الحرب في السودان.. حان الوقت ليتحمّل المجتمع الدولي مسؤولياته
تاريخ النشر: 20th, April 2024 GMT
الترجمة عن الفرنسية: حافظ إدوخراز -
عقد المؤتمر الإنساني بشأن السودان يوم الاثنين الماضي في باريس، أي بعد عام واحد بالضّبط من بدء الصراع. ثمّة رهانات كبيرة ترتبط بهذا المؤتمر، فمستقبل ثالث أكبر دولة في القارة الإفريقية على المحكّ، وبقاء الملايين من الأطفال والنساء والرجال على قيد الحياة معرّض للخطر مع احتمال حدوث مجاعة بسبب موسم الجفاف الذي يلوح في الأفق.
وكما سبق أن قلت ثلاثة أشهر بعد اندلاع الصراع الحالي في السودان، فالمجتمع الدولي لا يمكن أن يتجاهل هذا الصّدى المؤلم للتاريخ، غير أن ذلك بالضبط هو ما حدث. فلقد نسينا بشكل أو بآخر ما لا يُنسى، وعواقب هذا السهو لا تُغتفر. لنكن واضحين، فعدم اكتراثنا قد شجّع أطراف النّزاع على الاستهزاء بالقواعد الأساسية للحرب. لقد رأينا أشخاصًا يُطلق عليهم الرصّاص أثناء محاولتهم الفرار، ورأينا أطفالا قُتلوا ونساءً اغتُصبت، ومستشفيات تمّ استهدافها من المقاتلين.
لقد أشعل جِنرالان فتيل صراع أجبر أكثر من ثمانية ملايين شخص، أغلبهم من النساء والأطفال، على مغادرة منازلهم، وحصل هذا أمام أعيننا. وقد أدّى هذا الصراع نفسه إلى تأجيج العنف العرقي وانتشار الأمراض، ممّا أفنى الأرواح وذهب بموارد العيش وقوّض أركان المجتمع -الرعاية الصحية والتعليم والزراعة- وأصبح نصف السكان الآن، أي حوالي 25 مليون شخص، في أمسّ الحاجة إلى المساعدات الإنسانية. تلك هي حصيلة عام من الحرب، ولا ينبغي للسودان أن يعاني من أزمة أخرى. ولذلك يتعيّن علينا أن نغتنم هذه اللحظة باعتبارها لحظةً للمحاسبة وفرصةً لمضاعفة جهودنا في سبيل تحقيق ثلاثة أهداف رئيسية.
واسمحوا لي أن أستهلّ كلامي بهدف في متناول أيدينا إن تعاونا عليه بشكل جماعي:
تمويل شامل للاستجابة الإنسانية: من خلال استضافتها للمؤتمر الإنساني الدولي من أجل السودان والبلدان المجاورة، تقدّم لنا فرنسا وألمانيا والاتحاد الأوروبي منصّةً للعمل، وليس ثمّة وقتٌ نضيّعه. لقد مُوّل نداؤنا الإنساني لهذا العام بنسبة 6%، وجمعنا 155 مليون دولار من أصل 2.7 مليار دولار [2.5 مليار يورو] التي نحتاجها لمساعدة 15 مليون شخص. بوسع المجتمع الدولي أن يحول دون وقوع مجاعة في السودان، ولكن فقط من خلال التحرك الفوري. وإنني أدعو البلدان إلى الالتزام بسخاء والوفاء بوعودها.
أما الهدف الثاني فبلوغه أصعب في الحقيقة:
الوقف الفوري للقتال: لقد مضى شهر رمضان دون توقف القتال على الرغم من الدّعوات العديدة التي أطلقها الأمين العام للأمم المتحدة ومجلس الأمن وعدد لا يحصى من القادة والهيئات الأخرى من أجل هدنة خلال الشهر الفضيل. من الواضح أننا بحاجة إلى تكثيف الجهود الدبلوماسية من أجل التوصّل إلى وقفٍ لإطلاق النار، والوصول إلى حلّ سياسي للصراع من خلال التفاوض.
