القياس الخاطئ للفساد يتيح الإفلات من العقاب
تاريخ النشر: 26th, March 2024 GMT
أفاد تقرير اللجنة المعنية بقياس الأداء الاقتصادي لعام 2008 أنه في مجتمع يزداد تركيزًا على الأداء، تشكل المقاييس أهميةً كبيرةً؛ وأن ما نقيسه يؤثر على ما نقوم به. فإذا أخطأنا في القياس، سنخطئ في مساعينا.
وكانت اللجنة ترفض أن يكون الناتج المحلي الإجمالي المقياس الرئيسي للتنمية. وترفض أن يكون الفساد، الذي عادة ما يُقاس -وبصورة مضللة- على أنه مشكلة ذات بعد واحد.
كيف إذن صنف مؤشر مدركات الفساد المملكة المتحدة في المرتبة العشرين بين الدول الأقل فسادًا؟ إن النتيجة لا تعتمد على استطلاعات الرأي التي تجريها منظمة الشفافية الدولية على المستوى المحلي، بل على مجموعة من استطلاعات الرأي المختلفة التي تجريها أطراف ثالثة. وتصدر كل هذه التقارير تقريبًا عن منظمات غربية مثل وحدة الاستخبارات الاقتصادية، وهي غالبًا ما تعتمد إلى حد بعيد على ردود رجال الأعمال الغربيين.
وفضلا على ذلك، فإن صياغة هذه الاستطلاعات غالبًا ما تكون غامضة. فعلى سبيل المثال، يقدم الكتاب السنوي للقدرة التنافسية العالمية، وهو أحد مصادر مؤشر مدركات الفساد، لرجال الأعمال خيارًا ثنائيًا بسيطًا: «الرشوة والفساد: إما أنهما موجودان أو غير موجودين». فلا عجب إذن أن يُظهر مؤشر مدركات الفساد أن الدول الغنية «نظيفة للغاية» وذلك عامًا بعد عام، حتى وإن لم يتفق مواطنوها العاديون مع هذا الرأي. ومع إدراكي لعدم وجود بدائل لهذه المقاييس التقليدية، مع أنها تعرضت لانتقادات عديدة (بما في ذلك من منشئ مؤشر مدركات الفساد)، فقد اختبرتُ مؤشر الفساد المجزأ.
وعلى غرار مؤشر مدركات الفساد، فإن مؤشر الفساد المجزأ هو مقياس للفساد قائم على التصورات، ويعتمد على استطلاعات الخبراء. ومع ذلك، فهو يقسم الفساد إلى أربعة أنواع مختلفة: السرقة البسيطة (الابتزاز الذي يقوم به الموظفون الذين يزاولون مهامهم في الشارع)، والسرقة الكبرى (الاختلاس من جانب السياسيين)، وتقديم الأموال لتسريع الإجراءات (تقديم رشاوى صغيرة للتغلب على العقبات البيروقراطية أو المضايقات)، والحصول على الأموال (رشاوى بمبالغ كبيرة في مقابل الحصول على امتيازات حصرية ومربحة مثل العقود والإعانات).
وفي حين أن الأشكال الثلاثة الأولى من الفساد -تلك المستوطنة في البلدان الفقيرة- تنتهك القانون انتهاكًا صارخًا وتسبب أضرارًا مباشرةً، فإن الوصول إلى الأموال قد يكون غير قانوني (شأنه في ذلك شأن الرشوة) أو يتسم بالشرعية (كما هو الحال مع تمويل الحملات الانتخابية). وقد تشمل الأساليب المتطورة لشراء الامتيازات مؤسسات بأكملها لا يوجد فيها أي فرد فاسد.
