سودانايل:
2025-07-06@13:39:11 GMT

غياب دَرَاويشُ النيل عن مخيلة نخب حواضر السودان

تاريخ النشر: 30th, March 2024 GMT

زهير عثمان حمد

إن نضال النخب السودانية متجذر بعمق في المشهد الاجتماعي والسياسي المعقد في البلاد. غالباً ما ينبع الصراع بين النخب من الصراع على الموارد والسلطة والسيطرة على مؤسسات الدولة. ويتفاقم هذا الصراع بسبب التنوع العرقي في البلاد والتحدي المتمثل في خلق هوية وطنية متماسكة
ويمكننا استعراض تاريخ التطورات السياسية في السودان.

منذ استقلاله في عام 1956، شهد السودان العديد من التحولات السياسية المهمة:1953 - 1989 تميزت هذه الفترة بالتطورات السياسية والتحديات المتعلقة بقضايا الهوية والحكم. ما بعد 1989: شهد السودان تغيرات في المشهد السياسي، بما في ذلك الانتفاضات والانقلابات العسكرية.تعتبر الحروب الأهلية والانقلابات العسكرية من أبرز ملامح التاريخ السياسي للسودان، حيث أدت إلى فترات من عدم الاستقرار والتحديات الاقتصادية والاجتماعية و كما أثرت السياسات الاستعمارية والحكومات الوطنية المتعاقبة بشكل كبير على الهوية السودانية والوفاق الوطني
تتميز الأمة السودانية بفسيفساء غنية من المجموعات العرقية، ولكل منها لغتها وثقافتها وخلفيتها التاريخية. إن التنوع مصدر قوة ولكنه يطرح أيضًا تحديات فيما يتعلق بالحكم والوحدة الوطنية. ويجب على النخب أن تتغلب على هذه التعقيدات لتعزيز الولاء الوطني ومعالجة القضايا الاجتماعية
يتطلب خلق الولاء الوطني في مثل هذا السياق المتنوع فهمًا عميقًا للأنسجة الاجتماعية المختلفة التي تشكل الأمة السودانية. وهو يتضمن الاعتراف بالمساهمات الفريدة لكل مجموعة عرقية وضمان سماع جميع الأصوات وتمثيلها في العملية السياسية. تواجه النخب التحدي المتمثل في تجاوز مصالحها للعمل نحو هدف مشترك يفيد الأمة بأكملها
والواقع أن المشكلة السودانية لها بعد اجتماعي كبير. تعتبر قضايا مثل التوزيع العادل للموارد، والحصول على التعليم، والرعاية الصحية، والفرص الاقتصادية حاسمة. إن معالجة هذه التحديات الاجتماعية أمر ضروري للسلام والاستقرار. يجب على النخب إعطاء الأولوية لرفاهية جميع المواطنين والعمل من أجل مجتمع أكثر شمولاً وإنصافًا
باختصار، تم تكليف النخب السودانية بمسؤولية معقدة تتمثل في فهم التنوع العرقي المعقد في البلاد وتعزيز الولاء الوطني. وينطوي ذلك على معالجة التحديات الاجتماعية التي تكمن وراء جزء كبير من الصراع والعمل من أجل سودان موحد ومزدهر. إن الطريق إلى الأمام يمر عبر الحكم الشامل، والتنمية العادلة، واحترام الثراء الثقافي الذي يميز الأمة السودانية.
