أمريكا وحروب الإبادة: سجل حافل بالصناعة أو التورط
تاريخ النشر: 17th, May 2024 GMT
تقاعدَ الأمريكي لورنس دافيدسون عن تدريس التاريخ في جامعة وست شيستر، بنسلفانيا؛ لكنه، لحسن حظّ الباحثين عن أنساق النقد الأعمق للسياسات الخارجية الأمريكية واستراتيجيات الإمبريالية الحديثة والمعاصرة، لم يتوقف عن تسليط الأضواء الكاشفة على ما خفي، أكثر من تلك التي تظهر وتُعلن، من فظائع وكوارث وجرائم حرب وإبادات.
ولأنه معنيّ، على نحو أكثر تخصصاً، بشؤون الشرق الأوسط إجمالاً والقضية الفلسطينية تحديداً؛ فإنّ متابعاته لحرب الإبادة الإسرائيلية الراهنة ضدّ قطاع غزّة تأخذ غالباً منهجية حميدة تماماً، تضع جرائم الاحتلال ضمن سياقات أعرض تحيل إلى الولايات المتحدة بوصفها الرأس والقوة الكونية ضمن التكتل الإمبريالي، والأطلسي، الأعرض. وبين أحدث مساهماته في هذا الميدان مقالة جامعة، نشرها موقع «كاونتربنش» الأمريكي مؤخراً، تناولت سوابق تاريخية لانخراط الولايات المتحدة في جرائم الحرب الجماعية والتطهير العرقي، أو التواطؤ عليها؛ وسلوك الرئيس الأمريكي الحالي جو بايدن ليس إلا أحدث الأمثلة على ملفّ حافل. ولا يبدّل من منطق هذا المثال الأخير أنّ سنة إعادة انتخاب/ أو فشل تنتظر سيد البيت الأبيض، أو أن تشدّقه الخطابي بصدد توفير الحاجات الإنسانية لسكان غزّة ليس سوى أكاذيب، يفضحها إصرار إدارته على رفض وقف إطلاق النار، والامتناع عن ممارسة ضغط جدّي مؤثر على رئيس حكومة الاحتلال بنيامين نتنياهو.
في عداد الأمثلة السابقة، ثمة أندرو جاكسون الرئيس الأمريكي السابع، الذي اعتبر أنّ بطء «اندماج» أبناء الأقوام الأصلية («الهنود الحمر» حسب التوصيف اليانكي) في «المجتمع الأبيض» يشكل عائقاً أمام «التقدم»؛ فأشرف، أواخر 1820، على مخطط تطهير شامل شرق نهر المسيسيبي، وأجبر نحو 800.000 من هؤلاء على التهجير غرباً، بقوّة الجيش الأمريكي، الأمر الذي أسفر عن وفاة الكثيرين خلال السيرورة القسرية. وحفظ التاريخ تصريح جاكسون الشهير: «أيّ رجل صالح يمكن أن يفضّل بلداً مغطى بالغابات وحفنة آلاف من المتوحشين، على جمهوريتنا الواسعة العتيدة، الملأى بالمدن والبلدات والمزارع المرفهة، التي يسكنها 120 مليون نسمة سعداء؟».
المثال الثاني بطله وودرو ولسون، الرئيس الـ28 الذي يحلو لأدبيات الليبرالية الأمريكية تسميته بـ«نبيّ» الحريات العامة وحقوق الإنسان؛ وقد جهد لإعادة الولايات المتحدة عقوداً إلى الوراء، عن طريق فرض الفصل العنصري في أجهزة الدولة والبيروقراطية والجيش، وذلك فور توليه المنصب سنة 1913. ورغم أنّ أمريكا خلال رئاسته انخرطت في الحرب العالمية الأولى، وكانت في حاجة إلى الجنود من كلّ عرق ولون، فإنه لم يخفِ مقته الشديد لـ«الملوّنين» على نحو كانت روائحه العنصرية تزكم الأنوف.
