لجريدة عمان:
2025-12-11@01:47:00 GMT

برنار نويل: الحرمان من المعنى

تاريخ النشر: 11th, May 2024 GMT

عام 1975 انتبه برنار نويل صدفةً إلى إمكانية استبدال حرف S بحرف C في كلمة CENSURE وذلك لاستخراج كلمة جديدة من هذا التشويه الحرفي المتعمد؛ وهي كلمة SENSURE التي يسارع المصحح التلقائي في الحاسوب إلى تحديدها بالخط الأحمر ظنا منه أنها كتابة خاطئة للكلمة الأولى، وهي بالفعل كذلك. لكن الشاعر الفرنسي أراد من هذا التلاعب الحاذق بالحرفين، المتشابهين صوتيا بالصدفة، أن يصعِّد المعنى: فالكلمة الأصلية (CENSURE) كانت تشير على الدوام في لغته الفرنسية إلى معنى الرقابة التقليدية التي تعني ضمنيا الحرمان من الكلام، في حين تشير الكلمة المستحدثةُ منها (SENSURE) إلى ما هو أبعد وأعنف من حرمان الكلام؛ إنها تشير إلى الحرمان من المعنى كما يقول، ولأن هذا النحت الحرفي يتعذر في اللغة العربية فقد ترجم الشاعر المغربي محمد بنّيس هذه الكلمة إلى «الرقابة على المعنى»، فبهذا العبث بالحروف استطاع برنار نويل أن يدمج كلمة Sens التي تعني «المعنى» في جسد الكلمة الأصلية التي تعني الرقابة، واضعا مسافة مرئية بين مفهومين يتشابهان في النطق إلا أنهما يختلفان من حيث نوع الرقابة وطبيعة العنف في كل منهما.

وقَع برنار نويل على اكتشافه هذا في غمرة الانقسام العالمي في ثنائية الشرق والغرب إبان الحرب الباردة، عندما بدا أن الغرب سائر في تحوله إلى استعارة مُثلى تُمثل منظومة من القيم الأساسية المشتقة من مبدأ الحرية، وفي مقدمتها قيمة حرية التعبير. ولكن هل تعني، أم هل تؤدي حرية التعبير إلى حرية التفكير بالضرورة في نهاية الأمر؟ وهل يمكن للسلطة أن تمارس الاستلاب على حرية التفكير خلف قناع حرية التعبير؟

بخلاف البلدان الشرقية، كالاتحاد السوفييتي سابقا، والتي ساد فيها التكميم والصمت في ظل التعبير الشمولي الأوحد، يبدو أن السلطات في العالم الغربي عرفت كيف تحتال على حرية التعبير من خلال حرية التعبير نفسها التي يتيحها تعدد الفضائيات والمواقع والصحف ووسائل البث، أي من خلال أساليب التضليل المعتمِدة على تعدد مصادر التلقي والضخ الهائل للمعلومات المتنوعة والأخبار المتضاربة، مستثيرةً حالة من النزق المستمر والكثافة التي تُعمي في سبيل الإدهاش المتواصل على مدار الساعة.

ورغم أن الغرب كان هو المؤسس للإعلان العالمي لحقوق الإنسان بوصفه رائدا لمعاني الحرية الحديثة، إلا أن تفوقه على الشرق لم يكن تفوقا أخلاقيا، كما يرى برنار نويل في كتابه «الموجز في الإهانة»، إذ يكمن تفوق الغرب على الشرق في اكتشاف الأول «وسيلة المناورة الباهظة الثمن لأنها ذكية، لا تؤلم، بارعة، لا مرئية وناجعة». هذه الوسيلة الذكية في المناورة هي بالضبط وسيلة السلطات الغربية في الاحتيال على الحريات التي تمنحها بموجب القانون، والحديث هنا عن حرية التعبير في الأساس، التي تشمل النقد والسخرية والفن. يوجز برنار نويل هذا الاحتيال «غير المؤلم» بالإشارة في مقدمة الكتاب إلى أن الغرب «اخترعَ وسائلَ ليُبطل بطريقة سرية مفعولَ الحرية الممنوحة لمواطنيه، وأبسط وسيلة لذلك هو خلط الأخبار والإكثار منها ليجعلها تفقد دلالتها» مستفيدا، بالطبع، من شراهة الاستهلاك الذي لا يقف عند حدود تلبية الحاجة بل يتجاوز الحاجات إلى اختراع الرغبات، والرغبات إلى الشهوات التي لا تنتهي كونها عرضة دائمة لحرارة الاستثارة، ما يجعل شهية المواطن المتلقي مفتوحة على المطالبة بالمزيد والجديد.

إن صورة المواطن الأمريكي وهو يتسكع في السوبرماركت مثلا لا تختلف عن صورته وهو يتصفح مواقع الأخبار أو يقلب الفضائيات، فكلا الصورتين تستعرضان الوجه نفسه لثقافة الاستهلاك، فمن نافل القول إن ثقافة الاستهلاك اليومي تجاوزت حدود السوق التقليدية، سوق المطاعم والملابس والعلامات التجارية وكل ما يتعلق بالمعنى التقليدي للتجارة، خاصةً بعد أن تمكنت الرأسمالية العالمية، منذ صعود إمبراطورية التلفزيون حتى عصر «ما بعد الإنترنت»، تمكنت من الاستحواذ على سوق جديدة وهي سوق المعلومات والأخبار التي يمكن وصفها إجمالاً بسوق البيانات الخام.