يمكن أن يعزى فشل النخب السودانية في بناء الولاء الوطني إلى عدة عوامل، بما في ذلك عدم القدرة على خلق أيديولوجية شاملة يتردد صداها مع الضمير السوداني المتنوع. تاريخياً، هيمنت على الدولة السودانية نخبة ضيقة سعت في كثير من الأحيان إلى فرض نسختها من الهوية العربية الإسلامية على البلاد، مما أدى إلى نفور غير العرب وغير المسلمين وأدى إلى الصراع. ولم يفشل فرض الهوية هذا في توحيد الأمة فحسب، بل أدى أيضًا إلى تفاقم الانقسامات وإضعاف ارتباط المجموعات المختلفة بالدولة
علاوة على ذلك، فإن سياسة التعريب ما بعد الاستعمار، التي تهدف إلى نشر اللغة العربية بسرعة في جميع أنحاء منطقة متعددة اللغات، أثارت العداء والمقاومة، مما أدى إلى تقويض الوحدة الوطنية. وقد شحذت هذه السياسة الهويات غير العربية، وفي بعض الحالات، عززت هوية "إفريقية" واعية بذاتها، والتي تنطوي على مجتمع تعددي ثقافيًا. وقد كان هذا واضحاً بشكل خاص في مناطق مثل دارفور، حيث رافقت سياسة التعريب نمو أيديولوجية التفوق الثقافي والعنصري العربي
إن التحدي الذي يواجه النخب السودانية هو تطوير أيديولوجية تعكس بصدق الضمير السوداني - ضمير متنوع ومتعدد الأوجه. ستحتاج مثل هذه الأيديولوجية إلى احتضان التعددية العرقية والثقافية في البلاد وتعزيز الشعور بالمصير المشترك والهدف المشترك بين جميع أفراد الشعب السوداني. وسوف يتطلب الأمر الابتعاد عن ممارسات الإقصاء والتهميش السابقة والتحرك نحو الحكم الشامل الذي يحترم ويحتفل بالنسيج الثقافي الغني للبلاد
في الجوهر، يتطلب بناء الولاء الوطني في السودان فهمًا عميقًا للنسيج الاجتماعي المعقد للأمة والالتزام بأيديولوجية تعزز الوحدة في التنوع، بدلاً من الانقسام والخلاف
اتسم الوضع في السودان بفرض هوية محددة، وهو ما كان عاملاً مهماً في الصراع الدائر. وقد أدت هيمنة ثقافة مجموعة عرقية معينة ورؤيتها السياسية إلى تهميش الهويات الأخرى وساهمت في الصراع على السلطة والموارد. وقد أدى هذا الفرض إلى تفاقم التوترات وأجج الحرب، لأنه يتجاهل التنوع العرقي الغني في البلاد والحاجة إلى هوية وطنية شاملة تعكس كافة شرائح السكان
تم وصف الصراعات في السودان، وخاصة في مناطق مثل دارفور، بأنها ناشئة عن سياسات الحكومة المركزية التي تفضل هوية واحدة على غيرها، مما يؤدي إلى مقاومة المجموعات المهمشة¹. تظهر المناقشات حول الهويات السودانية أن الحدود بين الهويات المختلفة مائعة، وأن الهويات المتنوعة للبلاد تأثرت بالعولمة والهجرة والروابط الاجتماعية بين المجموعات العرقية
وقد واجهت الجهود الرامية إلى إنشاء هوية وطنية متماسكة في السودان تحديات بسبب هذه الديناميكيات. إن الحاجة إلى أيديولوجية تشمل الضمير السوداني وتتيح للجميع أن يجدوا أنفسهم فيها أمر بالغ الأهمية لبناء الولاء والسلام الوطني. لقد تم اقتراح التعددية الثقافية كنموذج يمكن أن يساعد في استيعاب الهويات المتنوعة للبلاد وتعزيز الاستقرار باختصار، كان فرض هوية محددة على جميع سكان السودان مصدرًا للصراع ويظل تحديًا يجب معالجته من خلال سياسات شاملة تعترف بالتنوع العرقي في البلاد وتحتفي به