وينقل دافيدسون عن الصحافي والناشط الحقوقي (الأبيض) أوزوالد فيلارد أنّ الولايات المتحدة في عهد ولسون تحوّلت إلى جهاز ضخم مسعور، لا همّ لمؤسساته سوى «وصم الملونين بدمغة جذام تعسفية، وتصنيفهم في خانة حاملي العدوى الجسدية والأخلاقية، وانعدام الأهلية للدخول في المجتمع».
المثال الثالث قدّمه لندون جونسون الرئيس الـ36 خلال حرب الأيام الستة، بصدد الهجوم الإسرائيلي على السفينة الأمريكية USS Liberty، قرب شواطئ غزّة، يوم 8 حزيران (يونيو) ومقتل 34 وجرح 173 بحاراً أمريكياً كانوا على متنها؛ حين اعتبر جونسون أنّ أمن دولة الاحتلال الإسرائيلي يعلو على سلامة السفينة وطاقمها، فأمر بسحب المقاتلات الأمريكية التي كانت تحمي السفينة. أكثر من ذلك، وإمعاناً في التأكيد على أنّ جريمة الحرب هذه، التي طالت أمريكيين هذه المرّة وليس أبناء جنسيات أخرى أجنبية، لا تمسّ في شيء علاقة واشنطن بدولة الاحتلال؛ سارع الرئيس الأمريكي إلى قبول «اعتذار» من تل أبيب نهض على تبرير الواقعة بخطأ في تحديد هوية الهدف. وكي يذهب أبعد، أمر جونسون الأدميرال إزاك كيد، رئيس لجنة التحقيق في الواقعة، بقبول تبريرات الاحتلال؛ كما أمر أن يُطلب من البحارة الناجين التزام الصمت والامتناع عن توصيف الهجوم، تحت طائلة الإحالة إلى محاكم عسكرية.
الأمثلة الأخرى في العقود الحديثة كثيرة، تشمل جورج بوش الأب وبيل كلنتون وبوش الابن وباراك أوباما ودونالد ترامب وبايدن الحالي، والأحرى القول إنه يندر أن يُستثنى منها رئيس أمريكي، ديمقراطياً كان أم جمهورياً، وفي ولاية أولى أم ثانية. خلاصة دافيدسون لا تهمل حقيقة حرص الرؤساء، أجمعين تقريباً، على إبداء الالتزام بالقانون الدولي وحقوق الإنسان ومواثيق الحروب، وإطلاق البلاغة اللفظية على عواهنها بصدد إدانة الإبادة الجماعية أو التطهير العرقي أو جرائم الحرب المختلفة. المفارقة الفاقعة، في كلّ حالة انتهاك ذات صلة بدولة الاحتلال، أنّ الدبلوماسية الأمريكية لا تتحرّج في استغفال العقول بصدد حماية الاحتلال من أيّ مساءلة أو محاسبة؛ بل تلجأ أيضاً إلى تغطية الانتهاكات، الأكثر جلاءً وفظاعة وتوحشاً، في مجلس الأمن الدولي والكونغرس والمحافل الدولية من جهة، كما تواصل تزويد آلة حروب الإبادة الإسرائيلية بالأسلحة والذخائر والأموال…
وفي تلمّس إطار آخر للعلاقات الأمريكية ــ الإسرائيلية، وهي بالطبع عديدة متنوعة بقدر ثباتها على ركائز كبرى منيعة على التبدّل الجوهري؛ قد يكون دالاً، وطريفاً أيضاً، استذكار واقعة تعود إلى ربيع 2010، خلال زيارة إلى دولة الاحتلال قام بها بايدن، نائب الرئيس الأمريكي يومذاك. وسواء تعمد نتنياهو، وكان رئيس حكومة الاحتلال، أم لم يكترث أصلاً بإقامة الصلة؛ فوجئ بايدن بقرار من الحكومة الإسرائيلي يقضي ببناء 1600 مستوطنة جديدة؛ فغضب و(خلال جلسة مع نتنياهو، مغلقة بالطبع) أبلغ الأخير أنّ قرارات كهذه «بدأت تكتسي طابعاً خطيراً بالنسبة إلينا. وما تفعلونه هنا ينسف أمن قوّاتنا المقاتلة في العراق وأفغانستان والباكستان. هذا يُلحق الخطر بنا، وبالسلام في المنطقة» طبقاً لرواية الصحافي الإسرائيلي شيمون شيفر، في «يديعوت أحرونوت».