نحن نعلم أن هذا لن يحدث بين عشية وضحاها. لكن في انتظار ذلك، يجب على البلدان التي تملك نفوذا وتأثيرا على أطراف النزاع إجبارهم على احترام إعلان الالتزامات الذي وقّعوا عليه قبل أحد عشر شهرا في مدينة جدّة. لقد التزمت القوات المسلحة السودانية وقوات الدعم السريع بحماية المدنيين وتسهيل إيصال المساعدات، غير أنها لم تضطلع بمهمتها وفشلت في ذلك بشكل ذريع.
وهذا ما يقودني إلى الهدف الثالث والأخير، وهو الهدف الذي لا ينبغي لنا أن نتوسّل من أجله:
وصول المساعدات الإنسانية بشكل آمن ودون عوائق: لقد لقي أكثر من عشرين شخصا يعملون في مجال الإغاثة في السودان حتفهم خلال العام الماضي، ونُهبت عشرات آلاف الأطنان من المساعدات. ويواصل المجتمع الإنساني عمليات الإغاثة -المنظمات المحلية ومتطوّعوها الشجعان في الخطوط الأولى- بانتظام سواء أكان وقف إطلاق النار أم لا. لكن يمكننا أن نفعل أكثر من ذلك إذا انخرطت أطراف النزاع في حوار إنساني من أجل فتح الطريق أمام وصول المساعدات.
إن ما نحتاجه، بكل وضوح وبكل بساطة، هو أن نكون قادرين على الوصول إلى كل الأشخاص الذين يحتاجون إلى المساعدة حيثما كانوا، ومن خلال أي مسلك مُتاح سواء عبر الحدود أو خطوط المواجهة. تعيش الغالبية العظمى من الأشخاص المعرّضين لخطر المجاعة خلال الأشهر المقبلة، ويقدّرون بحوالي خمسة ملايين فرد، في مناطق السودان التي يصعب علينا الوصول إليها: دارفور وكردفان والخرطوم والجزيرة. والحيلولة دون وصول المساعدات إلى هؤلاء الناس هو بمثابة إصدار حكم بالجوع عليهم. إن مستقبلهم رهين بقدرتنا جميعا على ضمان احترام هذه الأولويات الثلاث.
إذا عدنا إلى السّلبية والنّسيان فإننا سنكون بذلك نرسل رسالة مفادها أننا لا نكترث لما يحدث في السودان. لقد حان الوقت لكي يتحمّل المجتمع الدولي مسؤولياته. ويجب أن يُترجم مؤتمر باريس إلى نتائج ملموسة: فتح المزيد من الممرات أمام العاملين في مجال الإغاثة، والمزيد من التمويل، والمزيد من الدبلوماسية من أجل إنهاء هذه الحرب.
أما بالنسبة إلى أطراف النزاع ومن يقدّم لهم الدعم، فقد حان الوقت لكي يتحلّوا بالواقعية. إنكم تجعلون السودان غير صالح للعيش، وسعيكم وراء النفوذ والموارد يقود البلد نحو الجوع والنزوح والأمراض. أسكتوا البنادق الآن! بعد عام كامل من الحرب، لا بد أن يكون هناك ضوء يلوح في نهاية نفق الظلام والموت هذا. لقد فقد ملايين الأشخاص في السودان منازلهم وسبل عيشهم وأقرباءهم، ولا يمكننا أن نتركهم يفقدون الأمل أيضا.
