسّسة الفكرية المحافظة هي الجهة ذاتها التي تقف خلف “مشروع 2025″، وهو خُطة لإحكام السلطة التنفيذية في الولايات المتحدة، ولبناء ما قد يكون أكثر نماذج الديستوبيا اليمينية تطرفًا على الإطلاق.
أما “الإستراتيجية الوطنية” التي يقترحها “مشروع إستير” المسمى نسبةً إلى الملكة التوراتية التي يُنسب إليها إنقاذ اليهود من الإبادة في فارس القديمة، فهي في جوهرها تتلخص في تجريم المعارضة للإبادة الجماعية الحالية التي تنفذها إسرائيل، والقضاء على حرية التعبير والتفكير، إلى جانب العديد من الحقوق الأخرى.
مقالات ذات صلة انفجار الأزمة بين الجيش وحكومة نتنياهو 2025/05/20أوّل “خلاصة رئيسية” وردت في التقرير تنصّ على أن “الحركة المؤيدة لفلسطين في #أميركا، والتي تتسم بالعداء الشديد لإسرائيل والصهيونية والولايات المتحدة، هي جزء من شبكة دعم عالمية لحماس (HSN)”.
ولا يهم أن هذه “الشبكة العالمية لدعم حماس” لا وجود لها فعليًا – تمامًا كما لا وجود لما يُسمى بـ”المنظمات الداعمة لحماس” (HSOs) التي زعمت المؤسسة وجودها. ومن بين تلك “المنظّمات” المزعومة منظمات يهودية أميركية بارزة مثل “صوت اليهود من أجل السلام” (Jewish Voice for Peace).
أما “الخلاصة الرئيسية” الثانية في التقرير فتدّعي أن هذه الشبكة “تتلقى الدعم من نشطاء وممولين ملتزمين بتدمير الرأسمالية والديمقراطية”- وهي مفارقة لغوية لافتة، بالنظر إلى أن هذه المؤسسة نفسها تسعى في الواقع إلى تقويض ما تبقى من ديمقراطية في الولايات المتحدة.
عبارة “الرأسمالية والديمقراطية”، تتكرر ما لا يقل عن خمس مرات في التقرير، رغم أنه ليس واضحًا تمامًا ما علاقة حركة حماس بالرأسمالية، باستثناء أنها تحكم منطقة فلسطينية خضعت لما يزيد عن 19 شهرًا للتدمير العسكري الممول أميركيًا. ومن منظور صناعة الأسلحة، فإن الإبادة الجماعية تمثل أبهى تجليات الرأسماليّة.
وبحسب منطق “مشروع إستير” القائم على الإبادة، فإنّ الاحتجاج على المذبحة الجماعية للفلسطينيين، يُعد معاداة للسامية، ومن هنا جاءت الدعوة إلى تنفيذ الإستراتيجية الوطنية المقترحة التي تهدف إلى “اقتلاع تأثير شبكة دعم حماس من مجتمعنا”.
نُشر تقرير مؤسسة “هيريتيج” في أكتوبر/ تشرين الأول، في عهد إدارة الرئيس جو بايدن، والتي وصفتها المؤسسة بأنها “معادية لإسرائيل بشكل واضح”، رغم تورّطها الكامل والفاضح في الإبادة الجارية في غزة. وقد تضمّن التقرير عددًا كبيرًا من المقترحات لـ”مكافحة آفة معاداة السامية في الولايات المتحدة، عندما تكون الإدارة المتعاونة في البيت الأبيض”.
وبعد سبعة أشهر، تُظهر تحليلات نشرتها صحيفة “نيويورك تايمز” أن إدارة الرئيس دونالد ترامب -منذ تنصيبه في يناير/ كانون الثاني- تبنّت سياسات تعكس أكثر من نصف مقترحات “مشروع إستير”. من بينها التهديد بحرمان الجامعات الأميركية من تمويل فدرالي ضخم في حال رفضت قمع المقاومة لعمليات الإبادة، بالإضافة إلى مساعٍ لترحيل المقيمين الشرعيين في الولايات المتحدة فقط لأنهم عبّروا عن تضامنهم مع الفلسطينيين.
