مصطفى الكيلاني يكتب.. رحلة في عالم «جودر» الساحر
تاريخ النشر: 5th, April 2024 GMT
شهدت الدراما المصرية والعربية فى السنوات الأخيرة طفرةً ملحوظةً فى الجودة والإنتاج، ولعل مسلسل «جودر» خير دليلٍ على ذلك. فمنذ اللحظة الأولى لعرضه، استطاع المسلسل أن يخطف الأنظار ويأسر القلوب، حاصداً إعجاب النقاد والمشاهدين على حد سواء. فما الذى ميّز «جودر» عن غيره من المسلسلات، وما العناصر التى ساهمت فى نجاحه الباهر؟
أول ما يلفت الانتباه فى «جودر» هو القصة المشوقة التى صاغها السيناريست أنور عبدالمغيث ببراعةٍ فائقة.
وقد ساهم أداء الممثلين المتميز فى إضفاء الحياة على الشخصيات، فجاءت كل شخصيةٍ نابضةً بالحياة ومؤثرةً فى المشاهد. فقد استطاع كل ممثلٍ أن يتقمص دوره ببراعةٍ وأن ينقل مشاعر الشخصية وأحاسيسها إلى المشاهدين. حتى فى الأدوار الصغيرة، فلم تجد شخصية ثانوية ضعيفة، وقدم ياسر جلال الشخصيتين الرئيسيتين، «شهريار وجودر» بتمايز واضح بينهما، مع موهبة وليد فواز وياسر الطوبجى وأداء جيد لكل الممثلين، مع اختيار مواهب جديدة فى الأدوار الصغيرة، فلم نجد حتى فى المجاميع أى هنات.
ولا يمكن الحديث عن تميز «جودر» دون الإشادة بدور المخرج إسلام خيرى الذى استطاع أن يترجم السيناريو إلى مشاهد بصريةٍ ساحرة. فالمسلسل يتميز بإخراجٍ ديناميكى ومبتكر، يجمع بين اللقطات الواسعة والمشاهد القريبة، ويستخدم المؤثرات البصرية بشكلٍ مدروسٍ وفعال. وقد ساهم التصوير السينمائى الرائع فى إبراز جماليات الصورة، ونقل المشاهد إلى عالمٍ ملىءٍ بالسحر والخيال، مع إدارة محكمة للمثلين، واختيار مميز لأماكن التصوير الخارجى فى المغرب.
ولعل أحد أهم عناصر تميز «جودر» هو دقة الجرافيك الذى نفذته شركة «أروما» شريك الإنتاج، وجودة تصميم الديكور الذى صممه أحمد فايز، الذى تولى أيضاً الإشراف الفنى على العمل، استخدم المسلسل أحدث التقنيات فى مجال المؤثرات البصرية، فجاءت المشاهد الخيالية واقعيةً بشكلٍ مذهل. كما تم تصميم الديكورات بعنايةٍ فائقة، لتناسب أجواء المسلسل وتساهم فى نقل المشاهد إلى عالمه الساحر. وقد ساهم هذا الاهتمام بالتفاصيل فى إضفاء مزيدٍ من الواقعية على المسلسل، وجعل المشاهدين ينغمسون فى عالمه الخيالى، وكذلك ساهمت الأزياء التى صممتها منى التونسى لكل شخصية فى صناعة صورة أكثر إبهاراً.
وساهمت حرفية مدير التصوير تيمور تيمور فى جعل الصورة نابضة بالحياة، واستطاع مع المخرج إسلام خيرى والمونتير رحيب العويلى أن يجعلنا نستمتع بصورة لم نجدها مسبقاً فى أى عمل مصرى أو عربى، حيث اعتمد المخرج على صناعة كادرات معبرة تماماً عن مضمون الدراما مع استخدام الإضاءة المناسبة فى كل مشهد ولكل شخصية. موسيقى تتر البداية التى صنعها عزيز الشافعى، والموسيقى التصويرية التى ألَّفها شادى مؤنس فيها مزج عظيم ما بين حالة «ألف ليلة وليلة»، وموسيقى معاصرة، لم نعتدها مسبقاً فى أى تجربة لتقديم الفانتازيا الأشهر فى التاريخ، بل اعتدنا على سماع سيمفونية شهرزاد لكورساكوف فى معظم الأعمال السابقة، والتى أعطانا منها شادى مؤنس لمحة بسيطة فى الحلقة الأولى ولم يستخدمها تالياً.
