لجريدة عمان:
2025-05-31@08:38:00 GMT

اجتياح رفح ...ومخاطر الخروج عن السيطرة ؟!

تاريخ النشر: 14th, May 2024 GMT

ليس من المبالغة في شيء القول إنه في الحروب، كما في المفاوضات، تعمد الأطراف المتصارعة إلى ممارسة أقصى الضغوط الممكنة ضد الخصم أو الخصوم سواء بشكل مباشر أو غير مباشر ومحاولة النيل منه ومن مكانته أمام العالم حتى ولو عبر مواقف رمزية ذات بعد إعلامي وسياسي بالطبع. وتتولى وسائل التواصل الاجتماعي القيام بحملات التشهير حسب قدراتها وأهدافها وأولوياها، المعلنة وغير المعلنة.

وعلى امتداد الفترة الماضية منذ السابع من أكتوبر الماضي وحتى الآن جرت العديد من مواقف المبارزة العلنية بين الخصوم على مرأى من الجميع، برغم ما يفرضه ذلك من ثمن إضافي يشكل عبئا على العلاقة بين أصدقاء أو حلفاء كما هو الحادث في الآونة الأخيرة بين إسرائيل والولايات المتحدة، أو بالأحرى بين نتانياهو وبايدن حول الحرب في غزة وحول اجتياح القوات الإسرائيلية لمدينة رفح الفلسطينية وسير المعارك ومدى استجابة نتانياهو لما يعتبره بايدن نصائح تفيد إسرائيل وتحقق مصالحها حتى لو اقتضى ذلك إعلان واشنطن ما يمكن اعتباره تورطا مباشرا في الحرب في غزة على لسان واشنطن ذاتها. وبالرغم من محاولات واشنطن وتل أبيب العديدة والمتواصلة المداراة على الخلافات بينهما والحد دوما من أهميتها ودلالتها وحجمها والتأكيد كذلك على خصوصية العلاقات الأمريكية الإسرائيلية، إلا أن تصريحات نتانياهو العنترية الموجهة للداخل وللرد على تصريحات بايدن بشكل غير مباشر، وكذلك سخرية بن غفير وزير الأمن القومي الإسرائيلي ومزاعمه حول علاقة بايدن بحركة حماس في ورقة «القلب الأحمر» وما صاحب ذلك من جدل شارك فيه الرئيس الإسرائيلي وزعيم المعارضة يائير لابيد فضلا عن تصريحات دبلوماسيين إسرائيليين في مواقع رسمية، كل ذلك عكس في الواقع القلق الإسرائيلي الشديد من توتر العلاقات مع الولايات المتحدة وما يمكن أن تسببه من مشكلات لإسرائيل بدأ بعضها في الظهور بالفعل. ولم يقتصر الأمر على إسرائيل وأمريكا ولكنه امتد أيضا إلى إسرائيل وقطر بسبب العلاقة القطرية مع حماس، كما امتد إلى العلاقة بين إسرائيل ومصر حيث توجد خلافات مكتومة ومتراكمة بين الجانبين بسبب حملة إسرائيل ضد رفح، وعبر ذلك عن نفسه في رفض إسرائيل للتعديل الذي أدخلته مصر وقطر على آخر اقتراح للهدنة لتيسير موافقة حماس على صفقة التهدئة التي بذلت فيها مصر وقطر جهدا كبيرا لسد الفجوات والتقريب بين حماس وإسرائيل حتى لا تنهار المحادثات. وإذا كان قد تردد أن التعديل المصري القطري لا يختلف كثيرا عن الاقتراح الذي قدمه نتانياهو في 27 أبريل الماضي للوصول إلى توافق حول الصفقة إلا أن نتانياهو أبى أن يعطي مصر وقطر ميزة النجاح في التوصل لاتفاق التهدئة، بل وأحرجهما بادعاء أن التعديلات تمت بدون موافقة وأنها بعيدة «كل البعد» عن ما يمكن أن توافق عليه إسرائيل، ثم التعلل بعدم التوصل إلى اتفاق من أجل أن يواصل الحرب وليقوم عمليا باجتياح رفح برغم كل المناشدات الإقليمية والدولية بعدم الإقدام على اجتياح رفح تجنبا للمخاطر والمذابح التي يمكن أن تصاحبها في النهاية بما في ذلك تصعيد الخلافات مع بايدن. وفي هذا الإطار فإنه يمكن الإشارة إلى ما يلي:

أولا، أنه بالرغم من أن بايدن أكد مرارا وبشكل صريح ومباشر أمام نتانياهو وأمام مجلس الحرب الإسرائيلي وعلى مدى الأشهر الماضية على أنه لن يوافق على اجتياح رفح إلا إذا كانت هناك خطة لحماية المدنيين والموظفين الدوليين في رفح - موظفي الأونروا – إلا أن إسرائيل لم تقدم هذا الالتزام واستمر نتانياهو في عناده حتى بعد أن اقترحت واشنطن بدائل للاجتياح العسكري ومنها ما أشارت إليه واشنطن بتزويد إسرائيل بتقنيات ومعلومات استخبارية تمكنها من تحديد مواقع قيادات حماس في الأنفاق لتعقبها وتصفيتها من ناحية وتغيير هيكل القيادة في غزة من ناحية ثانية. ولكن إسرائيل مضت في خطتها بالسيطرة على الجانب الفلسطيني لمعبر رفح وغلق المعبر وبدء الحملة على رفح عمليا بشن عملياتها العسكرية والطلب من سكان شرق رفح مغادرة مناطقهم والانتقال إلى غرب غزة والأماكن التي قالت إنها آمنة على حد زعمها. وأمام هذا العناد أو التحدي من جانب نتانياهو فإن بايدن من جانبه طلب من البنتاجون دراسة صفقات السلاح الأمريكية وتأجيل تسليم الذخائر للجيش الإسرائيلي حتى يتم إخلاء رفح من المدنيين. وحتى الآن لم تعلن واشنطن متى ستفرج عن شحنة القنابل التي تم تعليقها في الأيام الأخيرة بسبب خطورتها على المدنيين حيث إنها قنابل زنة 1000 كيلو تقريبا، وهي شديدة الخطورة في حالة استخدامها في المناطق المكتظة مثل رفح وغزة. من جانب آخر، فإن نتانياهو كشف عن هدفه الحقيقي المتمثل في الاستمرار في الحرب والتهرب من التوصل إلى اتفاق للتهدئة وإطلاق سراح الرهائن، ففي مفاوضات الأسبوع الماضي التي شاركت فيها كل الأطراف المعنية وترأس الوفد الأمريكي وليم بيرنز رئيس المخابرات المركزية الأمريكية تأكد أن نتانياهو يرفض التوصل إلى أي اتفاق للتهدئة في غزة قبل الانتهاء من حملته على رفح، وبالتالي فإن اعتراض نتانياهو في حقيقته ليس الاعتراض على نص أو على منطوق التعديل المصري القطري ولكنه لإيحاد مسوغ للتهرب من التوصل إلى اتفاق حتى تشعر إسرائيل أنها حققت أهدافها في رفح والانتصار على حماس على حد زعم نتانياهو وذلك برغم أن البيت الأبيض أكد من جانبه أن اجتياح رفح لن يهزم حماس و بالتالي لن يحقق هدف نتانياهو خاصة وأن معركة رفح لن تترك مجالا على الأرجح لمعركة أخرى بعد تدمير غزة وخانيونس ثم رفح في هذه الفترة التي قد تمتد لبضعة أشهر حسب وتيرة الحرب التي يتم توسيعها تدريجيا على الأرض.

