أمية جحا تكتب: يوميات فنانة تشكيلية من غزة نزحت قسرا إلى عنبر الولادة القيصرية (2)
تاريخ النشر: 29th, March 2024 GMT
وثقت رسامة الكاريكاتير الفلسطينية أمية جحا في يومياتها ذات الـ10 أجزاء والتي تنشرها الجزيرة نت، الأوضاع الإنسانية القاسية التي تدور أحداثها خلال الحرب الإسرائيلية على غزة، لا سيما محيط مستشفى الشفاء، والذي وصفته منظمة الصحة العالمية في نوفمبر/تشرين الثاني الماضي في تقريرها الدوري بأنه "منطقة موت".
بين يديك عزيزي القارئ الحلقة الثانية من اليوميات، التي تنشر تباعا على مدى الأيام المقبلة وتروي فيها سيدة فلسطينية من حي النصر، برج زغبر بمدينة غزة، ما شاهدته، وهي تحب القطط والعصافير والجيران، وترسم اللوحات، وقد نزحت إلى مستشفى الشفاء بغزة (حتى آخر تواصل معها قبل اقتحام المستشفى للمرة الثانية يوم 18 مارس/آذار 2024) وافترشت بلاطه البارد في انتظار النجاة.
استيقظتُ صبيحة يوم الخميس، قبيل صلاة الفجر، لم أضع المنبه كالعادة، إذ كان صوت القصف العنيف هو المنبه غير المحمود، انتفضت سريعا من فراشي وجلست.
صدمت بمشهد النيام يملؤون المكان!. أطفال وصبايا ونساء وعجائز، المغطى منهم وغير المغطى، فيما تزكم الأنوف رائحة حرق القمامة المتراكمة خارج المشفى، كلهم نيام إلا قلة مستيقظة من النساء، ما أقسى أن يجتثك الخوف والقهر من الخذلان العربي من بيتك وسريرك، لتفترش بلاط أرض المشفى وبلا غطاء!! كان نوم الأطفال يعني لا ضجيج، لا بكاء، ولا صراخ، وحمامات متاحة بلا زحام ولا طابور، وربما تفوز بسويعات أخرى من الراحة والنوم.!
كانت السيدة التي تنام بقربي قد فقدت أختها وبعضا من أولادها شهداء في الحرب، كانت تحرص على النظافة. وتحرص على أن تجعل صغارها ينامون متقاربين بانتظام، كان طفلها الصغير يخشى أصوات الصواريخ، نوبة خوف أصابته أول أيام الحرب، جعلته يعانى الحمى، مما جعل البثور تنتشر خارج جسمه، كانت تحرص على إعطاء الدواء له، وعلى تهوية جسمه بقطعة من الكرتون المقوى.
أما العائلة التي قبالتي فكانت تحوي من قصص الفقد الأليم ما تحويه. الأم لا تزال تعيش على أمل أن تأتيها البشرى بأن ابنها الذي يقطن في برج التاج، والذي تم قصفه يوم الأربعاء في مجزرة اليرموك، لا يزال حيا. تفتح جوالها بين الحين والآخر، تنظر إلى صوره، فتصاب بنوبة من البكاء الأليم! كان أفراد من العائلة يعلمون أنه قد استشهد، لكن أحدا لم يجرؤ على إخبارها بذلك! ابنتها أيضا فقدت زوجها شهيدا قبل 10 أيام، تاركا لها ثلاثة من الأطفال الصغار!
بالجانب الأيسر مني تفترش الأرض عائلة هيام. صبية تزوجت منذ 5 شهور وحامل حديثا، تم قصف بيتها، بينما كان زوجها مسافرا لفترة قصيرة إلى مصر قبيل اندلاع الحرب بأيام. لجأت إلى بيت والديها، أمها تخشى عليها وعلى جنينها من رهبة القصف، قالت لي: ليتني أستطيع أن أخبئها هي وأخوتها في رحمي من جديد!
أختها سندس ذات الـ15 ربيعاً، وأصيبت بحصر في البول من الخوف! كانت دائمة الاهتمام ببشرتها، تضع كريماً مرطباً على وجهها ويديها، قبل وبعد النوم، حتّى أيام الحرب.
تتقاسم العائلات النازحة مساحة الطابق من صالة كبيرة وممرات، دون الرجال، فمنهم من حصل على مساحة متر ونصف متر مربع، ومنهم من حصل على مترين مربعين، ومنهم من أخذ من جنبات الطريق في الممرات مستقرا! بينما تتكدس الحقائب وأكياس الملابس والفراش في كل زاوية، مما يجعل من سير أسِرّة المرضى أمرا في غاية الصعوبة والإرباك، خاصة وأن النازحين نيام!
هذا الطابق مخصص للولادة القيصرية في مشفى الشفاء، ولكنه مع ذلك، صار يعج بجرحى الحرب! مشهدهم كان يدمي القلب.