ضمن قراءة أولى للواقعة، ثمة في «غضب» بايدن ما يوحي بالحرص على أمن قوات الولايات المتحدة المنتشرة هنا وهناك في الشرق الأوسط. قراءة ثانية تعيد الغضب إياه إلى أمثولة الرئيس جونسون، الذي فضّل أمن دولة الاحتلال على دماء الأمريكيين التي أُريقت على ظهر السفينة «ليبرتي» بقذائف إسرائيلية. وأمّا قراءة ثالثة، لعلها الأكثر اتساقاً مع واقع الحال، فيمكن أن تُستمدّ من واقعة رديفة، خلال الشهر إياه من تلك السنة. فقد كان الجنرال دافيد بترايوس، القائد الأسبق للقوّات الأمريكية والأطلسية في أفغانستان، والقيادة الوسطى، يقدّم أمام لجنة القوّات المسلحة في الكونغرس شهادة مكتوبة وقعت في 56 صفحة، يقول في إحدى فقراتها: «المواجهات الدائمة بين إسرائيل وبعض جيرانها تطرح تحديات ملموسة على قدراتنا في رعاية مصالحنا. والنزاع يثير شعور العداء لأمريكا، بسبب إدراك تفضيل الولايات المتحدة لإسرائيل. والغضب العربي الناجم عن القضية الفلسطينية يحدّ من قوّة وعمق الشراكات الأمريكية مع الحكومات والشعوب في المنطقة، ويضعف شرعية الأنظمة المعتدلة في العالم العربي».
لقد أسمع الجنرال لو نادى أحياء، بالطبع، إذْ أنّ ما يجمع أمريكا والاحتلال أكثر من مجرد «علاقة عاطفية» كما أسماها جورج و. بول ذات يوم؛ والإبادات، صناعة أو تورطاً أو مساندة، شواهد راسخات.
(القدس العربي)
المصدر: عربي21
كلمات دلالية: سياسة اقتصاد رياضة مقالات صحافة أفكار عالم الفن تكنولوجيا صحة تفاعلي سياسة اقتصاد رياضة مقالات صحافة أفكار عالم الفن تكنولوجيا صحة تفاعلي مقالات كاريكاتير بورتريه الاحتلال امريكا غزة الاحتلال مقالات مقالات مقالات سياسة سياسة سياسة صحافة سياسة سياسة سياسة اقتصاد سياسة سياسة اقتصاد رياضة صحافة أفكار عالم الفن تكنولوجيا صحة الولایات المتحدة الرئیس الأمریکی
إقرأ أيضاً:
إدارة ترامب تدرس إضافة 36 دولة إلى حظر السفر الى الولايات المتحدة
يونيو 16, 2025آخر تحديث: يونيو 16, 2025
المستقلة/- تدرس إدارة الرئيس الأمريكي دونالد ترامب توسيع قيود السفر بشكل كبير، من خلال حظر محتمل لمواطني 36 دولة إضافية من دخول الولايات المتحدة، وفقًا لبرقية داخلية لوزارة الخارجية.
في وقت سابق من هذا الشهر، وقّع الرئيس الجمهوري إعلانًا يحظر دخول مواطني 12 دولة، قائلاً إن هذه الخطوة ضرورية لحماية الولايات المتحدة من “الإرهابيين الأجانب” وغيرهم من تهديدات الأمن القومي.
كان هذا التوجيه جزءًا من حملة قمع الهجرة التي شنها ترامب هذا العام في بداية ولايته الثانية، والتي شملت ترحيل مئات الفنزويليين المشتبه في انتمائهم إلى عصابات إلى السلفادور، بالإضافة إلى جهود لرفض تسجيل بعض الطلاب الأجانب في الجامعات الأمريكية وترحيل آخرين.