في السودان، تُعتبر الأحزاب السياسية جزءًا أساسيًا من النسيج السياسي، لكنها تواجه تحديات عديدة تتعلق بالتنظيم والهيكلية. الحزب الوطني الأمة، على سبيل المثال، كان تحت قيادة الصادق المهدي منذ الستينيات وحتى وفاته، وقد شهد الحزب تحولات في القيادة والانشقاقات. ومن ناحية أخرى، تواجه الأحزاب الجديدة تحديات متعلقة بالتنظيم والبنية، مما يؤثر على قدرتها على التحول إلى كيانات سياسية فعالة
المثقفون في السودان، كما في أي مجتمع آخر، يلعبون دورًا مهمًا في تشكيل الوعي الاجتماعي والسياسي. ومع ذلك، قد يُنظر إلى بعض المثقفين على أنهم انغمسوا في الصراعات السياسية والأيديولوجية دون الاهتمام الكافي بقضايا التنمية المستدامة والرفاه الإنساني
وفقًا لبعض الدراسات، هناك تحديات كبيرة تواجه تطبيق مؤشرات التنمية المستدامة في السودان، بما في ذلك ضعف البنية التحتية، نقص الموارد، والحاجة إلى سياسات فعالة لتحقيق التنمية المستدامة وتشير الأبحاث إلى ضرورة الاهتمام بتطبيق هذه المؤشرات لتحقيق التنمية التي تلبي حاجات الحاضر دون المساس بقدرة الأجيال القادمة
من المهم أن يساهم المثقفون في تعزيز الوعي بأهمية التنمية المستدامة وأن يكونوا جزءًا من الحل، من خلال المشاركة في الحوارات الوطنية ودعم السياسات التي تعزز الاستدامة والتنمية الشاملة
التحديات التي تواجه الأحزاب السياسية في السودان تشمل التغيرات الديموغرافية، تراجع القوى التقليدية، تجزئة القوى السياسية، ظهور فاعلين جدد، وفقدان الاهتمام بالأحزاب السياسية3. هذه العوامل تسهم في تشكيل مشهد سياسي معقد يتطلب من الأحزاب السياسية التكيف وإعادة النظر في استراتيجياتها لتعزيز دورها في العملية الديمقراطية. لتحقيق ذلك، من الضروري أن تعمل الأحزاب على بناء هياكل تنظيمية قوية وشفافة، وتطوير برامج سياسية تعبر عن تطلعات الشعب السوداني، وتشجيع المشاركة السياسية الواسعة لضمان تمثيل جميع شرائح المجتمع. كما يجب على الأحزاب الجديدة التركيز على تعزيز قدراتها التنظيمية والتواصل مع قواعدها الشعبية لتصبح أكثر فعالية وتأثيرًا في الساحة السياسية
إصلاح التجربة السياسية للنخب في السودان هو أمر ممكن وضروري لتحقيق دولة تواكب العصر وتعبر عن جميع مكونات المجتمع السوداني. الدراسات والتحليلات تشير إلى أن هناك حاجة ماسة لإعادة النظر في المناهج والأساليب الموروثة لدى النخبة السياسية والتخلص من جميع أشكال الخلل يتطلب ذلك تبني مقاربات جديدة تشمل الحوار والتوافق وتعزيز مساحات الحرية والديمقراطية وتحقيق المصالحة الوطنية. إصلاح القطاع الأمني: تحديد دور العناصر الأمنية في الاقتصاد والسياسة. التمثيل الشامل و ضمان تمثيل جميع القبائل والطوائف في العملية السياسية. التجديد الديمقراطي: تطوير معايير تدعم الانتقال الديمقراطي وتحترم التنوع الثقافي والاجتماعي. من خلال هذه الخطوات، يمكن للنخب السياسية في السودان أن تساهم في بناء دولة تعددية تحترم التنوع وتعمل على تحقيق الاستقرار والتنمية لجميع مواطنيها
نعم، تشير الدراسات والتحليلات إلى أن هناك خللًا في تكوين النخب السياسية السودانية منذ الاستقلال وحتى اليوم. يُعتقد على نطاق واسع أن النخب السياسية لم تتمكن من بناء وتجديد الحياة وفق رؤية وأسس مدروسة لتحقيق الاستقرار السياسي والاقتصادي والتطور. كما يُشير التحليل إلى أن النخب السياسية تعاني من تناقض الخطاب، والصراع، والعجز، وعدم القدرة على الابتكار
ويُعتبر غياب الرؤى الفكرية الاستراتيجية الواضحة والفشل في ابتكار صيغة عادلة وناجحة لإدارة السلطة السياسية على أساس من حقوق المواطنة الشاملة من الأسباب الرئيسية لهذا الخلل. وقد أدى هذا إلى تجدد الأزمات والصراعات، مما يُظهر الحاجة إلى إعادة النظر في المناهج والأساليب الموروثة لدى النخبة السياسية والتخلص من جميع أشكال الخلل
لذلك، يُعد الحوار وتعزيز مساحات الحرية والديمقراطية وتحقيق المصالحة الوطنية من الخطوات الضرورية لإصلاح الوضع السياسي في السودان , أيتها الخب كل المطلوب بعد منحة الحرب والدمار أمر بسيط أن نتفهم مطالب العامة من كل شعوب السودان لقد أنتهي زمن القمع والهيمنة بالقوة علي السلطة والثروة ,ان نجح دراويش النيل في انتزاع حقوق منكم سوف يولد جيل من أبناء الغابة والصحراء يعرفون السودان وكل أقاليمه قطعة قطعة والاعراق والتاريخ وأنتم في جهالة التعالي وظن أنكم خير أمة أخرجت للناس متحذلقين في الصالونات العامرة بروائح النبيذ الفاخر والعطور الباريسية في عزلة تامة عن الشعوب السودانية .