يوجد حمام خاص لكل غرفة من غرف القسم، كل هذه الحمامات أصبحت للاستخدام العام من قبل النازحين. أنتظر ساعات المساء المتأخرة كي أحظى بفرصة دخول الحمام دون انتظار! دخلت إحدى الغرف، فوجدت صديقة لي بالصدفة، مرافقة لزوجة أخيها المصابة في الحرب، قالت لي "انظري إليها، لقد كنت دوماً أخبرها عنك".
اقتربت منها وكانت مصابة بجروح بليغة، أحدها في دماغها، الذي تم استئصال جزء منه! وإصابة قاسية أخرى في عمودها الفقري، أمسكت زوجة أخيها بيدي بقوة، وصارت تقسم عليّ أن أدعو لها بالشفاء! كان كل جسدها يرتجف، ولا تستطيع السيطرة على حركته! ثم أشارت لصديقتي أن تريني إصابة ظهرها، كان المشهد مريعا، كأن ظهرها قد أصيب بزلزال جعل جلده ولحمه يتشقق بصدعٍ طولي، وتحيط به لفافات الجروح! لم أر في حياتي مثل هذا المشهد الصادم!!
بكيت، ثم مسحت دموعي سريعا، حتى لا تزداد المصابة يأساً وألماً، وخرجت وأنا أبتهل إلى الله أن يمن عليها بالشفاء العاجل.
قالت صديقتي بحزن "لقد أخبرنا الأطباء بأنها قد تُصاب بشللٍ نصفي دائم"! في الغرفة المجاورة لها، يرقد طفل وطفلة، كلاهما أصيب بكسور عدة، وحروق بالغة وتشوهات، اقتربت من الأم المكلومة، وقلت لها: أسأل الله أن يشفي لك طفليك، أجابت بحرقة "أنا عمتهم، أمهم استشهدت هي وباقي الأسرة! وهما لا يعلمان بذلك".
تأثرت كثيرا، كلاهما كان يناديانها طوال الوقت ماما! قلت لها بألمٍ "إذن بقي من الأسرة ولد وبنت وفقط"! قالت بصوت منخفض "هذا ليس ولداً، بل بنت ولكن شعرها احترق بالكامل"! لم أعقب! ورحلت من المكان بصمت، وفي القلب غصةٌ كبيرةٌ! هل يستحق أطفال بعمر الورد كل هذه الأطنان من الصواريخ، لبترهم من عوائلهم، وتشويه ملامحهم!! أي بؤس أخلاقي يتسلح به هذا الاحتلال الجبان، وأي ثارات قادمة صنعها بيديه، وسيجنيها على أيدي هؤلاء الأطفال!!
عدت إلى مكاني، وتكورت على نفسي، وصرت أتخيل حجم الخوف الذي أصاب هؤلاء الجرحى، عندما هاجمهم الصاروخ الغادر في عتمة الليل!! كم مرة صرخوا مستغيثين بماما أو بابا!! وأي رعب أصابهم وهم لا يسمعون إلا صدى أصواتهم! ولا يشتمون إلا رائحة الموت!!
مرت عربة الحضانة عن يساري، كانت تحمل مولوداً، ولد للتو، كم كان جميلاّ! قالت الممرضة وهي تبتسم، اسمه يوسف. تمنيت تصوير المشهد، ولكن العربة مضت سريعا الى حيث غرفة الأم.
ميلاد يوسف جعل غبار الحزن ينقشع عن صدري، ميلاد يوسف هو ميلاد الأمل واليقين بأن هذا الشعب لا ولن يموت، ففي الوقت الذي يقوم فيه الاحتلال باستهداف النساء والأطفال بالقتل، يشاء الله أن يولد يوسف وغيره من عشرات الأطفال!.
لن تشيخ غزة، ولن تصبح عقيما، ستبقى ولوداً ودوداً، تنجب خيرة الأبطال والأفذاذ في كل الميادين.
مساء هذا اليوم كان ضجيج صوت الأطفال لا يطاق. لقد استمر هذا الوضع حتى ما بعد منتصف الليل. كدت أصرخ في الجميع أن اصمتوا وناموا، ولكن اختي أشارت عليّ بالصمت، وقالت غداً تعتادين الأمر، بل ستنامين أيضا وسط هذا الضجيج، وربما أشد منه!
نزحت أختي إلى المشفى منذ الأسبوع الأول للحرب، بعدما تم تهديد بيتها بالقصف! كنت أحزن لأجلها، وهي تتحمل أيضا مسؤولية 6 أطفال معها، بينما يكابد زوجها مشقة توفير الخبز والماء، منذ الصباح الباكر! نمت في ذلك اليوم وأنا أبكي.
لا أتخيل أنني سأحتمل ليلةً إضافيةّ في هذا المكان، ولا أتخيل أنه ستمر بي الأيام هنا، وأنني سأعتاد الضجيج والتقوقع في حيز ضيق جدا، من هذين (المكان) المترين المربعين، الذي يشاركني فيه 15 شخصاً! القصف لم يتوقف طيلة النهار، ولكنه في المساء كان أشد وأرهب!