مارتن غريفيث وكيل الأمين العام للأمم المتحدة للشؤون الإنسانية ومنسق الإغاثة في حالات الطوارئ
عن صحيفة لوموند الفرنسية
المصدر: لجريدة عمان
كلمات دلالية: المجتمع الدولی فی السودان من خلال من أجل
إقرأ أيضاً:
الحرب التي أجهزت على السلام كله
لا بد أن يكون أحدكم قد جاوز الأربعين كثيرًا لتكون لديه ذكرى مباشرة لما جرى في تسعينيات القرن الماضي إذ ظن الفلسطينيون والإسرائيليون أنهم توصلوا إلى طريقة ينهون بها قرن الصراع فيما بينهم، كان طائف الأمل الذي طاف بهم عابرا، وأبعد ما يكون عن العمومية، لكنه كان حقيقيًا. لقد طواه النسيان الآن، وبات أقرب إلى أن يعد خدعة، ووهمًا مخاتلًا. والآن، وقد مر أكثر من عام ونصف العام على الحرب الأكثر دموية فيما يزيد على قرن من الصراع بين العرب واليهود، يصعب أكثر من ذي قبل أن نشاهد الصور المريعة الواردة من غزة، ويصعب ذلك حتى على من يكسبون لقمة عيشهم من هذا، ومن يؤثرون لو كانوا حاضرين شخصيًا لولا أن إسرائيل أغلقت المنطقة وحظرت دخول الصحفيين الأجانب ضمن كثيرين حظرت دخولهم.
وفي الطريق طوفان أعتى من الرعب، إذ تستعد إسرائيل الآن لهجمة يتعهد رئيس وزرائها بنيامين نتنياهو بأن تكون «دخولا كثيفا إلى غزة». ونعلم نحن العاملين في مهنة الأخبار أن عالمنا المضطرب يمدنا بكثير من الأحداث الأليمة فلا يبقى لبعضنا من سبيل إلى التكيف معها إلا بالإمساك عن النظر.في بعض الأحيان يتراءى لي بصيص ذكرى مهتزة لزمن رأينا فيه شيئا من الأمل، يثيره اسم أو وجه على طريق في غزة ينتهي بحواجز خرسانية ونقاط تفتيش أغلقتها إسرائيل خلال الشهرين الماضيين في وجه شتى أشكال الإغاثة.
قال توم فليشر - وهو الدبلوماسي البريطاني السابق وكبير مسؤولي الشؤون الإنسانية في الأمم المتحدة: إن الإسرائيليين «صادقون صدقا مثيرا» إذ يقولون إن الغاية من تجديدهم الحصار هو الضغط على حماس، ولا بد كما أكد فليتشر من إطلاق سراح بقية الرهائن، ولكن «محاصرة الإغاثة قتل» وانتهاك من إسرائيل للقانون الدولي تنزل به «عقابا جماعيا وقاسيا».
يستحيل في ظل ما أصبحت عليه الأمور أن نرى سبيلا يسوق به الفلسطينيون والإسرائيليون أنفسهم، أو يساقون من خلاله، إلى حيث يمكن أن يحاولوا الوصول إلى السلام من جديد. وها هو جيل آخر تسحقه الحرب. في عام 1993، حين كان لدينا أمل، تحققت لحظة الذروة في بداية العملية، لأن النهاية كانت فشلا ودما مراقا، إذ استحال الصيف خريفا في واشنطن، وتصافح الأعداء القدامى في وضح النهار داخل حديقة البيت الأبيض. وتيسر ذلك إثر مفاوضات سرية بدأت عند انصرام ذلك العام في أوسلو، فجرت في أول الأمر بين أبي علاء من منظمة التحرير الفلسطينية ممثلًا لرئيسها ياسر عرفات، وأستاذين جامعيين إسرائيليين كانا يرفعان تقاريرهما إلى يوسي بيلين نائب وزير الخارجية في بلدهما.
