لجريدة عمان:
2025-05-11@06:01:19 GMT

برنار نويل: الحرمان من المعنى

تاريخ النشر: 11th, May 2024 GMT

عام 1975 انتبه برنار نويل صدفةً إلى إمكانية استبدال حرف S بحرف C في كلمة CENSURE وذلك لاستخراج كلمة جديدة من هذا التشويه الحرفي المتعمد؛ وهي كلمة SENSURE التي يسارع المصحح التلقائي في الحاسوب إلى تحديدها بالخط الأحمر ظنا منه أنها كتابة خاطئة للكلمة الأولى، وهي بالفعل كذلك. لكن الشاعر الفرنسي أراد من هذا التلاعب الحاذق بالحرفين، المتشابهين صوتيا بالصدفة، أن يصعِّد المعنى: فالكلمة الأصلية (CENSURE) كانت تشير على الدوام في لغته الفرنسية إلى معنى الرقابة التقليدية التي تعني ضمنيا الحرمان من الكلام، في حين تشير الكلمة المستحدثةُ منها (SENSURE) إلى ما هو أبعد وأعنف من حرمان الكلام؛ إنها تشير إلى الحرمان من المعنى كما يقول، ولأن هذا النحت الحرفي يتعذر في اللغة العربية فقد ترجم الشاعر المغربي محمد بنّيس هذه الكلمة إلى «الرقابة على المعنى»، فبهذا العبث بالحروف استطاع برنار نويل أن يدمج كلمة Sens التي تعني «المعنى» في جسد الكلمة الأصلية التي تعني الرقابة، واضعا مسافة مرئية بين مفهومين يتشابهان في النطق إلا أنهما يختلفان من حيث نوع الرقابة وطبيعة العنف في كل منهما.

وقَع برنار نويل على اكتشافه هذا في غمرة الانقسام العالمي في ثنائية الشرق والغرب إبان الحرب الباردة، عندما بدا أن الغرب سائر في تحوله إلى استعارة مُثلى تُمثل منظومة من القيم الأساسية المشتقة من مبدأ الحرية، وفي مقدمتها قيمة حرية التعبير. ولكن هل تعني، أم هل تؤدي حرية التعبير إلى حرية التفكير بالضرورة في نهاية الأمر؟ وهل يمكن للسلطة أن تمارس الاستلاب على حرية التفكير خلف قناع حرية التعبير؟

بخلاف البلدان الشرقية، كالاتحاد السوفييتي سابقا، والتي ساد فيها التكميم والصمت في ظل التعبير الشمولي الأوحد، يبدو أن السلطات في العالم الغربي عرفت كيف تحتال على حرية التعبير من خلال حرية التعبير نفسها التي يتيحها تعدد الفضائيات والمواقع والصحف ووسائل البث، أي من خلال أساليب التضليل المعتمِدة على تعدد مصادر التلقي والضخ الهائل للمعلومات المتنوعة والأخبار المتضاربة، مستثيرةً حالة من النزق المستمر والكثافة التي تُعمي في سبيل الإدهاش المتواصل على مدار الساعة.

ورغم أن الغرب كان هو المؤسس للإعلان العالمي لحقوق الإنسان بوصفه رائدا لمعاني الحرية الحديثة، إلا أن تفوقه على الشرق لم يكن تفوقا أخلاقيا، كما يرى برنار نويل في كتابه «الموجز في الإهانة»، إذ يكمن تفوق الغرب على الشرق في اكتشاف الأول «وسيلة المناورة الباهظة الثمن لأنها ذكية، لا تؤلم، بارعة، لا مرئية وناجعة». هذه الوسيلة الذكية في المناورة هي بالضبط وسيلة السلطات الغربية في الاحتيال على الحريات التي تمنحها بموجب القانون، والحديث هنا عن حرية التعبير في الأساس، التي تشمل النقد والسخرية والفن. يوجز برنار نويل هذا الاحتيال «غير المؤلم» بالإشارة في مقدمة الكتاب إلى أن الغرب «اخترعَ وسائلَ ليُبطل بطريقة سرية مفعولَ الحرية الممنوحة لمواطنيه، وأبسط وسيلة لذلك هو خلط الأخبار والإكثار منها ليجعلها تفقد دلالتها» مستفيدا، بالطبع، من شراهة الاستهلاك الذي لا يقف عند حدود تلبية الحاجة بل يتجاوز الحاجات إلى اختراع الرغبات، والرغبات إلى الشهوات التي لا تنتهي كونها عرضة دائمة لحرارة الاستثارة، ما يجعل شهية المواطن المتلقي مفتوحة على المطالبة بالمزيد والجديد.