ثانيا، إنه بالرغم من التحذيرات المصرية لإسرائيل من مخاطر اجتياح رفح ومن التهجير القسري للفلسطينيين إلى سيناء بل والتلويح بالإضرار باتفاقية السلام وحتى تعليقها في حالات محددة إلا أن إسرائيل التي لم تستجب لمناشدات بايدن الرامية إلى منع اجتياح رفح حماية لإسرائيل ذاتها لم تستجب أيضا لمناشدات وتحذيرات مصر التي رفعت حالة الطوارئ في شمال سيناء ودفعت بأعداد من الدبابات والمدرعات إلى الحدود مع رفح أيضا وقد أدت سيطرة إسرائيل على الجانب الفلسطيني من معبر رفح ورفع العلم الإسرائيلي عليه إلى احتقان العلاقات مع مصر، وتجدر الإشارة إلى أن واشنطن أكدت أن إسرائيل لم تنسق كما ينبغي مع مصر بالنسبة لمعبر رفح، وقد أدانت القاهرة الخطوات الإسرائلية بوقف الحركة من خلال معبر رفح وطالبت بوقفها فورا. كما رفضت مرور شاحنات المساعدات عبر معبر كرم أبو سالم إلى غزة بدلا من مرورها عبر معبر رفح. ومن جانبها حاولت إسرائيل تبرير خطواتها الهمجية والتصعيدية بادعاء أن الجانب الفلسطيني من معبر رفح يقع ضمن سيطرتها ومسؤوليتها وأن ما قامت به لا يتعارض مع معاهدة السلام مع مصر على حد زعمها، وهي ادعاءات مردود عليها تماما، وردت مصر عليها مهددة بتعليق معاهدة السلام مع إسرائيل. ولكن مصر لا تريد على الأرجح زيادة التصعيد بعد أن بذلت الكثير من الجهد في محاولة للتهدئة والتوصل إلى صفقة لا تزال تأمل في التوصل إليها رغم كل ألاعيب نتانياهو المفضوحة. ورغم ذلك لا تزال الاتصالات مستمرة بين الجانبين حول صفقة التهدئة ومحاولة الوصول إلى توافق ما بشأنها، وهو ما يقلل من فرص الصدام بين الجانبين. ومع ذلك فإن الصورة مختلفة على المستوى الخارجي، والمؤكد أن حسابات الأمن القومي لمصر هي مسؤولية مصر في النهاية وتخضع عملية تقييمها والتعامل معها للحسابات المصرية دون مزايدة من جانب أي طرف خاصة وأن المزايدين على مصر كثر وبشكل مباشر وغير مباشر ولا تريد مصر الدخول في حرب مع إسرائيل أو الانجرار إلى ذلك إلا وفق حساباتها هي وفي الوقت الذي تحدده هي، وهو في النهاية حق مصري أصيل لا يمكن قبول المزايدة حوله لا من قريب ولا من بعيد.

ثالثا، إنه في الوقت الذي فضحت فيه حركة حماس تراجع إسرائيل وعدم رغبتها أو التزامها بما تتعهد به، وأن نتانياهو يريد فقط استمرار الحرب في غزة ورفح سواء تم التوصل إلى صفقة أو لم يتم، فإن حماس أكدت بعد الجولة الأخيرة من المفاوضات أنها ستعيد النظر في استراتيجيتها للتفاوض بالتشاور مع قادة الفصائل الفلسطينية الأخرى، ولعل ذلك يكون فرصة لالتئام الصف والوحدة الفلسطينية لمواجهة التصعيد الإسرائيلي وهو ما يعني فتح المجال أمام استمرار الحرب واحتمال خروج الموقف عن السيطرة في رفح وغزة وجنوب لبنان والمنطقة ككل بكل ما يترتب على ذلك من نتائج.

المصدر: لجريدة عمان

كلمات دلالية: اجتیاح رفح التوصل إلى معبر رفح فی غزة إلا أن

إقرأ أيضاً:

إشارات خاطفة رأيتها للتو في إسرائيل

قضيت للتو أسبوعا في إسرائيل، وفي حين أنه قد لا يبدو أن أمورا كثيرا تغيرت ـ فالحرب الطاحنة في غزة لا تزال مستمرة ـ شعرت بشيء جديد هناك للمرة الأولى منذ السابع من أكتوبر سنة 2023. لا يزال من المبكر أن أصفه بالحركة متسعة القاعدة لمناهضة الحرب، فهذا أمر لا يمكن أن يحدث قبل رجوع جميع الرهائن. لكنني رأيت إشارات خاطفة إلى أن المزيد من الإسرائيليين من اليسار إلى الوسط بل وفي بعض أجزاء اليمين ينتهون إلى أن استمرار هذه الحرب وبال على إسرائيل أخلاقيا أو دبلوماسيا أو استراتيجيا.

فمن الوسط كتب رئيس الوزراء السابق إيهود أولمرت مقالة في صحيفة هاآرتس لم يدخر فيها جهدا لمهاجمة رئيس الوزراء بنيامين نتنياهو وائتلافه الحاكم، فذهب إلى أن «حكومة إسرائيل تخوض حاليا حربا بلا غرض، وبلا أهداف أو خطة واضحة وبلا فرص في النجاح. فما نفعله في غزة الآن هو حرب إبادة تقوم على قتل إجرامي عشوائي قاس ولا حدود له لمدنيين». وخلاصة مقاله أنه «نعم، إسرائيل ترتكب جرائم حرب».

