إذا أطلق لفظة الإمام فى الإسلام على الإطلاق فلا ينصرف الذهن مباشرة إلا إلى واحد أوحد هو أبو الأئمة حقيقة، وسيدهم غير منازع، إمام الأولياء، هو بلا شك الإمام عليّ بن أبى طالب كرم الله وجهه؛ فهو بحق الإمام الذى لا يتخطاه الذهن البصير من حيث كون الإمامة لا تكتسب بالدُّرْبَة والمران والتحصيل؛ بل توهب توفيقاً من عطايا الفضل الإلهى، ولا تقوم بالحيلة ولا بالوسيلة، بل بالجعل الإلهى تحقيقاً كما فى قوله تعالى: (إنى جاعلك للناس إماماً).
ولا ينقض هذا وجود أناس من بين الأئمة من ينتزع مثل هذا الفضل انتزاعاً لنفسه، فيجريه اكتساباً على حياته بالقدوة والمثل الأعلى وسياسة النفس بالحيلة كما جرى فى حياة النوادر بالموهبة المُفَاضة والاصطفاء المخصوص.
والفارقُ بين عطاء الفضل الإلهى وكسب المنزع البشري، هو فارقٌ بين الحقيقة والمجاز، حتى إذا أطلقنا الإمامة على الإمام عليّ ابن أبى طالب أطلقناها حقيقةً ولم نجاوز الحقيقة فى شيء ولا فى صورة ولا فى ملمح من ملامح حياته الظاهرة أو خصاله الباطنة، فهو إمامٌ على الحقيقة وله بالإمامة أصالة الشرف، وعراقة النسب، ونقاء الحسب، وطلاقة الروح، ومواهب التفوق فيها ومواهب الامتياز.
أمّا إذا نحن أطلقناها على غيره، فربما نطلقها ونحن فى حاجة ماسّة إلى سدّ الفجوات التى يُحدثها فعل النسبة البشرية المكتسبة بإزاء مقرّرات التفوق والامتياز فى المواهب المُفاضة لا فى الجهد البشرى المحدود، فلا يوجد عظيم من العظماء إلا ومعه لُمَّة النقص الذى يصاحب الطبيعة البشريّة فى صورة من صورها أو فى نحو من أنحائها، ومع ذلك فهو بالمقياس الإنسانى عظيم، ولا يتجرّد من مقياس العظمة إذا نقص فى صفة من الصفات، أو إذا بهت ظل من ظلال الصورة التى تكوّنت عنه بعد بحث واطلاع.
والإمام على رضوان الله عليه، كامل فى معدن الإمامة، بمقدار ما هو كامل فى الفضل، كامل فى الدين، كامل فى العلم، كماله فى حربه وسلمه، وفى شجاعته وتقواه، ولا يوجد كامل فى تلك الجهات العلويّة، ويكون النقص حليفه فى الملكات الباطنة أو فى مواهب التفوق والامتياز، فهو الكرار فارس الهيجاء عليٌّ، الفتى الغالب، الشجاع المغوار الذى تعجز عن ضربات حُسامه شجاعة الشجعان، وهو الذى نسجت الشجاعة على منواله واستنت بسننه واهتدت بدرْبه، وهو الذى تلاقت فيه القوتان، قوة البدن وقوة الجنان، ولا عمل أقوى ولا أكثر امتيازاً من قوة الروح الباقية وفضائلها التى تستخف بكل ما هو زائل دُوُنٍ فى عالم الأطماع والشهوات.
هذه القوة الروحيّة العالية هى التى أنشأت الفضل المسبوق على التحقيق فى كل علم وفى كل فضل فى الإسلام وفى الحضارة الإسلاميّة، تماماً كما أرست قواعد الغلبة والانتصار إبّان ظهور الإسلام ومهده الأول ثم توالى عليها تبعات النهوض بالدعوة والجهاد، وملاك الأمر كله فى الكرار يومئذ ارتقاء الروح، والزهادة فى الدنيا، والاستخفاف بالدُّون والأطماع، ونصرة الحق على الباطل، وموالاة الله ورسوله على الحقيقة التى تشع وتسطع كأنها الشمس فى ضحاها، ولد رضوان الله عليه فى جوف الكعبة، ونشأ وعاش وهو ربيب رسول الله صلى الله عليه وسلم، ووصيه، لا تغره الدنيا بل يطويها تحت قدميه، كأنها خرقة بالية، ممتثلاً قول النبيّ عليه السلام لو كانت الدنيا تعدل عند الله من الخير جناح بعوضة ما سقى كافراً منها شربة ماء، إلى أن آخى النبيُّ فى دار الهجرة بينه وبينه.
ولم يكن صلوات الله وسلامه عليه يكتم حبّه لعلي، ولا تقديره لشجاعته، ولا دفاعه عنه فى موضع الغيرة العارضة أو موطن البغض الذى يشوب النفوس من جرَّاء الحسد والضغينة؛ بل كان معه، ومن ورائه، معيّة الأب لأبنه، يؤثره بالعطف المشمول والشفقة الرحيمة كما تجلّت فى قلب أعظم نبيّ، وليس بالقليل أن يزوجه كريمته فاطمة الزهراء أحبَّ الناس إليه وسر أبيها وبضعته، وقد تقدّم لخطبتها قبله أبو بكر وعمر فردّهما رداً جميلاً مؤثراً عليَّاً الفقير التقيّ النَّقى العالم الزاهد الورع صاحب السبق فى الإسلام، رغم فقره وقلة يده من وفرة الحطام وهو عليه السلام يقول (فوالله لقد أنكحتك أكثرهم علماً وأفضلهم حلماً وأولهم سلماً).