فعلى سبيل المثال، يمكن لغسل الأموال، أن يشمل نقل الأموال بسلاسة عبر الحدود عن طريق مؤسسات مالية تحظى باحترام واسع النطاق. وفي الولايات المتحدة، أنفقت البنوك بصورة جماعية المليارات لممارسة الضغوط من أجل فرض قيود تنظيمية متراخية، الأمر الذي أدى إلى اندلاع الأزمة المالية في عام 2008، ومع ذلك وُجهت أصابع الاتهام إلى مصرفي واحد فقط. ويستخدم مؤشر الفساد المجزأ استبيانًا أصليًا للخبراء لتقييم جميع أنواع الفساد الأربعة. ولتحسين جودة القياس، أستخدمُ سيناريوهات قصيرة منمقة أطلب فيها من المجيبين تقييم مدى انتشار سيناريوهات تمثيلية محددة بدلًا من مستويات الفساد الإجمالية. وأوضحت أدناه النموذج الأولي الخاص بي، الذي يشمل 15 دولة. ويَظهر إجمالي نقاط مؤشر الفساد المجزأ لكل دولة في الأعلى، وقُسم إلى فئات الفساد الأربع، ويمثل المربع الملون النوع الأكثر انتشارًا. والآن يمكننا أن نقارن ليس فقط بين المستويات الإجمالية للفساد المتصور، ولكن أيضًا بين أنواع الفساد وبنيتها عبر البلدان.
إن إحدى المقارنات الواضحة هي بين الولايات المتحدة والصين. فالولايات المتحدة أقل فسادًا من الصين عمومًا، ولكن الفجوة بينهما أضيق فيما يتعلق بالوصول إلى المال، وهو نوع الفساد السائد في كلا البلدين. ومن الجدير بالذكر أن درجة القدرة على الوصول إلى المال في أمريكا أعلى من الدول ذات الدخل المنخفض مثل: تايلاند وغانا. وإذا اعتمدنا فقط على النتائج المجمعة، فسوف نَخلُص إلى أن الولايات المتحدة نظيفة. ولكن بمجرد تجزيء النتائج، يمكننا أن نفسر جاذبية الوعود الشعبوية بـ «تجفيف المستنقعات».
إن أكثر ما يثير الاهتمام هو أن أشكالًا مختلفة من الوصول إلى الأموال تسود في الولايات المتحدة والصين. وفي مقارنة مبنية على سيناريو قصير يصور تلقي الرشوة عن طريق الشبكات الشخصية للساسة، تبدو هيمنة الصين واضحة. ومع ذلك، عندما يتعلق الأمر بممارسات «الباب الدوار» والاستيلاء التنظيمي عن طريق ممارسة الضغوط، فإن الولايات المتحدة تحتل الصدارة.
إن سوء قياس الفساد ليس مجرد مسألة فنية. فهو في الأساس يعزز الرسالة الوهمية والمنافقة، التي غالبًا ما تركز على أوروبا، والتي مفادها أن البلدان ذات الدخل المرتفع حققت حالة دائمة من النقاء الأخلاقي. والواقع أن الفساد لم يختف بالضرورة مع ازدياد ثراء البلدان، بل تطور، وأصبح أكثر تعقيدًا وزادت صعوبة إدراكه. وعلينا أن نواصل مكافحة «فساد الفقراء». ولكن عن طريق تجزيء الفساد، تستطيع الديمقراطيات الرأسمالية أيضًا توجيه الاهتمام المطلوب بشدة نحو بعض مشاكلها الأكثر إلحاحًا، بما في ذلك اتساع فجوة التفاوت بين الناس، وتراجع ثقة عامة الناس في الحكومة، وما تسميه مديرة الوكالة الأمريكية للتنمية الدولية سامانثا باور بـ«الفساد الحديث» (مثل شبكات التمويل غير المشروعة العابرة للحدود الوطنية). ويتطلب التغلب على هذه التحديات قياسها بدقة، بدلا من التظاهر بعدم وجودها.
يوين يوين أنج أستاذة الاقتصاد السياسي بجامعة جونز هوبكنز، ومؤلفة كتاب «كيف أفلتت الصين من فخ الفقر» و«عصر الصين الذهبي».
خدمة بروجيكت سنديكيت
المصدر: لجريدة عمان
كلمات دلالية: مؤشر مدرکات الفساد الولایات المتحدة بما فی ذلک غالب ا ما عن طریق فساد ا
إقرأ أيضاً:
كيف خسرت أوروبا: هل تستطيع القارّة الإفلات من فخّ ترامب؟
نشرت مجلة "فورين أفيرز" تقريرا أوضحت فيه أن أوروبا آثرت الاستسلام لإدارة ترامب الثانية، مفضلة التهدئة على المواجهة في ملفات الدفاع والتجارة والديمقراطية، وهو خيار فرضته ضغوط اليمين الشعبوي الذي يحد من طموحات الاتحاد الأوروبي.