ومن اليمين، لديكم أمثال أميت هاليفي، عضو حزب الليكود الحاكم التابع لنتنياهو نفسه، وهو مناصر عتيد للحرب ويرى أن تنفيذها كان أخرق. قامت حكومة نتنياهو بتعليق عضوية هاليفي في لجنة شؤون الخارجية والدفاع في الكينيست بعد تصويته ضد مقترح بتوسيع قدرة الحكومة على إصدار أوامر استدعاء طارئة لجنود الاحتياط الإسرائيليين. وفي حوار مع صحيفة يديعوت أحرونوت بعد إقالته، قال هاليفي إن «هذه الحرب خدعة. لقد كذبوا علينا فيما يتعلق بإنجازاتها. [وإسرائيل] تخوض حربا منذ عشرين شهرا بخطط فاشلة...ولا تحقق نجاحا في تدمير حماس».

ومن اليسار يائير جولان، وهو زعيم تحالف ليبرالي إسرائيلي يطلق عليه (الديمقراطيون)، وقد قال في حوار مع الإذاعة الإسرائيلية إن «إسرائيل في طريقها إلى أن تصبح دولة منبوذة، مثلما كانت جنوب أفريقيا، لو لم نرجع إلى التصرف بما يليق ببلد عاقل. والبلد العاقل لا يقاتل مدنيين، ولا يمارس هواية قتل الأطفال الرضع، ولا يضع لنفسه هدفا يتمثل في طرد شعب».

وبعد أن أثار تعليقه عن «الهواية» استنكارا، أوضح جولان ـ وهو نفسه من أبطال حرب غزة ـ أنه لم يكن يوجه اللوم للجيش، وإنما للسياسيين الذين يوسعون الحرب لأسباب لم تعد لها علاقة باحتياجات أمن إسرائيل الوطني.

وبرغم أن جولان كان ينبغي أن يستعمل كلمة مختلفة، لكيلا يمنح اليمينيين الإسرائيليين أداة يسيرة لتشويهه، فالحقيقة أنه لم يحصل صحفي أجنبي مستقل تقريبا على إذن بالتغطية من غزة مباشرة. وحينما تنتهي هذه الحرب وتتشبع غزة بالصحفيين والمصورين الدوليين يجوبونها في حرية، فسوف تتم تغطية وتصوير المستوى الكامل للموت والتدمير، وسوف تكون فترة عصيبة للغاية على إسرائيل ويهود العالم.

وإذن فقد أصاب جولان في تنبيهه لأمته بوضوح لتتوقف حالا، وتتوصل إلى إيقاف لإطلاق النار، وإرجاع الرهائن، وإدخال قوة دولية وعربية إلى غزة والتعامل مع فلول حماس في وقت لاحق. فحينما تكون بالفعل في حفرة، عليك أن تتوقف عن الحفر.

المؤسف أن نتنياهو مصرٌّ على الحفر، زاعما أن بوسعه أن يقصف حماس إلى أن تسلِّم بقية الرهائن الإسرائيليين الأحياء البالغ عدهم قرابة العشرين، وذلك لأن أعضاء ائتلافه القوميين المتدينين أخبروه بأنه في حال إيقافه الحرب فإنهم سوف يطيحون به. ولذلك يسعى الجيش الإسرائيلي إلى المزيد والمزيد من الأهداف الثانوية، والنتيجة هي مصرع مدنيين من غزة كل يوم.

أوضح عاموس هاريل المحلل العسكري لصحيفة هاآرتس سبب ذلك وهو أن «كثيرا من القصف يكون في الواقع محاولات لاغتيال قادة حماس بينما هم مع أسرهم. وهؤلاء المسؤولون ما عادوا يعيشون في بيوت خاصة أو بنايات سكنية، وإنما هم في العادة داخل مخيمات مزدحمة بآلاف المدنيين. وحتى عند إعلان الجيش عن خطوات احترازية عديدة، تسفر هذه الهجمات عن قتل جماعي».