كان لزامًا أن تكون لقاءات أوسلو سرية، إذ أراد كلا الطرفين اجتناب المخاطرة السياسية إلى أن يتحقق ما يستحق الإعلان. كان البرلمان الإسرائيلي قد أزال للتو قانونا يحظر على المواطنين الاتصال بمنظمة التحرير الفلسطينية، لكن الحكومة كانت لا تزال على المستوى الرسمي تعارض أي مفاوضات مباشرة مع منظمة يقودها عرفات الذي كانت تعده إسرائيل إرهابيًا لا أمل في إصلاحه. وقد شهد النرويجيون الذين جمعوا بين مفاوضي أوسلو في منزل ريفي منعزل بمدى صعوبة الوصول بهم إلى اتفاق.
إذ قالت الدبلوماسية النرويجية مونا جول: إن «عملهم معًا على مدار الساعة كان مشحونا بالعواطف للغاية، فقد تسمع في جنح الليل صيحة قائل -لا أمل. لا يمكنني البقاء هنا بعد الآن-». ولو أن الأمر بلغ ذلك القدر من المشقة على أولئك الملتزمين بالتفاوض لإنتاج اتفاقية محدودة -هي محض إطار لمزيد من المحادثات التي قد تفضي إلى اتفاقية سلام- فتخيلوا أي مدى يبلغه ارتفاع الجبل الآن.
لذلك كان لافتًا للغاية، ومباغتًا للغاية، أن نرى في الثالث عشر من سبتمبر سنة 1993 وجه الرئيس الأمريكي الطازج بيل كلينتون إذ يفتح ذراعيه وكأنه ابن أخ طيب بينما يصافح ياسر عرفات رئيس وزراء إسرائيل إسحاق رابين. كانت عيوب الاتفاقية بادية للعيان منذ البداية. فقد كان الإسرائيليون -المؤمنون بأن الأراضي المحتلة منحة من الرب لليهود- يعارضون مفهوم مبادلة الأرض في مقابل السلام.
كما استقال الشاعر الفلسطيني محمود درويش من منظمة التحرير الفلسطينية احتجاجًا وكتب قصيدة وصف فيها مراسم البيت الأبيض بـ«الشريط السينمائي الملوَّن». وانتهى إلى أن المقاومة لا بد أن تستمر. ولكن العالم شهد أعداء أشد لددا يحاولون كسر لعنة صراع دام لأجيال. فكان الوقع تاريخيا عند مشاهدة ياسر عرفات واقفا بجانب رابين ووزير الخارجية الإسرائيلي شيمون بيريز، وهم ثلاثة رجال طالما بقوا في قلب الصراع لأمد بعيد.
كان رابين -رئيس الوزراء الصلب عام 1993- هو القائد العام في نصر حرب الأيام الستة في يونيو 1967 على مصر والأردن وسوريا. إذ استولت إسرائيل على الضفة الغربية، ومنها القدس الشرقية، وغزة ومرتفعات الجولان، محيلة الصراع إلى ما هو عليه الآن. في عام 1948، قاد رابين -وهو في العشرينيات من عمره- وحدة نخبوية في حرب استقلال إسرائيل ورأى فيه الإسرائيليون بطلًا. ويتذكر الفلسطينيون دور رابين في الترحيل القسري لأكثر من خمسين ألف مدني عربي من بلدتي الرملة واللد. ويطلق الفلسطينيون على الأحداث السابقة على إعلان إسرائيل الاستقلال والتالية لها اسم «النكبة».
إذ فرَّ أكثر من سبعمائة ألف فلسطيني من الزحف الإسرائيلي أو تعرضوا للطرد بالقوة ولم يتمكنوا، كلهم تقريبا، من العودة.وبالنسبة للفلسطينيين كان ياسر عرفات تجسيدًا لنضالهم، فهو الرجل الذي بلغ به الحرص على مقاتلة إسرائيل حد أن أطلق عليه رفاقه الأكثر تحليا بالحذر لقب «المجنون» حينما بدأ الهجمات على الحدود مع لبنان في أوائل ستينيات القرن العشرين، متجاهلًا العقبات التي بدت كأداء.