وأفادت المجلة، في تقريرها الذي ترجمته "عربي 21"، أن عودة الرئيس الأمريكي دونالد ترامب إلى السلطة في كانون الأول/ يناير 2025 وضعت أوروبا أمام خيار حاسم؛ فقد فرض ترامب مطالب صارمة بزيادة الإنفاق الأوروبي على الدفاع، وهدّد الصادرات الأوروبية برسوم جمركية واسعة، وتحدّى قيمها الديمقراطية، ما دفع كافة القادة الأوروبيين إلى اختيار الاستسلام بدل المواجهة، متخلّين عن فكرة الشراكة المتكافئة أو الاستقلالية الإستراتيجية.
وقالت المجلة إن أنصار التهدئة في أوروبا اعتبروا هذا الخيار عقلانياً، إذ أن البدائل الأخرى، مثل مقاومة مطالب ترامب أو الدخول في حرب تجارية أو فضح نزعاته الاستبدادية، كانت ستضر بالمصالح الأوروبية، وربما تؤدي إلى انسحاب واشنطن من أوكرانيا أو من حلف الناتو، أو إلى اندلاع حرب تجارية شاملة عبر الأطلسي.
وأشارت المجلة إلى أن هذا التبرير يتجاهل دور السياسة الداخلية الأوروبية في الدفع نحو الاستسلام، كما يتغافل عن نتائجه. فصعود اليمين الشعبوي في عدد متزايد من دول الاتحاد الأوروبي جعل خيار التهدئة انعكاسًا لضغوط داخلية، بل ساهم في تقوية هذه القوى التي تسعى لإضعاف الاتحاد، وبذلك تحوّلت استراتيجية أوروبا تجاه ترامب إلى فخّ يضعفها من الداخل.
وأفادت المجلة أن المخرج الوحيد يكمن في استعادة أوروبا لسيادتها وبناء استقلالية أكبر، بدلاً من انتظار انتهاء ولاية ترامب في 2029، إذ أن مواجهة هذا الواقع هي السبيل الوحيد لتحجيم القوى الشعبوية التي تقويض الاتحاد الأوروبي من الداخل.
اضطراب نقص الطموح
واعتبرت المجلة أن استسلام أوروبا لمطالب ترامب في الإنفاق الدفاعي بدا منطقيًا، إذ إن الحرب في أوكرانيا هي حرب أوروبية تمس أمن القارة مباشرة.
وكان الاجتماع الكارثي بين ترامب وزيلينسكي في شباط/ فبراير 2025 علامة تنذر باحتمال تخلي واشنطن عن كييف، ما دفع الحلفاء الأوروبيين في قمة الناتو إلى التعهد بزيادة الإنفاق الدفاعي إلى 5 بالمئة من الناتج المحلي وشراء المزيد من الأسلحة الأمريكية دعمًا لأوكرانيا.
وأشارت المجلة إلى أنه بعد استقبال ترامب للرئيس الروسي فلاديمير بوتين في ألاسكا في منتصف آب/ أغسطس، سارع قادة أوروبيون، بمن فيهم زيلينسكي، إلى واشنطن لمحاولة استرضائه، فدعموا طموحاته في الوساطة وتطوير خطط لإنشاء "قوة طمأنة" أوروبية يتم نشرها في أوكرانيا في حال نجاحه بوقف إطلاق النار.
ويمكن القول إن هذه الجهود جعلت ترامب أكثر تقديرًا للقادة الأوروبيين، إذ سمح لهم بشراء أسلحة لأوكرانيا، ووسع العقوبات على شركات النفط الروسية، ولم ينسحب من الناتو.
غير أن هذه النتائج تعود أكثر إلى تعنت بوتين لا إلى براعة أوروبا الدبلوماسية، وأنها لا تعتبر نجاحًا إلى بالمقارنة مع أسوأ البدائل الممكنة. فالأوروبيون فشلوا في الحصول على دعم أمريكي إضافي لأوكرانيا أو دفع ترامب لتبني عقوبات شاملة جديدة على روسيا، وظلوا بلا إستراتيجية دفاعية أوروبية متماسكة ومستقلة عن الولايات المتحدة.