أمسكت مسبحتي، وصرت أستغفر الله، لأزيل خوفي، وآثرت أن أضع رأسي على وسادتي وأهرب بروحي إلى ركام بيتي، أعيد بناءه من جديد، وأرتب ما تبعثر من أثاثه، وأنفض ما تغبّر منه بالتراب، وألتقط ملابسي وأغسلها وأجففها، وأنصب مرسمي ولوحاتي، ورحت في نومٍ عميق!!
المصدر: الجزيرة
كلمات دلالية: رمضان 1445 هـ حريات
إقرأ أيضاً:
الأونروا توقف التعاقدات مع الجمعيات والمستفيات في غزة
قالت جمعية العودة الصحية والمجتمعية ، مساء السبت 10 مايو 2025 ، إن وكالة غوث وتشغيل اللاجئين الفلسطينيين ( الأونروا ) أوقفت التعاقدات السارية مع الجمعيات الأهلية والمستشفيات التابعة لها ومنها مستشفيات العودة والمعمول بها منذ العام 2011، والتي بموجبها تُقدّم مستشفيات العودة خدمات الولادة الطبيعية والقيصرية والجراحات النسائية والعامة والتخصصية بشكلٍ مجاني.
نص بيان جمعية العودة الصحية والمجتمعية
قامت الأونروا بالوقف الفوري والمفاجئ للتعاقدات والاتفاقيات السارية مع الجمعيات الأهلية والمستشفيات التابعة لها ومنها مستشفيات العودة والمعمول بها منذ العام 2011، والتي بموجبها تُقدّم مستشفيات العودة خدمات الولادة الطبيعية والقيصرية والجراحات النسائية والعامة والتخصصية بشكلٍ مجاني
إن هذا القرار سيُؤثّر بشكلٍ مباشر على خدمات الولادة الطبيعية والقيصرية والجراحات النسائية وبعض الجراحات العامة والتخصصية التي تُقدّمها جمعية العودة بشكلٍ مجاني، والتي تُغطى منذ العام 2011 من خلال الأونروا، وستعمل جمعية العودة على العمل في كافة الانجاهات من أجل البحث عن تمويل لتغطية هذه الخدمات من خلال الشركاء والممولين والمانحين
تجدر الإشارة إلى أن مستشفيات العودة تُقدّم حوالي (1000) تدخل طبي شهريًا بموجب التعاقدات السارية مع الأونروا، وفي ضوء قرار الأونروا الجديد؛ لن تكون مستشفيات العودة قادرة على إجراء هذه التدخلات والتي تشمل الولادة الطبيعية والقيصرية والجراحات النسائية والعامة والتخصصية
في ضوء هذا القرار المفاجئ الصادر عن الأونروا؛ ستُجري العودة مشاوراتها مع وزارة الصحة الفلسطينية وكافة الأطراف ذات العلاقة بالعمل الصحي من أجل البحث عن حلول تُساهم في ردم الفجوة الكبيرة التي ستتركها الأونروا بعد غيابها عن المشهد الصحي الخاص بخدمات الرعاية الصحية الثانوية والثالثية
التزامًا بالقيم والمعتقدات التي تُؤمن بها العودة؛ فإن مستشفيات العودة وبالرغم من القرار المفاجئ ستستمر في تقديم خدمات الولادة الطبيعية والقيصرية والجراحات النسائية حتى نهاية شهر مايو 2025 لحين استكمال كافة المشاورات مع كافة الأطراف ذات العلاقة من أجل وضع حلول لمعالجة الفجوة الكبيرة التي تركتها الأونروا
إن العودة تؤمن بأن الخدمة الصحية حق لكل محتاج، وستستمر في تقديم خدمات الولادة الطبيعية والقيصرية والجراحات النسائية للفئات الهشّة والأكثر هشاشة فقط بشكلٍ مجاني كامل، وستُقدّم هذه الخدمات لجمهور المستفيدات حسب السياسات المعتمدة في جمعية العودة قبل العدوان
المصدر : وكالة سوا اشترك في القائمة البريدية ليصلك آخر الأخبار وكل ما هو جديد المزيد من أخبار غزة المحلية بالصور: اللجنة الشعبية للاجئين بالمغازي تنظّم لقاءً وطنياً لتعزيز السلم الأهلي ودور المخاتير غزة - المجاعة تهدد حياة أكثر من 65 ألف طفل في القطاع شاهد: كتائب القسام تبث مقطع فيديو جديد لكمين رفح الأكثر قراءة حماس: العائلات والعشائر في غزة وقفت سدا منيعا لمنع الفوضى اللجنة التنفيذية تحذر من محاولات إشاعة الفوضى في غزة الإصرار على حق العودة عائلات الأسرى : إسرائيل في طريقها للغرق في وحل غزة عاجل
جميع الحقوق محفوظة لوكالة سوا الإخبارية @ 2025