لجريدة عمان:
2025-06-25@03:57:46 GMT

المؤسسات الجيدة لن تصلح السياسة المختلة

تاريخ النشر: 24th, June 2025 GMT

اجتمع الرئيس الأمريكي دونالد ترامب مؤخرا برئيس بنك الاحتياطي الفيدرالي جيروم باول في مسعى منه لإقناعه بخفض أسعار الفائدة. وهذا يذكِّر بالضغوط التي مارسها الرؤساء الأمريكيون على البنك في أعوام السبعينات.

قد يشعر بعض المستثمرين بالقلق من أن المؤسسات الاقتصادية الأمريكية تتعرض للتجريف (يجري إضعافُها). وهو ما يمكن أن يقود إلى تقلٌّب الاقتصاد الكُلِّي، لكن ربما يمكن التلطيف من تلك المخاوف بتمسك البنك الفيدرالي بموقفه تجاه أسعار الفائدة.

على أية حال لا يزال هنالك ما يدعو إلى القلق ليس حول تراجع قوة المؤسسات الأمريكية ولكن نوع البيئة السياسية التي تعمل فيها.

لكي نفهم دور المؤسسات في التصوُّرات الاقتصادية الشائعة يجب علينا العودة إلى سنوات التسعينات عندما كان من اليسير تمييز السياسات الاقتصادية للبلدان الصاعدة عن تلك التي تخص البلدان الصناعية.

كانت سياسات البلدان الصاعدة «مسايرة» للدورة الاقتصادية. فهي تنفق دون قيد في أوقات اليُسر مضيفةً بذلك المزيد إلى الدَّين والتضخم. لكنها ترتدُّ إلى الواقع في أوقات العُسر عندما تسوء الأحوال وتفقد قدرتها على الاستدانة. في المقابل تبنَّت البلدان المتقدمة سياسات تثبيت الاقتصاد (من بينها خفض الإنفاق في أوقات اليسر أو الانتعاش الاقتصادي وزيادته في أوقات العسر أو الانكماش. وهذه سياسات معاكسة للدورة الاقتصادية- المترجم). فالولايات المتحدة سجلت فوائض مالية كبيرة أثناء سنوات النمو المرتفع في أواخر التسعينات.

حاجج الاقتصاديون بأن المؤسسات تفسر هذا الاختلاف. فالبنوك المركزية المستقلة في البلدان الصناعية استهدفت التضخم واتبعت برلماناتها القواعد المالية التي حدت من الإفراط في الإنفاق بل طالبت حتى بضبط الموازنة على مدار الدورة الاقتصادية. فالمؤسسات تمثل قيدا صارما يَحِدُّ من اتخاذ قرارات آنية لاعتبارات سياسية وليس من أجل المصلحة العامة.

لكن سرعان ما ظهرت التصدعات في هذا التفسير. فخلال سنوات التسعينات حثت المنظمات متعددة الأطراف كصندوق النقد الدولي البلدان الصاعدة على تبني مثل هذه المؤسسات. لكن حتى عندما استجاب الإصلاحيون للنصح استمرت سياسات هذه البلدان في مسايرة الدورة الاقتصادية وقادها ذلك إلى سلسلة من الأزمات.

لكن بداية من أوائل العشرية الأولى صارت سياسات الاقتصاد الكلي في بعض البلدان الصاعدة أكثر استقرارا مع شروع المؤسسات في اكتساب المزيد من التأثير في تشكيل السياسات. ابتدرت حكومة فيرناندو هنريك كاردوسو استهداف التضخم في البرازيل لكن البنك المركزي اتسم بالصدقية حقا عندما حافظ خَلَفُه اليساري لويز ايناسيو لولا دا سيلفا على استقلال البنك.

لم تتغير المؤسسات لكن الإجماع السياسي خلفها تغير. فالنمو المدفوع جزئيا بالازدهار السِّلعي قدم فوائض في الموازنة لمساعدة من هم أكثر احتياجا. ومكّنت برامج مثل برنامج بولصا فاميليا (بالبرتغالية يعني دعم العائلات) من تقديم تحويلات مباشرة للفقراء فيما يسرت برامج أخرى الحصول على خدمات كالتعليم والرعاية الصحية والإسكان.

تراجعت هشاشة الأوضاع الاقتصادية والاجتماعية. وضعف الحافز لدفع حزب العمال بقيادة لولا دا سيلفا إلى الانغماس في التطرف السياسي مما سمح ببروز إجماع وطني واسع حول سياسات تهدف إلى استقرار الاقتصاد الكلي.

بدأت المؤسسات تؤدي دورها، وفي حين شكلت فترات مطولة من النمو الضعيف ضغطا على الإجماع إلا إنه لا يزال صامدا في العديد من البلدان الصاعدة. وفي الواقع يعود الخطأ في حث المؤسسات بالبلدان الصاعدة (على الإصلاح) في سنوات التسعينات إلى عدم وجود إجماع سياسي وقتها.