على سبيل المثال، لم يكن الهدف الجديد المتمثل في خصم 5 بالمئة من الإنفاق العسكري نابع من تقييم أوروبي لما هو ممكن، بل بما يرضي ترامب. وفي الوقت نفسه، وافقت دول كبرى مثل فرنسا وإيطاليا والمملكة المتحدة على الهدف رغم إدراكهم أنهم غير قادرين ماليًا على تحقيقه قريبًا، كما تعهّدوا بشراء الأسلحة الأمريكية دون خطط لتقليص التبعية العسكرية الهيكلية مستقبلاً.
وأضافت المجلة أن فشل أوروبا في تنظيم دفاعها يعكس نقصًا في الطموح، مرتبطًا بصعود النزعة القومية واليمين الشعبوي خلال السنوات الأخيرة، وهو ما أضعف مشروع التكامل الأوروبي فبعد أن كان هذا التيار يدعو للخروج من الاتحاد، اتجه بعد تجربة بريطانيا الفاشلة عام 2020 إلى إستراتيجية أخطر تقوم على تقويض الاتحاد تدريجيًا من الداخل.
وللمقارنة، فقد حشد الاتحاد الأوروبي أكثر من 900 مليار دولار لمواجهة جائحة كورونا، بينما لم يخصص سوى 170 مليارًا لمبادرات الدفاع الجماعي ضد التهديدات الخارجية.
وأفادت المجلة أن المفارقة تكمن في أن عجز أوروبا عن بناء دفاع قوي جعلها تعتمد على زعيم أمريكي، فيما يستفيد اليمين الشعبوي من هذا الوضع دون أن يدفع ثمنه سياسيًا بل إن هدف الإنفاق الدفاعي بنسبة 5 بالمئة قد يتحول إلى مادة إضافية لصالحه، خاصة في دول بعيدة عن الحدود الروسية مثل بلجيكا وإيطاليا والبرتغال وإسبانيا، حيث قد يضطر القادة الأوروبيون إلى تقليص الإنفاق على الصحة والتعليم والمعاشات العامة لتلبية هذا الهدف، مما يغذي خطاب "السلاح مقابل الغذاء" الذي يروّج له اليمين الشعبوي.
بيت منقسم
وقالت المجلة إن خضوع أوروبا لمطالب ترامب التجارية كان أكثر تدميرًا للذات من تنازلاتها في المجال الدفاعي، إذ إن الاتحاد الأوروبي، رغم ضعفه العسكري، يفاخر بقوته الاقتصادية وسوقه الموحدة التي تضاهي الصين في القدرة على التفاوض.
وقد سارعت بريطانيا إلى قبول رسوم جمركية بنسبة 10 بالمئة مع الولايات المتحدة، فيما كان يُفترض أن تمكّن قوة السوق الأوروبية من انتزاع صفقة أفضل بكثير.
وتابعت المجلة أن أوروبا كانت قد أعدّت أدوات لمواجهة ترامب عبر ما سُمّي بـ"التحصين ضد ترامب"، قبل انتخابات 2024، حيث استخدمت حوافز مثل شراء مزيد من الأسلحة والغاز الأمريكي، بالإضافة إلى أدوات ردع، مثل "أداة مكافحة الإكراه الجديدة" التي تمنح المفوضية الأوروبية صلاحيات واسعة في حالة الرد على الترهيب الاقتصادي.
وأفادت المجلة أنه كان بإمكان المفوضية الرد فورًا على إعلان ترامب في شباط/ فبراير الماضي فرض رسوم بنسبة 25 بالمئة على الصلب والألمنيوم بحزمة معدة مسبقة قيمتها 23 مليار دولار تستهدف منتجات أمريكية حساسة، ثم ردًا على الرسوم التي فرضها ترامب في نيسان/ أبريل الماضي، كان بإمكانهم تفعيل استخدام "البازوكا الاقتصادية" ضد صادرات الخدمات الأمريكية إلى أوروبا مثل منصات البث المباشر والحوسبة السحابية.
ولكن بدلاً من ذلك، انشغل القادة الأوروبيين بالخلافات الداخلية وأضاعوا فرصة الرد الجماعي، وهو ما يعكس مجددًا تأثير صعود اليمين الشعبوي في إضعاف الاتحاد.
وكانت المفاوضات التجارية تقليديًا من اختصاص المفوضية الأوروبية، كما حدث في عهد ترامب الأول حين نجح رئيسها آنذاك جان كلود يونكر في تهدئة التوتر عبر صفقة بسيطة قائمة على المكاسب المشتركة بحسب المجلة.