zuhair.osman@aol.com  

المصدر: سودانايل

كلمات دلالية: التنمیة المستدامة الأحزاب السیاسیة النخب السودانیة الولاء الوطنی فی السودان السیاسیة ا فی البلاد

إقرأ أيضاً:

الهجرة في زمن الخذلان والبلطجة السياسية

أولا: نافذة التاريخ

حين نتناول حادث الهجرة النبوية الشريفة في سياقه الزمني نجد عجبا. فالشخصية المحورية التي تدور حولها أحداث الهجرة ليس رجلا عاديا، وإنما هو رسول يحمل رسالة فوق العادة في نصوصها وهدفها ومحتواها.

فأما من حيث نصوصها: فهي تمثل الأساس والمصدر الأول لدين معجزته "كتاب يتحدى"، والكلمة الأولى في هذا الكتاب "اقرأ".

وأما من حيث هدفها: فهي تستهدف هداية البشر أفرادا ومجتمعات، ويرتبط بها مصير البشر سعادة أو شقاء، ونجاة وفوزا.. أو هلاكا ودمارا. وهدف الرسالة الارتقاء بحياتهم وإنسانيتهم بقانون الامتداد في الإيمان والعمران ليتبوأوا ما يليق بهم في قيادة الحياة ضمن منظومة الكون والوجود الكبير.

وأما من حيث المحتوى: فمن خصائصها أن الحق فوق القوة، وأن العدل فوق الخصومة، وأن إنسانية الإنسان فوق كل اعتبار.

وقد تضمنت تلك الرسالة أعظم عناصر تربية الإرادة الحرة في التكوين الإنساني بعيدا عن الضغط والإكراه. واستهدفت أن تكون عملية ضبط السلوك الإنساني من قبيل الضبط الإرادي وليس الضبط القهري، فمراقبة الله للفرد وابتغاء رضاه هي الدافع الأقوى والحافز الأعلى في الإقبال على الفعل إيجابا وسلبا.

بين الحزن والأمل

لذلك يمزج التاريخ في تصويره وتوثيقه لحدث الهجرة بين أمرين:

الأول: نغمة الحزن والإحساس بالغربة حين قرر الهجرة ومفارقة الوطن، وتذكر الروايات أن رسول الله ﷺ بعد أن تمادى كفار قريش في إيذائه بكل صنوف الشر قرر الانتقال من تلك البيئة رغم أنها مسقط الرأس ومحضن الطفولة وموطن الذكريات، فقال: "والله إنك لخير أرض الله وأحب أرضٍ إليَّ ولولا أن أهلك أخرجوني منك ما خرجت منك".

الثاني: أن البطل المهاجر قسرا لم تنكسر إرادته أمام ضغط هؤلاء الذين هجَّروه، ولم تهن عزيمته في استرداد حقه في العودة إلى الوطن ولو بعد حين.

مخزون الأمل النبوي في العودة لذات الوطن لم يكن مجرد أحلام يقظة معطرة بحنين وشوق لفرحة الانتصار، وإنما كان ثقة مطلقة في معية الله له ولصاحبه حين راود القلق والحزن رفيق دربه فطمأنه قائلا: "ما ظنك باثنين الله ثالثهما".

وفي الغار الضيق والمحاصر ومن طرف خفي، كانت الاستجابة فورية ومتوجة بتحقيق الوعد الحق، ومكللة بأكاليل النصر في حياة النبي العظيم محمد ﷺ بينما الإعلان عنها كان مؤجلا.