بالمقابل يمكن القول إن البلدان المتقدمة اتخذت سياسات أكثر مُسَايرَة للدورة الاقتصادية، فالولايات المتحدة أنفقت أموالا ضخمة فيما كانت تتعافى من الجائحة، وذلك ما أضاف إلى التضخم الذي لا زال بنك الاحتياطي الفيدرالي يحاول السيطرة عليه.

ويهدد مشروع قانون موازنة ترامب «الكبير والجميل» بزيادة العجز المالي غير القابل للاستدامة في الولايات المتحدة. كما تصارع كل من فرنسا واليابان لتقليل معدل الدَّين إلى الناتج المحلي الإجمالي والذي يزيد عن 100%. وهذا مستوى لم يكن ليخطر على البال في سنوات التسعينات.

من المستبعد أن يكون بنك الاحتياطي الفيدرالي مؤسسة ضعيفة. فقد سارع إلى إعادة تأكيد استقلاله عقب لقاء ترامب - باول.

وفي الواقع بصرف النظر عمّن سيحل محل باول في رئاسة البنك في العام القادم من المستبعد أن يُخضِع البنك سياساتِه النقدية لرغبات الحكومة الأمريكية. الى ذلك ليس من غير المعقول أن تجعل إدارة ترامب البنك كبشَ فداء (بتحميله المسئولية) إذا تدهور الاقتصاد.

على أية حال لقد تغير الإجماع السياسي في الولايات المتحدة. ومن المحتمل أن البنك ليس لديه اليوم المجال السياسي الكافي لمعالجة التضخم بنفس الهمّة التي أبداها في عهد بول فولكر (1979-1987). وعلى نحو مماثل لم تتغير القواعد المالية (ضوابط السياسة المالية) في الولايات المتحدة عموما. لكن تغيرت الرغبة السياسية في احترام روح هذه القواعد. ذلك لأن الهشاشة الاقتصادية والاجتماعية زادت في البلدان المتقدمة وكذلك اللامساواة. والسبب الواضح لذلك اختفاء الوظائف المجزية لذوي المهارات المتوسطة من أفراد الطبقة الوسطى بسبب التغير التقني والى حد أقل التجارة.

بالعكس من ذلك، استفاد الحاصلون على مؤهلات تعليمية عالية. فقد جلبت العولمة فرصا أكبر لمن يعملون في صناعات ذوي الياقات البيضاء. ويرسل الساسة المتطرفون لمن فاتهم الركب رسالةَ مقنعة مفادها أن السياسات التي تخدم بها النخبة مصالحها الخاصة هي المسئولة عن سوء حالهم.

نتيجة لذلك ضَعُف التوافق السياسي الذي يقف وراء سياسات الاقتصاد الكلي مع تخلي الجمهوريين حتى صقور المالية (المتشددين منهم الذين ينادون بخفض الموازنة) عن معارضتهم للإنفاق.

ضبط الموازنات يتطلب تسويات. لكن عندما تصبح السياسة استقطابية إلى هذا الحد قليلون من هم على استعداد للقيام بذلك. ويصبح الإنفاق المنفلت هو السائد. وفي بعض البلدان الصناعية قد يكون التوقف الفجائي (عن الإقراض) وشيكا. ذلك حين تصبح الأسواق غير راغبة في تمويل حكوماتها.

المؤسسات لا تضمن للبلدان انتقالا إلى أوضاع «اقتصاد كلي» مثالية. وهي لا يمكنها إيجاد إجماع سياسي. فذلك يتطلب من المواطنين الإيمان بعدالة النتائج الاقتصادية (الإنصاف في توزيع ثمرات النمو). وهذا يستوجب إصلاحات هيكلية تعزز فرص أولئك الذين تخلفوا عن الركب. ربما تحتاج البلدان المتقدمة إلى الشروع في التأسِّي بما فعلته البلدان الصاعدة.

راجورام راجان رئيس البنك المركزي الهندي سابقا وأستاذ بجامعة شيكاغو

الترجمة عن «الفاينانشال تايمز»

المصدر: لجريدة عمان

كلمات دلالية: البلدان المتقدمة فی أوقات

إقرأ أيضاً:

مصر بين القوى الصاعدة في سباق الصناعة النظيفة.. واستثمارات عالمية بـ1.6 تريليون دولار تبحث عن التمويل

أظهر تقرير دولي حديث أن مجموعة من الأسواق الناشئة، من بينها مصر والهند والبرازيل، باتت تشكل ما يُعرف بالحزام الصناعي الجديد الذي يقترب من تجاوز الاقتصادات الصناعية الكبرى في مضمار الصناعة النظيفة. 

ويشير التقرير، الصادر عن "ائتلاف المهمة الممكنة" بالتعاون مع "مسرّع الانتقال الصناعي"، إلى أن هذه الدول باتت تمثل أكثر من نصف الاستثمارات العالمية المعلنة في القطاع والتي تبلغ قيمتها 1.6 تريليون دولار، وسط زخم متنامٍ في مشروعات الطاقة المتجددة والكيماويات والوقود النظيف.