غير أنه في إدارة ترامب الثانية، كان الوضع مختلفًا تمامًا، إذ تراجع موقف المفوضية الأوروبية التفاوضي منذ البداية بسبب انقسامات داخلية، حيث عارضت دول رئيسية أي رد انتقامي.
وقد دعت رئيسة وزراء إيطاليا جورجيا ميلوني، المقرّبة من ترامب، إلى البراغماتية وحذّرت من حرب جمركية، فيما طالبت ألمانيا بتوخي الحذر خوفًا من الركود الذي قد يعزز حزب "البديل من أجل ألمانيا" اليميني الشعبوي، بينما فضّلت فرنسا وإسبانيا نهجًا أكثر تشددًا بفرض رسوم مضادة.
وأشارت المجلة إلى أن الانقسام الأوروبي كان عميقًا لدرجة أن الشركات الكبرى مثل "فولكسفاغن" و"مرسيدس" و"بي إم دبليو" أجرت مفاوضات مباشرة مع واشنطن بشأن الرسوم على السيارات، ولم تنجح بروكسل في التوصل إلى اتفاق إلا في تموز/ يوليو 2025 بعد أشهر من الشلل، بقبول رسوم أمريكية بنسبة 15 بالمئة على معظم الصادرات الأوروبية، أي أعلى بخمس نقاط من الصفقة التي حصلت عليها بريطانيا.
وأفادت المجلة أن القادة الأوروبيين برروا الصفقة بالقول إن الاتحاد لم يكن أمامه خيار آخر، إذ أن أي رد انتقامي كان سيضر بالمستوردين والمستهلكين الأوروبيين وربما أثار غضب ترامب ودفعه للتصعيد ضد أوكرانيا أو التخلي عن حلف الناتو.
وفندت المجلة هذا المنطق، مؤكدة أنه يضع أوروبا في فخّ دائم، فهي بقبولها الابتزاز الاقتصادي عبر الأطلسي تفقد قوتها السوقية وتمنح اليمين الشعبوي مزيدًا من النفوذ. وأظهرت استطلاعات في أكبر خمس دول أوروبية أن 77 بالمئة يرون الصفقة التجارية مع واشنطن تصب في مصلحة الاقتصاد الأمريكي، فيما اعتبر 52 بالمئة أنها "إهانة".
وبذلك، فإن خضوع أوروبا لا يعزز صورة ترامب القوي فحسب، بل إنه يضعف مبرر التكامل الأوروبي، خاصة إذا كانت بريطانيا بعد خروجها من الاتحاد قادرة على انتزاع صفقة أفضل من بروكسل.
الدبلوماسية فوق الديمقراطية
وقالت المجلة إن أوضح أشكال استسلام أوروبا ظهر في مجال القيم الديمقراطية، إذ صعّد ترامب خلال عام 2025 هجماته على حرية الصحافة، وأعلن حربًا على المؤسسات المستقلة، وضغط على القضاء لتأييده، بل نقل هذه المواجهة إلى أوروبا عبر تدخل نائبه جي دي فانس ووزيرة الأمن الداخلي كريستي نويم في الانتخابات بألمانيا وبولندا ورومانيا.
وأشارت المجلة إلى أن قيادة الاتحاد الأوروبي لم ترفض هذه التدخلات العدائية، بل التزمت الصمت أملاً في الحفاظ على التعاون في ملفات أخرى.
وظهر هذا النهج بوضوح في تعامل المفوضية الأوروبية مع منصة "إكس" المملوكة لحليف ترامب السابق إيلون ماسك، إذ بدأت بروكسل تحقيقًا قويًا حول نشر روايات مؤيدة للكرملين وتفكيك فرق نزاهة الانتخابات، لكنها سرعان ما خففت التحقيق ومنحت المنصة تمديدات متكررة، مفضلة الحوار على العقوبات.
وأكدت المجلة أن هذه الإستراتيجية لا تحقق مصالح أوروبا بل تكلفها سياسيًا، إذ تُطبع السلوكيات غير الليبرالية في الولايات المتحدة وتقلص قدرة أوروبا على الدفاع عن قيمها، وقد تبنى قادة اليمين في أوروبا الرسائل القادمة من واشنطن، مثل إشادة المسؤولين المجريين بـ"واقعية" تصريحات نائب الرئيس، أو هجوم رئيس الوزراء المجري فيكتور أوربان على "اليسار المحرض" في أمريكا.