ثانيا: البلطجة السياسية

في ظروفنا الراهنة يعيش الوطن الإسلامي الكبير زمن الوجع المؤلم أو قل: عصر الأزمات وصفا وحقيقة وبالجمع. جموع بشرية مدفوعة للهجرة قسرا، باعثها الأول هو اليأس من الحصول على مجرد وجبة طعام، فضلا عن فرصة حياة؛ هروبا من أمطار القذائف التي تتساقط على رؤوس الناس، وتحصد كل يوم مئات القتلى والجرحى في عملية إبادة جماعية ليس لها نظير في تاريخ الحروب الحديثة.

ومن العجيب الغريب أن البلطجة السياسية العابرة للقارات لزعامات فقدت إنسانيتها، تعتمد القتل والإبادة سمة التنوير، ولا تكتفي بذلك وإنما تلوم الضحية وتجعل القاتل بطلا، وعلى المستوى الدولي تحميه من الملاحقة بجرائم الحرب التي ارتكبها، ثم تتدخل وتحميه داخل مجتمعه حتى من جرائم فساد مالي وأخلاقي بين بني قومه.

وعجيب أن تأتي هذه الذكرى وملايين النفوس من البشر تعاني انكسارا في كبريائها وكرامتها، لأنها لا تهاجر، وإنما تُهَجَّر قسرا من بلادها تحت قذائف المدافع وغارات الطيران واستعمال كل أدوات القتل والتدمير، وهناك من يطمع في أرضها ليجعل منها منتجع "الريفييرا" في الشرق الأوسط.

وإلى الآن كثير من هؤلاء المهجرين قسريا يعانون مرارة الاحتجاز في معسكرات المحتجزين المشردين لأنهم من جنس معين، وليسوا من أوكرانيا، ومن خلفية معينة، وليسوا من البيض، ومن ثم فلم يحظوا بما حظيت به بعض الحيوانات المائية من الحماية والرعاية وضمان المأمن مهما كانت قريبة من الصياد الغادر، حيث القانون الدولي يوفر الحماية لهذه الحيوانات المائية، بينما لا يوفرها لهؤلاء المهجرين "قسريا" الذين كانوا أعزّة في أقوامهم، ولهم حياة كريمة ومستقرة وآمنة، يملكون فيها حقولا وبيوتا ومصانع ومتاجر في أوطانهم.

وبينما تبلغ المعاناة ذروتها لملايين المهجرين قسريا ينظر إليهم العالم الغربي، وبخاصة اليمين المتطرف -في مجتمعات المهجر- على أنهم "مشكلة فائض سكاني" تهدد استقراره وتغير بنيته الاجتماعية وتؤثر في نسيجه النقي الذي يجب أن يظل نقيا.

وبرغم مخزون الحزن المحبط يتساءل العقل: هل يوجد في مقابل كل ذلك الحزن أمل بوعد جديد لعودة كل من هجروا قسرا..؟

ثالثا: زعماء الخذلان والعار

أزمة الهجرة رغم تكرارها وفداحتها لم يتعرض لها إلا قلة قليلة بالدراسات الجادة تحقيقا وتحليلا، ومع يقيننا أن هناك باحثين غاية في المنهجية العلمية إلا أن أصواتهم وربما نتائج أبحاثهم لن تكون محل عناية في ظل منظومة عربية مهترئة لا تنشغل بالبحث العلمي ولا تعيره اهتماما، ولا تعتمد غير القوة الخشنة في التعامل مع كل المشكلات، ولو كانت نفسية وأخلاقية أو اجتماعية، وهو منطق لا يؤمن بقوة العقل أو العلم بقدر ما يؤمن بمنطق "الفهلوة" والضحك على الناس وخداع الجماهير، واستغلال بساطتهم وسذاجتهم، والتغرير بهم واللعب في عقولهم عن طريق الأذرع الإعلامية التي تضمن مساحة من الجدل كوسيلة لتفريغ طاقات الغضب، أو تحويل الاهتمام لأمور بعيدة عن القضايا الحيوية التي تتمركز حولها اهتمامات الناس، وبخاصة الطبقات الشعبية.