وليس ارتفاع خسائر المدنيين في غزة هو السبب الوحيد أو حتى السبب الغالب لتحول المزيد من الإسرائيليين على الحرب. فالسبب ببساطة هو أن الحرب أنهكت المجتمع كله، ويشير هاريل إلى أن علامات هذا الإنهاك حاضرة في كل شيء من «تزايد عدد المنتحرين (التي لا يعلنها الجيش) إلى الأسر التي تتفكك والأعمال التي تنهار. وتتجاهل الحكومة هذه التطورات وتنثر وعود النصر».

ولا يقتصر الأمر على أصوات السياسيين الناضجين الذين يقولون إن الحرب طالت على إسرائيل. فهناك أيضا أفعال يقوم بها أبرياء في الرابعة من العمر. فخلال رحلتي، سمعت قصة من المذيعة الإسرائيلية الشهيرة لوسي أهريش، وهي أول مذيعة أخبار عربية مسلمة في قناة كبيرة ناطقة بالعبرية. كنت وهي قد وصلنا إلى حوار أجريناه معا في تل أبيب بأعين شبه مغمضة وقد استيقظ كلانا في قرابة الثالثة صباحا على دوي صافرات الإنذار بالغارات إذ تدعونا إلى الاستتار من هجمة صاروخية حوثية. وفي صافرة الإنذار هذه أمر لافت ومثير للقلق، لكنك يجب أن تكون راشدا كي تدركه.

لماذا أقول هذا؟ لأن إسرائيل تحيي في كل عام ذكرى جنودها ومدنييها الذين قضوا نحبهم في حروبها بإنذار لمدة دقيقتين. فحيثما يكون الإسرائيليون ويسمعون ذلك الصفير يتوقفون، ويركنون سياراتهم على جوانب الطرق، ويصمتون منصتين إلى هذا الصفير المستمر المغاير للصفير المستعمل في التحذير من الغارات. حكت لي أهريش أنه في ذكرى العام الحالي انطلقت الصافرة الوطنية في موعدها المحدد «فإذا بالذعر ينتاب ابني آدم البالغ من العمر أربع سنوات، وكان يلعب على الأرض، فيمضي ليلملم لعبه كي يذهب بها إلى الغرفة الآمنة في البيت».

«قلت له ’لا. ليس عليك أن تفعل هذا. هذا صفير مختلف. هذا صفير الوقوف احتراما للأبطال الذين حافظوا لنا على الأمان ولم يعودوا معنا».

وعندما يتعين على الأطفال ذوي الرابعة من العمر أن يتعلموا التمييز بين مختلف أصوات صافرات الإنذار، ما تقف له احتراما وما يدعوك إلى لملمة لعبك والمسارعة إلى غرفة بلا شبابيك، تكون الحرب قد طالت أكثر مما ينبغي.

لو أن كثيرا من الإسرائيليين يشعرون أن قادتهم أوقعوهم في شرك، فكثير من أهل غزة يشعرون بالمثل. وبرغم أن استطلاع الرأي في غزة أمر صعب، لكن حركة مناهضة الحرب تنشط هناك أيضا، برغم أن حماس قد تقتل من يتظاهرون. وقد تبين لاستطلاع رأي أجراه المركز الفلسطيني المستقل للبحوث السياسية والمسحية، ومقره رام الله، على سكان قطاع غزة أن 48% يؤيدون المظاهرات المناهضة لحماس التي اندلعت في عدة أماكن في الأسابيع الأخيرة.

فلكم أن تتيقنوا من أنه لن يكون قادة إسرائيل وحدهم من يواجهون الحساب عندما تصمت البنادق أخيرا في غزة. فسوف يعيش قادة حماس مكللين بالعار. لقد هاجموا مجتمعات حدودية إسرائيلية في السابع من أكتوبر سنة 2023، ولما ردت إسرائيل كما كان متوقعا، قدم المدنيون من أهل غزة قربانا بشريا ليحظوا بتعاطف العالم مع قضيتهم، في حين اختبأ القادة من حماس في الأنفاق وبالخارج. ولا تزال حماس تعمل، لكن غزة الآن باتت غير قابلة لاحتواء الحياة. ومع ذلك، لا تزال قيادة حماس تقول في عناد إنها لن تسلم من بقي لديها من الرهائن الأحياء ما لم توافق إسرائيل على الرحيل من غزة والرجوع إلى وقف مفتوح لإطلاق النار.