واستغلت الأحزاب المتطرفة هذه المواقف لتقديم نفسها كجزء من نخبة مضادة في الغرب، بينما تجنبت القيادات الأوروبية التقليدية مواجهة الخطاب الأميركي بقوة.
وقد رأى كثيرون في أوروبا أن مواجهة التراجع الديمقراطي في أميركا أمر لا جدوى منه ولن يؤثر على السياسة الداخلية الأميركية، وبعضهم اعتبر أن دعم أنصار ترامب لليمين المتطرف في أوروبا قد يؤدي إلى سقوطه لاحقًا، كما حدث في أستراليا وكندا حيث خسر المرشحون المؤيدون لترامب في انتخابات 2025.
وظهرت مؤشرات أولية على نجاح هذه المقاربة في أوروبا أيضًا؛ فدعم فانس وماسك لحزب البديل من أجل ألمانيا لم يكن له تأثير يُذكر على نتائج الانتخابات في ألمانيا، وخسر المرشح الموالي لروسيا وترامب في الانتخابات الرئاسية في رومانيا، بينما حقق الليبراليون عودة قوية في هولندا، بينما في بولندا والتشيك فاز المرشحون المدعومون من ترامب.
ورغم أن الأدلة غير حاسمة، إلا أن سياسة المهادنة لم تحمِ أوروبا من الانجراف غير الليبرالي، بل أضعفت دفاعها عن القيم الديمقراطية داخليًا وخارجيًا.
الواحد للجميع.. والجميع للواحد
وأشارت المجلة إلى أن الأوروبيين يعرفون ما يجب فعله لكسر هذه الحلقة المفرغة؛ فقد وضع رئيسا وزراء الإيطاليين السابقين إنريكو ليتا وماريو دراجي خطة عام 2024 لتقوية الاتحاد الأوروبي عبر تعميق السوق الموحدة في مجالات التمويل والطاقة والتكنولوجيا، وإطلاق مبادرة استثمارية كبرى بالاقتراض المشترك.
غير أن هذه المقترحات بقيت معطلة بسبب مخاوف الناخبين من تكاليف المعيشة ومن فقدان السيادة أو المخاطر المالية المترتبة على أي مبادرة كبيرة للديون المشتركة، والمطلوب اليوم ليس خططًا ضخمة بل خطوات واقعية، مثل تعزيز التعاون الدفاعي والتجاري لتقليل الاعتماد على الولايات المتحدة، وإعادة ضبط العلاقات مع الصين وسياسات الطاقة لاستعادة استقلالية الاتحاد.
وقد سعى الاتحاد الأوروبي مؤخرًا لتطوير بنيته الأمنية عبر إنشاء صندوق الدفاع الأوروبي، وتمويل مشاريع مشتركة، وتأسيس مرفق السلام الأوروبي الذي استُخدم لتمويل تسليح أوكرانيا (قبل أن تعرقله المجر)، إضافة إلى خطة جاهزية دفاعية لعام 2030.
لكن هذه الأدوات بقيت محدودة وبطيئة، وتركز بشكل أساسي على التنسيق الصناعي الدفاعي والمهام الصغيرة النطاق.
وأظهرت هذه الجهود نقطة ضعف الاتحاد الأوروبي: شرط الإجماع في السياسة الخارجية والأمنية، ما يسمح لدول مثل المجر بعرقلة المساعدات لأوكرانيا أو العقوبات على روسيا عبر استخدام حق النقض. كما أثيرت شبهات حول تورط عضو المفوضية الأوروبية المجري، أوليفر فارهيلي، في شبكة تجسس ببروكسل، ما يطرح تساؤلات حول مدى الثقة السياسية اللازمة لمناقشة القضايا الأمنية الحيوية.
وأضافت المجلة أن أعضاء الاتحاد الأوروبي يختلفون في نظرتهم للولايات المتحدة؛ فالدول الشرقية والشمالية تراها الضامن الأساسي لأمنها، بينما تميل فرنسا وألمانيا وجنوب أوروبا إلى تعزيز الاستقلالية.