يمكن القول بأن «جودر» قد نجح فى تقديم تجربةٍ دراميةٍ متكاملةٍ وممتعة، استطاعت أن تأسر قلوب المشاهدين وتنال إعجاب النقاد. فالمسلسل يجمع بين عناصر النجاح كافة، من قصةٍ مشوقة وإخراج متميز وأداء تمثيلى رائعٍ، فضلاً عن الجرافيك والديكورات المبهرة. ولا شك أن «جودر» سيظل علامة فارقة فى تاريخ الدراما المصرية والعربية، وسيُذكر كأحد المسلسلات التى ساهمت فى الارتقاء بالذوق العام وتقديم محتوى درامى عالى الجودة.
«جودر» هو عمل جماعى بامتياز، فقد ساهم فيه العديد من المبدعين المصريين، من كاتب ومخرج وممثلين وفنيين. وقد أبرز هذا العمل الجماعى الإبداع المصرى فى مجال الدراما التليفزيونية، وأثبت أن الدراما المصرية قادرةٌ على منافسة الدراما العالمية.
هو مسلسلٌ استثنائىٌّ بكل المقاييس، ويتفق الجميع على أن «جودر» هو التجربة الدرامية الأبرز فى رمضان 2024، وأنه عمل فنى متكامل يستحق المشاهدة والتقدير.
المصدر: الوطن
كلمات دلالية: الدراما السباق الرمضانى جودر
إقرأ أيضاً:
الفيلم الكوري مجنونة جدا.. لعنة منتصف الليل تكشف الحقائق المخفية
عالجت السينما موضوع الانقسام بين الذات التي يراها المجتمع والدوافع الخفية الأكثر قتامة التي تقف خلف السلوكيات الغريبة التي لا تتسق معها. وجسّدت كلاسيكيات الرعب المبكرة مثل "دكتور جيكل ومستر هايد" (Dr. Jekyll and Mr. Hyde) هذه الثنائية حرفيا، إذ أظهرت رجلا محترما في حالة حرب مع الأنا البديلة العنيفة، محوِّلة الصراع النفسي إلى تحول جسدي.
وطوّرت الأفلام اللاحقة الفكرة بعمق نفسي أكبر، ومنها "فيرتيجو" (Vertigo) الذي جسّد الهوس والرغبة في التحكم بهوية الآخر، ملمّحا إلى أن الظلام لا يكمن فقط داخل الأفراد، بل أيضا داخل الأوهام التي يفرضها الآخرون عليهم. وفي فيلم "سائق التاكسي" (Taxi Driver)، يقدم البطل نفسه على أنه محارب قديم وحيد، لكن تحت هذه الهوية العامة الهشّة تنمو عقدة منقذ عنيفة تنفجر في عمل خطير، وفي فيلم "نادي القتال" (Fight Club)، يعبّر العمل عن خيبة أمل من خلال الأنا البديلة المولودة من الإحباط الذكوري المكبوت، كاشفا كيف يصنع المجتمع الحديث هويات تتمرّد في النهاية على الوضع الطبيعي المفروض.
اقرأ أيضا list of 2 itemslist 1 of 2"ضايل عنا عرض" يحصد جائزتين في مهرجان روما الدولي للأفلام الوثائقيةlist 2 of 2فيلم "أوسكار: عودة الماموث".. قفزة نوعية بالسينما المصرية أم كبوة جديدة؟end of listوبرزت الميلودراما في أفلام منها "البجعة السوداء" (The Black Swan)، حيث استخدمت الذات المزدوجة لاستكشاف الكمال والذات الأنثوية، مشيرة إلى أن الشخصية المظلمة أحيانا ما تكون نتاجا لضغوط مجتمعية لا شرّا فطريا.
لم تتعامل هذه الأفلام مع الذات الخفية بوصفها مجرد وحش، بل باعتبارها رد فعل على الكبت العاطفي والوحدة والتوقعات الثقافية، ممهدة الطريق لقصص معاصرة مثل "مجنونة جدا" (Pretty Crazy) لإعادة صياغة الصراع نفسه في أنواع أدبية جديدة.
وتدور أحداث فيلم "مجنونة جدا" حول غيل غو، وهو شاب عاطل عن العمل ينجرف في روتين ممل حتى تدخل جارته الجديدة الساحرة، سون غي، حياته فجأة، ليكتشف أن المرأة اللطيفة التي يلتقيها خلال النهار تتحول إلى شخصية فوضوية، تكاد تكون شيطانية كل ليلة بسبب لعنة غامضة.