علاوة على اتهام الجامعات الأميركية بأنها مخترقة من قبل “شبكة دعم حماس”، وبترويج “خطابات مناهضة للصهيونية في الجامعات والمدارس الثانوية والابتدائية، غالبًا تحت مظلة أو من خلال مفاهيم مثل التنوع والعدالة والشمول (DEI) وأيديولوجيات ماركسية مشابهة”، يدّعي مؤلفو “مشروع إستير” أن هذه الشبكة والمنظمات التابعة لها “أتقنت استخدام البيئة الإعلامية الليبرالية في أميركا، وهي بارعة في لفت الانتباه إلى أي تظاهرة، مهما كانت صغيرة، على مستوى جميع الشبكات الإعلامية في البلاد”.
ليس هذا كل شيء: “فشبكة دعم حماس والمنظمات التابعة لها قامت باستخدام واسع وغير خاضع للرقابة لمنصات التواصل الاجتماعي مثل تيك توك، ضمن البيئة الرقمية الكاملة، لبث دعاية معادية للسامية”، وفقاً لما ورد في التقرير.
وفي هذا السياق، تقدم الورقة السياسية مجموعة كبيرة من التوصيات لكيفية القضاء على الحركة المؤيدة لفلسطين داخل الولايات المتحدة، وكذلك على المواقف الإنسانية والأخلاقية عمومًا: من تطهير المؤسسات التعليمية من الموظفين الداعمين لما يسمى بمنظمات دعم حماس، إلى تخويف المحتجين المحتملين من الانتماء إليها، وصولًا إلى حظر “المحتوى المعادي للسامية” على وسائل التواصل، والذي يعني في قاموس مؤسسة “هيريتيج” ببساطة المحتوى المناهض للإبادة الجماعية.
ومع كل هذه الضجة التي أثارها “مشروع إستير” حول التهديد الوجودي المزعوم الذي تمثله شبكة دعم حماس، تبين – وفقًا لمقال نُشر في ديسمبر/ كانون الأول في صحيفة The Forward- أنَّ “أيَّ منظمات يهودية كبرى لم تُشارك في صياغة المشروع، أو أن أيًّا منها أيدته علنًا منذ صدوره”.
وقد ذكرت الصحيفة، التي تستهدف اليهود الأميركيين، أن مؤسسة “هيريتيج” “كافحت للحصول على دعم اليهود لخطة مكافحة معاداة السامية، والتي يبدو أنها صيغت من قبل عدة مجموعات إنجيلية مسيحية”، وأن “مشروع إستير” يركز حصريًا على منتقدي إسرائيل من اليسار، متجاهلًا تمامًا مشكلة معاداة السامية الحقيقية القادمة من جماعات تفوّق البيض والتيارات اليمينية المتطرفة.
وفي الوقت نفسه، حذر قادة يهود أميركيون بارزون -في رسالة مفتوحة نُشرت هذا الشهر- من أن “عددًا من الجهات” في الولايات المتحدة “يستخدمون الادعاء بحماية اليهود ذريعةً لتقويض التعليم العالي، والإجراءات القضائية، والفصل بين السلطات، وحرية التعبير والصحافة”.
وإذا كانت إدارة ترامب تبدو اليوم وكأنها تتبنى “مشروع إستير” وتدفعه قدمًا، فإن ذلك ليس بدافع القلق الحقيقي من معاداة السامية، بل في إطار خطة قومية مسيحية بيضاء تستخدم الصهيونية واتهامات معاداة السامية لتحقيق أهداف متطرفة خاصة بها. ولسوء الحظ، فإن هذا المشروع ليس إلا بداية لمخطط أكثر تعقيدًا.