أما الدول غير المنضمة للناتو مثل النمسا وإيرلندا ومالطا فتقيدها قوانين الحياد، إضافة إلى نزاعات ثنائية قائمة مثل خلاف تركيا واليونان حول قبرص والبحر المتوسط.
وقد يكون الحل الواقعي لأمن أوروبا عبر تشكيل "تحالف الراغبين" الأوروبي، وهو تجمع بدأ يتشكل حول دعم أوكرانيا بقيادة فرنسا وبريطانيا وبمشاركة ألمانيا وبولندا ودول الشمال والبلطيق. هذا التحالف غير رسمي لكنه أثبت التزامه تجاه كييف عبر تسليح مستمر، ومساعدات طويلة الأمد، واتفاقيات أمنية ثنائية، إدراكًا بأن أمن أوروبا يعتمد على الدفاع العسكري لأوكرانيا وبقائها كدولة.
رغم ذلك، يعاني التحالف من تركيزه المفرط على أفكار نظرية مثل قوة الطمأنة الافتراضية، ولم يبدأ إلا مؤخرًا بالتركيز على دعم أوكرانيا دون الاعتماد على واشنطن. ومع تطوره، ينبغي أن يعزز القوات التقليدية وينسقها، وأن يتعامل مع القضية الأصعب: الردع النووي.
ويظل الردع النووي موضوعًا حساسًا للغاية في أوروبا، إذ لا يوجد بديل فعلي للمظلة الأميركية، فيما تبقى القدرات الفرنسية والبريطانية محدودة أمام الترسانة الروسية الضخمة. لكن امتلاك أوروبا قدرة الردع يواجه إشكالات معقدة مثل كيفية التمويل، وآليات اتخاذ القرار، وتوفير الدعم العسكري التقليدي اللازم لفعاليته.
ويبقى ضمان الردع النووي في أوروبا قضية بالغة الأهمية بحيث لا يمكن الاستمرار في تجاهلها؛ فقد وقعت فرنسا وبولندا معاهدة دفاعية في أيار/ مايو، ورحب القادة البولنديون بفكرة الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون بتمديد المظلة النووية الفرنسية لحلفاء أوروبيين.
وهذه خطوة واعدة، لكن النقاش يجب أن يتوسع ليشمل تحالف الراغبين بأكمله، بهدف ضمان قدرة أوروبا على مواجهة التهديدات إذا انسحبت واشنطن فجأة، دون أن يكون ذلك بديلًا عن الناتو.
وأوضحت المجلة أن المنطق ذاته ينطبق على التجارة؛ فلطالما اعتمد ازدهار أوروبا على الانفتاح، لكن الاتفاق غير المتوازن مع ترامب كشف هشاشة التزام الاتحاد بالتجارة الحرة عبر الأطلسي.
ومع ذلك، بدأ الاتحاد بالفعل في تنويع شراكاته بتوقيع اتفاقيات مع كندا واليابان وكوريا الجنوبية وسويسرا والمملكة المتحدة، ويُفترض أن يعمّق الاتحاد هذه الروابط ويمضي قدمًا نحو اتفاقيات مع الهند وإندونيسيا ودول ميركوسور في أمريكا اللاتينية، إضافة إلى تسريع المفاوضات مع أستراليا وماليزيا والإمارات وغيرها.
ووفق المجلة؛ يحتاج الاتحاد بجانب الاتفاقيات الثنائية، إلى استراتيجية أوسع لدعم النظام التجاري العالمي. فقد أصيبت منظمة التجارة العالمية بالشلل التام منذ تعطّل هيئة الاستئناف التابعة لها سنة 2019 بسبب رفض الولايات المتحدة تعيين قضاة جدد، ولكن يمكن للاتحاد تطوير آلية بديلة بالتعاون مع دول اتفاقية الشراكة عبر المحيط الهادئ، بما يشمل أكثر من 20 دولة تمثل أكثر من 40 بالمائة من الناتج العالمي.
وسيعزز هذا المسار التعاون بين القوى المتوسطة ويؤكد قدرة أوروبا على صياغة قواعد الاقتصاد العالمي بدل الاكتفاء برد الفعل على تحركات واشنطن أو بكين.
ولإثبات استقلاليته بشكل أكبر، يحتاج الاتحاد إلى سياسة ذاتية تجاه الصين؛ حيث أصبحت مواقفه انعكاسًا لسياسة واشنطن مع تصاعد التنافس الأميركي-الصيني.