وهنا يتجلى الاستبداد الناعم من خلال طغيان القيمة الاقتصادية على وسائل الإعلام واستحواذها على الثقافة التي هي «فكرُ الجسد الاجتماعي» على حد تعبير برنار نويل، هذا الجسد الذي بات مَصبا للتدفق الرقمي السريع عبر أذكى حواس الوعي لديه، وهما حاستا السمع والبصر، منهَكا ومشتتا من فرط تعاطي المعطيات المتنوعة: الصور والأخبار والإعلانات والآراء. إنه الحرمان من المعنى تحت عنف التشويش.

سالم الرحبي شاعر وكاتب عماني

المصدر: لجريدة عمان

كلمات دلالية: حریة التعبیر الحرمان من

إقرأ أيضاً:

خالد أبو بكر: لجنة تطبيق المادة 68 تعمل لضمان حرية المعلومات وصحة الأخبار

أكد الإعلامي خالد أبو بكر، على ما أشار إليه بيان رئيس مجلس الوزراء بشأن إعداد مشروع قانون ينظم إتاحة وتداول البيانات امتثالًا لحكم المادة 68 من الدستور.

وأضاف أبو بكر، مقدم برنامج "آخر النهار"، عبر قناة "النهار"، أن هذا القانون لم يخرج للنور حتى الآن على الرغم من كونه إلزامًا دستوريًا على الحكومة.

وأوضح أبو بكر أن القانون سيخرج للبرلمان القادم، متوقعًا أن يتم إدراجه في الأجندة التشريعية قريبًا، ما يعكس أهمية تسريع جهود الحكومة في هذا المجال لتحقيق الشفافية وضمان وصول المعلومات للمواطنين.

وأشار أبو بكر إلى تكليف رئيس الوزراء للوزراء والمكاتب الإعلامية بالتواصل المباشر والسريع مع الإعلاميين والرد على استفساراتهم تحت إشرافهم الشخصي، مؤكدًا أن هذا التوجه يعزز من مصداقية المعلومات ويحد من انتشار الأخبار المغلوطة أو الشائعات.

وأوضح أن هذه الخطوة تمثل جزءًا من جهود الحكومة لضمان وصول المعلومة الدقيقة والكاملة إلى المواطن العادي، بما يتماشى مع الصالح العام.

وشدد أبو بكر على مسؤولية الإعلاميين والصحفيين في التزام الدقة والموضوعية عند نشر الأخبار، والابتعاد عن التقاط المعلومات من تعليقات فردية أو منشورات على مواقع التواصل الاجتماعي دون التحقق منها.

وأكد أبو بكر أن سرعة نشر الأخبار أمر مهم، لكنه لا يقل أهمية عن الدقة والرجوع إلى المصادر الرسمية، مشيرًا إلى تقديره الكبير لاستجابة رئيس الوزراء ووضوح توضيحه حول هذا الملف المهم.

اقرأ المزيد..

خالد أبو بكر: تسجيل الكشري بقائمة التراث الثقافي يعكس مكانة الإرث المصري وتجدده الناخبون في البحيرة يتحدون الأمطار والبرد من أجل عيون المشاركة بالبرلمان.. فيديو مدبولي: الاحتياطي يصل 50 مليار و216 مليون دولار مدبولي: صندوق النقد يكمل مراجعته خلال يومين والأمور تسير بإيجابية “مدبولي” يزف بشرى سارة للمواطنين ويكشف مفاجأة عن التضخم وأسعار السلع الأساسية.. فيديو إسرائيل تستعد لسيناريو الرعب.. فيديو هل الدعاء بـ"ربنا يكفينا شرك" يعتبر ذنبًا.. أمين الفتوى يجيب تسنيم مطر تكشف سر مخيف عن صفاء الطوخي في مسلسل «ورد وشوكولاتة».. فيديو باسم يوسف: مصر 2025 لم تعد مصر 2014.. كل شيء تغير خالد الجندي: عطاء الدنيا ليس دليلاً على محبة الله للعبد

مقالات مشابهة

  • خالد أبو بكر: لجنة تطبيق المادة 68 تعمل لضمان حرية المعلومات وصحة الأخبار
  • أحمد موسى: حرية الرأي في مصر مباحة والشائعات مجرمة
  • رئيس الوزراء: حريصون على حرية التعبير.. لكننا لن نصمت أمام حملات التشكيك
  • يمنى البحار تشارك في اجتماع الدورة الـ 28 للمجلس الوزاري العربي للسياحة بالعراق وتُلقي كلمة مصر
  • ضد الدستور وحرية التعبير..الولائي زيدان يصدر أمراً قسرياً لمن يدافع عن العراق وتحريره من إيران والفساد والظلم والإجرام
  • بابا نويل يربك الأسواق العراقية (صور)
  • فى ذكراه | قصة علاقة سمير سيف بـ سعاد حسني .. والمتوحشة كلمة السر
  • محكمة النقض صاحبة كلمة الفصل في انتخابات مجلس النواب .. تفاصيل
  • حرية التعبير في اختبار صعب.. عام ترامب الأول يعود بعكس وعوده
  • كلمة لا بد أن نقولها بحق قطر