وكانت لحظته قد حانت إثر إصابة الزعماء العرب بالذهول والانبطاح والمذلة بعد انتصار إسرائيل في عام 1967. في ظل الهزيمة، نهض عرفات للقتال، فكان يتنقل متنكرًا لجمع السلاح من ميادين المعارك وينظم مئات الهجمات. ولما ردت إسرائيل في عام 1968 بهجمة كبيرة على مخيم الكرامة في الأردن، وهو معقل عرفات وفصيل فتح التابع له، كان الفلسطينيون في الانتظار. فلقي ما لا يقل عن ثمانية وعشرين إسرائيليا، وستين أردنيا، ومائة فلسطيني، مصرعهم في يوم واحد.
وأعلن عرفات النصر وتأسست أسطورته. وإذا بزعيم منظمة التحرير الفلسطينية، بنظارته الشمسية، ولحيته النابتة، وكوفيته ذات اللونين الأسود والأبيض، يتصدر غلاف مجلة تايم.اكتمل الثلاثي ببيريز وزير خارجية إسرائيل. وكان -شأن رابين- في قلب أحداث بلده منذ العشرينيات. في عام 1948، كان بيريز الشاب هو الذراع الأيمن لرئيس وزراء إسرائيل اليميني الأول ديفيد بن جوريون. لم يلتحق قط بالجيش ولم يحظَ من الإسرائيليين بمثل الثقة التي حظي بها رابين، منافسه السياسي العتيد، ولكن صفقات الأسلحة التي أبرمها أسهمت كثيرا في تحويل إسرائيل إلى قوة عسكرية كبيرة في المنطقة قاد هو سعيها السري الناجح إلى امتلاك أسلحة نووية.
كان أولئك الرجال الثلاثة، لأسباب مختلفة، مستعدين للتفكير في إنهاء الصراع الذي شكّل حياتهم وهيّمن عليها. في عام 1993 كان لا بد من جهد وشجاعة لاعتناق التفكير الجديد اللازم لمحاولة إنهاء حرب لم يكن أي من الجانبين بقادر على الانتصار فيها. وآنذاك والآن، كان ولا يزال التشبث بطقوس الكراهية والموت المألوفة هو الأمر الأيسر، حتى وقد غرق الصراع في أعماق جديدة من اليأس بعد أن هاجمت حماس إسرائيل في السابع من أكتوبر سنة 2023. في غزة، يقتطع الفلسطينيون في بعض الأحيان أوقاتا من نضالهم اليومي من أجل البقاء لكي يتظاهروا ضد حماس.
وفي إسرائيل يدين بعض منتقدي نتنياهو -الذي تجاوز في سنة 2019 بن جوريون بوصفه أطول رؤساء وزراء إسرائيل في الخدمة- ويرونه نذير حرب دائمة، وبأنه يحارب لا لأجل إنقاذ بقية الرهائن أو لأجل أمن شعبه وإنما من أجل نجاته هو وتقوية سلطته الشخصية، وتأخير محاسبته على دوره في الإخفاقات الأمنية التي أتاحت لحماس الهجوم بذلك الأثر المميت في السابع من أكتوبر سنة 2023.
جاءت الوثيقة الموقعة في واشنطن في ذلك اليوم من عام 1993 من رابين ومفاوض منظمة التحرير الفلسطينية محمود عباس -وهو الرئيس الفلسطيني الآن- حاملة عنوانا سقيما هو «إعلان مبادئ ترتيبات الحكم الذاتي المؤقت»، وإن اشتهر ذلك الحشو اللفظي الدبلوماسي باسم أفضل هو اتفاقيات أوسلو. وكان العالم قد شهد تغيرًا إضافيًا، إذ حضر وزير الخارجية الروسي أندرو كوزيريف بصفة شاهد.