إن صورة المواطن الأمريكي وهو يتسكع في السوبرماركت مثلا لا تختلف عن صورته وهو يتصفح مواقع الأخبار أو يقلب الفضائيات، فكلا الصورتين تستعرضان الوجه نفسه لثقافة الاستهلاك، فمن نافل القول إن ثقافة الاستهلاك اليومي تجاوزت حدود السوق التقليدية، سوق المطاعم والملابس والعلامات التجارية وكل ما يتعلق بالمعنى التقليدي للتجارة، خاصةً بعد أن تمكنت الرأسمالية العالمية، منذ صعود إمبراطورية التلفزيون حتى عصر «ما بعد الإنترنت»، تمكنت من الاستحواذ على سوق جديدة وهي سوق المعلومات والأخبار التي يمكن وصفها إجمالاً بسوق البيانات الخام.

وهنا يتجلى الاستبداد الناعم من خلال طغيان القيمة الاقتصادية على وسائل الإعلام واستحواذها على الثقافة التي هي «فكرُ الجسد الاجتماعي» على حد تعبير برنار نويل، هذا الجسد الذي بات مَصبا للتدفق الرقمي السريع عبر أذكى حواس الوعي لديه، وهما حاستا السمع والبصر، منهَكا ومشتتا من فرط تعاطي المعطيات المتنوعة: الصور والأخبار والإعلانات والآراء. إنه الحرمان من المعنى تحت عنف التشويش.

سالم الرحبي شاعر وكاتب عماني

المصدر: لجريدة عمان

كلمات دلالية: حریة التعبیر الحرمان من

إقرأ أيضاً:

مصر ترحب بوقف إطلاق النار في اليمن وتأمل أن ينعكس إيجابا على حرية الملاحة

رحبت جمهورية مصر بإعلان وقف إطلاق النار في اليمن، بين الولايات المتحدة الأمريكية وجماعة الحوثي.

 

وقالت الخارجية المصرية في بيان لها، إنها ترحب بنجاح الجهود العمانية والتي أسفرت عن التوصل لاتفاق لوقف إطلاق النار في اليمن مع الولايات المتحدة، وتامل مصر أن ينعكس هذا الاتفاق إيجابياً على حرية الملاحة في البحر الأحمر.

 

وأعربت مصر عن تطلعها لأن تشهد الفترة المقبلة التزاماً بهذا الاتفاق، بما يعطي دفعة بناءة لإنهاء الحرب الإسرائيلية على غزة ولجهود إحلال الأمن والاستقرار في المنطقة.

 

ويوم أمس الأول، أعلن الرئيس الأمريكي دونالد ترامب، توقف الهجمات الجوية الأمريكية في اليمن، بعد قبول الحوثيين وقف هجماتهم البحرية على الملاحة الدولية.

 

وأعلنت سلطنة عُمان، يوم أمس الأول، عن توصل الولايات المتحدة وجماعة الحوثي إلى اتفاق لوقف إطلاق النار بينهما.

 

وقالت وزارة الخارجية العمانية، في بيان: "بعد المناقشات والاتصالات التي أجرتها سلطنة عمان مؤخراً مع الولايات المتحدة الأمريكية والسلطات المعنية في صنعاء بالجمهورية اليمنية بهدف تحقيق خفض التصعيد، فقد أسفرت الجهود عن التوصل إلى اتفاق على وقف إطلاق النار بين الجانبين".

 

وأضاف البيان: "وفي المستقبل، لن يستهدف أي منهما الآخر، بما في ذلك السفن الأمريكية في البحر الأحمر وباب المندب، وبما يؤدي لضمان حرية الملاحة وانسيابية حركة الشحن التجاري الدولي".

 

وأعربت السلطنة أيضا عن "أملها أن يؤدي ذلك إلى مزيد من التقدم في العديد من المسائل الإقليمية في سبيل تحقيق العدالة والسلام والازدهار للجميع".


مقالات مشابهة

  • نساء عدن تعلو أصواتهن لرفض الظلم والاضطهاد في الحرمان من الخدمات الأساسية تحت شعار ثورة النسوان
  • “الصحفيين اليمنيين”: محاكمة الحوثيين للمياحي أمام قضاء استثنائي جريمة ضد حرية التعبير
  • وزارة الداخلية تعيد طفلا لأحضان والدته بعد عام من الحرمان
  • وزارة الثقافة: حرية التعبير الفني والفكري مصانة في الدستور
  • الفريق ربيع يبحث تأثير التطورات الإيجابية التي تشهدها الأوضاع الأمنية بمنطقة البحر الأحمر على حرية الملاحة
  • مصر ترحب بوقف إطلاق النار في اليمن وتأمل أن ينعكس إيجابا على حرية الملاحة
  • بابا الفاتيكان في أول كلمة له: السلام عليكم جميعا
  • الإمارات ترحب بإعلان وقف إطلاق النار وتعزيز حرية الملاحة
  • كلمة مرتقبة للسيد القائد الـيوم
  • راجح داوود: منتجو «الكيت كات» تعجبوا من الموسيقى التصويرية لهذا السبب