إعلانورغم صدمته، يفتن بها، ويقبل طلبا غير عادي من والدها المنهك لمراقبتها خلال هذه التحولات الليلية، ليصبح حارسا مترددا ينمو ببطء مرتبطا عاطفيا بكلا جانبي شخصيتها. بينما يقضي ليالٍ طويلة يحميها ويراقبها، يتحول ما يبدأ كخوف إلى عاطفة، ويتحول الفيلم من كوميديا رومانسية غريبة إلى قصة عن الهوية والصدمة الخفية والصراع بين التوقعات الاجتماعية والواقع الداخلي.
وحين يحاول غيل غو كسر اللعنة ومساعدة سيون غي على استعادة السيطرة على حياتها، يترك الفيلم السؤال الأعمق الكامن وراء الحبكة الخارقة للطبيعة مفتوحا، وهو هل يمكن للحب أن يعيش في ظل الاختلاف الحاد بين شخصية المحبوب نهارا وليلا؟
يُشير التناقض بين غيل غو وسون غي بشكلٍ خفي إلى اختلاف طبقي، حيث يقدم الفيلم غيل غو كشاب عاطل عن العمل، ينجرف بلا هدف ولا استقرار. من ناحية أخرى، تعمل سون غي خبازة في متجر محلي، وتظهر في البداية كجارة مهذبة وفعّالة اجتماعيا، فهي امرأة لديها وظيفة وروتين، يبدو كأنه جزء من الحياة اليومية العادية، ويُنشئ هذا التناقض توترا اجتماعيا واقتصاديا بين استقرارها المتواضع، وإن كان منتظما، ووجوده الهش وغير المستقر.
ويزداد هذا التوتر حدة بالطريقة التي تُخفي بها "طبيعة" سون غي الظاهرة اللعنة الخارقة للطبيعة التي تسكنها. في الوقت نفسه، يُصبح غيل غو، رغم اضطرابه الاقتصادي، حاميها الليلي، لتنقلب بذلك موازين القوة والدعم المتوقعة. من خلال هذا التناقض، يُشير الفيلم إلى أن الطبقة أو المكانة الاجتماعية لا تضمن الأمن أو الهوية، فالاستقرار قد يكون وهما، بينما قد يحمل الضعف أو التهميش على قوة خفية.
قدم المخرج الكوري الجنوبي لي سانغ غيون أداء بصريا مميزا، ولعبت بعض المشاهد أدوارا مفتاحية للدفع بالمشاهد في قلب أزمة العمل، ولعل أحد أكثر المشاهد لفتا للانتباه هو ذلك الذي تستقل فيه غيل غو المصعد مع سون غي بعد مقابلتها في الليلة السابقة، يصبح المشهد العادي مقلقا فجأة حيث يتغير تعبيرها ووضعيتها بشكل جذري لدرجة أن الجمهور يشعر بالصدمة تماما كما يشعر بها غيل غو، تنجح هذه اللحظة لأنها تعلن بصريا عن الصراع المركزي للفيلم دون تفسير.
وفي مشهد آخر لا يُنسى خلال أحد "مواعيد الليل"، عندما تكشف سون غي، في حالتها الفوضوية، بشكل غير متوقع عن تلميحات من انعدام الأمن بدلا من العنف، مما يشير إلى أن شخصيتها المظلمة ليست شرا خالصا ولكنها جزء مجروح من نفسها، وهو كشف يجلب تعاطف المشاهد.
وفي مشهد لاحق تواجه فيه سون غي والدها بشأن اللعنة، لأنه يحول السرد من الكوميديا إلى الدراما العاطفية، ويكشف عن الإرهاق والخوف والذنب الذي يحيط بحالة سون غي، ويظهر أن اللعنة تؤثر على كل من يرتبط بها.
وأخيرا، فإن اللحظة التي تقترب من النهاية التي يختار فيها غيل غو البقاء مع سون غي أثناء تحولها، بدلا من الهرب كما يفعل أي شخص عاقل، تقف كقمة عاطفية، فهي تُظهر القبول بدلا من الخوف، مما يحول الصراع الخارق للطبيعة إلى بيان مؤثر حول الحب والولاء والشجاعة لمواجهة الجانب الأظلم لشخص ما.
تتكامل العناصر البصرية وتصميم الصوت في الفيلم لبناء مشهد عاطفي متقلب يتأرجح بين الكوميديا والتشويق والتوتر النفسي. بصريا، يلعب الفيلم على التناقضات بين بيئات النهار والليل لإبراز موضوعه الرئيسي، وهو الانقسام بين شخصية سون غي العامة وهويتها الخفية المظلمة.