ظن ملايين الإسرائيليين والفلسطينيين -وليس جميعهم على أي حال- عندما رأوا ما يجري أن كل شيء يتغير. وفي عام 1933 كانت الغالبية في كلا الجانبين مهيأة لأن تمنح المفاوضات فرصة، وتنحي الشك وفقدان الثقة جانبا. وكان السبب الأكبر للتفاؤل هو أن طرفي الحديث اعترفا بوجود أحدهما الآخر وبأن لكل منهما حقوقًا وطنية. فسلّم الفلسطينيون بأن تحصل إسرائيل على 78% من الأرض القائمة في ما بين النهر والبحر، أي المنطقة التي كانوا يسيطرون عليها عشية حرب 1967. وسلّمت إسرائيل بمبدأ الحكم الذاتي الفلسطيني على 22% مما يتبقى. وقد كتب آفي شلايم - مؤرخ الصراع الرائد في جامعة أكسفورد، وأحد أشد منتقدي نتنياهو وحكومته الآن، وأحدث كتبه يحمل عنوان «إبادة جماعية في غزة» - في مطلع عام 1994 أنها «كانت من أشد لحظات تاريخ الشرق الأوسط في القرن العشرين احتداما.
ففي خطوة واحدة مذهلة، أعاد الزعيمان رسم الخريطة الجيوسياسية للمنطقة برمتها».
أتيح لعرفات ومنظمة التحرير الفلسطينية الرجوع إلى أجزاء من المناطق الفلسطينية المحتلة، فاقتصر ذلك في أول الأمر على غزة وأريحا، أي الواحة العتيقة المغبرة في وادي الأردن. وكانت الخطة تتمثل في البدء بإبرام اتفاقيات على قضايا حساسة صغيرة، على أمل أن يتم بطريقة ما تكوين الزخم اللازم لحل القضايا الكبيرة. إذ عمد الجميع إلى تأجيل تلك القضايا في أوسلو لأن أيا منها كان كفيلا بإفساد الصفقة، وكانت له القدرة على وأد عملية السلام في مهدها.
وكان ملف قضايا «الوضع النهائي» المؤجل ذا إشعاع سياسي، إذ احتوى مسألة تقسيم القدس بهدف إنشاء عاصمة بطريقة ما لكلا الشعبين، ومستقبل المستوطنات اليهودية في الأراضي الفلسطينية المحتلة منذ 1967، وتحدِّي ترسيم حدود الدولة الفلسطينية المستقبلية، ومسألة ما إذا كان سيتسنى للاجئي حربي 1948 و1967 الفلسطينيين الرجوع يومًا إلى الوطن.
بعد قرابة ثمانية عشر شهرا من المراسم في حديقة البيت الأبيض، انتقلت إلى القدس لأصبح مراسلًا لهيئة الإذاعة البريطانية في الشرق الأوسط. كنت قد قضيت أغلب السنوات الأربع السابقة أعمل في تغطية الحروب الناجمة عن سقوط يوغسلافيا. وأصيبت صديقة لي من سراييفو -وكانت صحفية نجمة تعمل للتليفزيون الإسباني- بالذهول حينما أخبرتها أنني ذاهب إلى القدس. وقالت إن الحكاية هناك قد انتهت، وأنهم يقيمون السلام.