فعلا؟ يجب أن ترحل إسرائيل عن جميع غزة وتقبل بوقف إطلاق النار؟ يا لها من فكرة عظيمة. لو حققت حماس ذلك «النصر»، سيكون معنى هذا أن حماس خاضت كل هذه الحرب ـ ففقدت عشرات الآلاف من المقاتلين والمدنيين ولم يسلم حولها غير مبان قليلة في غزة - من أجل الرجوع بالضبط إلى ما كان لدى حماس في السادس من أكتوبر سنة 2023، فقد كان هناك وقف لإطلاق النار، وإسرائيل كانت خارج غزة.

لهذا وحده، سوف يتذكر التاريخ قادة حماس باعتبارهم «حمقى». حسبوا أنهم يطلقون حرب نهاية العالم على إسرائيل فأطلقوها على شعبهم ومنحوا نتنياهو رخصة لتدمير حليفهم حزب الله في لبنان وسوريا فأضعف ذلك قبضة إيران على كلا البلدين وكذلك على العراق وساعد في إخراج روسيا من سوريا، فكانت هزيمة نكراء لـ«شبكة المقاومة» ذات القيادة الإيرانية.

ولكن المشكلة تكمن هنا. فنتيجة لعمليات نتنياهو العسكرية، باتت للبنان وسوريا والعراق والسلطة الفلسطينية في رام الله ـ ناهيكم بالمملكة لعربية السعودية ـ حرية كبيرة الآن في الانضمام إلى الاتفاقات الإبراهيمية وتطبيع العلاقات مع إسرائيل بدرجة لم تحظَ بها من قبل حينما كانت الشبكات الإقليمية التابعة لإيران شديدة القوة.

نعم، نتنياهو فعل ذلك. لكنه أيضا لا يضيع فرصة لتضييع فرصة للسلام. نتنياهو اليوم يرفض بعناد حصاد ما بذره بنفسه. ولن يفعل الشيء الوحيد القادر على إطلاق سياسات المنطقة بأسرها، وهو أن يفتح طريقا، مهما كان طويلا، إلى حل الدولتين مع إصلاح السلطة الفلسطينية.

فلا عجب أن يعزف دونالد ترامب عن تضييع الوقت مع نتنياهو، خاصة وأنه لا يستطيع تحقيق أي مكاسب مالية من ورائه، وأيضا لأن نتنياهو لن يسمح له بأن يدخل معه التاريخ.

وكلما قلت للإسرائيليين إن نتنياهو يرتكب خطأ تاريخيا ـ هو التخلي عن السلام مع المملكة العربية السعودية لصالح اليمينيين المتطرفين الذي يبقونه في السلطة ـ سألوني بدورهم «وهل تظن أن ترامب قادر على إنقاذنا؟». وهذا السؤال هو العلامة القصوى على أن بلدكم الديمقراطي في مأزق.

كان عليّ أن أوضح أن ترامب يذهب إلى البلاد التي لديها ما تعطيه ـ من نقود أو وطائرات، أو عملات ترامب الميمية أو عملات ميلانيا الرسمية الميمية أو صفقات أسلحة أو صفقات فنادق أو مراكز بيانات ذكاء اصطناعي ـ ولا يذهب إلى البلاد التي تطلب منه شأن إسرائيل.

وإنصافا لترامب، قد لا يكون ترامب على علم بمدى تغير إسرائيل داخليا. بل إن كثيرا من اليهود الأمريكيين لا يفهمون مدى ضخامة وقوة المجتمع الأرثوذكسي المتطرف والقوميين المتدينين الاستيطانيين في إسرائيل، ومدى رؤيتهم لغزة باعتبارها حربا دينية.

«وبيبي بيدق في أيدي هؤلاء، فهو ليس اللاعب الحقيقي» حسبما أوضح أفروم بورج، الرئيس السابق للكنيست، مشيرا إلى اليمين القومي المتدين الاستيطاني في إسرائيل. «قل لهم إن إسرائيل يمكن أن تقيم سلاما مع المملكة العربية السعودية، فترى أنهم يهزون أكتافهم قائلين إنهم في انتظار المسيح. قل لهم إن بإمكانهم إقامة سلام مع سوريا، وسيقولون لك أن الشعب اليهودي يمتلك سوريا أصلا، فهي جزء من إسرائيل الكبرى. كلِّمهم عن القانون الدولي، وسوف يكلمونك عن القانون التوراتي. كلِّمهم عن حماس، يكلموك عن العماليق (أعداء بني إسرائيل التوراتيين)».