رابعا: أسئلة مسكوت عنها

الهجرة من مكان إلى مكان لا تتم عادة إلا إذا كانت هناك مشكلة في المكان الأول، فهل الهجرة تشكل مشكلة في زمن العبث المعاصر؟ وإذا تحولت المشكلة إلى أزمة فكيف يمكن أن نواجهها وأن نوجهها؟ وكيف نطبق نصوص الهجرة في كتابنا الخالد لنواجه بها أزماتنا المعاصرة؟ وهل يمكن أن نجد تشابها في حقل التطبيق بين الواقع الذي فرضته الحروب العبثية وبين النصوص؟ فهل فعلا لدينا أزمة؟ أم أن كل شيء على ما يرام؟

الباحث الجاد سيواجه بأسئلة كثيرة مهمة ومشروعة تصدع الرأس بحثا عن الأسباب الحقيقية التي تجعل المواطن الحر يترك بلده ووطنه وأهله ويذهب بعيدا ليعيش معاناة الغربة والوحشة، والضياع أحيانا.

وهي أسئلة مهمة إذا أردنا توصيف الظاهرة وبحث أسبابها ودوافعها وبواعثها، وحالة المهاجر ذاته وظروفه وبيئته.

وهي أسئلة مشروعة لأن بعض هذه الأسئلة يتصل بغياب المشروعية القانونية لكثير من الممارسات التي تتم في غيبة القانون ذاته، أو بالازدواجية في تطبيقه من جهة، وبعضها الآخر يرتبط بدراسة سيكولوجية الناس على مدى نصف القرن الأخير وما طرأ عليها من تغييرات وعناصر جديدة أكثرها سلبي من جهة ثانية.

وقبل الدخول في الموضوع عرضا وتحليلا نود أن نسأل أسئلة تتصل بالواقع:

• لماذا يهاجر الإنسان أصلا ويترك وطنه وأهله ويتخلى عن كل الروابط التي جمعته بالمكان والزمان والناس..؟ ما الأشياء التي تجعل الوطن يضيق بأهله؟

• هل الضيق في المساحة المكانية أو الجغرافية ومن ثم الضيق في مصادر الثروة وفقدان فرص العمل هو الدافع إلى الهجرة..؟

• أم هو في غياب سلطان الدولة على مؤسساتها بعدما توغلت بعض هذه المؤسسات، وأصبحت تتصرف وتمارس دورها لا كمؤسسة في دولة، وإنما كدولة فوق الدولة لا تخضع للقانون العام، وكأن كل مؤسسة جزيرة منعزلة تفعل ما يحلو لها، وكأنه لا رابط يربطها بالنظام العام الذي يحكم المجتمع؟

• أم أن المسألة ظاهرة فساد تجتاح العالم كله بما فيها الدول الكبرى، نتيجة الديون العامة ونفوذ مؤسسات المال الدولية وشروط الممول، غير أنها تظهر جلية واضحة في الدول الصغرى ودول العالم الثالث نتيجة ضعف الأنظمة واهترائها وعدم قدرتها على ممارسة الشفافية خوفا من الفساد المتفشي..؟

• وإذا كان الأمر كذلك فلماذا يهاجر مواطنو العالم الثالث بينما مواطنو الشمال لا يتركون بلادهم.؟

• هل التشرذم والهجرة والمعاناة لنا وحدنا، بينما هم لهم وحدهم الثراء والثروة والاستقرار؟

• وأين الخطط الخمسية والعشرية والإنجازات التي تحدثوا عنها في العالم الثالث؟ أين التنمية والنهضة والدخول في الركب الحضاري والاستفادة من التكنولوجيا الجديدة في تنمية الموارد والمواهب والاكتفاء الذاتي والعمل على استقلال القرار..؟

• أم هو الضيق في مساحة الحرية وفي فقدان الضمير، وانتشار الوساطة والمحسوبية، وشيوع الفساد وغياب الرقابة، والازدواجية في تطبيق القانون ذاته حيث يطبق بحزم على أناس بينما لا يُسأل آخرون من أين لكم هذا.. ومن ثم تكون الأزمة أخلاقية في الأصل والمنشأ، تولد منها الفساد والاستغلال والاحتكار وإساءة استعمال الثروة؟