وبالطبع جانبها الصواب، شأن جميع من تزايدت آمالهم لوهلة. فالسلام بات سرابا. ولعله لم يكن ممكنا قط. أدان مثقفون فلسطينيون كبار عرفات لبيعه الشعب بالاتفاق على صفقة سمحت لإسرائيل بتوسيع المستوطنات لليهود على الأراضي المحتلة التي أرادوها لإقامة الدولة. فوصف إدوار سعيد -أستاذ العلوم السياسية والكاتب الفلسطيني الأمريكي- ذلك بالاستسلام. وفي مجلة «لندن رفيو أوف بوكس» اشتد في نقده لـ«عرض الأزياء المبتذل الذي أقيم في مراسم البيت الأبيض، ومهانة ياسر عرفات إذ يوجه الشكر للجميع على تأجيل أغلب حقوق الشعب، ووقار أداء بيل كلينتون السخيف، وكأنه إمبراطور روماني في القرن العشرين يقود ملكين تابعين لسلطانه في مراسم تصالح وإذعان. وفي نهاية المطاف طغت على بلاغة سعيد العظيمة جماعتان مسلحتان فلسطينيتان تأسستا في ثمانينيات القرن العشرين، هما جماعتا حماس والجهاد الإسلامي اللتان ذكَّرتا الإسرائيليين بألا يؤمنوا بالسلام إذ أرسلتا التفجيريين الانتحاريين لقتل مدنيين إسرائيليين في المقاهي والحافلات.أراد المتشددون في كلا الجانبين تحطيم عملية أوسلو. ففي فبراير 1994 استعمل باروخ جولدشتاين المتطرف اليهودي أمريكي المولد بندقية هجومية لقتل تسعة وعشرين فلسطينيا كانوا يصلون في الحرم الإبراهيمي بالخليل، وهو موقع يقدسه الإسرائيليون أيضًا ويسمونه «كهف البطاركة»، فهو مكان يؤمن اليهود والمسلمون والمسيحيون أن فيه قبر النبي إبراهيم وابنيه إسحاق ويعقوب وزوجاتهم سارة ورفقة وليا. ظل جولدشتاين يطلق الرصاص إلى أن تغلب عليه بعض الناجين وظلوا يضربونه حتى الموت. وقد حذر اليمين الإسرائيلي، ونجمه الصاعد بنيامين نتنياهو، من أن التنازل عن الأراضي يعرض حياة كل إسرائيلي للخطر. ساعد نتنياهو في إثارة حشود غاضبة من القوميين اليهود الذين لعنوا رابين ووصفوه بالخائن والقاتل. وفي مظاهرة بميدان صهيون في القدس في الخامس من أكتوبر سنة 1995 كان من ضمن اللافتات لافتة ساخرة من رابين ترسمه في زي قوات الأمن النازية [SS]. وبعد شهر من ذلك، مات رابين برصاص متطرف يهودي في تل أبيب. وخلال أول التحقيقات معه في اغتيال رابين، طلب القاتل شرابًا ليشرب نخب إنقاذه إسرائيل من خائن تنكر لترتيبات الرب للشعب اليهودي.عند مقتل رابين كانت المفاوضات بالفعل متأخرة كثيرة عن جدولها. لكن عرفات ورابين، العدوين اللدودين، كانا قد توصلا إلى احترام جاء على غير توقع، وعلى مضض. وجهت ليا، أرملة رابين، الدعوة إلى عرفات لزيارة منزل عائلة رابين في تل أبيب لتقديم واجب العزاء. ورفضت مقابلة نتنياهو. وبعد ستة أشهر، فاز نتنياهو على شيمون بيريز بأغلبية ضئيلة وأصبح رئيسًا للوزراء للمرة الأولى.
وأرد تمامًا أن تكون محاولة صنع السلام منذورة بالفشل، بوجود رابين أو غيابه، وهو الزعيم الإسرائيلي القادر أكثر من غيره على طمأنة مواطني شعبه. فقد حدث قبيل اغتياله أن أعلن حيدر عبد الشافي -وهو طبيب يحظى باحترام كبير في غزة ومؤسس لمنظمة التحرير الفلسطينية استاء من التنازلات والفساد المحيطين بعرفات- أن أوسلو فشلت، وكتب أنه «من الواضح الآن أن إسرائيل عازمة على المحافظة على وجودها، وسيطرتها على الأراضي، والمستوطنات. وفي واقع الأمر، أن ما لم ينتبه إليه أحد هو أن إسرائيل لم تتخلَ قط عن حقها في الأراضي المحتلة كاملة، بما يتناغم مع البرنامج الصهيوني».