لم تكن هذه مشكلة في عهد بايدن، إذ كان الشريك الأميركي موثوقًا رغم الاعتماد الأوروبي على استخباراته وإطار ضبط صادراته. لكن الاتحاد فقد بوصلته مع تقلب سياسة ترامب بين التصعيد والصفقات، ورغم فرض بروكسل رسومًا على السيارات الكهربائية الصينية وانتقاد دعم بكين لروسيا، يبقى من غير الواضح كيف يمكن للاتحاد مواجهة الصين بينما تعقد واشنطن صفقات ثنائية معها بعيدًا عن أوروبا.
وأكدت المجلة أن استعادة مصداقية الاتحاد الأوروبي كفاعل عالمي يتطلب اتباع مسار مزدوج مع الصين: حازم وواضح في القضايا الأمنية، وبراغماتي اقتصاديًا في المجالات الأخرى. فإقناع بكين بوقف تجارتها في النفط والغاز مع روسيا غير ممكن، لكن يمكن الضغط عليها لوقف تصدير السلع مزدوجة الاستخدام.
بالمقابل، ستطلب الصين تنازلات قد تكون مثيرة للجدل، مثل وقف تعاون الناتو الرسمي مع شركاء شرق آسيا.
وتواجه أوروبا أيضًا أزمة طاقة جديدة؛ فبعد أن تخلصت من الاعتماد على الغاز الروسي، أصبحت تعتمد بشكل كبير على الغاز الطبيعي الأميركي المسال. ورغم أن هذا التحول كان ضروريًا مؤقتًا، إلا أنه لا يصلح كأساس طويل الأمد لأمن الطاقة، خاصة في ظل تقلب العلاقات عبر الأطلسي.
لذلك يحتاج الاتحاد الأوروبي إلى تنويع شركائه في الشرق الأوسط وشمال أفريقيا ومناطق أخرى، مع تعزيز الالتزام بالصفقة الخضراء الأوروبية التي يتم إضعافها حاليًا بفعل ضغوط سياسية وفق تقرير المجلة.
ورغم صعوبة تمرير الصفقة الخضراء في ظل أزمة المعيشة وضعف النمو، فإن البديل أسوأ بكثير: استمرار الاعتماد على الوقود الأحفوري وما يرافقه من هشاشة جيوسياسية. الرسالة يجب أن تكون واضحة: تنويع الطاقة ليس مسألة مناخية فقط بل قضية سيادة.
كما أن استراتيجية صناعية خضراء قوية ستوفر وظائف تكنولوجية متقدمة، وتبرهن أن التحول نحو الاقتصاد منخفض الكربون يمكن أن يعزز القوة الاقتصادية في الوقت نفسه.
قوة الرفض
وأوضحت المجلة أن هذه الخطوات لن تغيّر أوروبا بين ليلة وضحاها، لكنها ستبدأ في تعديل الديناميكيات السياسية التي حبست القارة في دائرة التبعية والانقسام. فكل مبادرة - من تعزيز الاستعداد الدفاعي، وتنويع التجارة، وصياغة سياسة مستقلة تجاه الصين، إلى التحول في مجال الطاقة - ستُظهر قدرة أوروبا على العمل الجماعي في الظروف الصعبة، والنجاح في أي مجال سيعزز الثقة ويدعم خطوات أكثر جرأة.
وختمت المجلة بأن الهدف الأوسع هو استعادة الشعور باستقلالية أوروبا الإستراتيجية دون أن يعني ذلك مواجهة واشنطن أو التخلي عن الناتو، بل القدرة على قول "لا" عند الضرورة، والتصرف باستقلالية عند اختلاف المصالح، والحفاظ على مشروع داخلي متماسك.
أما سياسة المهادنة التي اتبعتها أوروبا طويلًا، رغم كونها مفهومة أحيانًا، فقد كانت مضرة وأشعلت ردود فعل قومية، والبديل ليس الاستعراض أو الانعزال، بل ممارسة دور متزن وفعّال قد يُخرج أوروبا من هذه المرحلة المضطربة أكثر اعتمادًا على نفسها، وأكثر وحدة، وأكثر احترامًا على الساحة الدولية مما كانت عليه سابقًا.