خلص بورج ـ أستاذ العلاقات بين الدين والدولة ـ إلى أن الانقسام الحقيقي اليوم في إسرائيل ليس بين المحافظين والتقدميين وإنما «بين قبيلة يهودية وقبيلة ديمقراطية. والقبيلة اليهودية هي التي تحقق النصر الآن. ولو كانت الصهيونية في الأصل انتصارا للقومية العلمانية على اليهودية الدينية، فما يجري اليوم هو انبعاث لليهودية القومية الدينية على حساب الديمقراطية».

وهكذا، بعد أسبوع، رجعت إلى الوطن، لأكتشف أن مثل المسرح الإسرائيلي قائم في أمريكا وإن على نطاق أكبر. أمر غريب أن نرى كيف أن ترامب ونتنياهو يستعملان كتاب قواعد واحدا لتخريب بلدين ديمقراطيين. وسؤالي الوحيد: أي من الرجلين سيسبق الآخر في أن تشعل دوافعه الاستبدادية أزمة دستورية؟

كلاهما متهم بمحاولة تخريب القضاء والدولة العميقة في بلده، أي جميع المؤسسات التي تقوم عليها سيادة القانون. والهدف في حالة ترامب هو تحقيق الثراء له شخصيا ونقل الثروة في البلد من الأقل امتيازا إلى الأكثر امتيازا. والهدف في حالة نتنياهو هو الهرب من اتهامات الفساد العديدة الموجهة له، ونقل السلطة والثروة من الوسط الإسرائيلي المعتدل الديمقراطي إلى المستوطنين وغلاة المتدينين. وهذه المجموعة هي التي سوف تبقي ائتلاف نتنياهو في السلطة طالما أنه يعفي غلاة المتدينين من القتال في غزة ويسمح للمستوطنين بمواصلة مسيرتهم لضم الضفة الغربية اليوم وغزة غدا.

عند انتخاب نتنياهو في نوفمبر 2022 وبدئه تشكيل ائتلافه اليهودي العنصري، كتبت مقالا في الصباح التالي بعنوان «إسرائيل التي عرفناها انتهت». آمل أن أكون قد تسرعت فيما قلت، لكن أملي أكبر في ألا أضطر إلى كتابة المقال نفسه في حق أمريكا عما قريب.

سيكون لدى عام 2026 الكثير ليقوله عما لو أن بالإمكان احتواء طائفتي ترامب ونتنياهو. ففي هذا العام سوف يتعين على نتنياهو إجراء انتخابات وسوف يواجه ترامب انتخابات التجديد النصفي. والملتزمون بالديمقراطية واللياقة في البلدين لديهم مهمة واحدة فيما بين الآن وذلك الموعد: هي التنظيم ثم التنظيم ثم التنظيم، من أجل الفوز بالسلطة.

وكل ما عدا ذلك غير مهم. وكل شيء معلق على هذا.

مقالات مشابهة

  • حماس تُعقّب على قرار مجلس بلدية برشلونة قطع العلاقات مع إسرائيل
  • نتنياهو: حماس تفقد السيطرة على سكان غزة والضغوط تتزايد
  • حماس : رد إسرائيل على مقترح وقف إطلاق النار لا يلبّي مطالبنا
  • إسرائيل توافق على مقترح ويتكوف: بانتظار قرار حماس
  • إسرائيل تقبل المقترح الأمريكي لوقف إطلاق النار في غزة
  • مسؤول حوثي: ارتفاع عدد الطائرات المدنية التي دمرتها إسرائيل في مطار صنعاء إلى 8
  • ترامب يقول إنّه حذر نتانياهو من ضرب إيران
  • إشارات خاطفة رأيتها للتو في إسرائيل
  • نتانياهو يعلن اغتيال قائد حماس في غزة محمد السنوار
  • توماس فريدمان: الإشارات الخاطفة التي رأيتها للتو في إسرائيل