إعلانغالبا ما تصور مشاهد النهار بإضاءة طبيعية ساطعة، وألوان دافئة، وأجواء عادية، بينها مخابز، وشقق، وشوارع الأحياء، مما يخلق شعورا بالراحة والطبيعية اليومية، وتبرز هذه المشاهد الهادئة بصريا الروتين والاستقرار، مما يجعل سون غي تبدو مندمجة تماما في محيطها.
على النقيض من ذلك، تميل بيئات الليل إلى أن تكون أكثر برودة وظلاما وعدم استقرار بصري: تملأ الظلال الزوايا، وتصبح حركة الكاميرا أقل قابلية للتنبؤ، وتحل إضاءة النيون أو الإضاءة الاصطناعية محل سطوع النهار الطبيعي. لا يُشير هذا التحول في التصوير السينمائي إلى تحول سون غي فقط، بل يعكس أيضا القلق النفسي الذي يحيط بحالتها.
تسهم اللقطات المقربة في المشاهد الليلية في تجسيد تحولات الوجه والتوتر العاطفي، بينما تكون لقطات النهار أوسع وأكثر استرخاء، وتوضح السياقات الاجتماعية والمساحة، وتخلق المشاهد المكبرة جوا من الضيق، يشعر من خلاله الجمهور أنه مُحاصر بشخصية سون-غي المظلمة، بينما توحي التركيبات الأوسع في ضوء النهار بالحرية والانتماء الاجتماعي.
كما يستخدم الفيلم الانعكاسات والمرايا والنوافذ للتلميح إلى الهويات الخفية، وتذكر هذه العناصر البصرية المشاهدين ببراعة بوجود ذات منقسمة دائما تحت السطح، حتى التصميمات الداخلية البسيطة للشقق تصبح مساحات رمزية، تنتقل من الراحة المنزلية إلى الحبس المقلق اعتمادا على الإضاءة ووضع الكاميرا.
يلعب تصميم الصوت دورا حاسما بالقدر نفسه في تشكيل النسيج العاطفي للفيلم. خلال مشاهد النهار، تنشئ الأصوات المحيطة، كضجيج الشوارع والمحادثات العابرة، بيئة صوتية طبيعية ترسخ المشاهد في عالم اجتماعي واضح.
عادة ما تكون الموسيقى في هذه اللحظات خفيفة أو مرحة، مما يعزز أجواء الكوميديا الرومانسية التي تفتتح الفيلم. ومع ذلك، يتغير المشهد الصوتي بشكل كبير مع حلول الليل. تضفي النغمات الخافتة، والأصداء البعيدة والضوضاء المحيطة المكتومة شعورا بالتشويق وعدم القدرة على التنبؤ، كما لو أن شيئا خطيرا على وشك الحدوث. تعمل هذه الإشارات السمعية الدقيقة كإشارات نفسية، تهيئ المشاهد لتحول سون غي حتى قبل أن يراه.
في بعض المشاهد، يصبح الصوت أكثر تعبيرا من الصورة. على سبيل المثال، تعتمد مشاهد التحول بشكل كبير على المؤثرات الصوتية بدلا من المؤثرات البصرية، مما يوحي غالبا باضطراب داخلي من خلال تشوهات صوتية، أو أصوات هامسة، أو إشارات انتقالية حادة. تتيح هذه التقنية للجمهور الشعور بصراع سون غي الداخلي دون الاعتماد على صور حاسوبية صريحة أو صور مخيفة. فبدلا من صدمة الجمهور بصريا، يزعجهم الفيلم صوتيا، مما يجعل التحول تجربة عاطفية، وليست خارقة للطبيعة بحتة.
كما تساعد الموسيقى التصويرية على تطوير علاقات الشخصيات. عندما يبدأ غيل-غو بقضاء الليالي مع سون-غي، تتحول الموسيقى من نغمات كوميدية إلى ألحان عاطفية وتأملية، مما يوحي بترابط عاطفي متنام. أحيانا، يصبح الصمت أداة مؤثرت حيث يبرز الضعف في لحظات السكون، مما يجعل المشاهد ينتظر بقلق التحول غير المتوقع التالي.
في النهاية، يحول مزيج التناقضات البصرية وتصميم الصوت فيلم "مجنونة جدا" إلى أكثر من مجرد مزيج من الكوميديا والرعب، باستخدام الإضاءة والتصوير والألوان واالصوت لعكس الصراع الداخلي.