في برقية دبلوماسية داخلية موقعة من وزير الخارجية الأمريكي ماركو روبيو، حددت وزارة الخارجية عشرات المخاوف بشأن الدول المعنية، وسعت إلى اتخاذ إجراءات تصحيحية.
ذكرت البرقية الصادرة خلال عطلة نهاية الأسبوع أن “الوزارة حددت 36 دولة مثيرة للقلق، قد يُوصى بتعليق دخولها كليًا أو جزئيًا إذا لم تستوفِ المعايير والمتطلبات المحددة في غضون 60 يومًا”.
وكانت صحيفة واشنطن بوست أول من نشر البرقية.
وذكرت البرقية أن من بين المخاوف التي أثارتها وزارة الخارجية عدم وجود حكومات كفؤة أو متعاونة من قِبل بعض الدول المذكورة لإصدار وثائق هوية موثوقة. ومن المخاوف الأخرى “الشكوك الأمنية” المتعلقة بجواز سفر تلك الدولة.
وأشارت البرقية إلى أن بعض الدول لم تكن متعاونة في تسهيل ترحيل مواطنيها من الولايات المتحدة الذين صدرت أوامر بترحيلهم. كما أن بعض الدول تجاوزت مدة التأشيرات الأمريكية الممنوحة لمواطنيها.
ومن الأسباب الأخرى المذكورة تورط مواطني تلك الدول في أعمال إرهابية في الولايات المتحدة، أو في أنشطة معادية للسامية وأمريكا.
وأشارت البرقية إلى أن هذه المخاوف لا تنطبق جميعها على جميع الدول المذكورة.
وقال مسؤول كبير في وزارة الخارجية الأميركية “نحن نعمل باستمرار على إعادة تقييم السياسات لضمان سلامة الأميركيين والتأكد من التزام المواطنين الأجانب بقوانيننا”، رافضاً التعليق على مداولات واتصالات داخلية محددة.
صرح المسؤول قائلاً: “تلتزم وزارة الخارجية بحماية أمتنا ومواطنيها من خلال الالتزام بأعلى معايير الأمن القومي والسلامة العامة من خلال عملية إصدار التأشيرات”.
الدول التي قد تواجه حظرًا كاملًا أو جزئيًا إذا لم تعالج هذه المخاوف خلال الستين يومًا القادمة هي: أنغولا، أنتيغوا وبربودا، بنين، بوتان، بوركينا فاسو، الرأس الأخضر، كمبوديا، الكاميرون، كوت ديفوار، جمهورية الكونغو الديمقراطية، جيبوتي، دومينيكا، إثيوبيا، مصر، الغابون، غامبيا، غانا، قيرغيزستان، ليبيريا، ملاوي، موريتانيا، النيجر، نيجيريا، سانت كيتس ونيفيس، سانت لوسيا، ساو تومي وبرينسيبي، السنغال، جنوب السودان، سوريا، تنزانيا، تونغا، توفالو، أوغندا، فانواتو، زامبيا، وزيمبابوي.
سيكون هذا توسعًا كبيرًا في الحظر الذي دخل حيز التنفيذ في وقت سابق من هذا الشهر. الدول المتأثرة هي أفغانستان، وميانمار، وتشاد، وجمهورية الكونغو، وغينيا الاستوائية، وإريتريا، وهايتي، وإيران، وليبيا، والصومال، والسودان، واليمن.
كما قُيّد جزئيًا دخول الأشخاص من سبع دول أخرى – بوروندي، وكوبا، ولاوس، وسيراليون، وتوغو، وتركمانستان، وفنزويلا.
خلال ولايته الأولى، أعلن ترامب حظرًا على دخول المسافرين من سبع دول ذات أغلبية مسلمة، وهي سياسةٌ خضعت لمراجعاتٍ عديدة قبل أن تُؤيّدها المحكمة العليا عام 2018.