خامسا: الاستبداد واختلال الحال

• أم أن الأزمة في اختلال الحال وإساءة استعمال السلطة واستغلال النفوذ، واحتلال الوطن بوجود مستعمر محتل من الخارج، أو دكتاتور محتل من الداخل يصادر الحريات ويحطم القدرات والكفاءات، ويحقر أهل العلم ويقرب الجهلاء.. فيُقَرّبُ الدنيء ويُتهم البريء، ويحب المنافق ويقدم الموافق؟

الواقع يخبرنا بأن كل هذه العوامل أدت إلى هجرة العقول من موطنها الأصلي لتُستثمر أو لتُستنزف في بلد آخر، كما يحدث الآن في الكفاءات والعقول العربية المهاجرة من أوطاننا.

أسئلة تجعل الباحث حيران لا يعرف من أين يبدأ في ترميم الصورة وإعادة رسم الملامح، ولا من أين تبدأ طرق المعالجة بعد أن اتسع الخرق وأصيب الإنسان في إرادته فأضحى مشلولا بين الحياة والموت، يصدق عليه بيت الشعر الذي يقول:

أمسلمون وأمة أشلاء     لا ميتون ولا هم أحياء

وأخيرا: كارثة تسطيح العقول وتجريف القيم

أمام كل هذا الكم من تشخيص الواقع المؤلم يطمئنك كَتَبة الأنظمة وسدنة إعلامها فهم يجتهدون في تصوير الواقع بأنه وردي، وأن الحياة "بمبية" اللون، ويستدلون على ذلك بزيادة عدد الهواتف الجوالة وزيادة استيراد السيارات، ومن ثم فالناس يعيشون في التبات والنبات وينجبون صبيانا وبنات، كما يقول كتبة الأمن والطبقة المخملية!

كارثة تسطيح العقول هي أول تلك الأزمات، حيث تظهر آثارها في زمن الوجع الحاد، وترتد بقوة وبشدة مخيفة على من فعلوها وسطّحوا عقول هؤلاء وحولوهم إلى مجرد بلطجية واستعملوهم في فترة من الفترات وسيلتهم في إسكات الخصوم وتهديد حياتهم.

أحسب أن حالات اللا مسؤولية والفوضى والعبثية والإحباط أغلبها في التحليل النهائي يعود لغياب مشروع قومي أو وطني كبير تلتقي فيه إرادة الجماهير مع آمالها في التطور والتغيير والنهضة؛ تلاقيا حرا بعيدا عن حشد القوى الخشنة أو القوى الناعمة لشعارات مفرغة من محتواها تسببت في ضياع كبير يستشعره الآن الخاصة والعامة ومن يملكون ومن لا يملكون.

العبث السياسي الذي تعيشه جماهير الوطن الكبير مخيف وخطير، وينبئك بخبرة الواقع وتحليل الأحداث وتراكم المواقف المتشابهة أن القطار خرج بالقطع عن القضبان، وأن مهمة المحولجي لم تعد تجدي، وأن أدوات التحذير لديه لم تعد مسموعة وسط صراخ الركاب وضجيج العجلات التي تتعثر خارج الشريط الحديدي. عوامل الإغاثة والإنقاذ يجب أن تكون في حالة استعداد تام لإنقاذ الضحايا، لأنهم سيكونون بالملايين.

وأزمة الهجرة المعاصرة في سوريا وليبيا واليمن غيرها لن تكون النهائية، لأنها نموذج صغير لحالات الاستبداد والفساد والإحباط التي تنتشر وسط شعوب الأمة، والخوف كله أن يتحول هذا الإحباط إلى العقل الجمعي الذي يسود في الأزمات فلا يترك فرصة لعقل الفرد أن يفكر قبل الإقدام على الخطر، وهذا ما يخشاه المهتمون بالوطن شعوبا وثقافة وتاريخا، والخشية تحديدا من حدوث حالة هياج عشوائية تأكل الأخضر واليابس ولا تبقي ولا تذر، لأنها لا تملك أدوات التمييز بين ما هو من ممتلكات الشعب، وما هو ملك سادة الأنظمة وأعوانهم.