قبل عام من الاغتيال، حصل عرفات وبيريز ورابين مشتركين على جائزة نوبل للسلام. وبعد الاغتيال كثّفت حماس حملة تفجيراتها الانتحارية. وفي غضون أيام في فبراير 1996 هوجمت الحافلة رقم 18 مرتين في القدس على مقربة من مكتب هيئة الإذاعة البريطانية في طريق يافا مما أسفر عن مصرع خمسة وأربعين شخصا. وكان العقل المدبر هو محمد ضيف من جماعة حماس الذي ظل عدوًا مميتًا لإسرائيل حتى مصرعه في غارة جوية على غزة في الصيف الماضي.
بعد هجمتي الحافلة سنة 1996، بعث عرفات -بضغط من بيل كلينتون- رجاله لتعقب حماس والجهاد الإسلامي. وفي موقع مقابر الكومنولث البريطانية الوادعة في غزة أجريت حوارا مع رجل خلت أطراف أصابعه من الأظافر بعد أن انتزعها رجال عرفات إثر اعتقاله للاشتباه بانتمائه لحماس. وبعد ثلاثين عاما، غزة الآن أطلال وأكثر من خمسين ألف فلسطيني لقوا مصرعهم. ويقول نتنياهو إنه وحده القادر على تأمين الإسرائيليين، ولذلك فإنه لن يسمح أبدًا للفلسطينيين بإقامة دولة يمكن أن يستعملوها قاعدة للهجوم على اليهود.
لا وجود في جميع أجيال الصراع بين اليهود والعرب ما يقترب من هول السابع من أكتوبر والشهور التسعة عشر التالية له. وهذه المستويات الجديدة من عمق التجرد من الإنسانية، لدى كلا الجانبين، تلقى بظل داكن على المستقبل. لقد كان عدد كاف من الفلسطينيين في تسعينيات القرن الماضي مهيئين للثقة في عرفات وعدد كاف من الإسرائيليين يثقون في رابين، فكان ذلك كافيًا لفرجة تسمح بموعد قد يفلح فيه السلام، إن توفر الحظ وتوفر لدى الجانبين تصميم أكبر على التخلي عن أعز الأحلام والمعتقدات. وها هي الفدوة وقد انسدت وباتت الآن دفينة أعماق الماضي.
أما الذي لا يزال حيًا وخطيرًا فهو الوهم بأن النصر الكامل ممكن لأي طرف. فلا بد أنه كان ماثلا، في السابع من أكتوبر، في أذهان الرجال الذين انطلقوا من غزة وقتلوا قرابة ألف ومائتي شخص أغلبهم مدنيون وأسروا مائتين ووحدا وخمسين. ووهم النصر قوي بالمثل في يمين إسرائيل القومي المتطرف الذي يديم زعماؤه بقاء نتنياهو في السلطة. ويؤجج دونالد ترامب أحلامه بخرافته الخطيرة حول تحويل غزة إلى دبي البحر المتوسط المملوكة لأمريكا والخالية من الفلسطينيين.
مات الأمل قبل أمد بعيد من السابع من أكتوبر سنة 2023. وفي السنين المفضية إلى ذلك اليوم، شأن كثر ممن شاهدوا الصراع عن كثب، كنت أشعر بانفجار عنف قادم في الأفق. لكنني تصورت أن تحدث في القدس أو الضفة الغربية، لا في غزة. بل إنني تساءلت في بعض الأحيان لو أن صدمة دم يراق هي التي سترغم الجانبين على العثور على طريق رجعة إلى التفاوض. فلما وقعت الواقعة، أحال القتل الانقسام إلى هوة ما لها قرار. وها هي الحرب بين إسرائيل والفلسطينيين على أرض ما بين نهر الأردن والبحر المتوسط تمضي إلى قرنها الثاني.
جيريمي بوين محرر الشؤون الدولية في هيئة الإذاعة البريطانية، ومؤلف كتاب «صناعة الشرق الأوسط: تاريخ شخصي».
عن ذي نيوستيتسمان