مصر تبرز كقوة دافعة في التحول الصناعي

وتصدرت الصين الدول الرائدة في الصناعة النظيفة، مستحوذة على 25% من الاستثمارات القائمة، تلتها الولايات المتحدة بنسبة 22%، ثم الاتحاد الأوروبي بنسبة 14%، غير أن أسواقًا صاعدة مثل مصر باتت تبرز كقوة دافعة في التحول الصناعي، حيث تستفيد من وفرة الموارد الطبيعية، وانخفاض تكاليف الطاقة المتجددة، ودعم حكومي متزايد عبر سياسات تحفيزية تسهم في تهيئة بيئة صناعية جديدة تتسم بالكفاءة والاستدامة.

ويغطي التقرير مشاريع صناعية ضخمة في مجالات استراتيجية تشمل الألمنيوم والكيماويات والإسمنت والطيران والصلب، ويؤكد أن 59% من هذه المشاريع تتركز في دول الحزام الصناعي الجديد، مقارنة بـ18% في الولايات المتحدة، و10% في أوروبا، و6% فقط في الصين. ويُبرز التقرير الطموح المتزايد في هذه الأسواق، خاصة في قطاعات واعدة مثل الأمونيا النظيفة ووقود الطيران المستدام، اللذَين سجلا أسرع معدلات نمو بين الصناعات النظيفة عالميًا.

وأظهرت البيانات أن مصر تستحوذ على 7% من القدرة الإنتاجية المخططة عالميًا لمصانع الأمونيا النظيفة، وهي نسبة كافية لتغطية احتياجات زراعية تعادل ضعف مساحة الدولة، ما يفتح آفاقًا جديدة أمام تعزيز الأمن الغذائي وتوسيع سلاسل القيمة المحلية. كما يُتوقع أن تسمح تكاليف الكهرباء المنخفضة وتقنيات التحليل الكهربائي في الأسواق الناشئة بإنتاج الأمونيا النظيفة بتكلفة تقل إلى النصف مقارنة بالدول الصناعية الغربية بحلول عام 2035.

ورغم الإعلان عن 826 مشروعًا صناعيًا نظيفًا في 69 دولة، لم يحصل سوى 8 مشاريع فقط على قرار الاستثمار النهائي خلال الأشهر الستة الماضية، فيما لا يزال 692 مشروعًا بانتظار التمويل. ويشير التقرير إلى أن تحقيق طفرة في تنفيذ هذه المشروعات يتطلب مضاعفة حجم التمويل خمس مرات، إلى جانب دور أكثر فاعلية للحكومات في إطلاق السياسات الداعمة وتحفيز الطلب المحلي والدولي.

الدولار يواصل الارتفاع.. أسعار العملات الأجنبية أمام الجنيه اليوم في مصرقرار وزاري يشترط سداد القيمة الكاملة محليًا قبل تصدير 4 سلع غذائية

ودعا التقرير الدول إلى الاستفادة من دليل سياسات تحفيز الطلب الأخضر الذي يقدمه "مسرّع الانتقال الصناعي"، والذي يشمل أدوات عملية مثل تسعير الكربون، وبرامج الوقود النظيف، والمشتريات الحكومية الخضراء، لتمكين القطاع الصناعي المحلي وتعزيز القدرة التنافسية على المستوى العالمي.

ويُعد الحزام الصناعي الجديد نموذجًا لتحول اقتصادي عالمي يعيد رسم خريطة الصناعة، ويوفر للدول النامية فرصة فريدة لتحقيق نمو اقتصادي مستدام، مستندًا إلى طاقة نظيفة، واستثمارات صناعية خضراء، وتوجهات عالمية نحو تقليل الانبعاثات وتعزيز الأمن الغذائي والطاقي.

طباعة شارك مصر الهند البرازيل الحزام الصناعي الاقتصادات الصناعية الكبرى

مقالات مشابهة

  • تعزيز التصنيع المحلي للأدوية.. نواب: خطوة نحو تحقيق الاكتفاء الذاتي والتنمية الاقتصادية
  • تداعيات الحرب الإسرائيلية – الإيرانية على الاقتصاد الحوثي في تقرير لمنتدى الإعلام والبحوث الاقتصادية
  • نقابة UMT في المالية ترفض اختيارات المؤسسات المالية الدولية التي فاقمت الفوارق الاجتماعية
  • «الوطنية لحقوق الإنسان»: نرفض سياسات التهميش والإقصاء الممنهجة من قبل المجلس الرئاسي
  • مصر بين القوى الصاعدة في سباق الصناعة النظيفة.. واستثمارات عالمية بـ1.6 تريليون دولار تبحث عن التمويل
  • أيمن الجميل: تدشين منطقة جرجوب الاقتصادية الخاصة نقطة مضيئة للاستقرار والتعاون بين إفريقيا وأوروبا
  • كيف عززت حزمة الإصلاحات الاقتصادية من قدرة الدولة على تحقيق نمو مستدام؟..موازنة البرلمان تجيب
  • البنك المركزي التابع للحوثيين يوجه الصرافين بإيقاف التعامل مع بنك الكريمي
  • 3 سيناريوهات للتداعيات الاقتصادية بعد ضرب أميركا لإيران