وكان الصحابة يعرفون مأثرة النبيّ لعليّ، كما يُكاشفون بمحبته له، وهو أول من تحدى صناديد الكفر فنام بفراشه ليلة الهجرة وهو يعلم نواياهم المعقودة على قتل النبى إذ ذاك، فلم يبال بقتل نفسه إذا أنقضت قريش مترقبة ثائرة.
(وللحديث بقيّة)
المصدر: بوابة الوفد
كلمات دلالية: د مجدى إبراهيم الإمام علي بن أبي طالب کامل فى
إقرأ أيضاً:
علي جمعة: النبي ﷺ أنسب الناس والله أثنى عليه وشرَّف مكانه وزمانه
قال الدكتور علي جمعة، عضو هيئة كبار العلماء بالأزهر الشريف، إن الله- سبحانه وتعالى- أثنى على النبي ﷺ، فامتدح كل مواطن المدح والشرف المتعلقة به، فأثنى على نسبه، وأعظم قدر نسائه- رضي الله عنهن-، وحفظ المكان الذي يقيم فيه وأعلى شأنه وأقسم به.
وأوضح جمعة، في منشور له عبر صفحته الرسمية بموقع التواصل الاجتماعي «فيسبوك»، أن من مدحه لنسبه الشريف قول الله تعالى: {وَتَقَلُّبَكَ فِي السَّاجِدِينَ}، قال ابن عباس - رضي الله عنه - في تفسير تلك الآية: «أي في أصلاب الآباء آدم ونوح وإبراهيم حتى أخرجه نبيًا» [تفسير القرطبي، وأخرجه البزار والطبراني].
وأشار إلى أن النبي أنسب الناس على الإطلاق، كما أخبر - ﷺ - بنفسه عن ذلك، فعن واثلة بن الأسقع أن النبي - ﷺ - قال: (إن الله اصطفى من ولد إبراهيم إسماعيل، واصطفى من ولد إسماعيل بني كنانة، واصطفى من بني كنانة قريشًا، واصطفى من قريش بني هاشم، واصطفاني من بني هاشم) [مسند أحمد، ورواه الترمذي والبيهقي].
وعن عمه العباس - رضي الله عنه - أن النبي - ﷺ - قال: (إن الله خلق الخلق فجعلني من خيرهم، من خير قرنهم، ثم تخيَّر القبائل فجعلني من خير قبيلة، ثم تخيَّر البيوت فجعلني من خير بيوتهم، فأنا خيرهم نفسًا وخيرهم بيتًا) [رواه الترمذي].
وأثنى ربنا - سبحانه وتعالى - على نسائه - رضي الله عنهن -، وما بلغن هذا المبلغ إلا لتعلقهن بجنابه - ﷺ -، فقال - سبحانه وتعالى -: {يَا نِسَاءَ النَّبِيِّ لَسْتُنَّ كَأَحَدٍ مِّنَ النِّسَاءِ} [الأحزاب: 32]، وقال - سبحانه - في نفس هذا المعنى: {وَأَزْوَاجُهُ أُمَّهَاتُهُمْ} [الأحزاب: 6].
ولما تعلق الزمان بالنبي - ﷺ - مدحه، بل عظّمه، إذ أقسم بعمره - ﷺ - فقال تعالى: {لَعَمْرُكَ إِنَّهُمْ لَفِي سَكْرَتِهِمْ يَعْمَهُونَ} [الحجر: 72]، ولم يُقسم الله بعمر أحد من خلقه قط إلا بعمر نبيه المصطفى، وحبيبه المجتبى - ﷺ -.
وجعل ربنا خير الأزمان زمن بعثته، فقد صح عنه - ﷺ - أنه قال: (خير القرون قرني) [متفق عليه]، وكما مر قوله - ﷺ -: (إن الله خلق الخلق فجعلني من خيرهم، من خير قرنهم) [رواه الترمذي]. فشرّف الزمان الذي بُعث فيه، وعظّم الزمان الذي أبقاه فيه في هذه الدنيا، ولولا تعلق هذين الزمنين بجنانه العظيم - ﷺ - ما حظيا بهذا التكريم.
وشرف الله المكان الذي تعلق بجانبه العظيم - ﷺ -، حيث أقسم بمكة ما دام النبي - ﷺ - يقيم فيها، فقال تعالى: {لَا أُقْسِمُ بِهَذَا الْبَلَدِ * وَأَنْتَ حِلٌّ بِهَذَا الْبَلَدِ} [البلد: 1-2].
وشرف الله المدينة وجعلها حرمًا آخر، لا لشيء إلا لتعلقها بجنابه الأعظم - ﷺ -، وجعل الله ثواب الصلاة في المسجد الذي نسبه النبي - ﷺ - إلى نفسه مضاعفة ألف مرة عن أي مكان آخر عدا المسجد الحرام.
فهذا جانب من ثناء الله على نبيه - ﷺ -، وعلى كل ما تعلق بجنابه الشريف من الأشخاص والأماكن والأزمان. رزقنا الله اتباعه في الدنيا ورفقته في الآخرة.