وثمة سؤال يرتبط بالحديث عن هجرة القلوب من الارتباط بغير الله ليكون ارتباطها بالله الواحد طلبا للهداية والرشد، "فَآمَنَ لَهُ لُوطٌ وَقَالَ إِنِّي مُهَاجِرٌ إِلَىٰ رَبِّي إِنَّهُ هُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيم" (العنكبوت: 26)؛ فهل لا يزال لهذه المعاني مكان بين ضجيج السعار العالي حول تحسين المعيشة، وهتافات الجائعين وتظاهراتهم للمطالبة بتحسين أحوالهم؟

وثمة سؤال آخر: هل المعاني الروحانية العظيمة عن الهجرة والفتح والجهاد والصبر وقيام الليل وأداء الفرائض؛ لا يزال لها سوق وسط سيطرة تجار العلمانية وأدعياء الحداثة على إعلامنا؛ صحفا وجرائد ومجلات وقنوات فضائية؟

• هل بقي لهذه الروحانيات مكان وسط بقايا الإنسان الذي تضافرت مؤسسات الشر على تحطيم قيمه وتغييب إيمانه؛ وضغط رسالته ووجوده وبقائه في البحث عن تأمين البيت والزيت والطعام والجنس فقط؟

• هل بقي وسط هذه الغرائب والخرائب مكان لسلطان العقل والقلب والمشاعر السامية والوجدان النظيف؟ "وَمَنْ يُهَاجِرْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ يَجِدْ فِي الْأَرْضِ مُرَاغَما كَثِيرا وَسَعَة وَمَنْ يَخْرُجْ مِنْ بَيْتِهِ مُهَاجِرا إِلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ ثُمَّ يُدْرِكْهُ الْمَوْتُ فَقَدْ وَقَعَ أَجْرُهُ عَلَى اللَّهِ وَكَانَ اللَّهُ غَفُورا رَحِيما" (النساء: 100).

• هل بقي من هذه المعاني العظيمة شيء.. أم أن تخريب شحرور وجهوده في هز الثوابت وخلخة العقائد، وغرور كيال الاكتشافات، وبحيرى سمسار التشكيك والتدليس، ومنتصر للباطل دوما، وعيسى بطل التزوير والتحرير من كل القيم، وماهر في الصراخ والنعي على البخاري ومناهج الأزهر، وذلك المجنون بحلم تحويل الحج من مكة إلى طور سيناء، وغيرهم من كتيبة الأذرع المستأجرة قد طال كل شيء، ونال من كل قيمة واستباح كل مقدس..؟

فإذا كانت الهجرة حدثا من أحداث التاريخ، فإن التاريخ هو ابنها البكر، فقد ولد من رحمها، وبها كانت بدايته. وليطمئن كل المهاجرين، فليست الهجرة إلا بداية التاريخ، وليست أبدا نهايته.

سلام على كل من هاجر، ولم يجد بعد مأواه.. وكل عام وأنتم بخير.

مقالات مشابهة

  • في أفق تفعيل الحكم الذاتي بالصحراء.. دعوات لتمكين نخب جديدة وتقاعد الوجوه التقليدية
  • أغلقت معبرا تجاريا.. جنوب السودان تنشر مئات المقاتلين على الحدود السودانية
  • “الخارجية السودانية” تكشف محاولات دولة الإمارات لعرقلة صدور إدانات دولية ضد الدعم السريع
  • شاهد بالصورة والفيديو.. شاب هندي يفاجئ المتابعين ويثير ضحكاتهم بتحدثه الدارجية السودانية بطلاقة (عندنا في السودان مافي رطوبة وأنا من العيلفون والمسيد)
  • مركز الملك سلمان للإغاثة يوزّع 500 سلة غذائية في محافظتي قيسان والدمازين بولاية النيل الأزرق بالسودان
  • الخطوط الجوية السودانية «سودانير» تعلن تعليق جميع رحلاتها
  • الهجرة في زمن الخذلان والبلطجة السياسية
  • الصحة السودانية تقدم معالجة سريرية الناجيات من العنف الجنسي في 25 مركزاً صحياً
  • أين النخب العربية من حرب غزة؟
  • بمشاركة السعودية والإمارات ومصر.. أمريكا تستضيف مؤتمراً وزارياً لبحث الأزمة السودانية